1199 فتح الأحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير ومحمد البلوشي وكديم وعبدالحميد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الشيخ مقبل الوادعي في الصحيح المسند (ج2/ رقم 1199):
مسند وهب بن خَنْبَشٍ رضي الله عنه
(1199) – قال الإمام أبو عبد الله بن ماجه رحمه الله (ج (2) ص (996)): حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد قالا حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن بيان وجابر عن الشعبي عن وهب بن خنبش قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «عمرة في رمضان تعدل حجة».
هذا حديث صحيحٌ على شرط الشَّيخين، وهو من الأحاديث التي ألزم الدارقطني البخاري ومسلمًا أن يخرجاها. وجابر هو ابن يزيد الجُعْفِيُّ، وهو كذاب، وهو مقرون ببيان بن بشر، وهو من رجال الشيخين. وعلي بن محمد شيخ ابن ماجه لم يرو له الشيخان، لكنه مقرون كما ترى، وهو ثقة إن كان الطنافسي، وصدوق ربما أخطأ إن كان ابن أبي الخَصِيبِ، كما في «التقريب»، وكلاهما قد رويا عن وكيع.
===================
الحديث سيكون من وجوه:
ذكر الحديث الإمام أبو عبد الله ابن ماجة رحمه الله في السنن، كتاب المناسك، باب العُمْرَةِ فِي رَمَضانَ، (2991).
والوادعي رحمه الله جعله في الجامع:
7 – كتاب الحج والعمرة، 72 فضل العمرة في رمضان، ((1439)).
8 – كتاب الصوم، (41) – العمرة في رمضان تعدل حجة، ((1514)).
الأول: شرح الحديث:
قال الإمام ابن ماجة رحمه الله تعالى في باب:. عن وهب بن خنبش قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «عمرة في رمضان تعدل حجة».
قال الشيخ ابن باز رحمه الله في شرح رياض الصالحين: “العمرة مشروعة دائما في كل وقت؛ لما تقدم من قوله لا: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة))،
فالعمرة في جميع السنة، وقد اعتمر النبي لا في ذي القعدة أربع عمر، فالمشروع أن يعتمر الإنسان كلما تيسر له، العمرة في جميع السنة وهي زيارة البيت للطواف والسعي والتقصير أو الحلق هذه العمرة، زيارة البيت الشريف البيت العتيق مكة ليطوف بالكعبة ويسعى بين الصفا والمروة ثم يقصر أو يحلق هذه العمرة، وهي في رمضان تعدل حجة وفي رواية: ((حجة معي)) عليه الصلاة والسلام دل على فضلها في رمضان وأن لها مزية وخصوصية.”. انتهى.
فوائد وفقه الحديث:
1 – (منها): بيان فضل العمرة في رمضان، حيث إنها تعدِل ثواب الحجِّ، بل ثبتٌ أنّها كحجة مع النبيّ لا، وأخرج سمّويه من حديث أنس – رضي الله عنه -: «عمرة في رمضان كحجة معي»، وهو حديث صحيح.
2 – (ومنها): بيان فضل رمضان، حيث كان العمل فيه يضاعف أجره.
3 – (ومنها): بيان جواز استعمال لفظ «رمضان» من غير إضافة لفظ «شهر» إليه، وعليه بوّب النسائيّ، فقال: «الرخصة في أن يقال لشهر رمضان: رمضان»، ثم أورد الحديث.
وأما الحديث الذي رواه أبو معشر، نَجِيح المدنيّ، عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة – رضي الله عنه -، مرفوعًا: «لا تقولوا رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله، ولكن قولوا: شهر رمضان»، أخرجه ابن عديّ في «الكامل»، فقد ضعّفه هو بأبي معشر، قال البيهقيّ: قد رُوي عن أبي معشر، عن محمد بن كعب، وهو أشبه، وروي عن مجاهد، والحسن من طريقين، وقد استوفيت البحث في هذه المسألة في أوائل «كتاب الصيام»، فراجعه، تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
4 – (ومنها): بيان فضل المتابعة بين العمرتين.
5 – (ومنها): مشروعية الاستكثار من الاعتمار؛ خلافًا لقول من قال: يكره أن يعتمر في السنة أكثر من مرّة؛ كالمالكيّة، ولمن قال: مرّة في الشهر، من غيرهم.
6 – (ومنها): جواز الاعتمار قبل الحجّ، وقد ترجم الإمام البخاريّ رَحِمَهُ اللهُ على ذلك، فقال: «باب من اعتمر قبل الحجّ»، ثم أورد في الباب حديث أن عكرمة بن خالد سأل ابن عمر -رضي الله عنهما- عن العمرة قبل الحجّ؟
فقال: لا بأس، اعتمر النبيّ قبل أن يحجّ. انتهى.
وأخرج الإمام أحمد، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق قال: حدثنا عكرمة بن خالد بن العاصي المخزوميّ، قال: قَدِمت المدينة في نَفَر من أهل مكة، فلقيت عبد الله بن عمر، فقلت: إنا لم نَحُجّ قط، أفنعتمر من المدينة؟ قال: نعم، وما يمنعكم من ذلك؟ فقد اعتمر رسول الله لا عُمَره كلها قبل حجه، قال: فاعتمرنا.
قال ابن بطال رَحِمَهُ اللهُ: هذا يدلّ على أن فرض الحجّ كان قد نزل على النبيّ لا قبل اعتماره، ويتفرعّ عليه، هل الحج على الفور أو التراخي؟ وهذا يدلّ على أنه على التراخي، قال: وكذلك أمْر النبيّ لا أصحابه بفسخ الحجّ إلى العمرة دالّ على ذلك. انتهى.
* وهذه مسألة كبيرة لأنه قد يقال أنه لم يتمكن لصد المشركين له إنما أجازوا له العمرة والبقاء ثلاثا فقط ثم فتح مكة فأرسل أبابكر للحج في التاسعة أميرا للحج وعلي بن أبي طالب لينادي أن لا يحج بعد هذا العام مشرك. ويتفرغ هو للوفود. (سيف)
7 – (ومنها): أن جعل العمرة مكفّرةً، والحجّ جزاءه الجنّة يقتضي أن الحجّ أكمل من العمرة.
8 – (ومنها): ما قاله الإمام ابن القيّم رَحِمَهُ اللهُ: في الحديث دليل على التفريق بين الحجّ والعمرة في التكرار، إذ لو كانت العمرة كالحجّ لا يُفعَل في السنة إلا مرّة لسوّى بينهما، ولم يفرّق. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف].
9 – (ومنها): “والأحاديث والآثار الدالة على شرعية المسابقة والمنافسة في أنواع الخير في هذا الشهر الكريم كثيرة”.
الثاني: مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): الأحاديث
قال الشيخ مقبل رحمه الله في (الجامع):
(72) – فضل العمرة في رمضان.
[1] (1439) – [أورد فيه حديث الباب].
[2] (1440) – عن ابن عباس قال: أراد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الحج فقالت امرأة لزوجها أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على جملك فقال ما عندي ما أحجك عليه قالت أحجني على جملك فلان قال ذاك حبيس في سبيل الله عز وجل فأتى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله وإنها سألتني الحج معك قالت أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقلت ما عندي ما أحجك عليه فقالت أحجني على جملك فلان فقلت ذاك حبيس في سبيل الله فقال «أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله» قال وإنها أمرتني أن أسألك ما يعدل حجة معك فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أقرئها السلام ورحمة الله وبركاته وأخبرها أنها تعدل حجة معي» يعني: عمرة في رمضان.
هذا حديث حسنٌ، وقد أخرج البخاري ومسلم بعضه. وعامر هو ابن عبد الواحد الأحول”. وهو في الصحيح المسند، برقم (1/ 687).
والحديث في البخاري ومسلم لكن لفظه:
عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم لامرأةٍ من الأنصارِ- سمَّاها ابنُ عبَّاسٍ فنَسيتُ اسْمَها-: ((ما منعَكِ أن تحُجِّي معنا؟)). قالت: لم يكُنْ لنا إلَّا ناضحانِ، فحجَّ أبو وَلَدِها وابنُها على ناضحٍ، وترك لنا ناضحًا ننضِحُ عليه. قال: ((فإذا جاء رمضانُ فاعتَمِري؛ فإنَّ عُمْرَةً فيه تعدِلُ حَجَّةً)) [أخرجه البخاري (1863)، ومسلم (1256) واللفظ له].
وفي رواية: ((فإن عُمْرَةً في رمضانَ تقضي حَجَّةً معي)) [رواه البخاري (1863) واللفظ له، ومسلم (1256)].
وجاء في الصحيح المسند (2/ 1234):
[3]- عن أبي طليق، قال: طلبت مني أم طليق جملًا تحج عليه، فقلت: قد جعلته في سبيل الله. [قالت: إنه في سبيل الله أن أحج عليه.] فسألت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال: «صدقت، لو أعطيتها كان في سبيل الله، وإن عمرة في رمضان تعدل حجة».
هذا حديث حسنٌ. من أجل محمد بن فضيل، لكنه قد توبع؛ فيرتقي إلى الصحة، والحمد لله.
* قال الدولابي في «الكنى» (ج (1) ص (41)): حدثنا إبراهيم بن يعقوب، قال: حدثني عمر بن حفص بن غياث، قال: ثنا أبي قال: حدثني المختار بن فلفل، قال: حدثني طلق بن حبيب البصري، أن أبا طليق حدثهم: أن امرأته أم طليق أتته فقالت له: حضر الحج يا أبا طليق. وكان له جمل وناقة يحج على الناقة ويغزو على الجمل، فسألته أن يعطيها الجمل تحج عليه، قال: ألم تعلمي أني حبسته في سبيل الله؟ قالت: إن الحج في سبيل الله، فأعطنيه يرحمك الله. قال: ما أريد أن أعطيك. قالت: فأعطني ناقتك وحج أنت على الجمل. قال: لا أوثرك بها على نفسي. قالت: فأعطني من نفقتك. قال: ما عندي فضل عني وعن عيالي ما أخرج به وما أنزل لكم. قالت: إنك لو أعطيتني أخلفك الله. قال: فلما أبيت عليها قالت: فإذا أتيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأقرئه مني السلام، وأخبره بالذي قلت لك. قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأقرأته منها السلام، وأخبرته بالذي قالت أم طليق، قال: «صدقت أم طليق، لو أعطيتها الجمل كان في سبيل الله، ولو أعطيتها ناقتك كانت وكنت في سبيل الله، ولو أعطيتها من نفقتك أخلفكها الله». قال: وإنها تسألك يا رسول الله: ما يعدل الحج؟ قال: «عمرة في رمضان».
وقال الطبراني رحمه الله في «الكبير» (ج (22) ص (324)): ثنا عمرو بن أبي الطاهر بن السرح، ثنا يوسف بن عدي، ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن المختار بن فلفل به.
وفي صحيح مسلم رحمه الله: أورد في
(36) – بابُ: فَضْلِ العُمْرَةِ فِي رَمَضانَ أحاديث منها:
[4] (221) – ((125) وذكر حديث ابن عباس
وأحاديث الباب؛ و سبق ذكرها
(المسألة الثانية): أحكام ومسائل العمرة
المبحثُ الأوَّل: تعريفُ العُمْرَةِ
العُمْرَة لغةً: الزيارَةُ والقَصْدُ [((لسان العرب)) لابن منظور (4/ 605)، ((الصحاح)) للجوهري (2/ 757)].
العُمْرَة اصطلاحًا: التعبُّد لله تعالى بالطَّوافِ بالبيتِ، والسَّعْيِ بين الصَّفا والمروة، والتحَلُّلِ منها بالحَلْقِ أو التَّقصيرِ [((سبل السلام)) للصنعاني (2/ 178)، ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (7/ 6)].
المبحثُ الثَّاني: فضل العُمْرَة
1) المتابَعَةُ بين الحَجِّ والعُمْرَة تنفي الفَقْرَ والذُّنوبَ:
عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم: ((تابِعوا بين الحَجِّ والعُمْرَة؛ فإنَّهما ينفيانِ الفقرَ والذُّنوبَ كما ينفي الكِيرُ خبَثَ الحديدِ والذَّهَبِ والفِضَّةِ)) [رواه الترمذي (810) والنسائي (2631) وأحمد (3669) قال الترمذي: حسن صحيح غريب، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (810): حسن صحيح، وحسنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (897)].
2) العُمْرَةُ إلى العُمْرَة كفَّارةٌ لما بينهما:
عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم قال: ((العُمْرَةُ إلى العُمْرَةِ كفَّارةٌ لِما بينهما، والحجُّ المبرورُ ليس له جَزاءٌ إلَّا الجنَّةُ)) [رواه البخاري (1773)، ومسلم (1349)].
3) العُمْرَةُ في رمضانَ تَعْدِلُ حَجَّةً مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم: وسبق ذكر أحاديث
الفصل الثَّاني: من حِكَم مشروعيَّةِ العمرة
1 – تحقيقُ توحيدِ اللهِ تعالى:
– قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّانَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَاتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَاتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 26 – 27].
قال الحافظ ابنُ كثير رحمه الله: “أَنْ لا تُشْرِكْ بِي” [الحج: 26]، أي: ابْنِهِ على اسْمِي وحدِي، “وَطَهِّرْ بَيْتِيَ” [الحج: 26] قال مجاهد وقتادة: من الشِّرْك، “لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ” [الحج: 26]، أي: اجعله خالصًا لهؤلاء الذين يعبدون اللهَ وحده لا شريكَ له) ((تفسير ابن كثير)) (5/ 413).
– عن جابر رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال في بيانِ حَجَّتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلام: ((فأهلَّ بالتوحيدِ: لبَّيكَ اللهُمَّ لبَّيك، لبَّيْك لا شريكَ لك لبَّيْك؛ إنَّ الحمدَ والنِّعمَةَ لك والْمُلْك، لا شريكَ لك)) [رواه مسلم (1218)].
قال ابنُ باز رحمه الله: (كله –أي الحج- دعوةٌ إلى توحيده، والاستقامَةِ على دينه، والثَّباتِ على ما بُعِثَ به رسولُه محمَّدٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلام، فأعظمُ أهدافه توجيهُ الناس إلى توحيدِ الله، والإخلاص له، والاتِّباع لرسوله صلَّى الله عليه وسَلَّم فيما بعثه اللهُ به من الحق والهدى في الحَجِّ وغيره، فالتَّلْبِيَةُ أوَّلُ ما يأتي به الحاجُّ والمعتمر؛ يقول: لبَّيْكَ اللهم لبيك، لبَّيْك لا شريك لك لبيك. يعلن توحيدَه لله وإخلاصَه لله، وأنَّ الله سبحانه لا شريك له) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (16/ 186).
واتباع للنبي صلى الله عليه وسلم وتمام الإنقياد والرجوع إليه عند الاختلاف يدل عليه:
عن أنس رضي الله عنه، قال سَمِعْتُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يُلَبِّي بالحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا. قالَ بَكْرٌ: فَحَدَّثْتُ بذلكَ ابْنَ عُمَرَ، فَقالَ: لَبَّى بالحَجِّ وَحْدَهُ فَلَقِيتُ أَنَسًا فَحَدَّثْتُهُ بقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، فَقالَ أَنَسٌ: ما تَعُدُّونَنَا إلَّا صِبْيَانًا، سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يقولُ: لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا. [أخرجه البخاري (4353)، ومسلم (1232)].
2 – إظهارُ الافتقارِ إلى اللهِ سبحانه:
يبتعِدُ عن الترفُّهِ والتزيُّنِ، ويلبَسُ ثيابَ الإحرامِ؛ متجرِّدًا عن الدنيا وزينَتِها، فيُظْهِر عَجْزَه، ومسكَنَتَه، ويكون في أثناءِ المناسك ضارعًا لربِّه عزَّ وجَلَّ، مفتقرًا إليه، ذليلًا بين يديه، مُنقادًا بطواعِيَةٍ لأوامِرِه، مجتَنِبًا لنواهِيه سبحانه، سواءٌ عَلِمَ حِكْمَتَها أم لم يعلَمْ.
3 – تحقيقُ التقوى لله تعالى:
قال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197].
ومما تتحقَّقُ به التقوى في العمرة، الابتعادُ عن المحظورات.
4 – إقامَةُ ذِكْرِ اللهِ عزَّ وجَلَّ.
5 – تهذيبُ النَّفْسِ البشريَّةِ.
6 – في العمرة تذكيرٌ بالآخِرَة ووقوفِ العبادِ بين يَدَيِ اللهِ تعالى يومَ القيامَةِ.
فالمشاعِرُ تجمع النَّاسَ من مختَلِفِ الأجناسِ في زيٍّ واحدٍ؛ مكشوفي الرُّؤوس، يلبُّون دعوةَ الخالق عزَّ وجَلَّ، وهذا المشهَدُ يُشْبِهُ وقوفَهم بين يديه سبحانه يومَ القيامة في صعيدٍ واحدٍ حفاةً عراةً غُرْلًا خائفينَ وَجِلِينَ مُشْفِقينَ؛ وذلك مما يبعَثُ في النَفْسِ خَوْفَ اللهِ ومراقَبَتَه والإخلاصَ له في العَمَلِ.
7 – تربيةُ الأُمَّةِ على معاني الوَحْدَةِ الصَّحيحةِ.
8 – أنَّ أداءَه فيه شكرٌ لنِعْمَةِ المالِ وسلامَةِ البَدَنِ. [الموسوعة الفقهية]
المبحثُ الثَّالِث: حُكْمُ العُمْرَةِ
العُمْرَة واجبةٌ، وهو مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّة- في الأظهَرِ-، والحَنابِلَة، والظَّاهِريَّة، وبه قالت طائفةٌ مِنَ السَّلَف، وحُكِيَ عن أكْثَرِ أَهْل العِلْم، وهو اختيارُ الشِّنْقيطيِّ، وابنِ باز، وابنِ عُثيمين.
وأدلة هذا القول: قولُه تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196].
وأوجُهُ الدَّلالَةِ:
الوجهُ الأوَّل: اقترانُها بالحَجِّ، والحَجُّ واجبٌ بإجماعِ أَهْل العِلْم، وهذا ما فَهِمَه ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما؛ فإنَّه قال: (واللهِ إنَّها لَقَرينَتُها في كتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ والْعُمْرَةَ لِلَّهِ (29) [البقرة: 196]).
الوجه الثَّاني: أنَّ معنى الإتمامِ: الإقامةُ؛ أي: أقيموا الحَجَّ والعُمْرَةَ لله، كما في قَوْلِه تعالى: فَإِذَا اطْمَانَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ [النساء: 103]؛ أي: أتمُّوا الصَّلاةَ، وهذا تفسيرُ سعيدِ بنِ جُبيرٍ وعطاءٍ.
1 – عن أبي رَزينٍ أنَّه قال: ((يا رسولَ اللهِ، إنَّ أبي شيخ ٌكبيرٌ لا يستطيعُ الحَجَّ ولا العُمْرَةَ ولا الظَّعْنَ، قال: احْجُجْ عن أبيكَ واعْتَمِرْ)). [أخرجه أبو داود (1810) واللفظ له، والترمذي (930)، والنسائي (2621)، وابن ماجه (2906)، وأحمد (16229) وصحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1810)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (1237) وقال: على شرط مسلمٍ.].
2 – عن عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((قلتُ: يا رسولَ اللهِ، على النِّساءِ جهادٌ؟ قال: نعم، عليهنَّ جهادٌ لا قِتالَ فيه: الحَجُّ والعُمْرَةُ)).
قولُه: (عليهِنَّ) ظاهِرٌ في الوجوبِ؛ لأنَّ (على) مِن صِيَغِ الوُجوبِ، كما ذكر ذلك الأصوليُّونَ، وعلى هذا فالعُمْرَةُ واجبَةٌ [((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (7/ 7).].
3 – عن أبي وائلٍ قال: قال الصبيُّ بنُ مَعْبَدٍ: ((كنت رجلًا أعرابيًّا نصرانيًّا، فأسلمْتُ، فأتيتُ رجلًا من عشيرتي، يقال له هُذَيمُ بْنُ ثُرْمُلَةَ، فقلت له: يا هَنَاهْ، إنِّي حريصٌ على الجهادِ، وإنِّي وجدْتُ الحَجَّ والعُمْرَةَ مكتوبينِ عليَّ، فكيفَ لي بأن أجْمَعَهما؟ قال: اجمَعْهُما واذبَحْ ما استيسَرَ من الهَدْيِ. فأهلَلْتُ بهما معًا، فلمَّا أتيتُ العُذَيبَ لَقِيَني سلمانُ بنُ ربيعةَ وزيدُ بنُ صُوحانَ، وأنا أُهِلُّ بهما جميعًا، فقال أحدُهما للآخَرِ: ما هذا بأفْقَه مِن بَعِيرِه! قال: فكأنَّما ألْقِىَ عليَّ جبلٌ حتى أتيتُ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ، فقُلْتُ له: يا أميرَ المؤمنينَ، إنِّي كنتُ رجلًا أعرابيًّا نصرانيًّا، وإنِّي أسلمْتُ وأنا حريصٌ على الجهادِ، وإني وجدْتُ الحَجَّ والعُمْرَةَ مكتوبينِ عليَّ، فأتيتُ رَجُلًا من قومي، فقال لي: اجمَعْهُما واذبَحْ ما استيسَرَ من الهَدْيِ، وإني أهلَلْتُ بهما معًا. فقال لي عُمَرُ رَضِي اللهُ عنه: هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّك صلَّى الله عليه وسَلَّم)). [رواه أبو داود (1799) واللفظ له، والنسائي (2719) صححه الدارقطني في ((العلل)) (2/ 166)، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1799)]. [الموسوعة الفقهية]
قال النوويّ رَحِمَهُ اللهُ: اخَتَلف العلماء في وجوب العمرة،
فمذهب الشافعيّ، والجمهور: أنها واجبة، وممن قال به: عمر، وابن عمر، وابن
عباس، وطاوس، وعطاء، وابن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن البصريّ،
ومسروق، وابن سيرين، والشعبيّ، وأبو بردة بن أبي موسى، وعبد الله بن شداد، والثوريّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وداود.
وقال مالك، وأبو حنيفة، وأبو ثور: هي سنة، وليست واجبة، وحُكِي
أيضًا عن النخعيّ. انتهى [«شرح النوويّ» (9) / (118)].
وقال الإمام البخاريّ رَحِمَهُ اللهُ في «صحيحه»: «باب: وجوب العمرة، وفضلها».
قال في «الفتح»: وجزم المصنف بوجوب العمرة، وهو متابعٌ في ذلك للمشهور عن الشافعيّ، وأحمد، وغيرهما، من أهل الأثر، والمشهور عن المالكية أن العمرة تطوّعٌ، وهو قول الحنفية.
واستدلوا بما رواه الحجاج بن أرطاة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر -رضي الله عنه-: أتى أعرابيّ النبيّ لا، فقال: يا رسول الله أخبرني عن العمرة، أواجبة هي؟ فقال: «لا، وأن تعتمر خير لك»، أخرجه الترمذيّ، والحجاج ضعيف.
وقد رَوى ابن لهيعة، عن عطاء، عن جابر، مرفوعًا: «الحج والعمرة فريضتان»، أخرجه ابن عديّ، وابن لهيعة ضعيف، ولا يثبت في هذا الباب عن جابر شيء، بل رَوى ابن الجهم المالكيّ بإسناد حسن عن جابر: «ليس مسلم إلا عليه عمرة»، موقوفٌ على جابر -رضي الله عنه-.
واستدَلّ الأولون بما ذُكِر في هذا الباب، وبقول صُبَيّ بن مَعْبد لعمر -رضي الله عنه-: «رأيت الحج والعمرة مكتوبين عليّ، فأهللت بهما، فقال له: هُدِيت لسنة نبيك»، أخرجه أبو داود،
وروى ابن خزيمة وغيره في حديث عمر، سؤال جبريل عن الإيمان، والإسلام، فوقع فيه: «وأن تحجّ، وتعتمر»، وإسناده قد أخرجه مسلم، لكن لم يسق لفظه.
وبأحاديث أُخَر غير ما ذُكِر، وبقوله تعالى: {وأتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:
(196)]؛ أي: أقيموهما، وزعم الطحاويّ أن معنى قول ابن عمر: «العمرة
واجبة»؛ أي: وجوب كفاية، ولا يخفى بُعده مع اللفظ الوارد عن ابن عمر.
وذهب ابن عباس، وعطاء، وأحمد إلى أن العمرة لا تجب على أهل مكة، وإن وجبت على غيرهم. انتهى [«الفتح» (5) / (5) – (6)].
قال الأتيوبي عفا الله عنه: قد تبيّن من ذِكر هذه الأقوال، وأدلّتها أن ما ذهب إليه الأولون من كون العمرة واجبة مطلقًا، سواء كان الشخص مكيًّا، أو آفاقيًّا هو الحقّ؛ لوضوح أدلّته، كما سبق آنفًا، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المبحثُ الرَّابِعُ: وقت العمرة وحُكْمُ تَكرارِها
المطلَبُ الأوَّلُ: وَقتُ العُمرةِ
تَجوزُ العُمرةُ في كلِّ أوقاتِ السَّنةِ لِمَن لم يكُن متلبِّسًا بأعمالِ الحجِّ، وذلك في الجُملة.
ونقلَ الإجماعَ على ذلك: ابنُ رشد، والنوويُّ، وابنُ حَجَر
قال ابنُ رُشد: (وأمَّا العُمرة، فإنَّ العلماء اتَّفقوا على جوازِها في كلِّ أوقات السَّنة). ((بداية المجتهد)) (1/ 326).
وقال النوويُّ: (وفي هذا الحديثِ جوازُ العُمرة في أشهُرِ الحجِّ، وهو مُجمَعٌ عليه). ((شرح النووي على مسلم)) (8/ 232).
وقال ابنُ حَجر: (واتَّفقوا على جوازها في جميع الأيَّام لِمَن لم يكُن متلبِّسًا بأعمال الحجِّ، إلا ما نُقل عن الحنفية أنَّه يُكره في يومِ عرفةَ، ويومِ النَّحر، وأيَّام التشريق). ((فتح الباري)) (3/ 598). ووقَع خلافٌ في بعض الأيَّام؛ قال الكاسانيُّ: (السَّنَة كلُّها وقتُ العمرة، وتجوز في غير أشهُر الحجِّ، وفي أشهُر الحج، لكنَّه يُكره فعلها في يومِ عَرفةَ، ويوم النَّحر، وأيَّام التشريق، أمَّا الجوازُ في الأوقات كلِّها). ((بدائع الصنائع)) (2/ 227).
وأما في أقوال أهل العلم في وقت العمرة:
قال النوويّ لا: واعلم أن جميع السنة وقت للعمرة، فتصحّ في كلّ وقت منها، إلا في حقّ من هو متلبّسٌ بالحجّ، فلا يصحّ اعتماره حتى يفرغ من
الحجّ، ولا تكره عندنا لغير الحاجّ في يوم عرفة، والأضحى، والتشريق،
وسائر السنة، وبهذا قال مالك، وأحمد، وجماهير العلماء.
وقال أبو حنيفة: تُكره في خمسة أيام: يوم عرفة، والنحر، وأيام
التشريق، وقال أبو يوسف: تكره في أربعة أيام: وهي عرفة، والتشريق. انتهى
كلام النوويّ رَحِمَهُ اللهُ [«شرح النوويّ» (9) / (118)].
وقال الحافظ رَحِمَهُ اللهُ: واتفقوا على جوازها في جميع الأيام لمن لم يكن متلبّسًا بأعمال الحجّ، إلا ما نُقل عن الحنفيّة أنه يكره في يوم عرفة، ويوم النحر، وأيّام التشريق، ونقل الأثرم عن أحمد: إذا اعتَمَر فلا بدّ أن يحلق، أو يقصّر، فلا يعتمر بعد ذلك إلى عشرة أيام؛ ليتمكّن من حلق الرأس فيها، قال ابن قُدامة: هذا يدلّ على كراهة الاعتمار عنده في دون عشرة أيام. انتهى كلام
الحافظ رَحِمَهُ اللهُ [«الفتح» (5) / (7)].
قال الأتيوبي عفا الله تعالى عنه: عندي في استثناء الأيام التي ذكروا أن العمرة تُكره فيها نَظَرٌ، فالذي يظهر أنها تجوز في كلّ أيام السنة؛ إذ لا نصّ، ولا إجماع في استثناء بعض الأيام المذكورة، حتى نعتمد عليه في كراهتها فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. [البحر الثجاج]
المطلب الثاني: حُكْمُ تَكرارِ العُمْرَةِ في السَّنَةِ الواحِدَةِ
يجوز تَكرارُ العُمْرَةِ في السَّنَةِ الواحِدَةِ، وهو مَذْهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّةِ، والشَّافِعِيَّة، والحَنابِلَةِ، وبعضِ المالِكِيَّة، وبه قالت طائفةٌ مِنَ السَّلَفِ.
1 – عن أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم قال: ((العُمْرَةُ إلى العُمْرَةِ كفارةٌ لِمَا بينهما، والحَجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلَّا الجنَّةُ)).
نَبَّه على التفريقِ بين الحَجِّ والعُمْرَة في التَّكرارِ؛ إذ لو كانت العُمْرَةُ كالحَجِّ؛ لا تُفعَلُ في السَّنَةِ إلَّا مرةً لسَوَّى بينهما ولم يُفَرِّقْ. [((زاد المعاد)) لابن القَيِّمِ (2/ 95)].
2 – أنَّ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها اعتَمَرَتْ في شهرٍ مرَّتينِ بأَمْرِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم: عُمْرَةً مع قِرانِها، وعُمْرَةً بعد حَجِّها (46).
وأما مذاهب العلماء في مشروعيّة تكرار العمرة:
فقد ذهب الجمهور إلى استحباب تكرار العمرة في السنة الواحدة مرارًا، وهو المذهب الصحيح؛ للأحاديث الصحيحة الكثيرة في الترغيب في الاستكثار منها، كحديث الباب.
وذهب مالك، وأصحابه إلى أنه يُكره أن يعتمر في السنة أكثر من عمرة.
وقال آخرون: لا يعتمر في شهر أكثر من عمرة.
قال الحافظ: واستدلّ لهم بأنه لا لم يفعلها إلا من سنة إلى سنة، وأفعاله على الوجوب أو الندب.
وتُعُقّب بأن المندوب لم ينحصر في أفعاله، فقد كان يترك الشيء، وهو
يستحب فعله لرفع المشقّة عن أمّته، وقد ندب إلى ذلك بلفظه، فثبت
الاستحباب من غير تقييد. انتهى [«الفتح» (5) / (7)].
وقد حقّق المسألة الإمام ابن حزم رَحِمَهُ اللهُ وردّ على القائلين بكراهة التكرار
في كتابه «المحلّى»، ودونك عبارته:
[مسألة]: والحجّ لا يجوز إلا مرّة في السنة، وأما العمرة فنُحبّ الإكثار منها؛ لما ذكرنا من فضلها، فأما الحجّ فلا خلاف فيه، وأما العمرة، فإننا روينا من طريق مجاهد، قال عليّ بن أبي طالب: في كلّ شهر عمرة، وعن القاسم بن محمد أنه كره عمرتين في شهر واحد. وعن عائشة أم المؤمنين أنها اعتمرت ثلاث مرّات في عام واحد، وعن سعيد بن جبير، والحسن البصريّ، ومحمد بن سيرين، وإبراهيم النخعيّ كراهة العمرة أكثر من مرّة في السنة، وهو قول مالك، وروينا عن طاوس: إذا مضت أيام التشريق، فاعتَمِر متى شئت.
وعن عكرمة: اعتَمِرْ متى أمكنك الموسى، وعن عطاء إجازة العمرة مرّتين في
الشهر، وعن ابن عمر أنه اعتمر مرّتين في عام واحد مرّة في رجب، ومرّة في
شوّال، وعن أنس بن مالك أنه أقام مدّة بمكّة، فكلما جمّ رأسه خرج فاعتمر،
وهو قول الشافعيّ، وأبي حنيفة، وأبي سليمان -يعني داود الظاهريّ- وبه
نأخذ؛ لأن رسول الله لا قد أعمر عائشة مرّتين في الشهر الواحد، ولم
يكره لا ذلك، بل حضّ عليها، وأخبر أنها تكفّر ما بينها، وبين العمرة الثانية
فالإكثار منها أفضل، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجّ من كَره ذلك بأن رسول الله عليه السلام لم يعتمر في عام إلا مرّة واحدة.
قلنا: لا حجة في هذا؛ لأنه إنما يُكره ما حَضَّ على تركه، وهو عليه السلام لم
يحجّ مذ هاجر إلا حجة واحدة، ولا اعتمر مذ هاجر إلا ثلاث عُمَر، فيلزمكم
أن تكرهوا الحجّ إلا مرّة في العمر، وأن تكرهوا العُمَر إلا ثلاث مرّات في
الدهر، وهذا خلاف قولكم، وقد صحّ أنه كان عليه السلام يترك العمل، وهو يحبّ
أن يعمل به، مخافة أن يشقّ على أمته، أو أن يُفْرَضَ عليهم.
والعجب أنهم يستحبّون أن يصوم المرء أكثر من نصف الدهر، وأن يقوم
أكثر من ثلث الليل، وقد صحّ أن رسول الله لا لم يصم قط شهرًا كاملًا، ولا
أكثر من نصف الدهر، ولا قام بأكثر من ثلاث عشرة ركعة، ولا أكثر من ثلث
الليل، فلم يروا فعله عليه السلام ههنا حجة في كراهة ما زاد على صحّة نهيه عن
الزيادة في الصوم، ومقدار ما يقام من الليل على أكثر من ذلك، وجعلوا فعله عليه السلام في أنه لم يعتمر في العام إلا مرّة مع حضّه على العمرة، والإكثار
منها حجة في كراهة الزيادة على عمرة من العام، وهذا عجبٌ جدًّا. انتهى
كلام ابن حزم رَحِمَهُ اللهُ، وهو بَحْثٌ نفيسٌ جدًّا.
والحاصل أن الحقّ قول من قال بمشروعيّة تكرار العمرة؛ لوضوح
حجته، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
لكن يحتاج وضع ضابط من عمل السلف؛ لأن البعض رأيناه يعتمر في اليوم عشرات العمرات. ولا تجد أحد من السلف نقل عنه ذلك. فلو بقينا على أدنى مدة ثبتت عن أئمة السلف وسوف يأتي بإذن الله كلام لابن عثيمين في الفتاوى حول هذا المعنى (سيف)
المبحثُ الخامس: أعمال مناسك العمرة
راجع [نبذة مختصرة من أعمال مناسك العمرة صدرت من مكتب سماحته في 13/ 2/1416هـ (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 17/ 425)].
(المسألة الثالث):
روى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه، وفيه: “ثُمَّ نَزَلَ إلى المَرْوَةِ، حتَّى إذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ في بَطْنِ الوَادِي سَعَى، حتَّى إذَا صَعِدَتَا مَشَى، حتَّى أَتَى المَرْوَةَ، فَفَعَلَ علَى المَرْوَةِ كما فَعَلَ علَى الصَّفَا. حتَّى إذَا كانَ آخِرُ طَوَافِهِ علَى المَرْوَةِ، فَقالَ: لو أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِن أَمْرِي ما اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الهَدْيَ، وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فمَن كانَ مِنكُم ليسَ معهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً،
فَقَامَ سُرَاقَةُ بنُ مَالِكِ بنِ جُعْشُمٍ، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، أَلِعَامِنَا هذا أَمْ لِ أَبَدٍ؟
فَشَبَّكَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً في الأُخْرَى، وَقالَ: ((دَخَلَتِ العُمْرَةُ في الحَجِّ مَرَّتَيْنِ لا بَلْ لأَبَدِ أَبَدٍ)) “.
فقد اختلف العلماء في سؤال سُراقة هذا:
فقال بعضهم: المراد منه الإتيان بالعمرة في أشهر الحجّ.
وذهب آخرون إلى أن المراد بذلك القران، يعني: اقتران الحج بالعمرة.
وقال آخرون: المراد منه فسخ الحجّ إلى العمرة.
فعلى الأول يكون معنى قوله لا: «دخلت العمرة في الحجّ» أي: حلّت العمرة في أشهر الحجّ وصحّت، والمقصود إبطال ما زعمه أهل الجاهليّة من أن العمرة لا تجوز في أشهر الحجّ، وعليه الجمهور.
وعلى الثاني: دخلت العمرة في الحجّ؛ أي: اقترنت به، لا تنفكّ عنه لمن نواهما معًا، وتندرج أفعال العمرة في أفعال الحجّ حتى يتحلّل منهما معًا،
قيل: ويدلّ عليه تشبيك أصابعه.
وتُعُقّب بأنه حينئذ لا مناسبة بين السؤال والجواب، فتدبّر.
وعلى الثالث؛ أي: دخلت نيّة العمرة في نيّة الحجّ، بحيث إن من نوى الحجّ صحّ له الفراغ منه بأفعال العمرة، قال النوويّ: وهو ضعيف، وقال القاري بعد ذكره: أقول: هذا هو الظاهر من سياق الحديث، والله تعالى أعلم.
وقال الحافظ: وتُعُقّب -أي: قول النووي- بأن سياق السؤال يقوّي هذا التأويل، بل الظاهر أن السؤال وقع عن الفسخ، والجواب وقع عما هو أعمّ من ذلك، حتى يتناول التأويلات المذكورة. انتهى.
وقيل: معنى دخولها في الحجّ سقوط وجوب العمرة بوجوب الحجّ، قال النوويّ: وسياق الحديث يقتضي بطلان هذا التأويل.
قال صاحب «المرعاة»: قلت: حديث جابر -رضي الله عنه- هذا صريح في أن سؤال سراقة -رضي الله عنه- عن فسخ الحجّ إلى العمرة، وجواب النبيّ لا له يدلّ على تأييد
مشروعيّته كما ترى؛ لأن الجواب مطابق للسؤال، ومعنى فسخ الحجّ إلى العمرة
أن من أحرم بالحجّ مفردًا، أو قارنًا، ولم يسق الهدي، وطاف بالبيت، وسعى بين
الصفا والمروة قبل الوقوف بعرفة له أن يفسخ نيّته بالحجّ، وينوي عمرة مفردةً،
فقصّر، ويتحلّل من إحرامه؛ ليصير متمتّعًا. انتهى كلام صاحب «المرعاة».
قال الأتيوبي عفا الله عنه: هذا الذي قاله صاحب «المرعاة» رحمهُ اللهُ تحقيقٌ
نفيسٌ جدًّا، وحاصله أن حمل حديث جابر -رضي الله عنه- هذا على أن المراد به هو فسخ الحج إلى العمرة هو الصواب؛ لأنه صريح في ذلك، وأما ما عداه من التأويلات فضعيف؛ إذ يردّه سياق السؤال والجواب، فلا ينبغي حمل الحديث عليه، فتبصّر بالإنصاف، وقد تقدّم تحقيق ذلك بأدلّته في الباب الماضي، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق. [البحر المحيط الثجاج]
(المسألة الرابعة): الجمع بين الروايات:
روى مسلم في صحيحه، عن ابْنَ عَبّاسٍ رضي الله عنهما، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ لا لِامْرَأةٍ مِنَ الأنصارِ، سَمّاها ابْنُ عَبّاسٍ، فَنَسِيتُ اسْمَها: «ما مَنَعَكِ أنْ تَحُجِّي مَعَنا؟» قالَتْ: لَمْ يَكُنْ لَنا إلّا ناضِحانِ، فَحَجَّ أبُو ولَدِها، وابْنُها عَلى ناضِح، وتَرَكَ لَنا ناضِحًا، نَنْضِحُ عَلَيْهِ، قالَ: «فَإذا جاءَ رَمَضانُ، فاعْتَمِرِي، فَإنَّ عُمْرَةً فِيهِ تَعْدِلُ حَجَّةً».
القائل: نسيت اسمها هو ابن جريجٍ، بخلاف ما يتبادر إلى الذهن من أن القائل عطاء، وإنما قيل ذلك؛ لما في الرواية الثانية عند مسلم من طريق حبيب المعلّم، عن عطاء، من تسميتها، حيث قال: «عن ابن عبّاس: أن النبيّ لا قال لامرأة من الأنصار، يقال لها: أم سنان: ما منعكِ أن تكوني حججت معنا … ؟» الحديث، أفاده الحافظ – رَحِمَهُ اللهَ -.
قال: ويحْتَمل أن عطاء كان ناسيًا لاسمها لَمّا حدث به ابنَ جريجٍ، وذاكرًا له لما حدّث به حبيبًا.
وقد خالفه يعقوب بن عطاء، فرواه عن أبيه، عن ابن عبّاس، قال: جاءت أم سليم إلى رسول الله لا، فقالت: حجّ أبو طلحة، وابنه، وتركاني، فقال: «يا أمّ سُليم، عمرة في رمضان تعدل حجة معي»، أخرجه ابن حبّان،
وتابعه محمد بن عبد الرَّحمن بن أبي ليلي، عن عطاء، أخرجه ابن أبي شيبة،
وتابعهما مَعقِل الجزريّ، لكن خالف في الإسناد، قال: عن عطاء، عن أم سُليم، فذكر الحديث دون القصّة، فهؤلاء ثلاثة يبعد أن يتّفقوا على الخطأ، فلعلّ حبيبًا لَمْ يحفظ اسمها كما ينبغي، لكن رواه أحمد بن منيع في «مسنده» بإسناد صحيح، عن سعيد بن جبير، عن امرأة من الأنصار، يقال لها: أم سنان أنّها أرادت الحجِّ … فذكر الحديث نحوه، دون ذكر قصّة زوجها.
وقد وقع شبيه بهذه القصّة لأم معقل، أخرجه النسائيّ في «الكبرى» من طريق معمر، عن الزهريّ، عن أبي بكر بن عبد الرَّحمن بن الحارث، عن امرأة من بني أسد، يقال لها: أم معقل، قالت: أردت الحجِّ، فاعتلّ بعيري، فسألت النبيّ لا؟ فقال: «اعتمري في شهر رمضان، فإن عمرة في رمضان تعدل حجة».
وقد اختلف في إسناده، فرواه مالك، عن سميّ، عن أبي بكر بن عبد الرَّحمن، قال: جاءت امرأة … فذكره مرسلًا، وأبهمها، ورواه النسائيّ
أيضًا من طريق عمارة بن عمير وغيره، عن أبي بكر بن عبد الرَّحمن، عن أمّ
معقل، ورواه أبو داود من طريق إبراهيم بن مهاجر، عن أبي بكر بن
عبد الرَّحمن، عن رسول مروان، عن أم معقل.
قال الحافظ: والذي يظهر لي أنهما قصتان وقعتا لامرأتين، فعند أبي داود من طريق عيسى بن معقل، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أم معقل، قالت: لما حجّ رسول الله لا حجة الوداع، وكان لنا جمل، فجعله أبو معقل في سبيل الله، وأصابنا مرض، فهلك أبو معقل، فلما رجع رسول الله لا من حجته جئت، فقال: «ما منعك أن تحجي معنا؟»، فذكرت ذلك له، فقال:
«فهلا حججت عليه؟، فإن الحجِّ من سبيل الله، فأما إذا فاتك، فاعتمري في
رمضان، فإنها كحجة».
ووقعت لأم طليق قصّة مثل هذه، أخرجها أبو عليّ بن السكن، وابن منده في «الصحابة»، والدولابيّ في «الكنى» من طريق طلق بن حبيب: أن أبا طليق حدثه، أن امرأته قالت له – وله جمل، وناقة -: أعطني جملك أحجّ عليه، قال: جملي حبيس في سبيل الله، قالت: إنه في سبيل الله أن أحجّ عليه، فذكر الحديث، وفيه: فقال رسول الله لا: «صدقت أم طليق»، وفيه: ما يعدل الحجِّ؟ قال: «عمرة في رمضان».
وزعم ابن عبد البرّ أن أمّ معقل هي أم طليق، لها كنيتان، وفيه نظر؛ لأن أبا معقل مات في عهد النبيّ لا، وأبا طليق عاش حتى سمع منه طلق بن حبيب، وهو من صغار التابعين، فدلّ على تغاير المرأتين.
ويدلّ عليه تغاير السياقين أيضًا، ولا معدل عن تفسير المبهمة في حديث ابن عباس بأنها أم سنان، أو أم سليم؛ لما في القصّة التي في حديث ابن عباس من التغاير للقصّة التي في حديث غيره؛ ولقوله في حديث ابن عباس: إنها أنصاريّة، وأما أم معقل، فإنها أسديّة، ووقعت لأم الهيثم أيضًا، والله تعالى أعلم. انتهى كلام الحافظ – رَحِمَهُ اللهُ -، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا. [البحر المحيط الثجاج].
(المسألة الخامسة): الفتاوى
[1] س (763): سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: العمرة في رمضان هل الفضل فيها محدد بأول رمضان أو وسطه أو آخره؟
فأجاب فضيلته بقوله: العمرة في رمضان ليست محددة بأوله ولا بوسطه ولا بآخره بل هي عامة في أول الشهر ووسطه وآخره لقول النبي لا: «عمرة في رمضان تعدل حجة» ولم يقيدها صلوات الله وسلامه عليه،
وهنا أنبه بعض الأخوة الذين يذهبون إلى مكة لأداء العمرة، فإن منهم من يتقدم قبل رمضان بيوم أو يومين فيأتي بالعمرة قبل دخول الشهر فلا ينال الأجر الذي يحصل فيمن أتى بالعمرة في رمضان، فلو أخر سفره حتى يكون يوم إحرامه بالعمرة في رمضان لكان أحسن وأولى.
[مجموع فتاوى ورسائل العثيمين].باختصار
[2] س (761): سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل وردت أحاديث تدل على أن العمرة في رمضان تعدل حجة أو أن فضلها كسائر الشهور؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم ورد في صحيح مسلم عن النبي لا أنه قال: «عمرة في رمضان تعدل حجة» فالعمرة في رمضان تعدل حجة كما جاء به الحديث، ولكن ليس معنى ذلك أنها تجزاء عن الحجة، بحيث لو اعتمر الإنسان في رمضان وهو لم يؤد فريضة الحج سقطت عنه الفريضة، لأنه لا يلزم من معادلة الشيء للشيء أن يكون مجزئًا عنه.
فهذه سورة: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أحَدٌ ((1))) تعدل ثلث القرآن، ولكنها لا تجزاء عنه، فلو أن أحدًا في صلاته كرر سورة الإخلاص ثلاث مرات لم يكفه ذلك عن قراءة الفاتحة،. [مجموع فتاوى ورسائل العثيمين].
[3] س (765): سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: كم الوقت الذي يجب أن يفصل بين العمرة والعمرة الأخرى؟
فأجاب فضيلته بقوله: يرى بعض العلماء أن العمرة لا تتكرر في السنة وإنما تكون عمرة في كل سنة، ويرى آخرون أنه لا بأس من تكرارها، لكن قدروا ذلك بنبات الشعر لو حلق، وقد
روي ذلك عن الإمام أحمد- رحمه الله- أنه إذا حمم رأسه أي إذا نبت واسود فحينها يعتمر؛ لأن الواجب في العمرة الحلق أو التقصير ولا يكون ذلك بدون شعر، وقد ذكر شيخ الإسلام – رحمه الله- في إحدى فتاويه أنه يكره الإكثار من العمرة والموالاة بينها باتفاق السلف فإذا كان بين العمرة والعمرة شهرٌ أو نحوه فهذا لا بأس به ولا يخرج عن المشروعية إن شاء الله، وأما ما يفعله بعض الناس في رمضان من كونه يكرر العمرة كل يوم فبدعة ومنكر ليس لها أصل من عمل السلف، ومن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فتح مكة وبقي فيها تسعة عشر يوما ولم يخرج يومًا من الأيام إلى الحل ليأتي بعمرة،. [مجموع فتاوى ورسائل العثيمين].
[4] (236) – أفضل زمان تؤدى فيه العمرة رمضان
س: هل ثبت فضل خاص للعمرة في أشهر الحج يختلف عن فضلها في غير تلك الأشهر؟
ج: أفضل زمان تؤدى فيه العمرة شهر رمضان لقول النبي لا: «عمرة في رمضان تعدل حجة» متفق على صحته، وفي رواية أخرى في البخاري: «تقضي حجة معي» وفي مسلم: «تقضي حجة أو حجة معي» هكذا بالشك – يعني معه عليه الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك العمرة في ذي القعدة، لأن عمره لا كلها وقعت في ذي القعدة، وقد قال الله سبحانه: {لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، وبالله التوفيق. [مجموع فتاوى ابن باز].