312 و 313 و 314 و 315 و 316 و 317 عبق الياسمين شرح رياض الصالحين
سلطان الحمادي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
39 – باب حق الجار والوصية بِهِ
312 – وعنه قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: “يَا نِسَاءَ المُسلِمَاتِ لاَ تَحْقِرَنَّ جارَةٌ لجارتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ” متفقٌ عَلَيْهِ.
جاء في الأوسط للطبراني عن عائشة، تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا نساء المؤمنين، تهادين، ولو بفرسن شاة، فإنه يثبت المودة، ويذهب الضغائن»
وجاء في الأدب المفرد عن عمرو بن معاذ الأشهلي، عن جدته؛ أنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا نساء المؤمنات! لا تحقرن امرأة منكن لجارتها، ولو كراع شاة محرق”. (قال الألباني في الأدب المفرد: (صحيح بما بعده))
وكذلك في الأدب المفرد عن ابن عمر قال: لقد أتى علينا زمان – أو قال: حين- وما أحد أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم، ثم الآن الدينار والدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ” كم من جار متعلق بجاره يوم القيامة، يقول، يا رب! هذا أغلق بابه دوني، فمنع معروفه! “. (حسن لغيره الألباني في الأدب المفرد)
قوله (يَا نِسَاءَ المُسلِمَاتِ) قال النووي:” ذكر القاضي في إعرابه ثلاثة أوجه: أصحها وأشهرها نصب النساء وجر المسلمات على الإضافة” (شرح مسلم للنووي)
قال الأتيوبي بعد أن ذكر الأوجه:” عندي أن أقرب الأوجه أنه من حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه؛ أي يا نساء الأنفس المسلمات، كما هو رأي البصريين، وإلى ترجيح مذهبهم أشار ابن مالك في “الخلاصة” حيث قال:
ولا يضاف اسم لما به اتحد … معنى وأول موهما إذا ورد (البحر المحيط الثجاج)
قال ابن حجر:” وخص النهي بالنساء لأنهن موارد المودة والبغضاء، ولأنهن أسرع انفعالا في كل منهما.” (فتح الباري)
(ولا تحقرن جارة لجارتها) قال الكرماني لجارتها متعلق بمحذوف، أي لا تحقرن جارة هدية مهداة لجارتها (تحفة الأحوذي)
(فرسن شاة) قال النووي:” قال أهل اللغة: هو بكسر الفاء والسين وهو الظلف، قالوا: وأصله في الإبل، وهو فيها مثل القدم في الإنسان، قالوا: ولا يقال إلا في الإبل، ومرادهم أصله مختص بالإبل، ويطلق على الغنم استعارة. وهذا النهي عن الاحتقار نهي للمعطية المهدية، ومعناه: لا تمتنع جارة من الصدقة والهدية لجارتها لاستقلالها واحتقارها الموجود عندها، بل تجود بما تيسر وإن كان قليلا كفرسن شاة، وهو خير من العدم، وقد قال الله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” اتقوا النار ولو بشق تمرة ” قال القاضي: هذا التأويل هو الظاهر، وهو تأويل مالك لإدخاله هذا الحديث في باب الترغيب في الصدقة، قال: ويحتمل أن يكون نهيا للمعطاة عن الاحتقار.” (شرح مسلم للنووي)
قال ابن حجر:” قوله: (فرسن) بكسر الفاء والمهملة بينهما راء ساكنة وآخره نون هو عظم قليل اللحم، وهو للبعير موضع الحافر للفرس، ويطلق على الشاة مجازا، ونونه زائدة وقيل أصلية، وأشير بذلك إلى المبالغة في إهداء الشيء اليسير وقبوله لا إلى حقيقة الفرسن لأنه لم تجر العادة بإهدائه أي لا تمنع جارة من الهدية لجارتها الموجود عندها لاستقلاله بل ينبغي أن تجود لها بما تيسر وإن كان قليلا فهو خير من العدم، وذكر الفرسن على سبيل المبالغة، ويحتمل أن يكون النهي إنما وقع للمهدى إليها وأنها لا تحتقر ما يهدى إليها ولو كان قليلا، وحمله على الأعم من ذلك أولى” (فتح الباري)
قال ابن باز:” الظلف ظلف الشاة، في اللفظ الآخر: ظِلفا محرقا” (شرح رياض الصالحين لابن باز 1/ 578)
قال ابن حجر:” وفي الحديث الحض على التهادي ولو باليسير لأن الكثير قد لا يتيسر كل وقت، وإذا تواصل اليسير صار كثيرا. وفيه استحباب المودة وإسقاط التكلف.” (فتح الباري)
وقد ابتلينا بالتكلف في زماننا، جاء في المعرفة والتاريخ للفسوي عن شعيب قال: كان أبو العالية يجيئنا في البيت فيقول: لا تتكلفوا لنا أطعمونا من طعام البيت.
قال ابن باز:” فالمقصود الحث على إحسان الجوار والتهادي بين الجيران من الرجال والنساء ولو بالشيء اليسير، علامة المحبة الألفة والصلة بين الجميع” (شرح رياض الصالحين لابن باز 1/ 578)
——–
313 – وعنه أَن رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: “لاَ يَمْنَعْ جارٌ جارَهُ أَنْ يغْرِزَ خَشَبَةً في جِدارِهِ “ثُمَّ يَقُولُ أَبو هريرة: مَالي أَرَاكُمْ عنْهَا معْرِضِينَ، واللَّهِ لأرمينَّ بِهَا بيْنَ أَكْتَافِكُمْ. متفقٌ عَلَيهِ.
رُوى”خَشَبهُ”بالإِضَافَةِ والجمْعِ، ورُوِي”خَشبَةً”بالتَّنْوِينَ عَلَى الإِفْرَادِ. وقوله: مالي أَرَاكُمْ عنْهَا مُعْرِضِينَ: يَعْني عنْ هذِهِ السُّنَّةِ.
قوله (لا يمنع) بالجزم على أن ” لا ” ناهية، ولأبي ذر بالرفع على أنه خبر بمعنى النهي، ولأحمد: ” لا يمنعن ” بزيادة نون التوكيد وهي تؤيد رواية الجزم. (فتح الباري)
(أن يغرز) قال الفيومي:” -بفتح حرف أوله، وكسر ثالثه-، يقال: غرزته غرزا، من باب ضرب: أثبته بالأرض، وأغرزته بالألف لغة” (المصباح المنير 2/ 445
(خشبة) روي بالإفراد و الجمع، وقال ابن عبد البر: روي اللفظان في “الموطأ”، والمعنى واحد؛ لأن المراد بالواحد الجنس، قال ابن حجر”: وهذا الذي يتعين للجمع بين الروايتين، وإلا فالمعنى قد يختلف باعتبار أن أمر الخشبة الواحدة أخف في مسامحة الجار، بخلاف الخشب الكثير”
وقوله: (بين أكتافكم) قال النووي:” هو بالتاء المثناة فوق، أي: بينكم، قال القاضي: قد رواه بعض رواة الموطأ ” أكنافكم ” بالنون، ومعناه أيضا: بينكم، والكنف الجانب، ومعنى الأول: أني أصرح بها بينكم وأوجعكم بالتقريع بها، كما يضرب الإنسان بالشيء بين كتفيه. ” (شرح مسلم للنووي)
قوله: (ما لي أراكم عنها معرضين) أي عن هذه السنة والخصلة والموعظة أو الكلمات، وجاء في رواية أبي داود: ” فنكسوا رءوسهم، فقال: ما لي أراكم أعرضتم “. واختلف العلماء في معنى هذا الحديث، هل هو على الندب إلى تمكين الجار من وضع الخشب على جدار جاره؟ أم على الإيجاب؟ وفيه قولان للشافعي وأصحاب مالك: أصحهما في المذهبين: الندب، وبه قال أبو حنيفة والكوفيون. والثاني: الإيجاب، وبه قال أحمد وأبو ثور وأصحاب الحديث، وهو ظاهر الحديث. ومن قال بالندب قال: ظاهر الحديث أنهم توقفوا عن العمل، فلهذا قال: ما لي أراكم عنها معرضين؟ وهذا يدل على أنهم فهموا منه الندب لا الإيجاب، ولو كان واجبا لما أطبقوا على الإعراض عنه. والله أعلم. (شرح مسلم للنووي)
قال ابن حجر:” استدل به على أن الجدار إذا كان لواحد وله جار فأراد أن يضع جذعه عليه جاز سواء أذن المالك أم لا فإن امتنع أجبر وبه قال أحمد وإسحاق وغيرهما من أهل الحديث وبن حبيب من المالكية والشافعي في القديم وعنه في الجديد قولان” (فتح الباري 5/ 110)
وقال أيضا:” محل الوجوب عند من قال به أن يحتاج إليه الجار ولا يضع عليه ما يتضرر به المالك ولا يقدم على حاجة المالك” (فتح الباري 5/ 112)
قال القرطبي:” هذا القول من أبي هريرة -رضي الله عنه -إنكار عليهم لما رأى منهم الإعراض، واستثقال ما سمعوه منه، وذلك أنهم لم يقبلوا عليه، بل طأطؤوا رؤوسهم، كما رواه الترمذي في هذا الحديث (المفهم)
قال ابن عثيمين:” لا يحل للجار أن يمنع جاره من وضع الخشب على جداره، وإن فعل ومنع؛ فإنه يجبر على أن يوضع الخشب رغماً عن أنفه.” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 179)
قوله (لأرمين) جاء في البخاري (لأرمينها) وفي رواية أبي داود: ” لألقينها ” قال ابن حجر:” أي لأشيعن هذه المقالة فيكم ولأقرعنكم بها كما يضرب الإنسان بالشيء بين كتفيه ليستيقظ من غفلته.” (فتح الباري)
قال صحاب العون:” قال القسطلاني أي لأصرخن بالمقالة فيكم ولأوجعنكم بالتقريع بها كما يضرب الإنسان بالشيء بين كتفيه ليستيقظ من غفلته أو الضمير أي في قوله بها للخشية والمعنى إن لم تقبلوا هذا الحكم وتعملوا به راضين لأجعلن الخشبة على رقابكم كارهين وقصد بذلك المبالغة قاله الخطابي” (عون المعبود 10/ 46)
قال القرطبي رحمه الله: أي لأحدثنكم بتلك المقالة التي استثقلتم سماعها من غير مبالاة، ولا تقية، وأوقعها بينكم كما يوقع السهم بين الجماعة (المفهم)
قال ابن عثيمين:” يعني من لم يمكن من وضع الخشب على جداره وضعناه على متن جسده بين أكتافه، وقال هذا رضي الله عنه حينما كان أميراً على المؤمنين على المدينة في زمن مروان بن الحكم.” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 179)
وقال أيضا:” وهذا نظير ما قاله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في المشاجرة التي جرت بين محمد بن مسلمة وجاره، حيث أراد أن يجري الماء إلى بستانه وحال بينه وبينه بستان جاره، فمنعه الجار من أن يجري من على أرضه، فترافعا إلى عمر، فقال: والله لئن منعته لأجرينه على بطنك، وألزمه أن يجري الماء؛ لأن إجراء ليس فيه ضرر؛ لأن كل بستان زرع فإذا جرى الماء الساقي؛ انتفعت الأرض وانتفع ما حول الساقي من الزرع وانتفع الجار، نعم لو كان الجار يريد أن يبنيها بناءً وقال لا أريد أن يجري الماء على الأرض فله المنع، أما إذا كان يريد أن يزرعها فالماء لا يزيده إلا خيرا ” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 180)
قال القرطبي:” فيه من الفقه: تبليغ العلم لمن لم يرده، ولا استدعاه، إذا كان من الأمور المهمة، ويظهر منه أن أبا هريرة كان يعتقد وجوب بذل الحائط لغرز الخشب، وأن السامعين له لم يكونوا يعتقدون ذلك.” (المفهم)
——
314 – وعنه أَن رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: “مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَان يُؤْمِنُ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخرِ، فَلْيكرِمْ ضَيْفهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمنُ بِاللَّهِ وَالْيومِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَسْكُتْ” متفقٌ عَلَيهِ.
315 – وعن أَبي شُريْح الخُزاعيِّ رضي اللَّه عنه أَن النَّبيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: “مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللَّهِ والْيوْمِ الآخِرِ، فَلْيُحسِنْ إلِى جارِهِ، ومنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفهُ، ومنْ كانَ يؤمنُ باللَّهِ واليومِ الآخرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيسْكُتْ” رواه مسلم بهذا اللفظ، وروى البخاري بعضه.
جاء في صحيح مسلم عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ – أَوْ قَالَ: لِأَخِيهِ – مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ”
وجاء في مسند أحمد أن “ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللهُ، وَثَلَاثَةٌ يَشْنَؤُهُمُ اللهُ ” ثم ذكر من الذين يحبهم ” وَالرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ الْجَارُ يُؤْذِيهِ جِوَارُهُ، فَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا مَوْتٌ أَوْ ظَعْنٌ” قال السندي:” ظعن” بفتح فسكون، أي: سفر” فيه أن لو عامل الجار جاره بسوء فعليه أن يعامل جاره بالحسنى ويصبر على أذاه فإن لم يستطع فعليه بالفراق.
وفي الترمذي ” أحسن إلى جارك تكن مؤمنا ” الصحيحة (930)
(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) قال الأبي: هو من خطاب التهييج، أي من صفة المؤمن، لا أنه شرط حقيقة. (شرح الأبي 1/ 151) قال ابن علان:” إيمانا كاملا” (دليل الفالحين 1/ 508)
قال ابن حجر:” قال الطوفي: ظاهر الحديث انتفاء الإيمان عمن لم يتصف بما ذكر، وليس مرادا، بل أريد به المبالغة، كما يقول القائل: إن كنت ابني فأطعني؛ تهييجا له على الطاعة، لا أنه بانتفاء طاعته ينتفي كونه ابنه. (فتح الباري 10/ 654)
وقال في موضع آخر: المراد به الإيمان الكامل، وخصه “بالله، واليوم الآخر” إشارة إلى المبدأ والمعاد، أي من آمن بالله الذي خلقه، وآمن بأنه سيجازيه بعمله، فليفعل الخصال المذكورات (فتح الباري10/ 548)
(فَلا يُؤْذِ جَارَهُ) جاء في رواية مسلم (لا يؤذي) قال النووي:” وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (فلا يؤذي جاره) فكذا وقع في الأصول ” يؤذي ” بالياء في آخره، وروينا في غير مسلم: ” فلا يؤذ ” بحذفها. وهما صحيحان. فحذفها للنهي وإثباتها على أنه خبر يراد به النهي فيكون أبلغ. ومنه قوله تعالى: {لا تضار والدة بولدها} على قراءة من رفع. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ” لا يبيع أحدكم على بيع أخيه ” ونظائره كثيرة.” (شرح مسلم للنووي)
قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت) قال النووي:” قال أهل اللغة: يقال: صمت يصمت – بضم الميم – صمتا وصموتا وصماتا؛ أي سكت. قال الجوهري: ويقال: أصمت بمعنى صمت، والتصميت السكوت. والتصميت أيضا التسكيت.” (شرح مسلم)
قال ابن حجر:” بضم الميم ويجوز كسرها، وهذا من جوامع الكلم لأن القول كله إما خير وإما شر وإما آيل إلى أحدهما؛ فدخل في الخير كل مطلوب من الأقوال فرضها وندبها، فأذن فيه على اختلاف أنواعه، ودخل فيه ما يئول إليه، وما عدا ذلك مما هو شر أو يئول إلى الشر فأمر عند إرادة الخوض فيه بالصمت.” (فتح الباري)
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَسْكُتْ) وفي رواية (فليقل خيرا أو ليصمت) فمعناه أنه إذا أراد أن يتكلم فإن كان ما يتكلم به خيرا محققا يثاب عليه، واجبا أو مندوبا فليتكلم. وإن لم يظهر له أنه خير يثاب عليه، فليمسك عن الكلام سواء ظهر له أنه حرام أو مكروه أو مباح مستوي الطرفين. فعلى هذا يكون الكلام المباح مأمورا بتركه مندوبا إلى الإمساك عنه مخافة من انجراره إلى المحرم أو المكروه. وهذا يقع في العادة كثيرا أو غالبا. وقد قال الله تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} واختلف السلف والعلماء في أنه هل يكتب جميع ما يلفظ به العبد وإن كان مباحا لا ثواب فيه ولا عقاب لعموم الآية، أم لا يكتب إلا ما فيه جزاء من ثواب أو عقاب؟ وإلى الثاني ذهب ابن عباس رضي الله عنهما، وغيره من العلماء. وعلى هذا تكون الآية مخصوصة، أي ما يلفظ من قول يترتب عليه جزاء. وقد ندب الشرع إلى الإمساك عن كثير من المباحات لئلا ينجر صاحبها إلى المحرمات أو المكروهات. وقد أخذ الإمام الشافعي رضي الله عنه معنى الحديث فقال: إذا أراد أن يتكلم فليفكر، فإن ظهر له أنه لا ضرر عليه تكلم، وإن ظهر له فيه ضرر، أو شك فيه أمسك. ” (شرح مسلم للنووي)
قال النووي:” وقد قال الإمام الجليل أبو محمد عبد الله بن أبي زيد إمام المالكية بالمغرب في زمنه: جماع آداب الخير يتفرع من أربعة أحاديث: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ” من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت “. وقوله صلى الله عليه وسلم: ” من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ” وقوله صلى الله عليه وسلم للذي اختصر له الوصية: ” لا تغضب “، وقوله صلى الله عليه وسلم: ” لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه “. والله أعلم.” (ِشرح مسلم للنووي)
قال النووي:” وروينا عن الأستاذ أبي القاسم القشيري رحمه الله قال: الصمت بسلامة – وهو الأصل – والسكوت في وقته صفة الرجال كما أن النطق في موضعه من أشرف الخصال قال: وسمعت أبا علي الدقاق يقول: من سكت عن الحق فهو شيطان أخرس. قال: فأما إيثار أصحاب المجاهدة السكوت فلما علموا ما في الكلام من الآفات، ثم ما فيه من حظ النفس، وإظهار صفات المدح، والميل إلى أن يتميز من بين أشكاله بحسن النطق، وغير هذا من الآفات، وذلك نعت أرباب الرياضة، وهو أحد أركانهم في حكم المنازلة وتهذيب الخلق. وروينا عن الفضيل بن عياض رحمه الله قال: من عد كلامه من عمله قل كلامه فيما لا يعنيه. وعن ذي النون رحمه الله: أصون الناس لنفسه أمسكهم للسانه. والله أعلم.” (شرح مسلم للنووي)
قال ابن حجر:” وقد استشكل التخيير الذي في قوله: “فليقل خيرا أو ليصمت”؛ لأن المباح إذا كان في أحد الشقين، لزم أن يكون مأمورا به، فيكون واجبا، أو منهيا، فيكون حراما.
والجواب عن ذلك: أن صيغة أفعل في قوله: “فليقل”، وفي قوله: “ليسكت” لمطلق الإذن الذي هو أعم من المباح وغيره، نعم يلزم من ذلك أن يكون المباح حسنا؛ لدخوله في الخير.
ومعنى الحديث: أن المرء إذا أراد أن يتكلم، فليفكر قبل كلامه، فإن علم أنه لا يترتب غليه مفسدة، ولا يجر إلى محرم ولا مكروه، فليتكلم، وإن كان مباحا فالسلامة في السكوت؛ لئلا يجر المباح إلى المحرم والمكروه، وفي حديث أبي ذر – رضي الله عنه – الطويل الذي صححه ابن حبان: “ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه”،” (فتح الباري)
قال ابن علان:” هو من القواعد العظيمة لأنه بين فيه جميع أحكام اللسان الذي هو أكثر الجوارح فعلاً، وبهذا الاعتبار يصح أن يقال فيه إنه ثلث الإسلام. وقال بعضهم: جميع آداب الخير تتفرّع منه، ويشار فيه إلى سائر خصال البرّ والصلة والإحسان لأن آكدها رعاية حق الجوار، وبهذا الاعتبار يصح أن يقال فيه إنه نصف الإسلام، لأن الأحكام إما أن تتعلق بالحق أو بالخلق، وهذا أفاده الثاني لأن وصلة الخلق تستلزم رعاية جميع حقوقهم.” (دليل الفالحين 1/ 509)
قال ابن باز:” اللسان خطره عظيم، الواجب على المؤمن أن يحفظ لسانه وأن يصونه عما لا ينبغي، فإما أن يقول خيرا إما أن يسكت، هذا الواجب على المؤمن، الحذر من شر لسانه ” (شرح رياض الصالحين لابن باز 1/ 580)
(وَمَنْ كَان يُؤْمِنُ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخرِ، فَلْيكرِمْ ضَيْفهُ) قال النووي:” قال القاضي عياض رحمه الله: معنى الحديث أن من التزم شرائع الإسلام لزمه إكرام جاره وضيفه، وبرهما. وكل ذلك تعريف بحق الجار، وحث على حفظه. وقد أوصى الله تعالى بالإحسان إليه في كتابه العزيز. وقال صلى الله عليه وسلم: ” ما زال جبريل عليه السلام يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه “. والضيافة من آداب الإسلام، وخلق النبيين والصالحين. وقد أوجبها الليث ليلة واحدة. واحتج بالحديث: ” ليلة الضيف حق واجب على كل مسلم ” وبحديث عقبة: ” إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بحق الضيف فاقبلوا، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم ” وعامة الفقهاء على أنها من مكارم الأخلاق. وحجتهم قوله صلى الله عليه وسلم: ” جائزته يوم وليلة “. والجائزة العطية والمنحة والصلة، وذلك لا يكون إلا مع الاختيار، وقال أيضا:” وقوله صلى الله عليه وسلم: ” فليكرم، وليحسن ” يدل على هذا أيضا إذ ليس يستعمل مثله في الواجب، مع أنه مضموم إلى الإكرام للجار والإحسان إليه، وذلك غير واجب. وتأولوا الأحاديث أنها كانت في أول الإسلام إذ كانت المواساة واجبة.” (شرح مسلم)
قال الأتيوبي معقبا:” لا يخفى على من تأمل أن ما أول به عامة الفقهاء غير واضح، فالحق ما قاله الليث رحمه الله تعالى من وجوب الضيافة؛ لظهور حجته، بل سيأتي ترجيح القول بوجوبها ثلاثة أيام، فتبصر، والله تعالى أعلم.” (البحر المحيط الثجاج 2/ 159)
قال ابن علان:” (فليكرم ضيفه) الغني والفقير بحسن البشر والمبادرة بما تيسر عنده من الطعام من غير كلفة ولا إضرار بأهله إلا أن يرضوا وهم بالغون عاقلون، وعليه يحمل ما ورد من الثناء على الأنصاري وامرأته في إيثارهما الضيف على أنفسهما. والضيف لغة يشمل الواحد والجمع من أضفته وضيفته: إذا أنزلته بك ضيفاً، وضفته وتضيفته: إذا نزلت عليه ضيفاً” (دليل الفالحين 1/ 508)
واختلفوا هل الضيافة على الحاضر والبادي أم على البادي خاصة؟ فذهب الشافعي رضي الله عنه، ومحمد بن الحكم إلى أنها عليهما. وقال مالك وسحنون: إنما ذلك على أهل البوادي؛ لأن المسافر يجد في الحضر المنازل في الفنادق ومواضع النزول، وما يشتري من المأكل في الأسواق. وقد جاء في حديث: ” الضيافة على أهل الوبر وليست على أهل المدر “. ولكن هذا الحديث عند أهل المعرفة موضوع. وقد تتعين الضيافة لمن اجتاز محتاجا وخيف عليه، وعلى أهل الذمة إذا اشترطت عليهم. هذا كلام القاضي. ” (شرح مسلم) قال ابن حجر:” الأمر بالإكرام يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فقد يكون فرض عين، وقد يكون فرض كفاية، وقد يكون مستحبا، ويجمع الجميع أنه من مكارم الأخلاق.” (فتح الباري)
——
316 – وعن عائشة رضي اللَّه عنها قَالَت: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّه إِنَّ لِي جَارَيْنِ، فَإِلى أَيِّهما أُهْدِى؟ قَالَ: “إِلَى أَقْربهمِا مِنْك بَاباً” رواه البخاري.
في رواية بدون حرف الجر ” إلى ”
بوب عليه البخاري باب حق الجوار في قرب الأبواب
وقوله: (أقربهما) أي: أشدهما قربا. قيل: الحكمة فيه أن الأقرب يرى ما يدخل بيت جاره من هدية وغيرها، فيتشوف لها بخلاف الأبعد، وأن الأقرب أسرع إجارة لما يقع لجاره من المهمات ولا سيما في أوقات الغفلة.
وقال ابن أبي جمرة: الإهداء إلى الأقرب مندوب، لأن الهدية في الأصل ليست واجبة، فلا يكون الترتيب فيها واجبا. ويؤخذ من الحديث أن الأخذ في العمل بما هو أعلى أولى، وفيه تقديم العلم على العمل. (فتح الباري)
قال ابن علان:” (قال: إلى أقربهما منك باباً) لأنه المراد بالجار ذي القربى على أحد الأقوال، وقد قدم في الذكر على الجار الجنب اهتماماً به واعتناء بشأنه، ففيه إيماء إلى تقديمه عند المضايقة” (دليل الفالحين 1/ 510)
قال ابن باز:” هذا يدل على أن العبرة بالجوار بقرب الباب لا بقرب الجدار، فالجيران متفاوتون كل من كان أقرب بابا فهو أحق بالإكرام والإحسان” (شرح رياض الصالحين لابن باز 1/ 581)
قال ابن بطال: لا حجة في هذا الحديث لمن أوجب الشفعة بالجوار لأن عائشة إنما سألت عمن تبدأ به من جيرانها بالهدية فأخبرها بأن الأقرب أولى، وأجيب بأن وجه دخوله في الشفعة أن حديث أبي رافع يثبت شفعة الجوار فاستنبط من حديث عائشة تقديم الأقرب على الأبعد للعلة في مشروعية الشفعة لما يحصل من الضرر بمشاركة الغير الأجنبي بخلاف الشريك في نفس الدار واللصيق للدار. (فتح الباري)
قلت – والله أعلم – أن في زماننا كبرت البيوت وابتعدت الأبواب فقل الإستشعار ببعض الأحاديث في الجار، على عكس من كان باب جاره قريب من بابه ربما يكون أكثر استشعارا بهذه الأحاديث.
317 – وعن عبدِ اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: “خَيْرُ الأَصحاب عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى خَيْرُهُمْ لصاحِبِهِ، وخَيْرُ الجِيرَانِ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى خيْرُهُمْ لجارِهِ “رواه الترمذي وقال: حديث حسن. (الصحيحة 103)
جاء في مسند الإمام أحمد عن نافع بن عبد الحارث رضي الله عنه قال: قال رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:”مِنْ سعادَةِ المرْءِ؛ الجارُ الصالحُ، والمرْكَبُ الهنيءُ، والمسْكنُ الواسعُ”. (صحيح الترغير2575)
جاء في الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”فإنْ أَحْبَبْتُمْ أنْ يُحِبُّكُمُ الله ورسولُه؛ فأَدُّوا إذا ائْتُمِنْتُم، واصْدُقوا إذا حَدَّثْتُم، وأحْسِنوا جِوارَ مَنْ جاوَرَكُمْ”. (صحيح الترغيب 2928)
(خير الأصحاب عند الله) أي أكثرهم عنده ثواباً أو أكرمهم عنده منزلة قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات: 13) (دليل الفالحين 1/ 510)
(خيرهم لصاحبه) قال المباركفوري:” أي أكثرهم إحسانا إليه ولو بالنصيحة ” (تحفة الأحوذي6/ 63) في القيام بما ينفعه والدفع لما يؤذي (دليل الفالحين 1/ 510)
(وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره) أي ولو برفع الأذى عنه (تحفة الأحوذي 6/ 63)
قال ابن باز:” فالمؤمن يعتني بصحبه ولا يؤذيهم، يصلهم يحسن إليهم يعلمهم، يأمرهم بالمعروف ينهاهم عن المنكر، يزيدهم من الخير يواسيهم من ماله إن كانوا فقراء، هكذا الصاحب الخير الطيب، وهكذا مع الجيران ومع الأقارب يكون محسنا كافًّا للأذى، يقول الخير ويكف الشر مع الجار ومع الأقارب ومع غيرهم” (شرح رياض الصالحين 1/ 581)
قال الذهبي:” فإن كان الجار صاحب كبيرة فلا يخلو إما أن يكون متسترا بها أو لا، فإن كان متستر بها ويغلق بابه عليه فلتعرض عنه وتتغافل عنه وإن أمكن أن تنصحه في السر وتعظه فحسن، وإن كان مجاهرا في فسق مثل مكاس أو مراب فيهجر هجرا جميلا، وكذا إن كان تارك للصلاة في كثير من أوقاته فمره بالمعروف وانهه عن المنكر برفق – مرة بعد أخرى – وإلا فاهجره في الله لعله أن يرعوي ويحصل له انتفاع بالهجر من غير أن تقطع عنه كلامك وسلامك وهديتك.
فإن رأيته متمردا عاتيا بعيدا من الخير فأعرض عنه، واجهد أن تتحول من جواره فقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم تعوذ من جار السوء في دار المقامة ”
ثم قال أيضا ” فإن كان الجار ديوثا أو قليل الغيرة أو حريمه على غير الطريق المستقيم، فتحول عنه أو فاجهد أن لا تواددن زوجتك زوجته فإن ذلك فسادا كبيرا وخف على نفسك المسكينة ولا تدخل منزله واقطع الود بكل ممكن،
وقال أيضا:” فإن كان جارك رافضيا أو صاحب بدعة كبيرة، فإن قدرت على تعليمه وهدايته فاجهد، وإن عجزت فانجمع عنه ولا توادّه ولا تصافه ولا تكون له مصادقا ولا معاشرا والتحول أولى بك ”
ثم قال:” فإن كان جارك يهوديا أو نصرانيا في الدار أو في السوق أو في البستان، فجاوره بالمعروف ولا تؤذه ولا تواده فوق القدر الذي له … فأما من جعل إجابة دعوتهم ديدنه، وعاشرهم، وباسطهم، فإن إيمانه يرق وقد قال تعالى:” لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ” الآية (حقوق الجار للذهبي ص 137 و 138 و 139)
قوله فانجمع: فاعتزل