2683 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك محمد البلوشي، وطارق أبو تيسير وعبدالملك وعبدالله المشجري وأحمد بن علي وعبدالحميد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح مسلم في (48) – كتاب الذِّكْرِ والدُّعاءِ والتَّوْبَةِ والِاسْتِغْفارِ:
(5) – بابُ: مَن أحَبَّ لِقاءَ اللهِ أحَبَّ اللهُ لِقاءَهُ ومَن كَرِهَ لِقاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقاءَهُ
(14) – ((2683)) حَدَّثَنا هَدّابُ بْنُ خالِدٍ، حَدَّثَنا هَمّامٌ، حَدَّثَنا قَتادَةُ، عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ، عَنْ عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ، أنَّ نَبِيَّ اللهِ لا، قالَ: «مَن أحَبَّ لِقاءَ اللهِ، أحَبَّ اللهُ لِقاءَهُ، ومَن كَرِهَ لِقاءَ اللهِ، كَرِهَ اللهُ لِقاءَهُ»،
(14) – وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنّى، وابْنُ بَشّارٍ، قالا: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنْ قَتادَةَ، قالَ: سَمِعْتُ أنَسَ بْنَ مالِكٍ يُحَدِّثُ، عَنْ عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ لا مِثْلَهُ
(15) – ((2684)) حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الرُّزِّيُّ، حَدَّثَنا خالِدُ بْنُ الحارِثِ الهُجَيْمِيُّ، حَدَّثَنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتادَةَ، عَنْ زُرارَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشامٍ، عَنْ عائِشَةَ، قالَتْ: قالَ رَسُولُ اللهِ لا: «مَن أحَبَّ لِقاءَ اللهِ، أحَبَّ اللهُ لِقاءَهُ، ومَن كَرِهَ لِقاءَ اللهِ، كَرِهَ اللهُ لِقاءَهُ» فَقُلْتُ: يا نَبِيَّ اللهِ أكَراهِيَةُ المَوْتِ؟ فَكُلُّنا نَكْرَهُ المَوْتَ، فَقالَ: «لَيْسَ كَذَلِكِ، ولَكِنَّ المُؤْمِنَ إذا بُشِّرَ بِرَحْمَةِ اللهِ ورِضْوانِهِ وجَنَّتِهِ، أحَبَّ لِقاءَ اللهِ، فَأحَبَّ اللهُ لِقاءَهُ، وإنَّ الكافِرَ إذا بُشِّرَ بِعَذابِ اللهِ وسَخَطِهِ، كَرِهَ لِقاءَ اللهِ، وكَرِهَ اللهُ لِقاءَهُ»،
(15) – حَدَّثَناهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَشّارٍ، حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حَدَّثَنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتادَةَ، بِهَذا الإسْنادِ
(16) – ((2684)) حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ زَكَرِيّاءَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هانِئٍ، عَنْ عائِشَةَ، قالَتْ: قالَ رَسُولُ اللهِ لا: «مَن أحَبَّ لِقاءَ اللهِ، أحَبَّ اللهُ لِقاءَهُ، ومَن كَرِهَ لِقاءَ اللهِ، كَرِهَ اللهُ لِقاءَهُ، والمَوْتُ قَبْلَ لِقاءِ اللهِ»،
(16) – حَدَّثَناهُ إسْحاقُ بْنُ إبْراهِيمَ، أخْبَرَنا عِيسى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنا زَكَرِيّاءُ، عَنْ عامِرٍ، حَدَّثَنِي شُرَيْحُ بْنُ هانِئٍ، أنَّ عائِشَةَ، أخْبَرَتْهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ لا قالَ: بِمِثْلِهِ
(17) – ((2685)) حَدَّثَنا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأشْعَثِيُّ، أخْبَرَنا عَبْثَرٌ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عامِرٍ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هانِئٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ لا: «مَن أحَبَّ لِقاءَ اللهِ، أحَبَّ اللهُ لِقاءَهُ، ومَن كَرِهَ لِقاءَ اللهِ، كَرِهَ اللهُ لِقاءَهُ»، قالَ: فَأتَيْتُ عائِشَةَ، فَقُلْتُ: يا أُمَّ المُؤْمِنِينَ، سَمِعْتُ أبا هُرَيْرَةَ يَذْكُرُ عَنْ رَسُولِ اللهِ لا حَدِيثًا إنْ كانَ كَذَلِكَ، فَقَدْ هَلَكْنا، فَقالَتْ: إنَّ الهالِكَ مَن هَلَكَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ لا، وما ذاكَ؟ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ لا: «مَن أحَبَّ لِقاءَ اللهِ، أحَبَّ اللهُ لِقاءَهُ، ومَن كَرِهَ لِقاءَ اللهِ، كَرِهَ اللهُ لِقاءَهُ»، ولَيْسَ مِنّا أحَدٌ إلّا وهُوَ يَكْرَهُ المَوْتَ، فَقالَتْ: قَدْ قالَهُ رَسُولُ اللهِ لا، ولَيْسَ بِالَّذِي تَذْهَبُ إلَيْهِ، ولَكِنْ إذا شَخَصَ البَصَرُ، وحَشْرَجَ الصَّدْرُ، واقْشَعَرَّ الجِلْدُ، وتَشَنَّجَتِ الأصابِعُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ مَن أحَبَّ لِقاءَ اللهِ، أحَبَّ اللهُ لِقاءَهُ، ومَن كَرِهَ لِقاءَ اللهِ، كَرِهَ اللهُ لِقاءَهُ.
(17) – وحَدَّثَناهُ إسْحاقُ بْنُ إبْراهِيمَ الحَنْظَلِيُّ، أخْبَرَنِي جَرِيرٌ، عَنْ مُطَرِّفٍ، بِهَذا الإسْنادِ نَحْوَ حَدِيثِ عَبْثَرٍ.
(18) – ((2686)) حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، وأبُو عامِرٍ الأشْعَرِيُّ، وأبُو كُرَيْبٍ، قالُوا: حَدَّثَنا أبُو أُسامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أبِي بُرْدَةَ، عَنْ أبِي مُوسى، عَنِ النَّبِيِّ لا، قالَ: «مَن أحَبَّ لِقاءَ اللهِ، أحَبَّ اللهُ لِقاءَهُ، ومَن كَرِهَ لِقاءَ اللهِ، كَرِهَ اللهُ لِقاءَهُ».
==========
التمهيد:
“الدنيا سجن المؤمن جعلها الله مزرعة الآخرة، فمن يعمل فيها مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل فيها مثقال ذرة شرا يره، والموت هو باب الخروج من السجن إلى الدار الأخرى، {فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون} ولا تملكون له شيئا {ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين} [الواقعة (83) – (87)]، أما إلى نار والعياذ بالله، وإما إلى جنان نسأل الله من فضله
وفي هذه اللحظات الدقيقة من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه وفتح له أبواب رحمته، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه وأعد له جزاء ما قدمت يداه جعلنا الله ممن يحبون لقاءه ويحب لقاءهم”. [].
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
شرح الحديث:
(عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ) -رضي الله عنه-، وفي رواية شعبة، عن قتادة التالية: «قال: سمعت أنسًا يُحدّث» (عَنْ عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ) -رضي الله عنه-
(أن نَبِيَّ اللهِ لا قالَ: «مَن أحَبَّ لِقاءَ اللهِ).
فيستدل باستبشار المحتضر بعد المعاينة على الخير، وبانكماشه بعدها على الشرّ، وقد فَسّرت عائشة -رضي الله عنها- الحديث بذلك، وروته عن النبيّ لا، فوجب الرجوع إليه.
وقال ابن عبد البرّ بعد نقله هذا المعنى عن أهل العلم: وقال أبو عبيدة: ليس وجهه عندي كراهة الموت وشدته؛ لأن هذا لا يكاد يخلو منه أحد، ولكن المكروه من ذلك إيثار الدنيا، والركون إليها، وكراهته أن يصير إلى الله، والدار الآخرة، قال: ومما يبيِّن ذلك أن الله تعالى قد عاب قومًا في كتابه بحب الحياة الدنيا، فقال: {إنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا ورَضُوا بِالحَياةِ الدُّنْيا واطْمَأنُّوا بِها} [يونس: (7)]، وقال: {ولَتَجِدَنَّهُمْ أحْرَصَ النّاسِ عَلى حَياةٍ ومِنَ الَّذِينَ أشْرَكُوا يَوَدُّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ ألْفَ سَنَةٍ} [البقرة (96)]، وقال: {ولا يَتَمَنَّوْنَهُ أبَدًا بِما قَدَّمَتْ أيْدِيهِمْ} [الجمعة (7)]، قال: فهذا يدلّ على أن الكراهية للقاء الله تعالى ليست بالكراهية للموت، وإنما هو الكراهية للنُّقلة من الدنيا إلى الآخرة. انتهى. [«طرح التثريب» (3) / (263) – (264)].
وقال في «الفتح»: قال الكرمانيّ [«شرح صحيح البخاريّ» للكرمانيّ (23) / (25)]: ليس الشرط سببًا للجزاء، بل الأمر بالعكس، ولكنه على تأويل الخبر؛ أي: من أحب لقاء الله أخْبِره بأن الله أحب لقاءه، وكذا الكراهة.
قال ابن الاثير
قال: وقول عائشة -رضي الله عنه-: «والموت دون لقاء الله» يبيّن أن الموت غير اللقاء، ولكنه مُعترِضٌ دون الغرض المطلوب، فيجب أن يصبر عليه، ويحْتَمِلَ مشاقّه حتى يصل إلى الفوز باللقاء. [«النهاية في غريب الأثر» (4) / (266)].
وقال الخطابيّ: معنى محبّة العبد للقاء الله: إيثاره الآخرة على الدنيا، فلا يحبّ استمرار الإقامة فيها، بل يستعدّ للارتحال عنها، والكراهةُ بضدّ ذلك. انتهى.
وقال النوويّ: معنى الحديث: أن المحبّة والكراهة التي تُعتبر شرعًا هي التي تقع عند النزع في الحالة التي لا تُقبل فيها التوبة، حين ينكشف الحال للمُحتَضِر، ويظهر له ما هو صائر إليه. انتهى. [راجع: «الفتح» (14) / (701)، «كتاب الرقاق» رقم ((6507))].
تنبيه: وقع بعض الشراح هنا في تأويل المحبة والكراهة لله عزجل. وأهل السنة يثبتون ما أثبت الله لنفسه من الصفات وما أثبته له رسوله على ما يليق بجلاله من غير تمثيل ولا تعطيل
وحديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه.
وقال النووي -رحمه الله- في حديث عائشة: هذا الحديث يفسّر آخرُهُ أوّلَهُ، ويبيّن المراد بباقي الأحاديث المطلقة: «من أحبّ لقاء الله، ومن كره لقاء الله».انتهى [«شرح النوويّ» (17) / (12) – (13)].
وحديث عائشة -رضي الله عنهما- هذا من أفراد المصنّف -رحمه الله-.
وقوله: (والمَوْتُ قَبْلَ لِقاءِ اللهِ) قال الحافظ -رحمه الله-: هذه الزيادة من كلام عائشة -رضي الله عنها- فيما يظهر لي، ذكرَتْها استنباطًا مما تقدم. انتهى.
قال الأتيوبي عفا الله عنه: هكذا أشار الحافظ إلى كون هذه الزيادة مدرجة في الحديث، ولم يذكر حجته على الإدراج، والذي يظهر لي أنها مرفوعة من نفس الحديث، فقد أخرجها مسلم وغيره، ولم يُشر أحد إلى إدراجها، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.
قال: وفيه أن الله تعالى لا يراه في الدنيا أحد من الأحياء، وإنما يقع ذلك للمؤمنين بعد الموت، وأصرح من هذا حديث: «فاعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا»، حديث صحيح، أخرجه مسلم بنحوه.
شرح حديث أبي هريرة واقرار عائشة له:
قال في «الفتح»: وهذه الأمور هي حالة المحتضِر، وكأن عائشة -رضي الله عنها- أخذته من معنى الخبر الذي رواه عنها سعد بن هشام مرفوعًا لمّا قالت له: «فكلنا نكره الموت؟ فقال: ليس كذلكِ، ولكن المؤمن إذا بُشِّر برحمة الله، ورضوانه، وجنته، أحب لقاء الله، فاحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بُشّر بعذاب الله، وسخطه، كره لقاء الله، وكره الله لقاءه».
(فَعِنْدَ ذَلِكَ مَن أحَبَّ لِقاءَ اللهِ أحَبَّ اللهُ لِقاءَهُ، ومَن كرِهَ لِقاءَ اللهِ كرِهَ اللهُ لِقاءَهُ) وأخرج عبد بن حميد من وجه آخر عن عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا: «إذا أراد الله بعبد خيرًا قيّض له قبل موته بعام ملَكًا يسدّده، ويوفّقه حتى يقال: مات بخير ما كان، فإذا حُضر ورأى ثوابه اشتاقت نفسه، فذلك حين أحبّ لقاء الله، وأحبّ الله لقاءه، وإذا أراد الله بعبد شرًّا قَيّض له قبل موته بعام شيطانًا، فأضلّه، وفَتَنه، حتى يقال: مات بشرّ ما كان عليه، فإذا حُضر، ورأى ما أُعِدّ له من العذاب جَزِعَت نفسه، فذلك حين كره لقاء الله، وكره الله لقاءه»، والله تعالى أعلم.
وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه.
قال ابن العثيمين:
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا أحب لقاء الله أحب الله لقاءه وذلك أن المؤمن يؤمن بما أعد الله للمؤمنين في الجنة من الثواب الجزيل والعطاء العميم الواسع فيحب ذلك وترخص عليه الدنيا ولا يهتم بها لأنه سوف ينتقل إلى خير منها فحينئذ يحب لقاء الله ولاسيما عند الموت إذا بشر بالرضوان والرحمة فإنه يحب لقاء الله عز وجل ويتشوق إليه فيحب الله لقاءه أما الكافر والعياذ بالله فإنه إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله فكره الله لقاءه ولهذا جاء في حديث المحتضر أن نفس الكافر إذا بشرت بالغضب والسخط تفرقت في جسده وأبت أن تخرج ولهذا تنزع النفس روح الكافر من جسده كما ينزع الشعر من السفود المبلول شرح رياض الصالحين لابن عثيمين (6/ 662)
وقرر الراجحي كراهية الموت المقصود بها عند الاحتضار
راجع توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (7/ 502)
فقه وفوائد الحديث:
1 – (منها): فضل محبة لقاء الله تعالى.
2 – (ومنها): إثبات المحبّة والكراهية لله -عزوجل- على ما يليق بجلاله، دون تأويل
قال الراجحي:
هذه الأحاديث فيها: إثبات المحبة، والكراهية لله عز وجل، وأنهما صفتان من صفاته سبحانه وتعالى الفعلية، خلافا لمن أنكرهما من الجهمية، والمعتزلة، ومن تأولهما من الأشاعرة كالنووي على الطريقة التي درج عليها الأشاعرة من تأويل الصفة بأثرها، فأولوا المحبة بالثواب، وأولوا الكراهة بإبعادهم عن رحمته، وإنما إجزال الثواب أثر من آثار مجبته لله، وكذلك الإبعاد من الرحمة أثر من آثار كراهة الله.
تنبيه سيأتي في المبحث السابع نقل كلام لابن تيمية في اثبات هذه الصفات لله عزوجل.
3 – (ومنها): بيان أن الجزاء من جنس العمل، فإنه قابَل المحبّة بالمحبّة، والكراهة بالكراهة.
4 – (ومنها): بيان معنى كراهة لقاء الله -كما ورد في حديث عائشة -رضي الله عنها- بأنه ليس المراد كراهة الموت، بل ما يكون وقت الاحتضار من حال العبد عند ما يُبشَّرُ المؤمن، ويُنذَرُ الكافرُ، فإذا استبشر المؤمن، وانقبض الكافر كان ذلك علامة حب لقاء الله، وكراهته.
5 – (ومنها): البداءة بأهل الخير في الذِّكر لِشَرَفهم، وإن كان أهل الشرّ أكثر.
6 – (ومنها): أن المحتضر إذا ظهرت عليه علامات السرور كان ذلك دليلًا على أنه بُشّر بالخير، وكذا بالعكس.
7 – (ومنها): أن محبة لقاء الله لا تدخل في النهي عن تمنّي الموت؛ لأنها ممكنة مع عدم تمني الموت، كأن تكون المحبة حاصلة لا يفترق حاله فيها بحصول الموت ولا بتأخره، وأن النهي عن تمني الموت محمول على حالة الحياة المستمرّة، وأما عند الاحتضار والمعاينة، فلا تدخل تحت النهي، بل هي مستحبّة، والله تعالى أعلم.
8 – (ومنها): أن في كراهة الموت في حالة الصحة تفصيلًا، فمن كرهه إيثارًا للحياة على ما بعد الموت من نعيم الآخرة كان مذمومًا، ومن كرهه خشية أن يُفضي إلى المؤاخذة كان يكون مقصّرًا في العمل، لم يستعدّ له بالأُهبة بأن يتخلّص من التبعات، ويقوم بأمر الله كما يجب فهو معذور، لكن ينبغي لمن وجد ذلك أن يبادر إلى أخذ الأهبة حتى إذا حضره الموت لا يكرهه، بل يحبّه لِما يرجو بعده من لقاء الله تعالى.
9 – (ومنها): أن فيه أن الله تعالى لا يراه في الدنيا أحد من الأحياء، وإنما يقع ذلك للمؤمنين بعد الموت؛ أخذًا من حديث عائشة -رضي الله عنها-: «والموت قبل لقاء الله». واللقاء أعمّ من الرؤية، فاذا انتفى اللقاء انتفت الرؤية، وقد ورد بأصرح من هذا في «صحيح مسلم» من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- مرفوعًا في الحديث الطويل الآتي في «الفتن»، وفيه: «تعلّموا أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت»، والله تعالى أعلم.
10 – (ومنها): تصديق من عائشة -رضي الله عنها- لأبي هريرة بأنه حفظ الحديث كما هو، ولم يغيّره.
[البحر المحيط الثجاج، بتصرف يسير].
ثانيًا: ملحقات:
حال الإنسان عند الاحتضار
المبحث الأول: سؤال الرجعة إلى الدنيا عند الاحتضار
الكافرون والمفرّطون في أمر الله تعالى يسألون الله عز وجل حال الاحتضار الرجعة إلى الحياة الدنيا؛ ليصلحوا ما كان أفسدوه في مدة حياتهم، قال تعالى عنهم: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَاءِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99، 100].
قال تعالى: {كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} وكَلا حرف ردع وزجر، أي لا نجيبه إلى ما طلب ولا نقبل منه، وقوله: {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} أي لابد أن يقولها لا محالة كل محتضر ظالم، ولو رُدّ لما عمل صالحاً ولكن يكذب في مقالته!
يقول الطبري في تفسيره للآية السابقة: “يقول تعالى ذكره حتى إذا جاء أحد هؤلاء المشركين الموت، وعاين نزول أمر الله به، قال لعظيم ما يعاين، مما يقدم عليه من عذاب الله تندماً على ما فات، وتلهفاً على ما فرط فيه قبل ذلك من طاعة الله ومسألته للإقالة: {رَبِّ ارْجِعُونِ} إلى الدنيا فرّدوني إليها، {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا}، يقول: كي أعمل صالحاً {فِيمَا تَرَكْتُ} قبل اليوم، من العمل، فضيّعته، وفرطت فيه) [((تفسير الطبري)) (18/ 40)].
ويقول السعدي: “يخبر تعالى عن حال من حضره الموت من المفرطين الظالمين أنه يندم في تلك الحال، إذا رأى مآله، وشاهد قبح أعماله، فيطلب الرجعة إلى الدنيا، لا للتمتع بلذاتها واقتطاف شهواتها، وإنما ذلك ليقول: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} من العمل، وفرطت في جنب الله، {كَلَّا} أي: لا رجعة له ولا إمهال، قد قضى الله أنهم إليها لا يرجعون {إِنَّهَا} أي: مقالته التي تمنى فيها الرجوع إلى الدنيا {كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} أي مجرد قول اللسان لا يفيد صاحبه إلا الحسرة والندم، وهو أيضاً غير صادق في ذلك؛ فإنه لو رُدّ لعاد لما نُهِي عنه” [((تفسير السعدي)) (ص: 508)].
ويدل على سؤال الرجعة وتمنيها حين الاحتضار؛ قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَاتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 9 – 11].
و قال تعالى: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 11] أي لا يؤخر أحداً بعد حلول أجله، وهو سبحانه أعلم وأخبر بمن يكون صادقاً في قوله وسؤاله ممن لو رُدّ لعاد إلى شر مما كان عليه. [انظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 373)، و ((تفسير السعدي)) (ص: 802)]
[((تفسير الطبري)) (28/ 76)].
وفي موضع آخر من كتاب الله تعالى يخبر جل وعلا عن حال الذين ظلموا أنفسهم عند معاينة العذاب وحلول الأجل أنهم يسألون الرجعة وتأخير الأجل؛ نادمين على ما فعلوا، قال تعالى مخبراً عنهم: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَاتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} [إبراهيم: 44]؛ وهذا كله أمل في التخلص من العذاب الأليم وإلا فهم كاذبون في وعودهم؛ ولهذا يوبخون بأن يقال لهم {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ} [إبراهيم: 44، 45]، فهم يوبخون بتذكيرهم بكذبهم حين أقسموا أنهم لن يزولوا عن الدنيا إلى الآخرة، وهم يرون ويعلمون ما أحل بالأمم المكذبة قبلهم وما نزل بهم من العقوبات ولكنهم لم يعتبروا ولم يتعظوا، بل أعرضوا واستمروا على باطلهم وظلمهم حتى وصلوا إلى اليوم الذي لا ينفع فيه اعتذار ولا تقبل فيه توبة. [انظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/ 522 – 523)، و ((تفسير السعدي)) (ص: 381 – 382)].
قال الشنقيطي ت1393هـ: (قوله تعالى حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا .. [المؤمنون: 99 – 100] وما تضمنته الآية الكريمة من أن الكافر والمفرّط في عمل الخير إذا حضر أحدهما الموت طلبا الرجعة إلى الحياة … يطلبون الرجعة عند حضور الموت، ليصلحوا أعمالهم؛ فإنهم يطلبون ذلك يوم القيامة، ومعلوم أنهم لا يجابون إلى ذلك.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا الظاهر أن لعل فيه للتعليل أي ارجعون لأجل أن أعمل صالحاً، وقيل: هي للترجي والتوقع؛ لأنه غير جازم بأنه إذا رُدّ للدنيا عمل صالحاً، والأول أظهر، والعمل الصالح يشمل جميع الأعمال من الشهادتين والحج، الذي كان قد فرّط فيه، والصلوات والزكاة، ونحو ذلك، والعلم عند الله تعالى، وقوله كَلا كلمة زجر، وهي دالة على أن الرجعة التي طلبها لا يعطاها كما هو واضح)) [((أضواء البيان)) (5/ 821، 822)].
المبحث الثاني: انقطاع التوبة بحضور الموت
أخبرنا الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز أن الذين يعملون السيئات ثم يتوبون فإنه تعالى يقبل توبتهم، حيث قال سبحانه {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 17] وغيرها من الآيات الكثيرة، ويقول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عنه أبو هريرة رضي الله عنه ((لو أخطأتم حتى تبلغ خطاياكم السماء، ثم تبتم لتاب عليكم)) [قال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن صحيح]،
وعن أبي عبيدة بن عبد الله، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له)) [حسنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه))]، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)) [حسّنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه))]،
وغيرها من الأحاديث الشريفة، فالنصوص الشرعية التي تحث على التوبة كثيرة جداً، إلا أنها غير مقبولة عند الله تعالى إلا حين تتوفر شروطها التي ذكرها العلماء استقراءً من نصوص كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن تلك الشروط:
1 – أن تكون التوبة خالصة لوجه الله تعالى، فلا يراد بها الدنيا أو مدح الناس وثناؤهم.
2 – الإقلاع عن المعصية.
3 – الندم على فعلها.
4 – العزم على عدم العودة إليها.
5 – إرجاع الحقوق إلى أصحابها، إن كانت المعصية حقوقاً للآخرين.
6 – أن تكون قبل طلوع الشمس من مغربها، وقبل حضور الموت. [انظر: ((التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة)) (1/ 85)].
والذي يعنينا من هذه الشروط في هذا المبحث هو أن التوبة لا بد أن تكون قبل حضور الموت [انظر: ((فتح الباري)) (11/ 487).]، لقوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 17، 18].
يقول الطبري: {ما التوبة على الله لأحد من خلقه إلا للذين يعملون السوء من المؤمنين بجهالة، ثم يتوبون من قريب، يقول: ما الله براجع لأحد من خلقه إلى ما يحبه من العفو عنه، والصفح عن ذنوبه التي سلفت منه إلا للذين يأتون ما يأتونه من ذنوبهم جهالة منهم وهم بربهم مؤمنون ثم يراجعون طاعة الله ويتوبون منه إلى ما أمرهم الله به من الندم عليه والاستغفار وترك العودة إلى مثله قبل نزول الموت بهم، وذلك هو القريب الذي ذكره الله تعالى ذكره، فقال: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ … ، تأويله يتوبون قبل مماتهم في الحال التي يفهمون فيها أمر الله تبارك وتعالى، ونهيه، وقبل أن يغلبوا على أنفسهم وعقولهم، وقبل حال اشتغالهم بكرب الحشرجة وغم الغرغرة، فلا يعرفوا أمر الله ونهيه، ولا يعقلوا التوبة؛ لأن التوبة لا تكون توبة إلا ممن ندم على ما سلف وعزم فيه على ترك المعاودة، وهو يعقل الندم، ويختار ترك المعاودة، وأما إذا كان بكرب الموت مشغولاً، وبغم الحشرجة مغموراً فلا أخاله إلا عن الندم على ذنوبه مغلوباً؛ ولذلك قال من قال: إن التوبة مقبولة ما لم يغرغر العبد بنفسه؛ فإن كان المرء في تلك الحال يعقل عقل الصحيح، ويفهم فهم العاقل الأديب فأحدث إنابة من ذنوبه، ورجعة من شروده عن ربه إلى طاعته كان إن شاء الله ممن دخل في وعد الله الذي وعد التائبين إليه من إجرامهم من قريب) [((تفسير الطبري)) (4/ 202، 205، 206)].
فهذه الآية تدل على قبول الله تعالى للتوبة قبل حضور الموت، أما إذا حضر موته وغرغرت روحه فليس توبته معتبرة حينئذ ولا مقبولة، قال ابن كثير في تفسيره للآيتين السابقتين: “يقول سبحانه وتعالى إنما يقبل الله التوبة ممن عمل السوء بجهالة ثم يتوب ولو بعد معاينة الملك يقبض روحه قبل الغرغرة … ، فقد دلت الأحاديث على أن من تاب إلى الله عز وجل وهو يرجو الحياة فإن توبته مقبولة … ، وأما متى وقع الإياس من الحياة، وعاين الملك، وخرجت الروح من الحلق، وضاق بها الصدر، وبلغت الحلقوم، وغرغرت النفس صاعدة من الغلاصم، فلا توبة مقبولة حينئذ ولات حين مناص”. [((تفسير ابن كثير)) (1/ 439، 440)].
وهذا مثل قوله تعالى عن فرعون: … {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 90، 91].
، وقد عصيته قبل نزول نقمته بك فأسخطته على نفسك، وكنت من الصادين عن سبيله، فهلا وأنت في مهل وباب التوبة لك منفتح أقررت بما أنت به الآن مقر [انظر: ((تفسير الطبري)) (11/ 113)].
قال السعدي: (حتى إذا أدرك فرعون الغرق وجزم بهلاكه قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وهو الله الحق، الذي لا إله إلا هو وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي: المنقادين لدين الله، ولما جاء به موسى، قال الله تعالى، مبيناً أن هذا الإيمان في هذه الحالة غير نافع له آلآنَ تؤمن، وتقر برسول الله وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ أي: بارزت بالمعاصي والكفر والتكذيب وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فلا ينفعك الإيمان كما جرت عادة الله أن الكفار إذا وصلوا إلى هذه الحالة الاضطرارية أنه لا ينفعهم إيمانهم؛ لأن إيمانهم صار إيماناً مشاهداً كإيمان من ورد القيامة، والذي ينفع إنما هو الإيمان بالغيب) [((تفسير السعدي)) (ص: 328، 329)].
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (بل هذه التوبة لا تمنع إلا إذا عاين أمر الآخرة، كما قال تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ .. [النساء: 17] الآية … وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب، وأما من تاب عند معاينة الموت فهذا كفرعون الذي قال: أنا الله فلما أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قال الله: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وهذا استفهام إنكار بين به أن هذه التوبة ليست هي التوبة المقبولة المأمور بها … ومثله قوله تعالى: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ. فَلَمَّا رَأَوْا بَاسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَاسَنَا [غافر: 83 – 85] الآية، بين أن التوبة بعد رؤية البأس لا تنفع، وأن هذه سنة الله التي قد خلت في عباده كفرعون وغيره) [((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (18/ 190، 191)].
وقبول التوبة قبل حضور الموت؛ لأن الرجاء باق ويصح الندم والعزم على ترك الفعل، قال القرطبي: (قال علماؤنا رحمهم الله وإنما صحت منه التوبة في هذا الوقت؛ لأن الرجاء باق ويصح الندم والعزم على ترك الفعل، وقيل: المعنى يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار، والمبادرة في الصحة أفضل وألحق لأمله في العمل الصالح والبعد كل البعد عن الموت، وأما ما كان قبل الموت فهو قريب) [((التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة)) (1/ 85)].
وقد أخبر الله تعالى عن الأمم المكذبة بالرسل في قديم الدهر بأنهم لما رأوا وقوع عذاب الله بهم وحّدوا الله عز وجل وكفروا بالطاغوت فلم يقبل الله منهم توبتهم، قال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَاسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَاسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [غافر: 84، 85]، فهذا حكم الله في جميع من تاب عند معاينة العذاب أنه لا يقبل، وهذه سنة الله وعادته أن المكذبين حين ينْزل بهم بأس الله وعقابه إذا آمنوا كان إيمانهم غير صحيح ولا مقبولاً؛ لأنه إيمان ضرورة قد اضطروا إليه، وإيمان مشاهدة، وإنما الإيمان المقبول المنجي هو الإيمان الاختياري، الذي يكون إيماناً بالغيب، وذلك قبل وجود قرائن العذاب [انظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 91)، و ((تفسير السعدي)) (ص: 690)].
يقول الطبري: (لم يك ينفعهم تصديقهم في الدنيا بتوحيد الله عند معاينة عقابه قد نزل، وعذابه قد حل؛ لأنهم صدقوا حين لا ينفع التصديق مصدقا؛ إذ كان قد مضى حكم الله في السابق من علمه أن من تاب بعد نزول العذاب من الله على تكذيبه لم تنفعه توبته) [((تفسير الطبري)) (24/ 58)].
ويشهد لهذا الشرط المهم من شروط قبول التوبة ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله عز وجل ليقبل توبة العبد ما لم يغرغر)) [رواه الترمذي (3537)، وابن ماجه (3449) – قال المزي: وقع عند ابن ماجه عبدالله بن عمرو وهو وهم والصواب عن عبدالله بن عمر بن الخطاب-، وأحمد (2/ 132) (6160)، وابن حبان (2/ 394) (628)، والحاكم (4/ 286). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قال الترمذي: حسن غريب، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وذكر ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (2/ 207): مرفوعات ومراسيل بنحوه، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (2/ 449) كما قال ذلك في المقدمة]، أي فإذا غرغر وبلغت الروح الحنجرة، وعاين الملك فلا توبة حينئذ [انظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 91)].
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} [آل عمران: 90]، قال بعض العلماء بأن المراد: إذا أخروا التوبة إلى حضور الموت فتابوا حينئذ، فلن تقبل توبتهم، فيكون مثل قوله تعالى في الآية السابقة: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [النساء: 18]، وتقرر في الأصول حمل المطلق على المقيد، ولا سيما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا [انظر: ((أضواء البيان)) (1/ 343)].
وروى الطبري ت310هـ بسنده عن الحسن البصري ت110هـ قوله في هذه الآية هم اليهود والنصارى لن تقبل توبتهم عند الموت [انظر: ((تفسير الطبري)) (3/ 243)].
وقال ابن تيمية: (قال الأكثرون … لن تقبل توبتهم حين يحضرهم الموت … ، قلت: وذلك لأن التائب راجع عن الكفر، ومن لم يتب فإنه مستمر يزداد كفراً بعد كفر، فقوله ثم ازدادوا بمنْزلة قول القائل: ثم أصروا على الكفر، واستمروا على الكفر، وداموا على الكفر، فهم كفروا بعد إسلامهم، ثم زاد كفرهم ما نقص، فهؤلاء لا تقبل توبتهم، وهي التوبة عند حضور الموت؛ لأن من تاب قبل حضور الموت فقد تاب من قريب، ورجع عن كفره، فلم يزدد بل نقص، بخلاف المصر إلى حين المعاينة، فما بقي له زمان يقع لنقص كفره فضلاً عن هدمه) [((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (16/ 29)].
أما ما ثبت ((أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم – وعنده أبو جهل – فقال: أي عم، قل: لا إله إلا الله كلمةً أحاجُّ لك بها عند الله)) (19) الحديث، فقد قال ابن حجر: بأنه صلى الله عليه وسلم لقن عمه الشهادة قبل أن يدخل في الغرغرة، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: أحاج لك بها عند الله كأنه عليه الصلاة والسلام فهم من امتناع أبي طالب من الشهادة في تلك الحالة أنه ظن أن ذلك لا ينفعه؛ لوقوعه عند الموت؛ أو لكونه لم يتمكن من سائر الأعمال الصالحة كالصلاة وغيرها، فلذلك ذكر له المحاججة، وأما لفظ (الشهادة) فيحتمل أنه يكون ظن أن ذلك لا ينفعه إذ لم يحضر حينئذ أحد من المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم فطيب قلبه بأن يشهد له بها فينفعه، وهذا يدل على أن التوبة مقبولة ولو في شدة مرض الموت حتى يصل إلى المعاينة فلا يقبل، كما يدل هذا الحديث على أن الكافر إذا شهد شهادة الحق قبل المعاينة وتحقق الموت نجا من العذاب؛ لأن الإسلام يجب ما قبله [انظر: ((فتح الباري)) (7/ 195، 196)].
ونقل ابن حجر عن الكرماني قوله بأن عرض الرسول صلى الله عليه وسلم الشهادة على عمه كان عند حضور علامات الوفاة، وإلا فلو كان انتهى إلى المعاينة لم ينفعه الإيمان لو آمن، ويدل على الأول ما وقع من المراجعة بينه وبينهم، ثم قال ابن حجر: (ويحتمل أن يكون انتهى إلى تلك الحالة، لكن رجا النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أقر بالتوحيد، ولو في تلك الحالة أن ذلك ينفعه بخصوصه، وتسوغ شفاعته صلى الله عليه وسلم لمكانه منه، ولهذا قال: أجادل لك بها وأشفع لك … ، ويؤيد الخصوصية أنه بعد أن امتنع من الإقرار بالتوحيد، وقال هو على ملة عبد المطلب ومات على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الشفاعة له، بل شفع له حتى خفف عنه العذاب بالنسبة لغيره، وكان ذلك من الخصائص في حقه) [((فتح الباري)) (8/ 506، 507)]،
و [((شرح صحيح البخاري)) (3/ 344 – 346)].
و ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) (1/ 354)].
فإن قيل: هل تصح توبة من حكم عليه بالقتل، أو حضر في مكان يحترق أو كان في طائرة حدث فيها خلل وبدأت تهوي إلى الأرض، ونحو هذه الحالات.
فإنه يقال: نعم تصح توبة هؤلاء؛ لأنهم ربما ينجون من الموت، فمن هوت به الطائرة، أو كان في بيت يحترق، فربما ينجو، وكذلك من حكم عليه بالقتل فربما يرفع القتل عنه [انظر: ((فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين)) (2/ 990)]. [أحوال المحتضر لمحمد العلي مجلة الجامعة الإسلامية العدد 124 – ص 108].
المبحث الثالث: فرح المؤمن بلقاء ربه
إذا جاءت ملائكة الرحمن العبد المؤمن بالبشرى من الله ظهر عليه الفرح والسرور، أما الكافر والفاجر فإنه يظهر عليه الضيق والحزن والتعب، ومن ثم فإن العبد المؤمن في حال الاحتضار يشتاق إلى لقاء الله، والعبد الكافر أو الفاجر يكره لقاء الله تعالى، كما في حديث: ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه))، قالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت، قال: ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حُضِر بُشِّر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله، وكره الله لقاءه)). رواه البخاري (6507)، ولذلك فإن العبد الصالح يطالب حامليه بالإسراع به إلى القبر شوقاً منه إلى النعيم، بينما العبد الطالح ينادي بالويل من المصير الذاهب إليه، ففي صحيح البخاري وسنن النسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها: يا ويلها أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمع الإنسان لصعق)) رواه البخاري (1316)، والنسائي (4/ 41).
ولكن هذا ليس لازماً لكل أحد كما يقول ابن تيمية، بل من الناس من تعرض عليه الأديان قبل موته، ومنهم من لا تعرض عليه، وقد وقع ذلك لأقوام، وهذا كله من فتنة المحيا والممات التي أمرنا أن نستعيذ منها في صلاتنا [الحديث رواه البخاري (1377)، ومسلم (588)]، وقد ذكر الشيخ ابن تيمية أن الشيطان أحرص ما يكون على إغواء الإنسان وقت موته، لأنه وقت الحاجة، واستدل بالحديث الذي في الصحيح: ((الأعمال بخواتيمها)) [رواه البخاري (6493)]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها)) [رواه البخاري (7454)، ومسلم (2643)]، ولهذا روي: ((أن الشيطان أشد ما يكون على ابن آدم حين الموت، يقول لأعوانه: دونكم هذا فإنه إن فاتكم لن تظفروا به أبداً)) [ذكره ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (4/ 256). ولم أقف عليه].
وقد جاء صريحاً في كتاب الله تعالى أن الملائكة تتنْزل على المؤمنين بعدم الخوف والحزن، والبشرى بالجنة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصّلت: 30 – 32]، أي إن الذين أخلصوا العمل لله، وعملوا بطاعة الله تعالى على ما شرع الله لهم تتنّزل عليهم الملائكة عند الموت والاحتضار قائلين لهم أَلا تَخَافُوا مما تقدمون عليه من عمل الآخرة وَلا تَحْزَنُوا على ما خلفتموه من أمر الدنيا من ولد وأهل ومال أو دين؛ فإنا نخلفكم فيه وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ فيبشرونهم بذهاب الشر وحصول الخير، ذكر هذا ابن كثير ثم روى عن زيد بن أسلم قوله: بأن البشرى تكون عند الموت وفي القبر وحين البعث [رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (ص: 3376) عن زيد بن أسلم، رضي الله عنه، يا أيتها النفس المطمئنة قال: بشرت بالجنة عند الموت، وعند البعث، ويوم الجمع].
ثم علّق ابن كثير على رأي زيد بقوله: (وهذا القول يجمع الأقوال كلها، وهو حسن جداً، وهو الواقع) [((تفسير ابن كثير)) (4/ 100 – 101)].
وقوله تعالى {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} (أي: تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار نحن كنا أولياءكم: أي قرناؤكم في الحياة الدنيا نسددكم ونوفقكم ونحفظكم بأمر الله، وكذلك نكون معكم في الآخرة نؤنس منكم الوحشة في القبور، وعند النفخة في الصور، ونؤمنكم يوم البعث والنشور، ونجاوز بكم الصراط المستقيم، ونوصلكم إلى جنات النعيم) [((تفسير ابن كثير)) (4/ 101)].
وذكر الطبري في تفسيره أن تنَزل الملائكة عليهم، في الآية، معناه أن الملائكة تتهبط عليهم عند نزول الموت بهم قائلة لهم: لا تخافوا ما تقدمون عليه من بعد مماتكم، ولا تحزنوا على ما تخلفونه وراءكم [انظر: ((تفسير الطبري)) (24/ 74)].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقد ذكروا أن هذا التنَزل عند الموت) [((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (4/ 268)].
وقال الله تعالى سبحانه وتعالى في بشارة المؤمنين: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس: 62 – 64].
فالله جل وعلا يخبر في هذه الآيات عن أوليائه بأنه لا خوف عليهم فيما يستقبلونه أمامهم من الأهوال والمخاوف؛ ولا هم يحزنون على ما أسلفوا؛ لأنهم لم يسلفوا إلا الأعمال الصالحة؛ لذلك كانت لهم البشارة، في الدنيا بالثناء الحسن والمودة في قلوب المؤمنين، والرؤيا الصالحة، ولطف الله بهم وتيسيرهم لأحسن الأعمال والأخلاق، وصرفهم عن مساوئها، ولهم البشارة في الآخرة، وأولها البشارة عند قبض أرواحهم، وفي القبر، ثم دخول جنات النعيم، والنجاة من العذاب الأليم [انظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 324)، و ((تفسير ابن كثير)) (2/ 405)].
قال الطبري: (إن الله تعالى ذكره أخبر أن لأوليائه المتقين البشرى في الحياة الدنيا، ومن البشارة في الحياة الدنيا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، ومنها بشرى الملائكة إياه عند خروج نفسه برحمة الله … ، ومنها بشرى الله إياه ما وعده في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الثواب الجزيل … ، وكل هذه المعاني من بشرى الله إياه في الحياة الدنيا بشره بها، ولم يخصص الله من ذلك معنى دون معنى، فذلك مما عمه جل ثناؤه أن لهم البشرى في الحياة الدنيا، وأما في الآخرة فالجنة، وأما قوله: لا تبديل لكلمات الله؛ فإن معناه أن الله لا خلف لوعده، ولا تغيير لقوله عما قال، ولكنه يمضي لخلقه مواعيده، وينجزها لهم) [((تفسير الطبري)) (11/ 96)].
وقال ابن تيمية: (وقد فَسّر النبي صلى الله عليه وسلم البشرى في الدنيا بنوعين:
أحدهما: ثناء المثنين عليه.
الثاني: الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح، أو ترى له
فقيل: ((يا رسول الله الرجل يعمل العمل لنفسه فيحمده الناس عليه؟ قال: تلك عاجل بشرى المؤمن)) [رواه مسلم (2642)]، وقال البراء بن عازب: ((سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فقال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له)) [رواه الترمذي (2275)، وابن ماجه (3160)، وأحمد (5/ 315) (22740)، وغيره، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه))] [((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (1/ 8)، و (14/ 200)].
وأخبر الله سبحانه وتعالى عن حال المؤمنين عند الاحتضار أنهم طيبون، أي مخلصون من الشرك والدنس، وكل سوء، وأن الملائكة تسلم عليهم، وتبشرهم بالجنة، حيث قال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32].
قال الشنقيطي ت1393هـ: “ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المتقين الذين كانوا يمتثلون أوامر ربهم، ويجتنبون نواهيه، تتوفاهم الملائكة: أي يقبضون أرواحهم في حال كونهم طيبين: أي طاهرين من الشرك والمعاصي ـ على أصح التفسيرات ـ ويبشرونهم بالجنة، ويسلّمون عليهم … ، والبشارة عند الموت وعند الجنة من باب واحد؛ لأنها بشارة بالخير بعد الانتقال إلى الآخرة، ويفهم من صفات هؤلاء الذين تتوفاهم الملائكة طيبين، ويقولون لهم سلام عليكم ادخلوا الجنة: أن الذين لم يتصفوا بالتقوى لم تتوفهم الملائكة على تلك الحال الكريمة، ولم تسلّم عليهم، ولم تبشرهم)) [((أضواء البيان)) (3/ 266)].
وقال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]
ففي هذه الآية يخبر الله سبحانه وتعالى أنه يثبت المؤمنين بالقول الثابت في الحياة الدنيا عند ورود الشبهات والشهوات، بالهداية إلى اليقين وتقديم ما يحبه الله على هوى النفس ومرادها، وفي الآخرة عند الموت بالثبات على التوحيد، وفي القبر عند سؤال الملكين للجواب الصحيح، ويضل الله الظالمين عن الصواب في الدنيا والآخرة.
قال البغوي ت516هـ: (قوله تعالى يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ: كلمة التوحيد، وهي قول: لا إله إلا الله، فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يعني قبل الموت وَفِي الآخِرَةِ يعني في القبر، هذا قول أكثر المفسرين، وقيل: في الحياة الدنيا عند السؤال في القبر، وفي الآخرة عند البعث، والأول أصح) [((تفسير البغوي)) (3/ 33)].
وروى النسائي ت303هـ بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا حُضِر المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء، فيقولون: اخرجي راضية مرضياً عنك، إلى روح الله وريحان، ورب غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك حتى إنه ليناوله بعضهم بعضاً، حتى يأتوا به باب السماء، فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض!، فيأتون به أرواح المؤمنين، فلهم أشدُّ فرحاً به من أحدكم بغائبه يقدم عليه، فيسألونه: ماذا فعل فلان؟ ماذا فعل فلان؟ فيقولون: دعوه فإنه كان في غم الدنيا، فإذا قال: أما أتاكم؟ قالوا: ذُهب به إلى أمه الهاوية.
وإن الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح، فيقولون: اخرجي ساخطة مسخوطاً عليك إلى عذاب الله ـ عز وجل ـ؛ فتخرج كأنتن ريح جيفة، حتى يأتون به باب الأرض، فيقولون: ما أنتن هذه الريح! حتى يأتون به أرواح الكفار)) [صححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي))].
وفي سنن ابن ماجه ت 275هـ عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل صالحاً قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان …
وإذا كان الرجل السوء قالوا: اخرجي أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغساق، وآخر من شكله أزواج … )) [رواه ابن ماجه (3456)، وأحمد (2/ 364) (8754)، والطبري
في ((مسند عمر)) (2/ 503). وقال: إسناده صحيح، وقال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (2/ 333): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وقال الذهبي في ((العرش)) (29): صحيح على شرط الشيخين].
وورد عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ مرفوعا مختصرا وصححه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2628)].
المبحث الرابع: تخيير الأنبياء عند الموت
روى البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من نبي يمرض إلا خيّر بين الدنيا والآخرة. وكان في شكواه الذي قبض فيه أخذته بُحّة شديدة فسمعته يقول: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء: 69]، فعلمت أنه خُيّر)) [رواه البخاري (4586)].
وعنها رضي الله عنها قالت: ((كنت أسمع أنه لا يموت نبي حتى يخيّر بين الدنيا والآخرة، فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه، وأخذته بُحّة، يقول: مع الذين أنعم الله عليهم الآية، فظننت أنه خيّر)) [رواه البخاري (4435)].
وفي رواية أخرى قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول: إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يُحيّا، أو يُخيّر فلما اشتكى وحضره القبض ـ ورأسه على فخذ عائشة ـ غشي عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت، ثم قال: اللهم في الرفيق الأعلى. فقلت: إذاً لا يختارنا، فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدّثنا وهو صحيح)) [رواه البخاري (4437)].
فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم ((ما من نبي يمرض إلا خُيّر بين الدنيا والآخرة)): أي خيره الله تعالى بين الإقامة في الدنيا والموت؛ لتكون وفادته على الله وفادة محب مخلص مبادر … ) [((فيض القدير)) (5/ 501)].
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ((خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال: إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله. قال: فبكى أبوبكر … )) [رواه البخاري (3654)].
قال ابن حجر: (فهم عائشة من قوله صلى الله عليه وسلم: ((في الرفيق الأعلى)) أنه خيّر، نظير فهم أبيها رضي الله عنه من قوله صلى الله عليه وسلم ((إن عبداً خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده)) [رواه البخاري (3904)، ومسلم (2382)]، أن العبد المراد هو النبي صلى الله عليه وسلم حتى بكى) [((فتح الباري)) (7/ 13)].
وقال بدر الدين العيني ت855هـ: ((قول (خُيّر) على صيغة المجهول: أي خيّر بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة صلى الله عليه وسلم)) [((عمدة القاري)) (18/ 178)].
هذه الأحاديث الصحيحة تدل على أنه ما من نبي يمرض إلا خُيّر بين البقاء في الحياة الدنيا والموت.
وقد ثبت أن ملك الموت عليه السلام جاء إلى موسى عليه السلام فخيره بين الموت والحياة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((جاء ملك الموت إلى موسى، فقال له أجب ربك، قال: فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها، قال: فرجع الملك إلى الله عز وجل، فقال: إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت، وقد فقأ عيني، قال: فردّ إليه عينه، قال: ارجع إلى عبدي فقل له: الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما وارت يدك من شعرةٍ فإنك تعيش بها سنة، قال: ثم مه؟ قال: ثم تموت، قال: فالآن من قريب، قال: ربّ أدنني من الأرض المقدسة رمية بحجر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر)) [رواه البخاري (3407)، ومسلم (2372)].
هذا الحديث ثابت، وقد أنكره بعض المبتدعة قائلين: إن كان موسى عليه السلام عرفه فقد استخف به، وإن كان لم يعرفه فلماذا لم تقتص له من فقء عينه؟
قال بعض أهل العلم: إن الله لم يبعث ملك الموت لموسى، وهو يريد قبض روحه حينئذٍ، وإنّما بعثه إليه اختباراً، فلطمه موسى عليه السلام لأنه رأى آدمياً داخل داره بغير إذنه، ولم يعلم أنه ملك الموت، فقد جاء في رواية ((كان ملك الموت يأتي الناس عياناً فأتى موسى فلطمه … )) [رواه أحمد (2/ 533) (10917)، والحاكم (2/ 632). وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 207): رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح. والحديث أصله في الصحيحين]، وقد جاءت الملائكة إلى إبراهيم وإلى لوط في صورة البشر فلم يعرفاهم ابتداء، وقد أباح الشارع فقء عين الناظر في دار المسلم بغير إذنه، كما جاء في الحديث: ((من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم حل لهم أن يفقؤوا عينه)) [رواه مسلم (2158)]، وعلى فرض أنه عرفه فلا دليل على مشروعية القصاص بين الملائكة والبشر، ولا دليل على أن ملك الموت طلب القصاص من موسى فلم يقتص له، ثم رد الله عين ملك الموت ليعلم موسى أنه جاءه من عند الله فلهذا استسلم حينئذ [انظر: ((شرح السنة)) (5/ 266، 267)، و ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (15/ 129)، و ((فتح الباري)) (6/ 442)، و ((البداية والنهاية)) (1/ 296)].
ونقل النووي أنه لا يمتنع أن يأذن الله لموسى في هذه اللطمة امتحاناً للملطوم [انظر: ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (15/ 129)].
وقال ابن حجر: (وقال غيره -أي غير النووي-: إنما لطمه؛ لأنه جاء لقبض روحه من قبل أن يخيره، لما ثبت أنه لم يقبض نبي حتى يخير، فلهذا لما خيره في المرة الثانية أذعن، قيل: وهذا أولى الأقوال بالصواب، وفيه نظر؛ لأنه يعود أصل السؤال، فيقال: لم أقدم ملك الموت على قبض نبي الله وأخل بالشرط؟ فيعود الجواب أن ذلك وقع امتحاناً، وزعم بعضهم أن معنى قوله (فقأ عينه) أي أبطل حجته، وهو مردود بقوله في نفس الحديث (فرد الله عينه)، وبقوله (لطمه وصكّه) وغير ذلك من قرائن السياق … ، ورد الله إلى ملك الموت عينه البشرية؛ ليرجع إلى موسى على كمال الصورة، فيكون ذلك أقوى في اعتباره) [((فتح الباري)) (6/ 442، 443)].
وكذا ذكر المناوي ت1031هـ أن موسى عليه السلام لطم موسى عليه الصلاة والسلام لما جاءه؛ لكونه لم يخير قبل ذلك [انظر: ((فيض القدير)) (5/ 501)].
المبحث الخامس: حال الكفار عند الموت
أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم عن حال توفي الملائكة الكفارَ، وذلك بأن الملائكة يضربون وجوه الكفار وأدبارهم، ويبشرونهم بعذاب الحريق، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ [الأنفال: 50، 51].
قال ابن كثير: (يقول تعالى ولو عاينت يا محمد حال توفي الملائكة أرواح الكفار لرأيت أمراً عظيماً هائلاً فظيعاً منكراً؛ إذ يضربون وجوههم وأدبارهم، ويقولون: لهم: ذوقوا عذاب الحريق) [((تفسير ابن كثير)) (2/ 305)].
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نزلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد: 27، 28]، أي كيف حال الكفار إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم وتعاصت الأرواح في أجسادهم، واستخرجتها الملائكة وهم باسطوا أيديهم يضربون وجوههم وأدبارهم، يقولون لهم أخرجوا أنفسكم [انظر: ((تفسير الطبرى)) (7/ 182)، و ((تفسير ابن كثير)) (4/ 182)].
والخبر الوارد في سورة الأنفال نزل في وصف وفاة الكفار يوم بدر إلا أنه وصف عام لوفاة الكفار في كل وقت، قال ابن كثير في تفسيره للآية السابقة: (وهذا السياق وإن كان سببه وقعة بدر، ولكنه عام في حق كل كافر؛ ولهذا لم يخصصه الله تعالى بأهل بدر، بل قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ [الأنفال: 50 – 51]. وفي سورة القتال (محمد) مثلها، … وفي سورة الأنعام قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ [الأنعام: 93]، أي باسطوا أيديهم بالضرب فيهم بأمر ربهم؛ إذ استصعبت أنفسهم وامتنعت من الخروج من الأجساد أن تخرج قهراً، وذلك إذا بشروهم بالعذاب والغضب من الله، كما في حديث البراء أن ملك الموت إذا جاء الكافر عند احتضاره في تلك الصورة المنكرة يقول: اخرجي أيتها النفس الخبيثة إلى سموم وحميم وظل من يحموم، فتفرق في بدنه، فيستخرجونها من جسده كما يخرج السفود من الصوف المبلول، فتخرج معها العروق والعصب؛ ولهذا أخبر تعالى أن الملائكة تقول لهم ذوقوا عذاب الحريق) [((تفسير ابن كثير)) (2/ 305)].
ويشهد له قوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ [الأعراف: 37]، ففي هذه الآية يخبر سبحانه وتعالى أن الملائكة إذا توفت المشركين تفزعهم عند الموت وقبض أرواحهم ويقولون لهم: أين الذين كنتم تشركون بهم في الدنيا وتدعونهم وتعبدونهم من دون الله ادعوهم يخلصونكم مما أنتم فيه الآن من الفزع والموت الواقع بكم، قالوا: ذهبوا عنا فلا نرجو نفعهم ولا ضرهم، وأقروا واعترفوا على أنفسهم بالكفر والضلال [انظر: ((تفسير الطبري)) (8/ 127)، و ((تفسير ابن كثير)) (2/ 23)].
وكذلك قوله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [النحل: 28، 29].
فالله سبحانه وتعالى يخبر في هذه الآية أن المشركين الظالمين لأنفسهم عند احتضارهم ومجيء الملائكة إليهم لقبض أرواحهم الخبيثة يظهرون السمع والطاعة قائلين مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ فقال الله مكذباً لهم بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ أي بئس المقيل والمقام من دار هوان لمن كان متكبراً عن آيات الله واتباع رسله، وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم، وينال أجسادهم في قبورها من حرها وسمومها؛ فإذا كان يوم القيامة سلكت أرواحهم في أجسادهم وخلدت في نار جهنم [انظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/ 548)].
فقوله تعالى فَأَلْقَوُا السَّلَمَ أي: الاستسلام والخضوع، والمعنى أنهم أظهروا الطاعة والانقياد، وتركوا ما كانوا عليه من الشقاق، فالمشركون في الدنيا يشاقون الرسل ويخالفونهم ويعادونهم؛ فإذا عاينوا الحقيقة ألقوا السلم وخضعوا وانقادوا، وذلك عندما يعاينون الموت أو يوم القيامة، ولكن لا ينفعهم ذلك؛ لأن الانقياد عند معاينة الموت لا ينفع [انظر: ((أضواء البيان)) (3/ 259، 260)].
وقد توعد الله تعالى في كتابه العزيز من تركوا الهجرة مع قدرتهم عليها حتى ماتوا بأن الملائكة الذين يقبضون أرواحهم يوبخونهم توبيخاً عظيماً، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا [النساء: 97، 98].
قال الطبري في تفسير هذه الآية: (إن الذين تقبض أرواحهم الملائكة ظالمي أنفسهم، يعني مكسبي أنفسهم غضب الله وسخطه … ، قالت الملائكة لهم فِيمَ كُنْتُمْ في أي شيء كنتم من دينكم، قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ يعني قال الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم: كنا مستضعفين في الأرض، يستضعفنا أهل الشرك بالله، في أرضنا وبلادنا … معذرة ضعيفة وحجة واهية، قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا يقول: فتخرجوا من أرضكم ودوركم، وتفارقوا من يمنعكم بها من الإيمان بالله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم .. ، وذُكر أن هاتين الآيتين والتي بعدهما نزلت في أقوام من أهل مكة كانوا قد أسلموا وآمنوا بالله وبرسوله، وتخلفوا عن الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجر، وعُرض بعضهم على الفتنة فافتتن، وشهد مع المشركين حرب المسلمين، فأبى الله قبول معذرتهم، التي اعتذروا بها، التي بينها في قوله، خبراً عنهم: قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ … ) [((تفسير الطبري)) (5/ 147، 148)، وانظر: ((تفسير البغوي)) (1/ 469)].
وقال السعدي: (قوله فَأُولَئِكَ مَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ … فيه ذكر بيان السبب الموجب، فقد يترتب عليه مقتضاه، مع اجتماع شروطه، وانتفاء موانعه، وقد يمنع من ذلك مانع، وفي الآية دليل على أن الهجرة من أكبر الواجبات، وتركها من المحرمات، بل من أكبر الكبائر) [((أضواء البيان)) (ص: 159، 160)].
وقد جاء صريحاً في كتاب الله تعالى أن الملائكة تبشر الكافر بالعذاب، قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزلُ مِثْلَ مَا أَنزلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام: 93]. أي: أن الملائكة يبسطون أيديهم بالضرب والعذاب للملائكة حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم؛ ولهذا يقولون لهم: أخرجوا أنفسكم؛ وذلك أن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال والأغلال والسلاسل والجحيم والحميم وغضب الرحمن الرحيم فتتفرق روحه في جسده وتعصى وتأبى الخروج فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم قائلين لهم الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ أي اليوم تهانون غاية الإهانة بسبب تكذيبكم على الله واستكباركم على اتباع آياته والانقياد لرسله [انظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/ 149)].
يقول الطبري في تفسير هذه الآية: (وهذا خبر من الله جل ثناؤه، عما تقول رسل الله التي تقبض أرواح هؤلاء الكفار لها، يخبر عنها أنها تقول لأجسامها ولأصحابها أخرجوا أنفسكم إلى سخط الله ولعنته؛ فإنكم اليوم تثابون على كفركم بالله، وقيلكم عليه الباطل وزعمكم أن الله أوحى إليكم ولم يوح إليكم شيئاً، وإنذاركم أن يكون الله أنزل على بشر شيئاً، واستكباركم عن الخضوع لأمر الله وأمر رسوله والانقياد لطاعته، عذاب الهون وهو عذاب جهنم الذي يهينهم فيذلهم حتى يعرفوا صغار أنفسهم وذلتها) [((تفسير الطبري)) (7/ 183)].
ويقول ابن القيم: (فقول الملائكة: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ المراد به عذاب البرزخ، الذي أوله يوم القبض والموت) [((مفتاح دار السعادة)) (1/ 72)].
وأخبر سبحانه وتعالى عن حالهم حين الاحتضار، في سورة أخرى، بقوله تعالى: ((وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ)) [الأنفال: 50 – 51] فالله جل وعلا يخاطب نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم قائلاً له: (ولو تعاين يا محمد حين يتوفى الملائكة أرواح الكفار فتنْزعها من أجسادهم، تضرب الوجوه منهم والأستاه، ويقولون لهم ذوقوا عذاب النار التي تحرقكم يوم ورودكم جهنم .. ، ذوقوا عذاب الله الذي يحرقكم، هذا العذاب لكم بما قدمت أيديكم، أي بما كسبت أيديكم من الآثام والأوزار، واجترحتم من معاصي الله أيام حياتكم، فذوقوا اليوم العذاب، وفي معادكم عذاب الحريق) [((تفسير الطبري)) (10/ 16، 17)].
يقول ابن القيم: (فهذه الإذاقة هي في البرزخ وأولها حين الوفاة؛ فإنه معطوف على قوله يضربون وجوههم وأدبارهم وهو من القول المحذوف مقولة لدلالة الكلام عليه كنظائره، وكلاهما واقع وقت الوفاة) [((مفتاح دار السعادة)) (1/ 72)].
والأدلة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على بشارة الملائكة الكفار بالعذاب، وحزنهم بذلك كثيرة .. .
المبحث السادس: حال الروح بعد فراق البدن
عن أبي هريرة عند مسلم قال: ((إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان – يُصعدانها. قال حماد: فذكر من طيب ريحها، وذكر المسك قال: ويقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض، صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه، فينطلق به إلى ربه عز وجل، ثم يقول: انطلقوا به إلى آخر الأجل “. قال: ” وإنّ الكافر إذا خرجت روحه – قال حماد: وذكر من نتنها، وذكر لعناً – ويقول أهل السماء: روح خبيثة من قبل الأرض، قال: فيقال: انطلقوا به آخر الأجل)) [رواه مسلم (2872)].
وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث البراء التكريم الذي يكون لروح العبد الصالح بعد خروجها من جسده، حيث تصلي ملائكة الله على تلك الروح الطيبة، وتفتح له أبواب السماء، وتجعل في كفن من الجنة وحنوط من الجنة، وتخرج منها روائح طيبة عطرة تفوق رائحة المسك، ثم تأخذها الملائكة في رحلة علوية كريمة، وتفتح لها أبواب السماء، أما الروح الخبيثة، فتلعنها ملائكة السماء عند خروجها، وتغلق أبواب السماء دونها، ويدعو كل فريق من ملائكة الرحمن على باب ألا تعرج من قبلهم وتجعل تلك الروح الخبيثة في حنوط من النار وكفن من النار، وتفوح منها الروائح الخبيثة التي تؤذي ملائكة الرحمن. ويعرج بها إلى السماء فلا تفتح لها أبواب السماء، فتلقى روحه من شاهق، ففي حديث البراء بن عازب الذي يصف الرسول صلى الله عليه وسلم فيه رحلة الإنسان من الموت إلى البرزخ قال: ((حتى إذا خرجت روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وفتحت له أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن يعرج من قبلهم، فإذا أخذها (يعني ملك الموت) لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، فذلك قوله تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ [الأنعام: 61]، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض.
قال: فيصعدون بها، فلا يمرون – يعني – بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان ابن فلان – بأحسن أسمائه التي كان يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح لهم، فيشيعه من كل سماء مقربوها، إلى السماء التي تليها …..
وفيه أن روح المؤمن ينتهى به إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ – كِتَابٌ مَّرْقُومٌ – يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [المطففين: 19 – 21]، فيكتب كتابه في عليين، ثم يقال: أعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى. .)). وتحدث الرسول صلى الله عليه وسلم عن الروح الخبيثة …. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف: 40].
فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى ثم يقول: أعيدوا عبدي إلى الأرض، فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتطرح روحه من السماء، طرحاً (حتى تقع في جسده)، ثم قرأ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج: 31]، فتعاد روحه إلى جسده)) [رواه أبو داود (4753)، وأحمد (4/ 287) (18557). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 50): هو في (الصحيح) وغيره باختصار رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح].
المبحث السابع:
قال ابن تيمية:
سئل – رحمه الله تعالى -:
ما هو ” لقاء الله سبحانه؟ ” الذي وصف بظنه الخاشعين بقوله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون} وأمر بعلمه المتقين في قوله تعالى {واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه} وبشر بالإقرار به عند المصيبة الصابرين وأشار إلى إتيان أجله للراجين بقوله تعالى: {من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت} واشتهر ذكره في غير حديث من كلام سيد المرسلين كقوله في دعائه: {لقاؤك حق} وقوله: {من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه} الحديث؟؟. وهل يصح قول بعض المفسرين من أنه متعلق بمحذوف تقديره جزاء ربهم أو نحوه
فأجاب – رضي الله عنه وأرضاه -:
الحمد لله، ” أما اللقاء ” فقد فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن المعاينة والمشاهدة بعد السلوك والمسير؛ وقالوا: إن لقاء الله يتضمن رؤيته سبحانه وتعالى واحتجوا بآيات ” اللقاء ” على من أنكر رؤية الله في الآخرة من الجهمية كالمعتزلة وغيرهم. وروي عن عبد الله بن المبارك أنه قال. في قوله: {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} ولا يرائي أو قال: ولا يخبر به أحدا وجعلوا اللقاء يتضمن معنيين: أحدهما: السير إلى الملك والثاني معاينته. كما قال: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه} فذكر أنه يكدح إلى الله فيلاقيه والكدح إليه يتضمن السلوك والسير إليه واللقاء يعقبهما. وأما المعاينة من غير مسير إليه – كمعاينة الشمس والقمر – فلا يسمى لقاء. وقد يراد باللقاء الوصول إلى الشيء والوصول إلى الشيء بحسبه. ومن دليل ذلك أن الله تعالى قد قال: {إذا لقيتم فئة فاثبتوا}
وقد يقال: إن ” اللقاء ” في مثل هذا يتضمن معنى المشاهدة كما قال تعالى {ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه
وقد يقال: إن ” اللقاء ” في مثل هذا يتضمن معنى المشاهدة كما قال تعالى {ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه
ثم تكلم شيخ الإسلام عن مسألة المحبة:
فصل:
وأما قول السائل: كيف يتصور منا محبة ما لا نعرفه ولا نطلع عليه إلى آخره فيقال له: هذه مسألة أخرى كبيرة وهي ” مسألة محبة المؤمن ربه ” فإن الكتاب والسنة تنطق بذلك كقوله {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله}
وأمثال ذلك من النصوص وهذه المحبة على حقيقتها عند سلف الأمة وأئمتها ومشايخها وأول من أنكر حقيقتها شيخ الجهمية الجعد بن درهم فقتله خالد بن عبد الله القسري بواسط يوم النحر وقال: يا أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل فذبحه …
مجموع الفتاوى (6/ 461)