2680 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك محمد البلوشي، وطارق أبو تيسير وعبدالملك وعبدالله المشجري وأحمد بن علي وعبدالحميد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
(4) – بابُ كَراهَةِ تَمَنِّي المَوْتِ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ
(10) – ((2680)) حَدَّثَنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنا إسْماعِيلُ يَعْنِي ابْنَ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ، عَنْ أنَسٍ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ لا: «لا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدُكُمُ المَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإنْ كانَ لا بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلْ: اللهُمَّ أحْيِنِي ما كانَتِ الحَياةُ خَيْرًا لِي، وتَوَفَّنِي إذا كانَتِ الوَفاةُ خَيْرًا لِي».
(10) – حَدَّثَنا ابْنُ أبِي خَلَفٍ، حَدَّثَنا رَوْحٌ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، ح وحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنا عَفّانُ، حَدَّثَنا حَمّادٌ يَعْنِي ابْنَ سَلَمَةَ، كِلاهُما عَنْ ثابِتٍ، عَنْ أنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ لا، بِمِثْلِهِ غَيْرَ أنَّهُ قالَ: «مِن ضُرٍّ أصابَهُ».
(11) – ((2680)) حَدَّثَنِي حامِدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنا عَبْدُ الواحِدِ، حَدَّثَنا عاصِمٌ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أنَسٍ، وأنَسٌ يَوْمَئِذٍ حَيٌّ قالَ أنَسٌ: لَوْلا أنَّ رَسُولَ اللهِ لا قالَ: «لا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدُكُمُ المَوْتَ» لَتَمَنَّيْتُهُ.
(12) – ((2681)) حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ إدْرِيسَ، عَنْ إسْماعِيلَ بْنِ أبِي خالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أبِي حازِمٍ، قالَ: دَخَلْنا عَلى خَبّابٍ وقَدِ اكْتَوى سَبْعَ كَيّاتٍ فِي بَطْنِهِ، فَقالَ: لَوْ ما أنَّ رَسُولَ اللهِ لا «نَهانا أنْ نَدْعُوَ بِالمَوْتِ»، لَدَعَوْتُ بِهِ،
(12) – حَدَّثَناهُ إسْحاقُ بْنُ إبْراهِيمَ، أخْبَرَنا سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الحَمِيدِ، ووَكِيعٌ، ح وحَدَّثَنا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنا أبِي، ح وحَدَّثَنا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعاذٍ، ويَحْيى بْنُ حَبِيبٍ، قالا: حَدَّثَنا مُعْتَمِرٌ، ح وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ رافِعٍ، حَدَّثَنا أبُو أُسامَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ إسْماعِيلَ، بِهَذا الإسْنادِ.
(13) – ((2682)) حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ رافِعٍ، حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّزّاقِ، أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قالَ: هَذا ما حَدَّثَنا أبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ لا فَذَكَرَ أحادِيثَ مِنها: وقالَ رَسُولُ اللهِ لا: «لا يَتَمَنّى أحَدُكُمُ المَوْتَ، ولا يَدْعُ بِهِ مِن قَبْلِ أنْ يَاتِيَهُ، إنَّهُ إذا ماتَ أحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وإنَّهُ لا يَزِيدُ المُؤْمِنَ عُمْرُهُ إلّا خَيْرًا».
==========
التمهيد:
“أن تمني الموت لمرض، أو خوف، أو محنة، أو فاقة ونحو ذلك يدل على الجزع والسخط من أقدار الله المؤلمة التي وعدنا الله على الصبر عليها بالأجر الجزيل.
قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [10]} [الزُّمَر:10].”.
و”الدنيا مزرعة الآخرة، وكلما اتسعت هذه المزرعة كلما تهيأت الفرصة للاستفادة منها، ولما كان الدعاء معرضا للإجابة كان الدعاء بتضييق الفرص دعاء ليس في صالح صاحبه، وكان الدعاء بالموت أو تمنيه دعاء منهيا عنه؛ «لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه ولا يدع بالموت لضر نزل به»؛
لأنه إن كان محسنا فطول عمره يزيد رصيد حسناته، وإن كان مسيئا كان طول عمره فرصة لتوبته وتعديل مساره، فإن آلمه المرض واشتدت به نكبات الحياة ولم يكن له مفر من تمني الموت فليلاحظ في دعائه التسليم للقضاء والرضا بالقدر، وليقل: “اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي”،
بهذا يظل المؤمن حسن الظن بالله، راضيا بقضاء الله، صابرا محتسبا ما يصيبه في دنياه”.
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
((4)) – (بابُ: كَراهَةِ تَمَنَي المَوْثِ؛ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ)
شرح الحديث:
(عَنْ أنسِ) بن مالك -رضي الله عنه-؛ أنه (قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ لا: «لا يَتَمَنَّيَنَّ) فـ» لا «ناهية، والفعل مؤكّد بنون التوكيد الثقيلة.
[تنبيه]: زاد البخاري في أول هذا الحديث من طريق الزهريّ، عن أبي عبيد مولى عبد الرحمن بن عوف:» أن أبا هريرة، قال: سمعت رسول الله لا، يقول: «لن يُدخل أحدًا عملُه الجنّة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: لا، ولا أنا، إلا أن يتغمّدني الله بفضل، ورحمة، فسدّدوا، وقاربوا، ولا يتمنّينّ أحدكم الموت … » الحديث.
(أحَدُكُمُ المَوْتَ) الخطاب للصحابة -رضي الله عنهم-، والمراد هُمْ ومَن بَعدَهم من المسلمين عمومًا.
(لِضُرٍّ) بضمّ الضاد المعجمة، وفَتْحها، قرئ بهما في السبع.
(نَزَلَ بِهِ)؛ أي: لأجل ضرر حصل له في بدنه، أو أهله، أو ماله.
وقال في «الفتح»: حَمَل هذا الضرّ جماعة من السلف على الضر الدنيويّ، فإن وُجد الضر الأخرويّ، بأن خَشِي فتنة في دينه، لم يدخل في النهي، ويمكن أن يؤخذ ذلك من رواية ابن حبان: «لا يتمنينّ أحدكم الموت؛ لضر نزل به في الدنيا»، على أن «في» في هذا الحديث سببية؛ أي: بسبب أمر من الدنيا،
وقد فعل ذلك جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم-، ففي «الموطأ» عن عمر -رضي الله عنه-؛ أنه قال: «اللَّهُمَّ كَبِرت سنّي، وضعفت قوّتي، وانتشرت رعيّتي، فاقبضني إليك غير مضيّع، ولا مفَرِّط»، وأخرجه عبد الرزاق من وجه آخر، عن عمر -رضي الله عنه-.
وأخرج أحمد وغيره من طريق عبس، ويقال: عابس الغفاريّ؛ أنه قال: يا طاعون خذني، فقال له عُلَيم الكِنديّ: لِمَ تقول هذا؟ ألم يقل رسول الله لا: «لا يتمنينّ أحدكم الموت»، فقال: إني سمعته يقول: «بادروا بالموت ستًّا: إمرة السفهاء، وكثرة الشُّرَط، وبيع الحكم … » الحديث.
وأخرج أحمد أيضًا من حديث عوف بن مالك نحوه، وأنه قيل له: ألم يقل رسول الله لا: «ما عُمِّر المسلم كان خيرًا له … » الحديث، وفيه الجواب نحوه،
وكذلك ابوهريرة كان يقول أعوذ بالله أن تتدركني سنة الستين
وأصرح منه في ذلك حديث معاذ الذي أخرجه أبو داود، وصححه الحاكم في القول في دُبُر كل صلاة، وفيه: «وإذا أردت بقوم فتنة، فتوفّني إليك غير مفتون».
(فَإنْ كانَ لا بُدَّ مُتَمَنِّيًا) اسم «كان» ضمير يعود إلى «أحدكم»، و «متمنّيًا» خبرها، وجملة: «لا بُدّ» معترضة، وهي في محلّ نصب على الحال، قال الفيّوميّ -رحمه الله-: «لا بُدّ من كذا»؛ أي: لا مَحِيد عنه، ولا يُعرف استعماله إلا مقرونًا بالنفي. انتهى [«المصباح المنير» (1) / (38)].
وفي رواية للبخاريّ: «فإن كان لا بُدّ فاعلًا، فليقل … »، وفي لفظ له: «فإن كان ولا بدّ متمنيًا للموت، فليقل … »
قال في «الفتح»: وهذا يدلّ على أن النهي عن تمنّي الموت مقيّد بما إذا لم يكن على هذه الصيغة؛ لأن في التمني المطلق نوع اعتراض، ومراغمة للقدر المحتوم، وفي هذه الصورة المأمور بها نوع تفويض، وتسليم للقضاء.
قال: وفي قوله: «فإن كان، لا بدّ … إلخ»، ما يَصرِفُ الأمرَ عن حقيقته من الوجوب، أو الاستحباب، ويدلّ على أنه لمطلق الإذن؛ لأن الأمر بعد الحظر لا يبقى على حقيقته. انتهى.
قال الأتيوبي رحمه الله: والظاهر: أن هذا التفصيل، يشمل ما إذا كان الضرّ دينيًّا أو دنيويًّا، والله تعالى أعلم.
وحديث أنس -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه.
قوله: «قبل أن يأتيه» إشارة إلى الزجر عن كراهيته إذا حضر؛ لئلا يدخل فيمن كره لقاء الله تعالى، وإلى ذلك الإشارة بقوله لا عند حضور أجله: «اللَّهُمَّ ألحقني بالرفيق الأعلى»، وكلامه لا بعدما خُيِّر بين البقاء في الدنيا والموت، فاختار ما عند الله، وقد خَطَب بذلك، وفهمه عنه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، كما تقدم بيانه في «المناقب».
قال النوويّ -رحمه الله-: في الحديث التصريح بكراهة تمني الموت؛ لضرّ نزل به، من فاقة، أو محنة بعدوّ ونحوه، من مشاق الدنيا، فأما إذا خاف ضررًا، أو فتنة في دِينه فلا كراهة فيه؛ لمفهوم هذا الحديث، وقد فعله خلائق من السلف لذلك، وفيه أن من خالف، فلم يصبر على الضرّ، وتمنى الموت لضرّ نزل به، فليقل الدعاء المذكور.
قال الحافظ: ظاهر الحديث المنع مطلقًا، والاقتصار على الدعاء مطلقًا، لكن الذي قاله الشيخ لا بأس به لمن وقع منه التمني؛ ليكون عونًا له على ترك التمني. انتهى [«الفتح» (17) / (82)].
قال الأتيوبي عفا الله عنه: ما دلّ عليه ظاهر الحديث من المنع مطلقًا هو الأولى، لا ما قاله الشيخ النووي، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.
والحديث متّفقٌ عليه.
قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى:
[(6793)] ((2681)) – (حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ
إدْرِيسَ، عَنْ إسْماعِيلَ بْنِ أبِي خالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أبِي حازِمٍ، قالَ: دَخَلْنا عَلى خَبّابٍ، وقَدِ اكْتَوى سَبْعَ كَيّاتٍ فِي بَطْنِهِ، فَقالَ: لَوْما أنَّ رَسُولَ اللهِ لا نَهانا أنْ نَدْعُوَ بِالمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ).
فيه (قيس)، من كبار التابعين، وهو الذي يقال: إنه اجتمع له أن يروي عن العشرة المبشّرين بالجنّة،
(قالَ: دَخَلْنا عَلى خَبّابِ) أبي عبد الله، التميميّ الصحابيّ المشهور -رضي الله عنه-، سُبي في الجاهلية، وبِيع بمكة، ثم حالف بني زُهرة، وأسلم قبل أن يدخل رسول الله لا دار الأرقم، قيل: أسلم سادس ستة، وهو أول من أظهر إسلامه، فعُذّب عذابًا شديدًا لذلك، ذُكر أن عمر بن الخطّاب سأله عما لقي في ذات الله، فكشف عن ظهره، فقال عمر: ما رأيت كاليوم، قال خبّاب: لقد أُوقدت لي نار، وسُحِبتُ عليها، فما أطفأها إلا ودَك ظهري. وشهد بدرًا، والمشاهد كلها، وكان قَيْنًا في الجاهليّة، يعمل السيوف، ثمّ نزل الكوفة،
ومات بها سنة ((37) هـ) مُنصَرَفَ عليّ -رضي الله عنه- من صِفِّين، وصَلّى عليه عليّ -رضي الله عنه-، وقيل: لمّا رجع عليّ من صفّين مرّ على قبر خبّاب -رضي الله عنه-، فقال: رحم الله خبّابًا، أسلم راغبًا، وهاجر طائعًا، وعاش مُجاهدًا، وابتُلي في جسمه أحوالًا، ولن يُضيّع الله أجره. تقدّمت ترجمته في «المساجد ومواضع الصلاة» (33) / (1407).
زاد في رواية البخاريّ: «نعوده»، وقوله: (وقَدِ اكتَوى) قال في «العمدة»: قوله: «وقد اكتوى»: النهي الذي جاء عن الكيّ هو لمن يعتقد أن الشفاء من الكيّ، أما من اعتقد أن الله -عز وجل- هو الشافي، فلا بأس به، أو ذلك للقادر على مداواة أخرى، وقد استعجل، ولم يجعله آخر الدواء. انتهى [«عمدة القاري» (21) / (226)].
[تنبيه]: أخرج هذا الحديث أحمد في «مسنده» من طريق أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب قال: دخلت على خباب، وقد اكتوى سبعًا فقال: لولا أني
سمعت رسول الله لا يقول: «لا يتمنى أحدكم الموت» لتمنيته، ولقد رأيتني مع
رسول الله لا ما أملك درهمًا، وإن في جانب بيتي الآن لأربعين ألف درهم،
قال: ثم أُتي بكفنه، فلما رآه بكى، قال: لكن حمزة لم يوجد له كفن إلا بردة
مَلْحاء [أي: فيها خطوط بيض وسُود]، إذا جُعلت على رأسه قَلَصَت عن قدميه، وإذا جُعلت على قدميه قلصت عن رأسه، حتى مُدَّت على رأسه وجُعل على قدميه الإذخر. انتهى.
وفي رواية الترمذيّ: «فقال: ما أعلم أحدًا من أصحاب النبيّ لا لقي من البلاء ما لقيتُ»؛ أي: من الوجع الذي أصابه.
وحَكى الحافظ العراقيّ -رحمه الله- في «شرح الترمذيّ» احتمالَ أن يكون أراد بالبلاء: ما فُتح عليه من المال بعد أن كان لا يجد درهمًا، كما وقع صريحًا في رواية عنه، قال: «لقد كنتُ وما أجد درهمًا على عهد رسول الله لا، وفي ناحية بيتي أربعون ألفًا»؛ يعني: الآن. وتعقّبه بأن غيره من الصحابة كان أكثر مالًا منه؛ كعبد الرحمن بن عوف، واحتمالَ أن يكون أراد: ما لقي من التعذيب في أول الإسلام من المشركين، وكأنه رأى أن اتساع الدنيا عليه يكون ثواب ذلك التعذيب، وكان
يُحبّ أن لو بقي له أجره مُوَفّرًا في الآخرة.
قال: ويحتمل أن يكون أراد: ما فَعَلَ من الكيّ مع ورود النهي عنه، كما قال عمران بن حُصين -رضي الله عنهما-: «نُهينا عن الكيّ، فاكتوينا، فما أفلحنا». قال: وهذا بعيد، قال الحافظ: وكذلك الذي قبله. انتهى [«الفتح» (13) / (46)، «كتاب المرضى» رقم ((5672))].
(فَقالَ) خبّاب -رضي الله عنه- (لَوْما) وفي بعض النسخ: «لولا» وهما بمعنى واحد، موضوعان للدلالة على امتناع شيء لوجود غيره، كما قال في «الخلاصة»: «لَوْلا» و «لَوْما» يَلْزَمانِ الابْتِدا … إذا امْتِناعًا بِوُجُودٍ عَقَدا
(أنَّ رَسُولَ اللهِ لا نَهانا أنْ نَدْعُوَ بِالمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ)؛ أي: لأستريح من شدّة المرض الذي من شأن الجِبِلّة البشريّة أن تنفِرَ منه، ولا تصبر عليه.
وفيه أن الدعاء بالموت ممنوع، وهذا لا يعارض ما تقدّم من حديث أنس -رضي الله عنه-؛ لأن المراد هنا: الدعاء بالجزم، وهناك بالتعليق، كما تقدّم إيضاحه قريبًا.
وقال في «الفتح»: الدعاء بالموت أخصّ من تمنّي الموت، وكلّ دعاء تمنّ، من غير عكس.
[تنبيه]: هذا الحديث ساقه البخاريّ مطوّلًا، فقال:
((5348)) – حدّثنا آدم، حدّثنا شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن
قيس بن أبي حازم، قال: دخلنا على خَبّاب نعوده، وقد اكتوى سبع كيّات،
فقال: إن أصحابنا الذين سَلَفُوا مَضَوا، ولم تَنْقُصهم الدنيا، وإنا أصبنا ما لا
نجد له موضعًا إلا التراب، ولولا أن النبيّ لا نهانا أن ندعو بالموت، لدعوت
به، ثم أتيناه مرّة أخرى، وهو يبني حائطًا له، فقال: إن المسلم ليؤجر في كل
شيء ينفقه، إلا في شيء يجعله في هذا التراب. انتهى [«صحيح البخاريّ» (5) / (2147)].
وقوله: «إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا»؛ أي: لم
تنقص أجورهم بمعنى أنهم لم يتعجلوها في الدنيا، بل بقيت موفَّرة لهم في الآخرة، ويؤيده حديثه الآخر: «هاجرنا مع رسول الله لا، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مضى، لم يأكل من أجره شيئًا، منهم مصعب بن عمير».
ويحْتَمِل أن يكون عَنى: جميع من مات قبله، وأن من اتسعت له الدنيا لم تؤثّر فيه، إما لكثرة إخراجهم المال في وجوه البِرّ، وكان من يحتاج إليه إذ ذاك كثيرًا، فكانت تقع لهم الموقع، ثم لمّا اتسع الحال جدًّا، وشَمِل العدل في زمن الخلفاء الراشدين، استغنى الناس، بحيث صار الغني لا يجد محتاجًا يضع بِرّه فيه، ولهذا قال خباب: وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعًا إلا التراب؛ أي: الإنفاق في البنيان.
وأغرب الداوديّ، فقال: أراد خباب بهذا القول: الموت؛ أي: لا يجد للمال الذي أصابه إلا وضْعه في القبر، حكاه ابن التين، وردّه، فأصاب، وقال: بل هو عبارة عما أصابوا من المال، قاله في «الفتح» [«الفتح» (13) / (47)، «كتاب المرضى» رقم ((5672))]، والله تعالى أعلم.
وحديث خبّاب بن الأرتّ -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه.
قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى:
[(6795)] ((2682)) – (حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ رافِعٍ، حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّزاقِ، أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قالَ: هَذا ما حَدَّثَنا أبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُول اللهِ لا، فَذَكَرَ أحادِيثَ، مِنها: وقالَ رَسُولُ اللهِ لا: «لا يَتَمَنّى أحَدُكُمُ المَوْتَ، ولا يَدْع بِهِ مِن قَبْلِ أنْ يَأتِيَهُ، إنَّهُ إذا ماتَ أحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ [وفي نسخة: «انقطع أمله»]، وإنَّهُ لا يَزِيدُ المُؤْمِنَ عُمْرُهُ إلّا خَيْرًا»).
شرح الحديث:
(عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ) الأبناوي الصنعانيّ؛ أنه (قالَ: هَذا) إشارة إلى الأحاديث المجموعة في الصحيفة المشهورة، (فَذَكَرَ) همّام (أحادِيثَ) مجموعها ((138))
والحديث يدل أنه لا ينبغي له أن يتمنّى الموت، ولا أن يدعو به، وإن أصابه ما أصابه من البأساء والضرّاء؛ لئلا تنقطع. خيراته، ولو لم يكن إلا استمرار التوحيد،
فهو أفضل الأعمال، ويؤيّده حديث أبي أمامة -رضي الله عنه-؛ أن النبيّ لا قال
لسعد: «يا سعد إن كنت خُلقت للجنة، فما طال من عمرك، أو حَسُن من
عملك فهو خير لك». أخرجه أحمد بسند ليّن.
واستُشكل بأنه قد يعمل السيئات، فيزيده عمره شرًّا.
وأجيب بأجوبة:
أحدها: حَمْل المؤمن على الكامل، وفيه بُعْدٌ.
والثاني: أن المؤمن بصدد أن يعمل ما يُكَفّر ذنوبه، إما من اجتناب الكبائر، وإما من فِعل حسنات أخر، قد تقاوم بتضعيفها سيئاته، وما دام الإيمان باقيًا فالحسنات بصدد التضعيف، والسيئات بصدد التكفير.
والثالث: يُقيّد ما أُطلق في هذه الرواية بما وقع في الرواية الأخرى من الترجي، حيث جاء بقوله: «لعله يستعتب»، والترجي مشعر بالوقوع غالبًا لا جزمًا، فخرج الخبر مخرج تحسين الظن بالله، وأن المحسن يرجو من الله الزيادة، بأن يوفقه للزيادة من عمله الصالح، وأن المسيء لا ينبغي له القنوط من رحمة الله، ولا قَطْع رجائه، أشار إلى ذلك الحافظ العراقيّ في «شرح الترمذيّ»، ويدلّ على أن قِصَر العمر قد يكون خيرًا للمؤمن حديث أنس -رضي الله عنه-، وفيه: «وتوفَّني إذا كان الوفاة خيرًا لي»، وهو لا ينافي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: «إن المؤمن لا يزيده عمره إلا خيرًا» إذا حُمل حديث أبي هريرة على الأغلب، ومقابله على النادر، قاله في «الفتح» [«الفتح» (13) / (49) – (50)، «كتاب المرضى» رقم ((5673))]، والله تعالى أعلم.
وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا بهذا السياق من أفراد المصنّف -رحمه الله-.
(المسألة): أخرج البخاريّ -رحمه الله-في «صحيحه» حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا بسياق آخر، أحببت إيراده هنا؛ ليكون مكمّلًا لحديثه المذكور هنا، قال -رحمه الله-:
((5349)) – حدّثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهريّ، قال: أخبرني أبو عبيد مولى عبد الرحمن بن عوف؛ أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله لا يقول: «لن يُدخل أحدًا عملُه الجنة»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «لا، ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني الله بفضل ورحمة، فسدّدوا، وقاربوا، ولا يتمنينّ أحدكم الموت، إما محسنًا، فلعله أن يزداد خيرًا، وأما مسيئًا فلعله أن يستعتب». انتهى [«صحيح البخاريّ» (5) / (2147)].
وقوله: «يَستعتب»؛ أي: يَسترضي اللهَ بالإقلاع، والاستغفار، والاستعتابُ طلب الإعتاب، والهمزة للإزالة؛ أي: يطلب إزالة العتاب، عاتَبه: لامَه، وأعتبه: أزال عتابه. انتهى [«الفتح» (13) / (222)].
وقال في «الفتح»: ظاهر الحديث انحصار حال المكلف في هاتين الحالتين، وبقي قسم ثالث، وهو أن يكون مخلِّطًا، فيستمرّ على ذلك، أو يزيد إحسانًا، أو يزيد إساءة، أو يكون محسنًا، فينقلب مسيئًا، أو يكون مسيئًا، فيزداد إساءةً.
والجواب: أن ذلك خرج مخرج الغالب؛ لأن غالب حال المؤمنين ذلك، ولا سيما والمخاطَب بذلك شفاهًا الصحابة -رضي الله عنهم-.
قال: وقد خطر لي في معنى الحديث أن فيه إشارةً إلى تغبيط المحسن بإحسانه، وتحذير المسيء من إساءته، فكأنه يقول: من كان محسنًا، فليترك تمني الموت، وليستمرّ على إحسانه، والازدياد منه، ومن كان مسيئًا، فليترك تمني الموت، وليُقلِع عن الإساءة؛ لئلا يموت على إساءته، فيكون على خطر،
وأما من عدا ذلك، ممن تضمّنه التقسيم، فيؤخذ حكمه من هاتين الحالتين؛ إذ
لا انفكاك عن أحدهما، والله أعلم. انتهى [«الفتح» (17) / (83) – (84)، «كتاب التمنّي» رقم ((7235))].
[البحر المحيط الثجاج، بتصرف يسير].
كراهية تمنى الموت باتفاق المذاهب الأربعة
، أمَّا إذا كان لِخَوْفِ فتنةٍ في الدِّينِ فلا يُكْرَه،
فقه وفوائد الحديث:
1 – (منها): بيان النهي عن تمني الموت، وعن الدعاء به، وهو محمول على الكراهة على ما قيل، وحَمَله بعضهم على التحريم، وهو الظاهر.
2 – (ومنها): أن قوله: «فإن كان لا بدّ متمنيًا، فليقل: “اللَّهُمَّ أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي”»، ليس المراد بهذا الأمر استحباب الدعاء به لهذا، بل تَرْكه أفضل من الدعاء به، فإنه رتَّب الأمر به على كون المتمني لا بدّ أن يقع منه صورة تمنّ مع نهيه أوّلًا عن ذلك، وكذا قال النوويّ: في هذه الحالة الأفضل الصبر، والسكون للقضاء.
3 – (منها): ما قاله في «الفتح»: لا يَرِد على هذا الحديث مشروعية الدعاء بالعافية مثلًا؛ لأن الدعاء بتحصيل الأمور الأخروية، يتضمن الإيمان بالغيب، مع ما فيه من إظهار الافتقار إلى الله تعالى، والتذلل له، والاحتياج، والمسكنة بين يديه، والدعاء بتحصيل الأمور الدنيوية؛ لاحتياج الداعي إليها، فقد تكون قُدّرت له إن دعا بها، فكل من الأسباب والمسببات مقدّر، وهذا كله بخلاف الدعاء بالموت، فليست فيه مصلحة ظاهرة، بل فيه مفسدة، وهي طلب إزالة نعمة الحياة، وما يترتب عليها من الفوائد، لا سيما لمن يكون مؤمنًا، فإن استمرار الإيمان من أفضل الأعمال، والله أعلم. انتهى [«الفتح» (17) / (81) – (82)، «كتاب التمنّي» رقم ((7235))].
4 – (ومنها): أن الحديث قد دلّ على أن الوفاة قد تكون خيرًا للعبد، فما الجمع بينه وبين قوله في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: «وإنه لا يزيد المؤمن من عمره إلا خيرًا؟».
[قلت]: إنْ حُمل المؤمن على الكامل في الإيمان، فالأمر في ذلك واضح، فإن ذلك الذي تكون الوفاة خيرًا له ليس كامل الإيمان، وإنْ حُمل على مطلق الإيمان، فالغالب أن تكون الحياة خيرًا له، كما تقدم، وهذه الصورة التي تكون الوفاة فيها خيرًا له نادرة، فلا يدعو بها، ولا يعتمد عليها على ظنّ نفسه فيها، إلا إن وكَل الأمر في ذلك إلى علم الله تعالى، قاله وليّ الدين -رحمه الله-[«طرح التثريب» (3) / (258)].
5 – (منها): بيان النهي عن الدعاء بالموت.
6 – (ومنها): بيان جواز التداوي بالكيّ، وقد ورد النهي عنه، قال البخاريّ -رحمه الله- في «صحيحه»: «باب من اكتوى، أو كَوى غيره، وفَضْلِ من لم يكتو»، قال في «الفتح»: كأنه أراد أن الكيّ جائز للحاجة، وأن الأولى تركه إذا لم يتعيَّن والله أعلم. انتهى [«الفتح» (13) / (90) – (91)، «كتاب الطبّ» رقم ((5704))]. وذكر الأحاديث وهذه العبارة هي خلاصة لوجه الجمع وسبق التوسع في كتاب الطب
7 – (ومنها): ذمّ إنفاق المال في البناء، إلا بقدر ما تدعو إليه الحاجة؛ لقول خبّاب -رضي الله عنه-: «إن المسلم ليؤجَر في كل شيء ينفقه، إلا في شيء يجعله في هذا التراب»، وهو وإن كان موقوفًا، إلا أنه في حكم المرفوع؛ لأنه لا يقال من قِبَل الرأي، وقد روي مرفوعًا صريحًا، أخرجه الطبراني من طريق عمر بن إسماعيل بن مجالد، وعمر كذّبه ابن معين [راجع: «الفتح» (13) / (48)]، والله تعالى أعلم. [البحر المحيط الثجاج]
8 – (ومنها): الرسول- عليه الصلاة والسلام- لما نهى عن شيء، كان من عادته إذا كان له بديل من المباح أن يذكر بديله من المباح كما هي طريقة القرآن،
هنا قال: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نول به، فإن كان لابد فاعلًا فليقل: اللهم أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرًا لي» .. [شرح رياض الصالحين ابن عثيمين رحمه الله تعالى (1/ 246 – 250)، رقم الحديث ((40))].
ثانيًا: ملحقات:
(المسألة الأولى): طول العمر للمؤمن الذي يعمل صالحًا خير له من الموت
1) عن أبي صفوان عبد الله بن بشر الأسلمي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله لا: ((خير الناس من طال عمره وحسن عمله)) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن، وصححه الألباني في صحيح الترمذي.
” .. لأن الإنسان كلما طال عمره في طاعة الله زاد قربًا إلى الله وزاد رفعة في الآخرة؛ لأن كل عمل يعمله فيما زاد فيه عمره فهو يقربه إلى ربه – عز وجل – فخير الناس من وفق لهذين الأمرين.
أما طول العمر فإنه من الله، وليس للإنسان فيه تصرف؛ لأن الأعمار بيد الله – عز وجل ـ،
وأما حسن العمل؛ فإن بإمكان الإنسان أن يحسن عمله؛ لأن الله تعالى جعل له عقلًا، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، وبين المحجة، وأقام الحجة، فكل إنسان يستطيع أن يعمل عملًا صالحًا، على أن الإنسان إذا عمل عملًا صالحًا؛ فإن النبي لا أخبر أن بعض الأعمال الصالحة سبب لطول العمر .. “. قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله [شرح رياض الصالحين (2/ 106)].
2) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قالَ: «جاءَ أعْرابِيٌّ إلى النَّبِيِّ لا، فَقالَ: أيُّ النّاسِ خَيْرٌ؟ فَقالَ: «طُوبى لِمَن طالَ عُمْرُهُ، وحَسُنَ عَمَلُهُ» قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ! أيُّ الأعْمالِ أفْضَلُ؟ قالَ: «أنْ تُفارِقَ الدُّنْيا ولِسانُكَ رَطْبٌ مِن ذِكْرِ اللَّهِ» الحديث. (رَواهُ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ)، وصححه الألباني رحمه الله.
3) وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَجُلَانِ أَسْلَمَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُشْهِدَ أَحَدُهُمَا وَأُخِّرَ الْآخَرُ سَنَةً.
قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: فَأُرِيتُ الْجَنَّةَ، فَرَأَيْتُ فِيهَا الْمُؤَخَّرَ مِنْهُمَا أُدْخِلَ قَبْلَ الشَّهِيدِ، فَعَجِبْتُ لِذَلِكَ، فَأَصْبَحْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَلَيْسَ قَدْ صَامَ بَعْدَهُ رَمَضَانَ؟ وَصَلَّى سِتَّةَ آلافِ رَكْعَةٍ أَوْ كَذَا وَكَذَا رَكْعَةً؟ صَلاةَ السَّنَةِ)). رواه الإمام أحمد أحمد (8195)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2591).
قال الملا على القاري رحمه الله (مرقاة المفاتيح): .. قالَ الطِّيبِيُّ – رَحِمَهُ اللَّهُ -: “وقَدْ سَبَقَ أنَّ الأوْقاتِ والسّاعاتِ كَرَاسِ المالِ لِلتّاجِرِ فَيَنْبَغِي أنْ يَتْجُرَ فِيما يَرْبَحُ فِيهِ، وكُلَّما كانَ رَاسُ مالِهِ كَثِيرًا كانَ الرِّبْحُ أكْثَرَ، فَمَن مَضى لِطَيِّبِهِ فازَ وأفْلَحَ، ومَن أضاعَ رَاسَ مالِهِ لَمْ يَرْبَحْ وخَسِرَ خُسْرانًا مُبِينًا”، انْتَهى.
وبَقِيَ صِنْفانِ مُسْتَوِيانِ لَيْسَ فِيهِما زِيادَةٌ مِنَ الخَيْرِ والشَّرِّ، وهُما: مَن قَصُرَ عُمُرُهُ وحَسُنَ عَمَلُهُ أوْ ساءَ عَمَلُهُ”. انتهى.
4) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَاتَتْ فُلَانَةُ، وَاسْتَرَاحَتْ, فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: ((إِنَّمَا يَسْتَرِيحُ مَنْ غُفِرَ لَهُ)) رواه أحمد (24192) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1710).
قالَ البَزّارُ: لا نَعْلَمُ أسْنَدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ عائِشَةَ إلا هَذا.
لكن روي مرسلا كما في الزهد لابن المبارك
(251) – أخْبَرَكُمْ أبُو عُمَرَ بْنُ حَيَوَيْهِ، وأبُو بَكْرٍ الوَرّاقُ قالا: أخْبَرَنا يَحْيى قالَ: حَدَّثَنا -[(85)]- الحُسَيْنُ قالَ: أخْبَرَنا ابْنُ المُبارَكِ قالَ: وأخْبَرَنا أيْضًا يَعْنِي يُونُسَ بْنَ يَزِيدَ، عَنْ أبِي مُقَرِّنٍ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عُرْوَةَ، قالَ: تُوُفِّيَتِ امْرَأةٌ …
وكذلك في المراسيل لأبي داود
(519) – حَدَّثَنا سُلَيْمانُ بْنُ داوُدَ، أخْبَرَنا ابْنُ وهْبٍ، حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهابٍ، أنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عُرْوَةَ، أخْبَرَهُ عَنْ عُرْوَةَ، قالَ: تُوُفِّيَتِ امْرَأةٌ …
قال الدارقطني
(3470) – وسئل عن حديث عروة، عن عائشة: ماتت امرأة، فقال بلال: استراحت فَقالَ النَّبِيُّ لا: إنَّما يستريح من غفر له.
فقال: يرويه يونس بن يزيد الأيلي، عن الزهري، واخْتُلِفَ عَنْهُ؛
فَرَواهُ خالِدُ بْنُ خِداشٍ، عَنْ ابْنِ وهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عن عروة، عن عائشة والصحيح عن يونس، عن الزهري، عن محمد بن عروة، عن أبيه مرسلا.
وفي شرح السنة للبغوي:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ لا، قالَ: «تُحْفَةُ المُؤْمِنِ المَوْتُ»
قالَ: ويُرْوى مَرْفُوعًا «إنَّما يَسْتَرِيحُ مَن غُفِرَ لَهُ».
وعَنْ عَلِيٍّ، قالَ: إنَّ المُؤْمِنَ إذا ماتَ بَكى عَلَيْهِ مُصَلاهُ مِنَ الأرْضِ، ومَصْعَدُ عَمَلِهِ مِنَ السَّماءِ، ثُمَّ تَلا: {فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ والأرْضُ وما كانُوا مُنْظَرِينَ} [الدُّخان (29)]، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: تَبْكِي الأرْضُ عَلى المُؤْمِنِ أرْبَعِينَ صَباحًا.
قالَ مَسْرُوقٌ: ما غَبَطْتُ شَيْئًا لِشَيْءٍ كَمُؤْمِنٍ فِي لَحْدِهِ، أمِنَ مِن عَذابِ اللَّهِ، واسْتَراحَ مِنَ الدُّنْيا
(المسألة الثانية): النَّهي عن تمنِّي الموت جزعًا
“وقد حدَّث خباب نفسه بالموت ولم يطلبه، مخافة أن تنقص الدُّنيا والأموال التي زادت عنده مِن منزلته عن أصحابه الذين سبقوا إلى ربِّهم، قبل أن تُفْتَح الدُّنيا على المسلمين.
وهذه التَّربية الإسلاميَّة مِن شأنها أن ترفع معنويَّات المسلمين في الحياة، وتشدُّ عزائمهم، وتنفي السَّأم والضَّجر عن نفوسهم وقلوبهم، وتضع بينهم وبين الطَّريق التي تنحدر بكثير مِن النَّاس إلى الانتحار سدًّا منيعًا. [موسوعة الأخلاق].
(المسألة الثالثة): في الحديث النهي عن تمنّي الموت، وعن الدعاء به، وهو محمول على الكراهة، كما حَكى العراقيّ -رحمه الله- في «شرح الترمذيّ» الإجماع عليه، وقال: إن هذا هو الصارف عن حمل النهي على التحريم،
قال وليّ الدين: لكن صرّح أبو عمر بن عبد البرّ بالتحريم، فقال: المتمني للموت ليس بمحبّ للقاء الله -عز وجل-، بل هو عاصٍ لله تعالى في تمنّيه للموت، إذا كان بالنهي عالِمًا، ثم قال العراقيّ: وقد صحّ عن عمر -رضي الله عنه- الدعاء بالموت، فيما رواه مالك في «الموطإ» أنه قال: اللَّهُمَّ قد ضَعُفت قوّتي، وكَبُرت سنّي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيِّع، ولا مقصِّر، فما جاوز ذلك الشهر حتى قُبض -رضي الله عنه-.
قال العراقيّ: وليس فيه أن ذلك لخوف فتنة. وتعقّبه ولده، فقال: بل ظاهره أنه لخوف فتنة في الدين، فإنه خائف لضَعف قوته، وانتشار رعيته، وكثرتهم، أن يقع تضييع منه لأمورهم، وتقصير في القيام بحقوقهم، فلمّا خَشِي هذه الفتنة دعا بالموت.
قال العراقيّ: وقد جاء تمني الموت عن جماعة من السلف خوفًا من إظهار أحوالهم التي بينهم وبين الله تعالى، لا يحبون اطلاع الخلق عليها.
قال وليّ الدين: الظاهر أن ذلك لخوف الفتنة في الدين أيضًا، خَشُوا من ظهور أعمالهم وأحوالهم وخروجها من السرّ إلى العلانية تطرّق المفسدات إليها، من الرياء، والإعجاب، وكانوا في راحة بالاختفاء، فطلبوا الموت خوفًا من مفسدة الظهور.
[فإن قلت]: دعا يوسف الصديق -عليه السلام- بالموت في قوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وألْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ} [يوسف (101)]، قال قتادة: لم يتمن الموت أحد إلا يوسف -عليه السلام- حين تكاملت عليه النعم، وجُمع له الشمل اشتاق إلى لقاء ربه.
قال وليّ الدين: المختار في تفسير تلك الآية أن مراده: توفّني عند حضور أجَلي مسلمًا، وليس مراده استعجال الموت، وبتقدير حَمْلها على الدعاء بالموت، فقد اختَلَف أهل الأصول في أن شرع من قبلنا، هل هو شرع لنا أم لا؟ وبتقدير أن يكون شرعًا لنا، فشَرْطه أن لا يَرِد في شرعنا ما ينسخه، وقد ورَدَ في شرعنا نَسْخه في هذا الحديث.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله:
“واستثنى كثير من أهل العلم من هذا، جواز تمني الموت خوفًا من الفتنة.
وجعلوا من هذا قول مريم رضي الله عنها: {يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذا} [مريم (23)]. كما استثنى بعضهم تمني الموت شوقًا إلى الله؛ وجعلوا منه قول يوسف لا: {أنتَ ولِيِّي فِي الدُّنُيا والآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وألْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ} [يوسف: (101)].
وفي هذا نظر؛ فإن يوسف لا لم يتمن الموت، وإنما سأل الله الثبات على الإسلام، حتى يتوفاه مسلمًا، كما يسأل العبد ربه حسن الخاتمة. والله أعلم. [انظر: ((بهجة قلوب الأبرار)) للسعدي (1/ 175 – 176)].
[فإن قلت]: فقد دعا النبيّ لا بالموت حيث قال في آخر مرض موته: «اللَّهُمَّ اغفر لي، وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى»، وقد أورده البخاريّ في «صحيحه» في «باب تمني المريض الموت».
[قلت]: ليس هذا دعاء بالموت، وإنما هو رِضًى به عند مجيئه، فإن الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامه- لا يُقبَضُون عند انتهاء آجالهم حتى يُخَيَّروا؛ إكرامًا
لهم، وتعظيمًا لشأنهم، ولن يختاروا لأنفسهم إلا ما يختاره الله لهم، فلما خُيّر النبيّ لا عند انتهاء أجله اختار ما اختاره الله له، ورضي بالموت، وأحبه، وطلبه بعد التخيير، لا ابتداء، وقد قال في الحديث: «ولا يَدْع به من قبل أن يأتيه»، وذلك يقتضي أنه لا كراهة في طلبه عند تحقق مجيئه؛ لِما في ذلك من إظهار الرضا بقضاء الله تعالى، والاستبشار بما يَرِد من عنده، ولكن الآحاد لا سبيل إلى تحقيق هذا، وأن يخيَّروا على لسان ملَك مشافهةً صريحةً، وغاية ما يقع للواحد منهم منام، أو خاطر صحيح، لا يَصِل به إلى القطع به، ولو استَبْشَر عند ذلك بقلبه؛ لِما يَرِد عليه من أمر الله لكان حسنًا، والله تعالى أعلم. [«طرح التثريب في شرح التقريب» (3) / (254)].
[فإن قلت]: إذا منعتم أن يكون للآحاد طريق إلى تحقيق هذا، وحسمتم الباب فيه، فما معنى هذا التقييد في قوله: «من قبل أن يأتيه»؟
[قلت]: فيه وجهان:
أحدهما: أنه أشار بذلك إلى حالة نزول الموت، فإنه ينبغي للعبد أن تكون حاله فيها حال المتمني للموت الداعي به، راضيًا به مطمئن القلب إلى ما ورد عليه من أمر الله تعالى، غير جازع، ولا قَلِقٍ.
ثانيهما: أنه أشار بقوله: «من قبل أن يأتيه» إلى أن في الدعاء بالموت قبل حلوله نوع اعتراض، ومراغمة للمقدور المحتوم.
[فإن قلت]: وسائر الأدعية كذلك؛ لأنها إما مقدَّرة، فلا فائدة في سؤالها؛ لوقوعها لا محالة، أو غير مقدَّرة، ففي سؤالها اعتراض، ومراغمة للقَدَر، وهذا يؤدي إلى سدّ باب الدعاء، وهو باطل.
[قلت]: أما الدعاء بالمغفرة، والرحمة، والأمور الأخروية، ففيه إظهار الافتقار، والمسكنة، والخضوع، والتذلل، والاحتياج.
وأما الدعاء بالأمور الدنيوية، فلاحتياج للعبد إليها، وظهور المصلحة فيها، وقد تكون قُدِّرت له إن دعا بها، دون ما إذا لم يَدْع بها، فالأسباب مقدرة، كما أن المسبَّبات مقدرة، وأما الدعاء بالموت، فلم يَظهر فيه مصلحة؛ لِما فيه من طلب إزالة نعمة الحياة، وما يَترتب عليها من الفوائد، كما سيأتي تقريره. [«طرح التثريب في شرح التقريب» (3) / (254) – (255)].
(المسألة الرابعة): أشار النبيّ لا إلى المعنى في النهي عن تمني الموت، والدعاء به، وهو انقطاع الأعمال بالموت، ففي الحياة زيادة الأجور، بزيادة الأعمال، ولو لم يكن إلا استمرار الإيمان، فأيُّ عمل أعظم منه؟ وقد قال النبيّ لا لَمّا سُئل عن أفضل الأعمال-: «إيمان بالله»، فبدأ به.
[فإن قلت]: قد يُسلب الإيمان بالله -والعياذ بالله-.
[قلت]: إنْ سبق له في علم الله خاتمة السوء، فلا بدّ من وقوع ذلك، طال عمره، أو قَصُر، وإن سبقت له السعادة، فزيادة عمره زيادةٌ في حسناته، ورَفْع في درجاته، كَثُرت أو قلّت.
وقد رَوى أحمد في «مسنده» من رواية عليّ بن يزيد، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: جلسنا إلى رسول الله لا، فذَكَّرنا، ورَقَّقنا، فبكى سعد، فأكثر البكاء، فقال: يا ليتني متّ، فقال النبيّ لا: «يا سعد أعندي تتمنى الموت؟» فردّد ذلك ثلاث مرات، ثم قال: «يا سعد إن كنت خُلقت للجنة فما طال من عمرك، أو حَسُن من عملك، فهو خير لك».
[فإن قلت]: فما معنى قوله: «وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا»، فقد يزيده شرًّا بالأعمال السيئة؟
[قلت]: إنْ حُمل على المؤمن الكامل الإيمان، فواضح، فإن ذاك لا يصدر منه إلا خير، وإنْ حُمل على مطلق المؤمن، بحيث يتناول المخلِّط فهو أيضًا لا يزيده عمره إلا خيرًا؛ لكثرة المكفرات، والمضاعفة للأعمال الصالحة، فما دام معه أصل الأعمال، فحسناته مقبولة مضاعفة، وسيئاته محفوفة بالمكفِّرات، بحيث لا يبقى منها إن شاء الله إلا اليسير، يمحوه الكرم المحض، والعفو العظيم.
[فإن قلت]: قوله في الرواية الأخرى: «إما محسنًا فلعله يزداد، وإما مسيئًا فلعله يَسْتَعْتِب»، يُسأل عنه، فيقال: لم تنحصر القسمة في هذين الوصفين، فلعله بكونه مسيئًا يزداد إساءة، فيكون زيادة العمر زيادة له في السيئات، كما في الحديث الصحيح: «شرّ الناس من طال عمره، وساء عمله»، أو لعله يكون محسنًا، فتنقلب حاله إلى الإساءة -والعياذ بالله تعالى-.
[قلت]: تَرَجِّى النبيّ لا له زيادة الإحسان، أو الانكفاف عن السوء، فبتقدير أن يدوم على حاله، فإذا كان معه أصل الإيمان، فهو خير له بكل حال، كما تقدّم، وعلى تقدير أن يخف إحسانه، فذاك الإحسان الخفيف الذي دام عليه، مضاعف له مع أصل الإيمان، وإن زادت إساءته، فالإساءة كثير منها يُكَفَّر، وما لا يُكفَر يُرجى العفو عنه، كما تقدم، فما دام معه الإيمان فالحياة خير له، كما تقدم.
وقال الحافظ العراقيّ -رحمه الله- في «شرح الترمذيّ»: هذا خرج مخرج الرجاء، وحُسن الظن بالله تعالى، وأن المحسن يرجو من الله تعالى الزيادة في توفيقه للزيادة فيه، وأن المسيء لا ينبغي له القنوط، بل لا يقطع رجاءه من الله تعالى، كما قال تعالى: {قُلْ ياعِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلى أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللَّهِ} الآية [الزمر (53)] انتهى.
(المسألة الخامسة): أطلق في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- النهي عن تمني الموت، وقيّده في حديث أنس -رضي الله عنه- في «الصحيحين» بأن يكون تمنّيه لضرّ نزل به، فقال: «لا يتمنينّ أحدكم الموت؛ لضرّ نزل به»، ومطلق الضرّ يشمل الدنيويّ، والأخرويّ،
لكن المراد إنما هو الضرّ الدنيويّ، من مرض، أو فاقة، أو محنة، من عدوّ، أو نحو ذلك، من مشاقّ الدنيا، كما هو مبيَّن في رواية النسائيّ، وابن حبان، في «صحيحه»، فقال: «لا يتمنينّ أحدكم الموت؛ لضرّ نزل به في الدنيا»، وهو الذي أراده أيوب -عليه السلام- في قوله: {مَسَّنِيَ الضُّرّ} [الأنبياء (83)]، وإخوة يوسف -عليه السلام- في قولهم: {مَسَّنا وأهْلَنا الضُّرُّ} [يوسف (88)]،
فأما الضر في الدين، فهو خوف الفتنة في دِينه، فالظاهر أنه لا بأس معه بالدعاء بالموت، وتمنيه، ويدلّ لذلك قوله في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: «لا تقوم الساعة حتى يمرّ الرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني مكانه، وليس به الدّين، إلا البلاء»، متّفقٌ عليه.
[فإن قلت]: قد عُرف أن تمني الموت للضرّ الدنيوي منهيّ عنه، والضرّ الأخرويّ لا بأس به، فإذا كان تمنيه لغير ضرّ دنيويّ، ولا أخرويّ، كيف حكمه؟
[قلت]: مقتضى حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- النهي عنه، ومفهوم التقييد بالضرّ في حديث أنس -رضي الله عنه- أنه غير منهيّ عنه، وقد يقال: هذا المفهوم غير معمول به؛ لأن التقييد خرج مخرج الغالب، في أن الناس لا يتمنون الموت إلا لضرّ نزل بهم، فيفعلون ذلك ضيقًا وضجرًا وسخطًا للمقدور، ولم تَجْر عادة الناس بتمني الموت بغير سبب، وما خرج مخرج الغالب لا مفهوم له، ولعل هذا أرجح، فيكون تمني الموت في صورة انتفاء الضرر الدنيويّ والأخرويّ منهيًّا عنه أيضًا.
وقد يستثنى من النهي صورة أخرى، وهي ما إذا فَعَل ذلك شوقًا إلى الله تعالى ورسوله لا، فلا بأس به، وقد فعله جماعة من السلف، ورُوي عن ابن مسعود -رضي الله عنه-، أنه قال: «ليأتينّ عليكم زمان، يأتي الرجل إلى القبر، فيقول: يا ليتني مكان هذا، ليس به حبّ الله، ولكن من شدّة ما يرى من البلاء»، وهذا في حكم المرفوع؛ لأنه لا يقال مثله من قِبَل الرأي، فظهر بذلك أن تمني الموت، والدعاء به جائز، إن كان لمصلحة دينية، وهو خوف الفتنة في دينه، أو الشوق إلى الله تعالى ورسوله لا، إن كان في ذلك المقام، ومكروه فيما عدا ذلك، وفي حديث معاذ مرفوعًا: «وإذا أردت بالناس فتنة، فتوفني إليك غير مفتون»، وقال تعالى حكاية عن مريم -عليه السلام-: {يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذا وكُنْتُ نَسْيًا مَنسِيًّا} [مريم (23)].
قال الأتيوبي عفا الله عنه: هكذا قرّر وليّ الدين -رحمه الله- استثناء تمنّي الموت حبًّا لله تعالى، ورسوله لا، وعندي في ذلك نظر، فعموم حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: «لا يتمنّى أحدكم الموت، إما محسنًا فلعله يزداد، وإما مسيئًا فلعله يَستعتب» -رواه البخاريّ بهذا اللفظ-، عامّ يتناول هذا المستثنى، فلا وجه لاستثنائه، فتبصّر، والله تعالى أعلم. [وسيأتي كلام الشيخ ابن عثيمين -إن شاء الله تعالى-]
فالمؤمن القائم بشروط الإيمان لا يزداد بطول عمره إلا خيرا ومن كان كذلك فالحياة خير له من الموت وفي دعاء النبي لا: «اللهم اجعل الحياة زيادة لي في كل خير والموت راحة لي من كل شر» خرجه مسلم وفي الترمذي عنه لا أنه سئل: أي الناس خير؟ قال: «من طال عمره وحسن عمله» قيل: فأي الناس شر؟ قال: «من طال عمره وساء عمله»
(المسألة السادسة):
[إن قلت]: إذا كانت الآجال مقدرةً، لا يزداد فيها، ولا ينقص منها، فما الذي يؤثر تمني الموت في ذلك، وما الحكمة من النهي عنه؟
[قلت]: هذا هو المعنى المقتضي للنهي عنه؛ لأنه عَبَث، لا فائدة فيه، وفيه مراغمة المقدور، وعدم الرضا به، مع ما تقدم من كون المؤمن لا يزيده عمره إلا خيرًا.
[فإن قلت]: إذا تقرر أن التمني للموت لا يؤثر في الأعمال؛ لتقديرها، فما معنى قوله لا في اليهود: «أنهم لو تمنوا الموت لماتوا جميعًا»؟
[قلت]: ذاك قاله النبيّ لا بوحي خاصّ، أوحي إليه في حقّ أولئك اليهود أنهم لو تمنّوا الموت لماتوا، فرُتِّبت آجالهم على وصفٍ إن وُجد منهم ماتوا، وإن لم يوجد بَقُوا إلى وقت مقدّر لهم، والله تعالى يعلم هل يتمنون الموت، فتقرب آجالهم، أو لم يتمنونه، فتبعد آجالهم؟ والأسباب مقدرة، كما أن المسبَّبات مقدرة، وهذا كما في الحديث الصحيح؛ أنه قيل للنبيّ لا: أرأيت رُقًى نَسترقِي بها، ودواءً نَتَداوى به، هل يردّ من قدر الله شيئًا؟، فقال: «هي من قدر الله تعالى». ذكر الفوائد كلها الحافظ وليّ الدين العراقيّ -رحمه الله- في كتابه الممتع «طرح التثريب في شرح التقريب» [» طرح التثريب في شرح التقريب” (3) / (253) – (258)]، وهي فوائد حسان، ونُزهة قرائح ذوي العرفان، والله تعالى المستعان، وعليه التكلان. [البحر المحيط الثجاج].
(المسألة السابعة): “تمني الموت على أنواع:
النوع الأول: تمني الموت في سبيل الله؛ فهذا جائز بل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده لوددت أني أُقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل) رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وبوّب له: باب تمنّي الشهادة.
وصحّ عن جماعة من الصحابه سؤال الله تعالى الشهادة في بعض الغزوات.
والنوع الثاني: تمنّي الموت بسبب الجزع من البلاء في الدنيا لضرّ أو فقر، فهذا منهيّ عنه؛ وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ((لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به .. )). الحديث.
وفي مسند الإمام أحمد وغيره من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ((لا تمنّوا الموت؛ فإنَّ هول المطَّلع شديد، وإن من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله الإنابة)).
والنوع الثالث: تمنّي الموت خوفاً من الفتنة في الدين؛ لكثرة ما يرى من الفتن ويخشى على نفسه، فهذا قد ورد عن بعض الصحابة والأئمة؛ ففي موطأ الإمام مالك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط).
وروى الإمام أحمد وابن أبي شيبة من طريق شريك بن عبد الله النخعي عن أبي اليقظان عن زاذان عن عُلَيم الكندي قال: كنا جلوسا على سطح معنا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (قال يزيد: لا أعلمه إلا قال عبساً الغفاري] في أيام الطاعون فجعلت الجنائز تمرّ؛ فقال عبس: “يا طاعون خذني” ثلاثا يقولها
فقال له عُليم: لم تقول هذا؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((لا يتمنينّ أحدكم الموت فإنه عند انقطاع عمله ولا يرد فيستعتب))
فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بادروا بالموت ستا: إمرة السفهاء، وكثرة الشُّرَط، وبيع الحكم، واستخفافا بالدم، وقطيعة الرحم، ونشئاً يتخذون القرآن مزامير يقدّمونه ليغنيهم وإن كان أقلهم فقها)).
شريك متكلّم فيه من جهة حفظه، لكن للحديث شواهد، وقد احتج به الحافظ في الفتح وحسنه بعض أهل العلم، وكذلك روي عن معاذ بن جبل لما ظهر طاعون عمواس أنه رأى في يده بثرة فقال: اللهم بارك فيها، فمات في ذلك الطاعون.
ومن مات في الطاعون فهو شهيد.
وفي حديث اختصام الملأ الأعلى المشهور: أن الله تعالى قال: يا محمد إذا صليت فقل: ((اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون)). وقد رواه الإمام أحمد والترمذي، وصححه الألباني، وروي هذا الدعاء من طرق أخرى أيضاً.
وصحّ عن بعض الأئمة أنهم تمنوا الموت خوف الفتنة في الدين بل قال الإمام أحمد: “أريد أن أكون في شعب بمكة حتى لا أعرف، قد بُليت بالشهرة، إني أتمنى الموت صباحا ومساء”.
وقال في زمان المتوكّل بعدما رفعت محنة القول بخلق القرآن، وأقبلت عليه فتنة الشهرة: “والله لقد تمنيت الموت في الأمر الذي كان، وإني لأتمنى الموت في هذا وذاك، إن هذا فتنة الدنيا، وذاك كان فتنة الدين”، ثم جعل يضم أصابعه ويقول: “لو كانت نفسي في يدي لأرسلتها”، ثم يفتح أصابعه.
وروى عنه المرّوذي أنه قال: “أنا أتمنّى الموت صباحاً ومساء أخاف أن أفتن في الدنيا”.
ومن هذا النوع ما ذكر عن البخاري رحمه الله في أكثر من قصة رويت عنه.
فهو تمنّ للموت من خشية الفتنة في الدين لا من الجزع والتسخّط من ضرّ نزل به، وإنما خشية أن يمتحن ببلاء لا يطيقه فيستجيب ويفتن في دينه”. [بحث عن حكم تمني الموت]
قال ابن رجب:
خرج الإمام أحمد من حديث جابر عن النبي لا قال: «لا تتمنوا الموت فإن هول المطلع شديد وإن من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله الإنابة» فتمني الموت يقع على وجوه:
منها: تمنيه لضر دنيوي ينزل بالعبد فينهى حينئذ عن تمني الموت
ومنها: تمنيه خوف الفتنة في الدين فيجوز حينئذ وقد تمناه ودعا به خشية فتنة الدين خلق من الصحابة وأئمة الإسلام وفي حديث المنام: «وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون».
ومنها: تمني الموت عند حضور أسباب الشهادة اغتناما
ومنها: تمني الموت لمن وثق بعمله شوقا إلى لقاء الله فهذا يجوز أيضا وقد فعله كثير من السلف قال أبو الدرداء: أحب الموت اشتياقا إلى ربي
وقد دل على جواز ذلك قول الله لا: {قُلْ إنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِن دُونِ النّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ} [البقرة (94)]
وفي حديث عمار بن ياسر عن النبي لا: «أسألك لذة النظر إلى وجهك وشوقا إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة»
ومنها: تمني الموت على غير الوجوه المتقدمة فقد اختلف العلماء في كراهيته واستحبابه
وحكى بعض أصحابنا عن أحمد في ذلك روايتين ولا يصح فإن أحمد إنما نص على كراهة تمني الموت لضرر الدنيا وعلى جواز تمنيه خشية الفتنة في الدين وربما أدخل بعضهم في هذا الإختلاف القسم الذي قبله وفي ذلك نظر
وقد علل النهي عن تمني الموت في حديث جابر بعلتين:
إحداهما: أن هول المطلع شديد وهول المطلع:
والعلة الثانية: أن المؤمن لا يزيد عمره إلا خيرا
فالمؤمن القائم بشروط الإيمان لا يزداد بطول عمره إلا خيرا ومن كان كذلك فالحياة خير له من الموت وفي دعاء النبي لا: «اللهم اجعل الحياة زيادة لي في كل خير والموت راحة لي من كل شر» خرجه مسلم انتهى باختصار وإلا ابن رجب طول في ذكر الأحاديث والآثار
(المسألة الثامنة): مفاسد تمني الموت
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله:
“هذا نهي عن تمني الموت للضر الذي ينزل بالعبد، من مرض أو فقر أو خوف، أو وقوع في شدة ومهلكة، أو نحوها من الأشياء، فإن في تمني الموت لذلك مفاسد:
منها: أنه يؤذن بالتسخط والتضجر من الحالة التي أصيب بها،
وهو مأمور بالصبر والقيام بوظيفته. ومعلوم أن تمني الموت ينافي ذلك.
ومنها: أنه يُضعف النفس، ويحدث الخَوَر والكسل، ويوقع في اليأس،
والمطلوب من العبد مقاومة هذه الأمور، والسعي في إضعافها وتخفيفها بحسب اقتداره، وأن يكون معه من قوة القلب وقوة الطمع في زوال ما نزل به؛ وذلك موجب لأمرين:
اللطف الإلهي لمن أتى بالأسباب المأمور بها،
والسعي النافع الذي يوجبه قوة القلب ورجاؤه.
ومنها: أن تمنى الموت جهل وحمق؛ فإنه لا يدري ما يكون بعد الموت، فربما كان كالمستجير من الضر إلى ما هو أفظع منه، من عذاب البرزخ وأهواله.
ومنها: أن الموت يقطع على العبد الأعمال الصالحة التي هو بصدد فعلها والقيام بها، وبقية عمر المؤمن لا قيمة له.
فكيف يتمنى انقطاع عملٍ، الذَّرةُ منه خير من الدنيا وما عليها.
وأخص من هذا العموم: قيامه بالصبر على الضر الذي أصبه، فإن الله يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب”. [انظر: ((بهجة قلوب الأبرار)) للسعدي (1/ 175 – 176)].
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: في هذا الحديث نهي النبي صلي الله عليه وسلم الإنسان أن يتمني الموت لضر نزل به.
وذلك أن الإنسان ربما ينزل به ضر يعجز عن التحمل ويتعب؛ فيتمني الموت، يقول: “يا رب أمتني”، سواء قال ذلك بلسانه أو بقبله.
فنهي النبي صلي الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به». فقد يكون هذا خيرا له.
ولكن إذا أصبت بضر، فقل: اللهم أعني على الصبر عليه، حتى يعينك الله فتصبر، ويكون ذلك لك خيرًا.
أما أن تتمنى الموت فأنت لا تدري، ربما يكون الموت شرًا عليك لا يحصل به راحة، كما قال الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
الإنسان ربما يموت فيموت إلي عقوبة- والعياذ بالله- وإلي عذاب قبر، وإذا بقي في الدنيا فربما يستعتب ويتوب ويرجع إلي الله فيكون خيرًا له؛ … ، فكيف بمن يقتل نفسه إذا نزل به الضر …. [شرح رياض الصالحين ابن عثيمين رحمه الله تعالى (1/ 246 – 250)، رقم الحديث ((40))].
(المسألة التاسعة):
فإن قال قائل: كيف يقول «اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني ما علمت الوفاة خيرًا لي؟».
نقول: نعم؛ لأن الله سبحانه يعلم ما سيكون، أما الإنسان فلا يعلم، كما قال الله {قُلْ لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّماواتِ والأرْضِ الغَيْبَ إلّا اللَّهُ} (النمل: من الآية (65))، {وما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَدًا وما تَدْرِي نَفْسٌ بِأيِّ أرْضٍ تَمُوتُ} (لقمان: من الآية (34))، فأنت لا تدري قد تكون الحياة خيرًا لك، وقد تكون الوفاة خيرًا لك.
ولهذا ينبغي للإنسان إذا دعا لشخص بطول العمر أن يقيد هذا فيقول: أطال الله بقاءك على طاعته، حتى يكون في طول بقائه خير. [شرح رياض الصالحين ابن عثيمين رحمه الله تعالى (1/ 246 – 250)، رقم الحديث ((40))].
(المسألة العاشرة):
فإن قال قائل: إنه قد جاء تمني الموت من مريم ابنة عمران حيث قالت: {يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذا وكُنْتُ نَسْيًا مَنسِيًّا} (مريم: من الآية (23))، فكيف وقعت فيما فيه النهي؟
فالجواب عن ذلك أن نقول:
أولًا: يجب أن نعلم أن شرع من قبلنا إذا ورد شرعنا بخلافه فليس بحجة، لأن شرعنا نسخ كل ما سبقه من الأديان.
ثانيًا: أن مريم لم تتمن الموت، لكنها تمنت الموت قبل هذه الفتنة ولو بقيت ألف سنة، المهم أن تموت بلا فتنة.
ومثله قول يوسف عليه الصلاة والسلام: {أنْتَ ولِيِّي فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وألْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ} (يوسف: من الآية (101)) ليس معناه سؤال الله أن يتوفاه، بل هو يسأل أن يتوفاه الله علي الإسلام، وهذا لا باس به …. [شرح رياض الصالحين ابن عثيمين رحمه الله تعالى (1/ 246 – 250)، رقم الحديث ((40))].
(المسألة الحادي عشر): العبد في الأمور التي لم يتضح فيها له شيء عليه أن يتوقف ومنه تمني الموت فلا يسأله:
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله:
“والفرق بين هذا، وبين قوله لا: «لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن ليعزم المسألة؛ فإن الله لا مكره له»؟
أن المذكور في هذا الحديث الذي فيه التعليق بعلم الله وإرادته: هو في الأمور المعيّنة التي لا يدري العبد من عاقبتها ومصلحتها.
وأما المذكور في الحديث الآخر: فهي الأمور التي يعلم مصلحتها بل ضرورتها وحاجة كل عبد إليها، وهي مغفرة الله ورحمته ونحوها.
فإن العبد يسألها ويطلبها من ربه طلبًا جازمًا، لا معلقًا بالمشيئة وغيرها؛ لأنه مأمور ومحتم عليه السعي فيها، وفي جميع ما يتوسل به إليها.
وهذا كالفرق بين فعل الواجبات والمستحبات الثابت الأمر بها؛ فإن العبد يؤمر بفعلها أمر إيجاب أو استحباب، وبعض الأمور المعينة التي لا يدري العبد من حقيقتها ومصلحتها، فإنه يتوقف حتى يتضح له الأمر فيها”. [انظر: ((بهجة قلوب الأبرار)) للسعدي (1/ 175 – 176)].
(المسألة الثاني عشر): الفتاوى:
293 – حكم تمني الموت بسبب الوجع
س: هل للشخص أن يتمنى الموت لوجع أصابه؟
ج: ليس له ذلك؛ لأن الرسول نهى عن هذا عليه الصلاة والسلام، فقد ثبت عنه في الصحيحين في حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد متمنيا، فليقل: “اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي”)) هذا لا بأس، يقول: اللهم أحيني إذا كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي.
أما أن يقول: اللهم أمتني، اللهم عجل موتي، اللهم عجل وفاتي. فليس له ذلك؛ لأن عمر المؤمن لا يزيده إلا خيرا، قد تكون حياته فيها خير له، قد تمر عليه ساعات يكسب بها عملا صالحا، يقرأ قرآنا، يسبح الله، يصلي، يتصدق، إلى غير هذا من وجوه الخير،
فكل ساعة تمر بالمؤمن أو المؤمنة، وكل دقيقة تمر بالمؤمن والمؤمنة ينتفع بها ولو بقوله: سبحان الله، أو الحمد لله، أو الله أكبر، أو لا إله إلا الله، أو أستغفر الله.
ولهذا في اللفظ الآخر من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يتمنى أحدكم الموت، “ولا يدعو من قبل أن يأتيه، فإن عمر المؤمن لا يزيده إلا خيرا فعمر المؤمن لا يزيده إلا خيرا”؛
لما يكتسبه من الخير، من صلوات وصدقات وتسبيح وتحميد وتهليل وقراءة قرآن، واستغفار، إلى غير هذا من وجوه الخير. [فتاوى نور على الدرب، الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء].
[2] تمني الموت مما يواجهه من المصائب:
س: ما حكم الشرع في رجل كره هذه الحياة الدنيا أشد كراهية، وسأل الله أن يميته إن كان ذلك خيرا له، وانتظر الشيء المكروه بفارغ الصبر، ألا وهو الموت؟
ج: لا يجوز للمسلم أن يكره الحياة وييأس فيما عند الله تعالى من فرج وخير، والواجب عليه أن يصبر على ما يلاقيه من أقدار الله ويحتسب ما يصاب به من مصائب عنده تعالى، ويسأله سبحانه أن يصرفها عنه، ويعينه ويأجره على ما يقدر عليه منها، وينتظر الفرج منه تعالى، قال سبحانه: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [سورة الشرح الآية 5 – 6] ويكره للمسلم تمني الموت لضر نزل به من مرض أو ضيق دنيا أو غير ذلك، وفي (الصحيحين) عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لابد فاعلا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي» (*) ولما في التمني المطلق للموت من الاعتراض ومراغمة القدر، وفي الصورة المذكورة في الحديث نوع تفويض وتسليم للقضاء.
وما يصيب المسلم في هذه الدنيا من مصائب كفارة له، إذا احتسبها عند الله تعالى ولم يتسخط، وفيها إيقاظ لقلبه من الغفلة، وموعظة في المستقبل. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. [فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، الفتوى رقم (18296)].
(المسألة الثالث عشر): تنبيه
تنبيهات حول كتاب «أحكام تمني الموت»
“هذه ملحوظات حول كتاب «أحكام تمني الموت» المنسوب لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، على ضوئها أرى أنَّ في نسبته إليه نظراً:
أولاً: اُعتُمد في طبع هذا الكتاب على نسخةٍ مصورةٍ في المكتبة السعودية بالرياض برقم (771/ 86) عن أصل مخطوط في مكتبة لايدن في هولندا برقم (2479) وهذا أمر مستغرب؛ إذ أنَّ أصول كتب الشيخ موجودة عند أبنائه وطلابه في هذه البلاد، ويندر أن يوجد منها شيء خارجها.
ثانياً: هذا الكتاب فلم يوجد له إلا أصل واحد!!.
ثالثاً: أن هذه المخطوطة لم يكتب عليها اسم مؤلفها أو ناسخها أو تاريخ نسخها بالخط الذي كُتبت به، وإنما كتب عليها بخط مغاير لخطها: (هذا خط شيخ الإسلام … محمد بن عبد الوهاب … )، فلعل كاتب هذه العبارة عندما وقف على هذه المخطوطة توهم أنها بخط الشيخ رحمه الله فنسبها إليه.
رابعاً: من قرأ هذا الكتاب وله دراية بكتب الشيخ قطع بأنه ليس من تأليفه؛ لأن كاتبه اعتنى فيه بجمع الأحاديث والآثار المتعلقة بالموت وأهواله دون تمحيص لها
خامساً: ليس في هذا الكتاب ما يتعلق بتمني الموت إلا في أربع صفحات من مقدمته، أما بقية الكتاب فهو عن عذاب القبر وأهواله
سادساً: ظهر لي بعد أن الكتاب مختصر من كتاب السيوطي (شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور)، والموضع الذي قال فيه (قال السيوطي: … ) بدله في شرح الصدور (قلت: … ).
سابعاً: جميع من ترجم للشيخ – فيما اطلعت عليه – لم يذكر أحد منهم هذا الكتاب ضمن مؤلفاته رحمه الله
ثامناً: أنَّ منهج الشيخ في دعوته التحذير من البدع والخرافات، وأما هذا الكتاب فمليء بالأدلة الباطلة والحكايات الغريبة التي تدعو إليها. ومن الأمثلة على ذلك: رفع الصوت بالدعاء للموتى عند قبورهم، وتلقين الميت الشهادتين عند دفنه، وأن الموتى يسمعون الأحياء ويتخاطبون معهم، وأن القبور يؤذن فيها ويسمع الأحياء ذلك، وإرسال الأكفان الجديدة مع من يموت إلى أهل القبور، وغير ذلك من البدع الكثيرة التي ما أنزل الله بها من سلطان.
فالله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
[تنبيهات حول كتاب «أحكام تمني الموت» للشيخ عبد الرزاق العباد].
وانظر رسالة: “إبطال نسبة كتاب “أحكام تمني الموت” إلى شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب”، للشيخ صالح بن فوزان الفوزان.
ومن الأبواب المتعلقة بالباب: “بابُ: النَّهْيِ عَنْ تَقْنِيطِ الإنْسانِ مِن رَحْمَةِ اللهِ تَعالى”، فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم ((2621)).
المسألة الرابعة عشر
أحاديث في الباب:
عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، أن رجلا قال: يا رسول الله أي الناس خير، قال: «من طال عمره، وحسن عمله»، قال: فأي الناس شر؟ قال: «من طال عمره وساء عمله»: «هذا حديث حسن صحيح»
سنن الترمذي (4/ 566 ت شاكر)
[حكم الألباني]: صحيح لغيره، وحسنه محققو المسند 20415
2651 – (13) [صحيح لغيره] وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:
“ألا أخبركم بخياركم؟ “.
قالوا: بلى يا رسول الله! قال:
” أطولكم أعمارا، وأحسنكم أخلاقا”.
رواه البزار، وابن حبان في “صحيحه”؛ كلاهما من رواية ابن إسحاق؛ ولم يصرح فيه بالتحديث
صحيح الترغيب والترهيب (3/ 10)
1540/ 25901 – “لا يتمنى أحدكم الموت إلا أن يثق بعمله, فإن رأيتم في الإسلام ست خصال فتمنوا الموت، وإن كانت نفسك في يدك فأرسلها: إضاعة الدم، وإمارة الصبيان، وكثرة الشرط، وإمارة السفهاء، وبيع الحكم، ونشوة يتخذون القرآن مزامير”
الحديث في مجمع الزوائد كتاب (التوبة) (باب: تمنى الموت لمن يثق بعمله وتمنيه عند فساد الزمان) ج 10 ص 206 بلفظه وسنده عن عمرو بن عبسة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
وقال الهيثمي: رواه الطبراني، وفيه جماعة لم أعرفهم
جمع الجوامع المعروف بـ الجامع الكبير (11/ 702)
372 – (23) [حسن صحيح] وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
كان رجلان من (بلي) (1) [حي] (2) من (قضاعة) أسلما مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فاستشهد أحدهما، وأخر الآخر سنة، فقال طلحة بن عبيد الله: [فأريت الجنة] (3)، فرأيت المؤخر منهما أدخل الجنة قبل الشهيد، فتعجبت لذلك، فأصبحت، فذكرت ذلك للنبي – صلى الله عليه وسلم -، أو ذكر لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:
“أليس قد صام بعده رمضان، وصلى ستة آلاف ركعة، وكذا وكذا ركعة، [صلاة] (4) سنة؟! “.
رواه أحمد بإسناد حسن
صحيح الترغيب والترهيب (1/ 273)
عن أم الفضل رضي الله عنها: ” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليهم، وعباس عم رسول الله يشتكي، فتمنى عباس الموت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عم! لا تتمن الموت، فانك إن كنت محسنا، فأن تؤخر تزداد إحسانا إلى إحسانك خير لك، وإن كنت مسيئا فأن تؤخر فتستعتب من إساءتك خير لك، فلاتتمن الموت “على شرط البخاري
أحكام الجنائز (1/ 4)
4979 – (لا تمنوا الموت؛ فإن هول المطلع شديد، وإن من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله الإنابة).
ضعيف
سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (10/ 731)
1021/ 25382 – “لا تمن الموت، فإن كنت من أهل الجنة فالبقاء خير لك، وإن كنت من أهل النار فما يعجلك إليها؟ “.
المروزى في الجنائز عن القاسم مولى معاوية مرسلا (2)
جمع الجوامع المعروف بـ الجامع الكبير (11/ 420)
المسألة الخامسة عشر:
آثار في الباب:
كتب سعيد بن جبير إلى أبي بكتاب أوصاه فيه بتقوى الله، وقال: يا أبا عمر، إن بقاء المسلم كل يوم غنيمة له، فذكر الصلوات الفرائض وما يرزقه الله من ذكره
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (5/ 110)
عن إبراهيم بن أبي عبلة قال: بلغني أن المؤمن إذا مات تمنى الرجعة إلى الدنيا، ليس ذلك إلا ليكبر تكبيرة أو يهلل تهليلة أو يسبح تسبيحة
مختصر تاريخ دمشق (5/ 230)
1696/ 26057 – “لا يخرج الدجال حتى لا يكون شيء أحب إلى المؤمن من خروج نفسه”.
حل عن ابن مسعود
في إتحاف السادة المتقين -بيان فضيلة ذكر الموت- فصل في جواز تمنى الموت والدعاء به لخوف الفتنة في الدين ج 10 ص 225 حديث بلفظ: وروى صاحب الحلية من حديث ابن مسعود: “لا يخرج الدجال حتى لا يكون شيء أحب إلى المؤمن من خروج نفسه”
جمع الجوامع المعروف بـ الجامع الكبير (11/ 782)
20734 – أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، قال: دخلت على أبي سلمة بن عبد الرحمن وهو مريض، فقال: «إن استطعت أن تموت فمت، فوالله ليأتين على الناس زمان يكون الموت إلى أحدهم أحب من الذهب الحمراء»
جامع معمر بن راشد (11/ 357)
155 – حدثنا مخلد بن حسين، عن هشام، عن محمد، عن أبي هريرة، رضي الله عنه قال: «يوشك أن يكون الموت أحب إلى العلماء من الذهبة الحمراء»
الفتن لنعيم بن حماد (1/ 74)
عن أم الدرداء كان إذا رأى الميت قد مات على حالة صالحة قال هنيئا له ليتني بذلك.
فقالت له أم الدرداء لم تقول ذلك فقال هل تعلمين يا حمقاء أن الرجل يصبح مؤمنا ويمسي منافقا.
قالت وكيف؟
قال يسلب إيمانه ولا يشعر، لأنا لهذا بالموت أغبط مني لهذا بالبقاء في الصلاة والصيام.
تاريخ دمشق لابن عساكر (18/ 273)
عن عمرو بن ميمون: أنه كان لا يتمنى الموت، [قال إني أصلي في كل يوم كذا وكذا صلاة] حتى أرسل إليه يزيد بن أبي مسلم ولقي منه شدة، ولم يكد أن يدعه، ثم تركه بعد ذلك، قال: وكان يقول: اليوم أتمنى الموت، اللهم ألحقني بالأبرار، ولا تلحقني مع الأشرار، واسقيني من خير الأنهار
مختصر تاريخ دمشق (19/ 313)
عن القاسم بن مخيمرة أنه كان يدعو بالموت. فلما حضره الموت قال لأم ولده: إني كنت أدعو بالموت فلما نزل بي كرهته
الطبقات الكبرى ط العلمية (6/ 304)
20243 – أخبرنا أبو عبد الله الحافظ , قال: سمعت أبا صالح خلف بن محمد البخاري يقول: سمعت أبا عمرو أحمد بن نصر رئيس نيسابور ببخارى يقول: ثنا الحسين بن منصور النيسابوري , وعرض عليه قضاء نيسابور فاختفى ثلاثة أيام , ودعا الله فمات في اليوم الثالث
السنن الكبرى للبيهقي (10/ 170)
وفاة البخاري:
عبد القدوس بن عبد الجبار السمرقندي، يقول: جاء محمد بن إسماعيل إلى خرتنك، قرية من قرى سمرقند، على فرسخين منها وكان له بها أقرباء فنزل عندهم، قال: فسمعته ليلة من الليالي وقد فرغ من صلاة الليل يدعو ويقول في دعائه: اللهم إنه قد ضاقت على الأرض بما رحبت فاقبضني إليك.
قال: فما تم الشهر حتى قبضه الله تعالى وقبره بخرتنك
تاريخ بغداد ت بشار (2/ 357)