144 فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مشاركة عبدالله المشجري وعبدالملك وأحمد بن علي وناجي الصيعري وعلي الكربي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
الصحيح المسند
(144) – قال الإمام أبو عبد الله بن ماجه رحمه الله (ج (2) ص (993)): حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فَأَحْرَمْنَا بِالْحَجِّ فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ «اجْعَلُوا حِجَّتَكُمْ عُمْرَةً» فَقَالَ النَّاسُ يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ أَحْرَمْنَا بِالْحَجِّ فَكَيْفَ نَجْعَلُهَا عُمْرَةً قَالَ «انْظُرُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا» فَرَدُّوا عَلَيْهِ الْقَوْلَ فَغَضِبَ فَانْطَلَقَ ثُمَّ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ غَضْبَانَ فَرَأَتْ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَتْ مَنْ أَغْضَبَكَ أَغْضَبَهُ اللهُ قَالَ «وَمَا لِي لَا أَغْضَبُ وَأَنَا آمُرُ أَمْرًا فَلَا أُتْبَعُ».
هذا حديث صحيحٌ.
ـــــــــــ
أولًا: دراسة الحديث روايةً:
* ضعفه الشيخ الألباني في سنن ابن ماجه (2982).
* قال الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة 4753: ” قلت: وهـذا إسناد ضعيف؛ لعنعنة أبي إسحاق واخت?طه” ثم نقل كلام البوصيري الآتي.
* قال البوصيري في مصباح الزجاجة ((199) / (3)): ” هـذا إسناد رجاله ثقات إ? أن فيه أبا إسحاق واسمه عمرو بن عبد الله اختلط بآخرة ولم أدر حال أبي بكر بن عياش هـل روى عنه قبل ا?خت?ط أو بعده فيوقف حديثه حتى يتبين حاله رواه النسائي في عمل اليوم والليلة عن أبي كريب عن أبي بكر بن عياش به”.
قال الإتيوبي الهرري:
وهذا الحديث انفرد به ابن ماجه، ولكن رواه النسائي في “عمل اليوم والليلة” عن أبي كريب عن أبي بكر بن عياش به، وأحمد في “مسنده”.
فدرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده، وأما اختلاط أبي إسحاق في آخره .. فلا يضر في رواية أبي بكر بن عياش عنه، ما لم يتيقن أنه روى عنه بعد اختلاطه، ولأن له شاهدا من حديثي الباب المذكورين قبله، وغرضه: الاستشهاد به، والله أعلم
«شرح سنن ابن ماجه للهرري = مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه» (17/ 310)
رواية مشكلة لعائشة:
* قال الشيخ الإتيوبي في ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (4/ 423): ” وقولها فأهللتُ بالعمرة، اختلفت الرويات عنها فيما أحرمت به اختلافا كثيرا كما ذكره القاضي عياض، ففي رواية عروة عنها: “فأهللنا بعمرة”، وفي رواية أخرى “ولم أهل إلا بعمرة” وفي رواية “لا نذكر إلا الحج”، وفي أخرى “لا نَرَى إلا الحج”، وفي رواية القاسم عنها: “لبينا بالحج مهلين بالحج”.
واختلف العلماء في هذا، فمنهم من رجح روايات الحج، وغلّط روايات العمرة، وإليه ذهب إسماعيل القاضي، ومنهم من جمع لثقة رواتها بأنها أحرمت أولا بالحج، ولم تسق الهدي فلما أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – من لم يسق الهدي بفسخ الحج إلى العمرة إن شاء فسخت هي فيمن فسخ، وجعلته عمرة، وأهلت بها، ثم إنها لم تحل منها حتى حاضت فتعذر عليها إتمامها، والتحلل منها فأمرها أن تحرم بالحج، فأحرمت، فصارت قارنة، ووقفت، وهي حائض، ثم طهرت يوم النحر، فأفاضت، وذكر ابن حزم أنه – صلى الله عليه وسلم – خيرهم بسرف بين فسخه إلى العمرة، والتمادي عليه، وأنه بمكة أوجب عليهم التحلل إلا من صحب معه الهدي، والصحيح أنها حاضت بسرف أو قريب منها، فلما قدم مكة قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “اجعلوها عمرة”.
وقال أبو عمر: الاضطراب عن عائشة في حديثها في الحج عظيم، وقد أكثر العلماء في توجيه الروايات فيه ودفع بعضهم بعضا فيه، ولم يستطيعوا الجمع بينها، ورام قوم الجمع في بعض معانيها. روى محمَّد بن عبيد، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، قال: ألا تعجب من اختلاف عروة والقاسم، قال القاسم: أهلت عائشة بالحج، وقال عروة: أهلت بالعمرة. وذكر الحارث بن مسكين، عن يوسف بن عمرو، عن ابن وهب، عن مالك، أنه قال: ليس العمل في رفض العمرة لأن العمل عليه عنده في أشياء كثيرة، منها أنه جائز للإنسان أن يهل بعمرة، ومنها أن القارن يطواف طوافًا واحدًا وغير ذلك.
وقال ابن حزم في “المحلى”: حديث عروة، عن عائشة منكر وخطأ عند أهل العلم بالحديث، ثم روى بإسناده إلى أحمد بن حنبل، فذكر حديث مالك، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة: “خرجنا مع
رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عام حجة الوداع” الحديث ..
فقال أحمد: أشعر في هذا الحديث من العجب خطأ، قال الأثرم: فقلت له: الزهري، عن عروة، عن عائشة بخلافه؟ قال: نعم، وهشام ابن عروة.
وفي التمهيد: دفع الأوزاعي، والشافعي، وأبو ثور، وابن علية، حديث عروة هذا، وقالوا: هو غلط لم يُتَابع عروةَ على ذلك أحد من أصحاب عائشة، وقال إسماعيل بن إسحاق: قد اجتمع هؤلاء -يعني القاسم، والأسود، وعمرة- على أن أم المؤمنين كانت محرمة بحجة لا بعمرة، فعلمنا بذلك أن الرواية عن عروة غلط. أفاده البدر العيني في عمدته ج 3 ص 289، وسيأتي تحقيق المسألة وترجيح القول الراجح بدليله في كتاب الحج إن شاء الله تعالى”.
ثانيًا: دراسة الحديث درايةً:
راجع الصحيح المسند 1646، 363
أورده الشيخ مقبل في عدة أبواب منها:
– غضب العالم إذا خولف شرع الله
– وجوب التحلل على من لم يسق الهدي
– الإنكار على من يريد أن يتعدى السنة
– جواز الغضب فيما يتعلق بالدين
* قال السندي:
قوله: (فردوا عليه القول) كأنه غلب عليهم حب الموافقة ورأوه أنه على إحرامه فذكروا له ذلك رجاء أن يبقيهم على الإحرام وما رأوا بذلك الرد عليه حاشاهم عن ذلك فلا اتبع على بناء المفعول، أي: فلا يسرعون في الاتباع، وفي الزوائد رجال إسناده ثقات إلا أن فيه أبا إسحاق واسمه عمرو بن عبد الله وقد اختلط بآخره، ولم يتبين حال ابن عياش هل روى قبل الاختلاط أو بعده، فيتوقف حديثه حتى يتبين حاله.
«حاشية السندي على سنن ابن ماجه» (2/ 230)
مما ورد من الأحاديث في التمتع:
* في جامع الأصول الفصل الثالث: في التمتع وفسخ الحج فذكرها مطولة فلتراجع.
وهذه الأحاديث عند ابن القيم ملخصة بذكر موضع الشاهد.
قال ابن القيم:
فصل
عدنا إلى سياق حجته: فلما كان بسرف قال لأصحابه: «من لم يكن معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه هدي فلا». وهذه رتبة أخرى فوق رتبة التخيير عند الميقات، فلما كان بمكة أمر أمرا حتما من لا هدي معه أن يجعلها عمرة ويحل من إحرامه، ومن معه هدي أن يقيم على إحرامه، ولم ينسخ ذلك شيء البتة، بل سأله سراقة بن مالك عن هذه العمرة التي أمرهم بالفسخ إليها، هل هي لعامهم ذلك أم للأبد؟ فقال: «بل للأبد، وإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة».
وقد روى عنه – صلى الله عليه وسلم – الأمر بفسخ الحج إلى العمرة أربعة عشر من الصحابة – رضي الله عنهم -، وأحاديثهم كلها صحاح، وهم: عائشة وحفصة أما المؤمنين، وعلي بن أبي طالب، وفاطمة بنت رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وأسماء بنت أبي بكر الصديق، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري، والبراء بن عازب، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن عباس، وسبرة بن معبد الجهني، وسراقة بن مالك المدلجي، ونحن نشير إلى هذه الأحاديث.
ففي «الصحيحين»: عن ابن عباس: قدم النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسول الله! أي الحل؟ قال: «حل كله».
وفي لفظ لمسلم: «قدم النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه لأربع خلون من العشر، وهم يلبون بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة». وفي لفظ: «وأمر أصحابه أن يحلوا إحرامهم بعمرة إلا من كان معه الهدي».
وفي «الصحيحين» عن جابر بن عبد الله: أهل النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه بالحج، وليس مع أحد منهم هدي غير النبي – صلى الله عليه وسلم – وطلحة، وقدم علي من اليمن ومعه هدي، فقال: أهللت بما أهل به النبي – صلى الله عليه وسلم -، فأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يجعلوها عمرة، ويطوفوا، ويقصروا، ويحلوا إلا من كان معه الهدي، قالوا: ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر. فبلغ ذلك النبي – صلى الله عليه وسلم -، فقال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت».
وفي لفظ: فقام فينا فقال: «قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم، ولولا هديي لحللت كما تحلون، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، فحلوا» فحللنا، وسمعنا وأطعنا.
وفي لفظ: أمرنا النبي – صلى الله عليه وسلم – لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى. قال: فأهللنا من الأبطح. فقال سراقة بن مالك بن جعشم: يا رسول الله! لعامنا هذا أم لأبد؟ قال: «لأبد».
وهذه الألفاظ كلها في الصحيح، وهذا اللفظ الأخير صريح في إبطال قول من قال: إن ذلك كان خاصا بهم، فإنه حينئذ يكون لعامهم ذلك وحده لا للأبد، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: إنه للأبد وفي «المسند» عن ابن عمر: قدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مكة وأصحابه مهلين بالحج، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «من شاء أن يجعلها عمرة إلا من كان معه الهدي». قالوا: يا رسول الله! أيروح أحدنا إلى منى وذكره يقطر منيا؟ قال: «نعم». وسطعت المجامر.
وفي «السنن» عن الربيع بن سبرة عن أبيه: خرجنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، حتى إذا كان بعسفان قال له سراقة بن مالك المدلجي: يا رسول الله، اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم، فقال: «إن الله عز وجل قد أدخل عليكم في حجة عمرة، فإذا قدمتم، فمن تطوف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة فقد حل إلا من كان معه هدي».
وفي «الصحيحين» عن عائشة: خرجنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا نذكر إلا الحج … فذكرت الحديث، وفيه: فلما قدمت مكة قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لأصحابه: «اجعلوها عمرة»، فأحل الناس إلا من كان معه الهدي … ، وذكرت باقي الحديث
وفي لفظ للبخاري: خرجنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا نرى إلا الحج، فلما قدمنا تطوفنا بالبيت، فأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – من لم يكن ساق الهدي أن يحل، فحل من لم يكن ساق الهدي، ونساؤه لم يسقن فأحللن.
وفي لفظ لمسلم: دخل علي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو غضبان، فقلت: من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار. قال: «أوما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتى أشتريه، ثم أحل كما حلوا».
وقال مالك: عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، قالت: سمعت عائشة تقول: خرجنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لخمس ليال بقين لذي القعدة، ولا نرى إلا أنه الحج، فلما دنونا من مكة أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة أن يحل. قال يحيى: فذكرت هذا الحديث للقاسم بن محمد، فقال: أتتك والله بالحديث على وجهه.
وفي «صحيح مسلم» عن ابن عمر قال: حدثتني حفصة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع، فقلت: ما منعك أن تحل؟ قال: «إني لبدت رأسي، وقلدت بدنتي، فلا أحل حتى أنحر الهدي»
وفي «صحيح مسلم» عن أسماء بنت أبي بكر: خرجنا محرمين فقال رسول الله: «من كان معه هدي فليقم على إحرامه، ومن لم يكن معه هدي فليحلل»، فحللت. وذكر الحديث.
وفي «صحيح مسلم» أيضا عن أبي سعيد الخدري قال: خرجنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نصرخ بالحج صراخا، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة إلا من ساق الهدي. فلما كان يوم التروية ورحنا إلى منى أهللنا بالحج.
وفي «صحيح البخاري» عن ابن عباس قال: أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – في حجة الوداع وأهللنا، فلما قدمنا مكة قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي … »، وذكر الحديث.
وفي «السنن» عن البراء بن عازب: خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه فأحرمنا بالحج، فلما قدمنا مكة قال: «اجعلوا حجكم عمرة». فقال الناس: يا رسول الله، قد أحرمنا بالحج، فكيف نجعلها عمرة؟ قال: «انظروا ما آمركم به فافعلوه»، فردوا عليه القول، فغضب ثم انطلق حتى دخل على عائشة غضبان، فرأت الغضب في وجهه، فقالت: من أغضبك أغضبه الله، قال: «وما لي لا أغضب وأنا آمر أمرا فلا أتبع».
ونحن نشهد الله علينا أنا لو أحرمنا بحج لرأينا فرضا علينا فسخه إلى عمرة، تفاديا من غضب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – واتباعا لأمره. فوالله ما نسخ هذا في حياته ولا بعده، ولا صح حرف واحد يعارضه، ولا خص به أصحابه دون من بعدهم، بل أجرى الله سبحانه على لسان سراقة أن سأله: هل ذلك مختص بهم؟ فأجابه بأن ذلك كائن لأبد الأبد، فما ندري ما نقدم على هذه الأحاديث، وهذا الأمر المؤكد الذي قد غضب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على من خالفه.
ولله در الإمام أحمد إذ يقول لسلمة بن شبيب، وقد قال له: يا أبا عبد الله، كل أمرك عندي حسن إلا خلة واحدة، قال: وما هي؟ قال: تقول بفسخ الحج إلى العمرة، فقال: يا سلمة! كنت أرى لك عقلا، عندي في ذلك أحد عشر حديثا صحاحا عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، أتركها لقولك؟!
وفي «السنن» عن البراء بن عازب: أن عليا لما قدم على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من اليمن، أدرك فاطمة وقد لبست ثيابا صبيغا، ونضحت البيت بنضوح، فقال: ما لك؟ قالت: فإن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أمر أصحابه فحلوا.
وقال ابن أبي شيبة: ثنا ابن فضيل، عن يزيد، عن مجاهد قال: قال عبد الله بن الزبير: أفردوا الحج ودعوا قول أعماكم هذا. فقال عبد الله بن عباس: إن الذي أعمى الله قلبه لأنت، ألا تسأل أمك عن هذا؟ فأرسل إليها، فقالت: صدق ابن عباس، جئنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حجاجا، فجعلناها عمرة، فحللنا الإحلال كله، حتى سطعت المجامر بين الرجال والنساء.
وفي «صحيح البخاري» عن أبي شهاب، قال: دخلت على عطاء أستفتيه، فقال: حدثني جابر بن عبد الله أنه حج مع النبي – صلى الله عليه وسلم – يوم ساق البدن معه، وقد أهلوا بالحج مفردا، فقال لهم: «أحلوا من إحرامكم بطواف بالبيت وبين الصفا والمروة، وقصروا، ثم أقيموا حلالا، حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج، واجعلوا التي قدمتم بها متعة». فقالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ فقال: «افعلوا ما أمرتكم، فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم، ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله»، ففعلوا وفي «صحيحه» أيضا عنه: أهل النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه بالحج … وذكر الحديث وفيه: فأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه أن يجعلوها عمرة، ويطوفوا ثم يقصروا إلا من ساق الهدي، فقالوا: ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر؟ فبلغ النبي – صلى الله عليه وسلم -، فقال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت».
وفي «صحيح مسلم» عنه في حجة الوداع: حتى إذا قدمنا مكة طفنا بالكعبة وبالصفا والمروة، فأمرنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يحل منا من لم يكن معه هدي، قال: فقلنا: حل ماذا؟ قال: الحل كله، فواقعنا النساء، وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا، وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال، ثم أهللنا يوم التروية.
وفي لفظ آخر لمسلم: «فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة»، فحل الناس كلهم وقصروا، إلا النبي – صلى الله عليه وسلم – ومن كان معه هدي، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى، فأهلوا بالحج.
وفي «مسند البزار» بإسناد صحيح عن أنس أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أهل هو وأصحابه بالحج والعمرة، فلما قدموا مكة طافوا بالبيت والصفا والمروة، أمرهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يحلوا، فهابوا ذلك، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «أحلوا، فلولا أن معي الهدي لأحللت»، فأحلوا حتى حلوا إلى النساء وفي «صحيح البخاري» عن أنس قال: صلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ونحن معه بالمدينة الظهر أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، ثم بات بها حتى أصبح، ثم ركب حتى استوت به راحلته على البيداء، حمد الله وسبح ثم أهل بحج وعمرة، وأهل الناس بهما، فلما قدمنا أمر الناس فحلوا، حتى إذا كان يوم التروية أهلوا بالحج … وذكر باقي الحديث.
وفي «صحيحه» عن أبي موسى قال: بعثني النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى قومي باليمن، فجئت وهو بالبطحاء، فقال: «بم أهللت؟»، قلت: كإهلال النبي – صلى الله عليه وسلم -، فقال: «هل معك من هدي؟» قلت: لا، فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أمرني فأحللت.
وفي «صحيح مسلم»: أن رجلا قال لابن عباس: ما هذه الفتيا التي قد تشغبت بالناس، أن من طاف بالبيت فقد حل؟ فقال: سنة نبيكم – صلى الله عليه وسلم – وإن رغمتم.
وصدق ابن عباس، كل من طاف بالبيت ممن لا هدي معه من مفرد أو قارن أو متمتع، فقد حل إما وجوبا، وإما حكما. هذه هي السنة التي لا راد لها ولا مدفع، وهذا كقوله – صلى الله عليه وسلم -: «إذا أدبر النهار من هاهنا، وأقبل الليل من هاهنا، فقد أفطر الصائم»، إما أن يكون المعنى: أفطر حكما، أو دخل وقت فطره، وصار الوقت في حقه وقت إفطار. فهكذا هذا الذي قد طاف بالبيت، إما أن يكون قد حل حكما، وإما أن يكون ذلك الوقت في حقه ليس وقت إحرام، بل هو وقت حل ليس إلا، ما لم يكن معه هدي. وهذا صريح السنة.
وفي «صحيح مسلم» أيضا عن عطاء قال: كان ابن عباس يقول: لا يطوف بالبيت حاج ولا غير حاج إلا حل. وكان يقول بعد المعرف وقبله، وكان يأخذ ذلك من أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – حين أمرهم أن يحلوا في حجة الوداع.
وفي «صحيح مسلم» عن ابن عباس أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «هذه عمرة استمتعنا بها، فمن لم يكن معه هدي فليحل الحل كله، فقد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة».
وقال عبد الرزاق: ثنا معمر، عن قتادة، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس قال: من جاء مهلا بالحج فإن الطواف بالبيت يصيره إلى عمرة، شاء أو أبى. قلت: إن الناس ينكرون ذلك عليك، قال: هي سنة نبيهم وإن رغموا.
وقد روى هذا عن النبي – صلى الله عليه وسلم – من سمينا وغيرهم؛ وروى ذلك عنهم طوائف من كبار التابعين، حتى صار منقولا نقلا يرفع الشك ويوجب اليقين ولا يمكن أحدا أن ينكره أو يقول: لم يقع، وهو مذهب أهل بيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ومذهب حبر الأمة وبحرها ابن عباس وأصحابه، ومذهب أبي موسى الأشعري، ومذهب إمام أهل السنة والحديث وأتباعه أحمد بن حنبل، وأهل الحديث معه، ومذهب عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة، ومذهب أهل الظاهر.
والذين خالفوا هذه الأحاديث لهم أعذار:
العذر الأول: أنها منسوخة.
العذر الثاني: أنها مخصوصة بالصحابة، لا يجوز لغيرهم مشاركتهم في حكمها.
العذر الثالث: معارضتها بما يدل على خلاف حكمها.
هذا مجموع ما اعتذروا به عنها. ونحن نذكر هذه الأعذار عذرا عذرا، ونبين ما فيها بمعونة الله وتوفيقه …
«زاد المعاد في هدي خير العباد – ط عطاءات العلم» (2/ 218)
ثم شرع رحمه الله في بيان أعذار من خالوا هذه الأحاديث.
قال النووي:
وقد اختلف العلماء في هذا الفسخ هل هو خاص للصحابة تلك السنة خاصة أم باق لهم ولغيرهم إلى يوم القيامة فقال أحمد وطائفة من أهل الظاهر ليس خاصا بل هو باق إلى يوم القيامة فيجوز لكل من أحرم بحج وليس معه هدي أن يقلب إحرامه عمرة ويتحلل بأعمالها وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء من السلف والخلف هو مختص بهم في تلك السنة لا يجوز بعدها وإنما أمروا به تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج ومما يستدل به للجماهير حديث أبي ذر رضي الله عنه الذي ذكره مسلم بعده هذا بقليل كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة يعني فسخ الحج إلى العمرة وفي كتاب النسائي عن الحارث بن بلال عن أبيه قال قلت يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة فقال بل لنا خاصة وأما الذي في حديث سراقة ألعامنا هذا أم لأبد فقال لأبد أبد فمعناه جواز الاعتمار في أشهر الحج كما سبق تفسيره فالحاصل من مجموع طرق الأحاديث أن العمرة في أشهر الحج جائزة إلى يوم القيامة وكذلك القران وأن فسخ الحج إلى العمرة مختص بتلك السنة والله أعلم
«شرح النووي على مسلم» (8/ 167)
جاء في مجلة البحوث الإسلامية بإشراف و مسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء ما يلي:
المبحث الثالث: فسخ الحج إلى عمرة:
لا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز فسخ الحج إلى عمرة مفردة لا يأتي بعدها بالحج، كما أنه لا خلاف بينهم في أنه لا يجوز لمن ساق الهدي أن يفسخ ما أحرم به إلى عمرة. وإنما الذي فيه الخلاف هو بالنسبة لمن كان مفردا أو قارنا ولم يسق الهدي، هل له أن يفسخ حجه إلى عمرة ليكون متمتعا أم لا؟ كما أن أهل العلم قد اتفقوا على صحة الأحاديث الواردة في أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر كل من لم يسق الهدي من أصحابه أن يفسخ حجه ويجعله عمرة.
قال ابن عبد البر: ” تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه في حجته من لم يكن معه منهم هدي ولم يسقه وكان قد أحرم بالحج أن يجعلها عمرة.
وقد أجمع العلماء على تصحيح الآثار بذلك عنه صلى الله عليه وسلم، ولم يدفعوا شيئا منها، إلا أنهم اختلفوا في القول بها والعمل “.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ” لم يختلف أحد من أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه إذا طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة، وهذا مما تواترت به الأحاديث “.
وبعدما اتفق العلماء على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه عام حجه بفسخ الحج إلى العمرة بقوله صلى الله عليه وسلم: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة (2)». وأمره من لم يسق الهدي من أصحابه أن يفسخ حجه إلى عمرة، اختلفوا هل كان ذلك خاصا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يكن خاصا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل هو واجب أو مستحب؟ اختلفوا إلى ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن فسخ الحج إلى العمرة لا يجوز، سواء ساق الهدي أم لم يسقه، وأن ذلك كان خاصا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو قول الحنفية والمالكية والشافعية.
واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 – ما روي من طريق الحارث بن بلال عن أبيه قال: قلت: «يا رسول الله، أرأيت فسخ الحج إلى العمرة لنا خاصة أم للناس عامة؟ فقال: بل لكم خاصة (3)». رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه
2 – عن محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود عن سليمان بن الأسود، أن أبا ذر رضي الله عنه كان يقول- فيمن حج ثم فسخها بعمرة-: “لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم”. رواه أبو داود.
3 – عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: “كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة”. رواه مسلم وفي رواية عند مسلم عن أبي ذر، قال: لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة: متعة النساء ومتعة الحج. (3) قالوا: والمراد. بمتعة الحج هنا فسخ الحج إلى عمرة (4).
4 – إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالفسخ؛ ليحرموا بالعمرة في أشهر الحج، ويخالفوا ما كانا الجاهلية عليه من تحريم العمرة في أشهر الحج، وقولهم: إنها من أفجر الفجور (5).
ونوقشت هذه الأدلة بما يلي:
حديث الحارث بن بلال لا يصح، وحديثه لا يكتب، ولا عارض. بمثله الأحاديث الصحيحة. وقالوا: وهو حديث ساقط بالمرة باطل لا أصل له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تفرد به ربيعة عن الحارث بن بلال المجهول الذي لا يعرف؛ فهو من افترائه أو من غلطه ووهمه، فإن الحديث المقطوع بصحته قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف هذا، وأن ذلك إلى الأبد، مما هو قاطع بكذب هذا الحديث وبطلانه.
وأما المروي عن أبي ذر رضي الله عنه أن المتعة في الحج كانت لهم خاصة، فهذا إن أريد به أصل المتعة فهذا لا يقول به أحد من المسلمين، بل المسلمون متفقون على جوازها إلى يوم القيامة، وإن أريد به متعة الفسخ فهذا رأي رآه أبو ذر رضي الله عنه، وقد قال ابن عباس وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهما: إن ذلك عام للأمة، فرأي أبي ذر رضي الله عنه معارض برأيهما، وسلمت النصوص الصحيحة الصريحة.
ثم من المعلوم أن دعوى الاختصاص باطلة، بنص النبي صلى الله عليه وسلم أن تلك العمرة التي وقع السؤال عنها، وكانت عمرة فسخ لأبد الأبد، لا تختص بقرن دون قرن، وهذا أصح سندا من المروي عن أبي ذر رضي الله عنه، وأولى أن يؤخذ به منه لو صح عنه.
وأيضا فإذا رأينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا في أمر قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعله وأمر به، فمال بعضهم: إنه منسوخ أو خاص، وقال بعضهم: هو باق إلى الأبد، فقول من ادعى نسخه أو اختصاصه مخالف للأصل، فلا يقبل إلا ببرهان، وإن أقل ما في الباب معارضته بقول من ادعى بقاءه وعمومه، والحجة تفصل بين المتنازعين، والواجب عند التنازع الرد إلى الله ورسوله؛ فإن قال أبو ذر: إن الفسخ منسوخ أو خاص، وقال أبو موسى وابن عباس: إنه باق وحكمه عام، فعلى من ادعى النسخ والاختصاص الدليل.
على أن المروي عن أبي ذر يحتمل ثلاثة أمور:
أحدها: اختصاص جواز ذلك بالصحابة، وهو الذي فهمه من حرم الفسخ.
والثاني: اختصاص وجوبه بالصحابة، وهو الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، وأما الجواز والاستحباب فللأمة إلى يوم القيامة.
والاحتمال الثالث: أنه ليس لأحد من بعد الصحابة أن يبتدئ حجا قارنا أو مفردا بلا هدي، بل هذا يحتاج معه إلى الفسخ، لكن فرض عليه أن يفعل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في آخر الأمر، من التمتع لمن لم يسق الهدي، والقران لمن ساق الهدي، كما صح عنه ذلك.
وأما أن يحرم بحج مفردا ثم يفسخه عند الطواف إلى عمرة مفردة ويجعله متعة، فليس له ذلك، بل هذا إنما كان للصحابة، فإنهم ابتدأوا الإحرام بالحج المفرد قبل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتمتع والفسخ إليه، فلما استقر أمره بالتمتع والفسخ إليه لم يكن لأحد أن يخالفه ويفرد ثم يفسخه.
وإذا تأملت هذين الاحتمالين الأخيرين، رأيتهما إما راجحين على الاحتمال الأول أو مساويين له، وتسقط معارضة الأحاديث الصريحة به جملة.
وأما المروي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه كان يقول- فيمن حج ثم فسخها بعمرة-: “لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم”. رواه أبو داود.
فقد قال النووي: ” إسناد هذا لا يحتج به؛ لأن محمد بن إسحاق مدلس، وقد قال ” عن “، واتفقوا على أن المدلس إذا قال ” عن ” لا يحتج به “.
قلت: وعلى فرض صحته فقد تقدم الجواب عن ذلك. وأما القول بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بالفسخ؛ ليبين الجواز، وليخالف ما كانت الجاهلية تعتقده من عدم جواز العمرة في أشهر الحج.
فالجواب عنه:
1 – أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر قبل ذلك عمره الثلاث في أشهر الحج في ذي القعدة، فكيف يظن أن الصحابة رضي الله عنهم لم يعلموا جواز الاعتمار في أشهر الحج إلا بعد أمرهم بفسخ الحج إلى عمرة؟
2 – أنه ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قد قال لهم عند الميقات: «من شاء أن يهل بعمرة فليفعل، ومن شاء أن يهل بحجة فليفعل، ومن شاء أن يهل بحج وعمرة فليفعل (4)»، فبين لهم جواز الاعتمار في أشهر الحج عند الميقات وعامة المسلمين معه، فكيف لم يعلموا جوازها إلا بالفسخ؟
3 – أنه أمر من لم يسق الهدي أن يتحلل، وأمر من ساق الهدي أن يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله، ففرق بين محرم ومحرم. وهذا يدل على أن سوق الهدي هو المانع من التحلل لا مجرد الإحرام الأول، والعلة التي ذكروها لا تختص بمحرم دون محرم فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل التأثير في الحل وعدمه للهدي وجودا وعدما لا لغيره (1).
4 – وأيضا فالذين حجوا معه متمتعين كان في حجهم ما يبين الجواز، فلا يجوز أن يأمر جميع من حج معه بالتحلل من إحرامه وأن يجعلوا ذلك تمتعا لمجرد بيان جواز ذلك، ولا ينقلهم عن الأفضل إلى المفضول؛ فعلم أنه إنما نقلهم إلى الأفضل. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له: عمرتنا هذه لعامنا أم للأبد؟ فقال: «بل للأبد، دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة (2)».
5 – وأيضا فإذا كان الكفار غير متمتعين ولا معتمرين في أشهر الحج، والنبي صلى الله عليه وسلم قصد مخالفة الكفار، كان هذا من سنن الحج، كما فعل في وقوفه بعرفة ومزدلفة؛ فإن المشركين كانوا يعجلون الإفاضة من عرفة قبل الغروب، ويؤخرون الإفاضة من جمع إلى أن تطلع الشمس، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأخر الإفاضة من عرفة إلى أن غربت الشمس، وعجل الإفاضة من جمع قبل طلوع الشمس. وهذا هو السنة باتفاق المسلمين.
فهكذا ما فعله من التمتع والفسخ، إن كان قصد به مخالفة المشركين فهذا هو السنة، وإن فعله لأنه أفضل وهو سنة، فعلى كلا التقديرين يكون الفسخ أفضل، اتباعا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه- والله أعلم-.
القول الثاني: أن الفسخ جائز بل مستحب. وهو قول الإمام أحمد والحسن ومجاهد وداود، وهو الذي يرجحه شيخ الإسلام ابن تيمية.
القول الثالث: وجوب فسخ الحج إلى عمرة لمن لم يسق الهدي. وبه قال ابن عباس رضي الله عنه، وهو قول ابن حزم ومال إليه ابن القيم.
والأدلة لهذين القولين هي:
1 – الأحاديث الصحيحة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم كل من لم يسق الهدي أن يفسخ حجه إلى عمرة، وهي متواترة كما تقدم، ولم يختلف أهل العلم في صحتها.
قال الإمام أحمد في رده على سلمة بن شبيب: ” عندي أحد عشر حديثا في فسخ الحج، أتركها لقولك؟ ” (1).
وقال ابن القيم: ” روى عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بفسخه الحج إلى العمرة أربعة عشر من أصحابه “. ثم ذكرهم، ثم ذكر أحاديثهم التي رووها (2)، ومنها:
حديث جابر في الصحيحين- وفيه-: فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عمرة، وفيه: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي فحلوا، فحللنا وسمعنا وأطعنا، وفيه – أي في الحديث- فقال سراقة بن مالك بن جعشم: يا رسول الله، لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: للأبد. . . (3)» الحديث.
قال ابن القيم: ” وهذا اللفظ الأخير صريح في إبطال قول من قال إن ذلك كان خاصا بهم، فإنه حينئذ يكون لعامهم ذلك وحده، لا للأبد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه للأبد “.
2 – ما ثبت عن أبي موسى رضي الله عنه أنه أفتى الناس بالفسخ الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم حتى توفي، ثم زمن أبي بكر، ثم زمن عمر رضي الله عنهما.
3 – أن ابن عباس رضي الله عنه كان يأمر بالفسخ كل من لم يسق الهدي ويجعله عمرة، بل كان يرى أن كل من طاف بالبيت وسعى فقد حل، شاء أم أبى.
إلا أن أصحاب القول الثاني يحملون هذه الأدلة على الاستحباب، وأصحاب القول الثالث يحملونها على الوجوب.
يقول ابن القيم رحمه الله: ” ونحن نشهد الله علينا أنا لو أحرمنا بحجج لرأينا فرضا علينا فسخه إلى عمرة؛ تفاديا من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعا لأمره، فوالله ما نسخ هذا في حياته ولا بعده، ولا صح حرف واحد يعارضه، ولا خص به أصحابه دون من بعدهم، بل أجرى الله سبحانه على لسان سراقة أن يسأله هل ذلك مختص بهم؟ فأجاب بأن ذلك كائن لأبد الأبد. فما ندري ما نقدم على هذه الأحاديث، وهذا الأمر المؤكد الذي غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على من خالفه. . . “.
مناقشة أصحاب القول الأول للقولين الثاني والثالث، والجواب عن هذه المناقشة:
1 – أن حديث سراقة بن مالك المقصود به إبطال ما كان يعتقده أهل الجاهلية من امتناع العمرة في أشهر الحج.
قلت: قد تقدم الجواب عن هذا.
2 – أن حديث الحارث بن بلال، قال عنه النووي: لم أر في الحارث جرحا ولا تعديلا، وقد رواه أبو داود ولم يضعفه، وقد ذكرنا أن ما لم يضعفه أبو داود فهو حديث حسن عنده إلا أن يوجد ما يقتضي ضعفه.
قلت: قد تقدم الجواب عن سبب تضعيف العلماء لحديث الحارث بن بلال، ثم كون الحديث لم يضعفه أبو داود لا يلزم منه أن لا يكون ضعيفا، فقد أورد أبو داود حديث أبي ذر برقم 1807، وحديث الحارث برقم 1808، ولم يضعف حديث أبي ذر، وقد قال النووي: ” حديث أبي ذر إسناده لا يحتج به؛ لأن محمد بن إسحاق مدلس وقد قال ” عن “، والمدلس إذا قال ” عن ” لا يحتج به “. اهـ.
فلم يكتف النووي بعدم تضعيف أبي داود لهذا الحديث، فكذلك حديث الحارث. ذكر أهل العلم أن الحارث مجهول، وحديثه يخالف الحديث الصحيح، مما يدل على بطلان حديث الحارث، ولم يروا عدم تضعيف أبي داود له دليلا على صحته.
3 – قالوا: إن حديث سراقة بن مالك قد اختلف العلماء في معناه، على أقوال:
قال النووي: ” أصحها – وبه قال جمهورهم- معناه أن العمرة يجوز فعلها في أشهر الحج إلى يوم القيامة. والمقصود به إبطال ما كانت الجاهلية تزعمه من امتناع العمرة في أشهر الحج.
والثاني: معناه جواز القران. وتقدير الكلام: دخلت أفعال العمرة في أفعال الحج إلى يوم القيامة.
والثالث: تأويل بعض القائلين بأن العمرة ليست واجبة؛ قالوا: معناه سقوط العمرة. قالوا: ودخولها في الحج معناه: سقوط وجوبها، وهذا ضعيف أو باطل.
والرابع: تأويل بعض أهل الظاهر أن معناه جواز فسخ الحج إلى العمرة، وهذا أيضا ضعيف “. اهـ.
وتعقبه الحافظ ابن حجر بقوله- بعدما أورد كلام النووي -: ” وتعقب بأن سياق السؤال يقوي هذا التأويل، بل الظاهر أن السؤال وقع عن الفسخ، والجواب وقع عما هو أعم من ذلك، حتى يتناول التأويلات المذكورة إلا الثالث. والله أعلم”.
قلت – بعد إيراد الأدلة والمناقشات-: فالذي يترجح عندي هو القول باستحباب الفسخ، وليس القول بالوجوب أو التحريم، وأن الوجوب كان خاصا بالصحابة، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية، أما الاستحباب فباق إلى يوم القيامة؛ وبه تجتمع الأدلة، فقول من قال من الصحابة بأنه خاص بهم، أي وجوب الفسخ، وقول من قال من الصحابة بعموم الفسخ يحمل على جواز ذلك واستحبابه.
قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: ” والذي يظهر لنا صوابه في حديث «بل للأبد»، وحديث الخصوصية بذلك الركب، هو ما اختاره العلامة الشيخ تقي الدين أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، وهو الجمع المذكور بين الأحاديث بحمل الخصوصية المذكورة على الوجوب والتحتم، وحمل التأبيد المذكور على المشروعية والجواز أو السنة، ولا شك أن هذا هو مقتضى الصناعة الأصولية والمصطلحية كما لا يخفى “. اهـ
* قال الشيخ عبدالمحسن العباد في شرح سنن أبي داود (9/ 352) في شرح جابر رضي الله عنه أنه قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأربع ليال خلون من ذي الحجة، فلما طافوا بالبيت وبالصفا والمروة، قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: اجعلوها عمرة إلا من كان معه الهدي، فلما كان يوم التروية أهلوا بالحج، فلما كان يوم النحر قدموا فطافوا بالبيت ولم يطوفوا بين الصفا والمروة)]. أورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه من طريق أخرى، وفيه أنهم حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما طافوا وسعوا قال لهم: (اجعلوها عمرة) يعني: الذين لم يسوقوا الهدي، وأما الذين ساقوا الهدي فيبقون على إحرامهم.
قوله: (فلما كان يوم النحر قدموا فطافوا بالبيت، ولم يطوفوا بين الصفا والمروة) والمقصود بذلك الذين كانوا قارنين ومفردين، وأما المتمتعون فقد جاء ما يدل على أنهم وقع منهم السعي كما وقع منهم السعي في الأول، وذلك في حديث عائشة المتقدم الذي فيه: أن الذين لم يسوقوا الهدي، والذين أحلوا طافوا طوافاً آخر بعد الإفاضة لحجهم، والمقصود بالطواف هنا السعي بين الصفا والمروة كما عرفنا ذلك سابقاًَ؛ لأن طواف الإفاضة ركن لازم في حق الجميع، فبعدما يأتي الناس من عرفة يلزمهم كلهم أن يطوفوا بالبيت كما قال تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، وأما الشيء الذي لا يلزمهم جميعاً فهو السعي بين الصفا والمروة، فإن هذا يكون للمعتمرين المتمتعين دون القارنين والمفردين، إلا إذا كان القارنون أو المفردون لم يسعوا بين الصفا والمروة قبل الحج فيتعين عليهم أن يسعوا بعد طواف الإفاضة، فقد سبق أن عرفنا أن السعي للقارن والمفرد واحد، وأن له محلين: محل بعد القدوم، ومحل بعد الإفاضة، فإن فعله في المحل الأول فلا يفعله في المحل الثاني، وإن لم يفعله في المحل الأول تعين عليه أن يفعله في المحل الثاني، وأما المفرد المتمتع فإن عمرته مستقلة بإحرامها وبطوافها وسعيها وتحللها، والحج مستقل بإحرامه وطوافه وسعيه وتحلله، فيحمل حديث جابر على القارنين والمفردين، وبذلك تجتمع الأدلة.
أما ما يتعلق بغضب النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاء في مسلم:
(2327) حدثنا قتيبة بن سعيد، عن مالك بن أنس، فيما قرئ عليه، ح وحدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: «ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، إلا أن تنتهك حرمة الله عز وجل»
ولعلنا نجمع له في شرح مسلم إن طال بنا العمر.