بيان الوسيلة في آيات القرآن الكريمة
جمع سيف بن دورة الكعبي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–
سورة الأنبياء:
قال تعالى
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) سورة الأنبياء
فيه التوسل بإظهار الحاجة والتذلل والثناء على الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى
قال ابن الجوزي:
قَوْلُهُ تَعالى: {وَأيُّوبَ إذْ نادى رَبَّهُ}؛ أيْ: دَعا رَبَّهُ، {أنِّي} وقَرَأ أبُو عِمْرانَ الجَوْنِيُّ: (إنِّي) بِكَسْرِ الهَمْزَةِ. {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} وقَرَأ حَمْزَةُ: (مَسَّنِي) بِتَسْكِينِ الياءِ؛ أيْ: أصابَنِيَ الجُهْدُ. {وَأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ}؛ أيْ: أكْثَرُهم رَحْمَةً، وهَذا تَعْرِيضٌ مِنهُ بِسُؤالِ الرَّحْمَةِ؛ إذْ أثْنى عَلَيْهِ بِأنَّهُ الأرْحَمُ وسَكَتَ.
قال ابن القيم:
{* وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّ الاحِمِينَ} [الأنبياء (83)]
* (فائدة)
جمع في هَذا الدُّعاء بَين حَقِيقَة التَّوْحِيد، وإظْهار الفقر والفاقة إلى ربه، ووُجُود طعم المحبَّة في التملق لَهُ، والإقْرار لَهُ بِصفة الرَّحْمَة، وأنه أرْحم الرّاحِمِينَ، والتوسل إلَيْهِ بصفاته سُبْحانَهُ، وشدَّة حاجته وهو فقره، ومَتى وجد المُبْتَلى هَذا كشف عَنهُ بلواه.
وَقد جرّب أنه من قالَها سبع مَرّات ولا سِيما مَعَ هَذِه المعرفَة كشف الله ضره.
* [فصل: الفرق بين الإخبار بالحال وبين الشكوى]
والفرق بين الإخبار بالحال وبين الشكوى وإن اشتبهت صدرتهما: أن الإخبار بالحال يقصد المخبر به قصدا صحيحا من علم سبب إدانته، أو الاعتذار لأخيه من أمر طلبه منه، أو يحذره من الوقوع في مثل ما وقع فيه فيكون ناصحا بإخباره له، أو حمله على الصبر بالتأسي، كما يذكر عن الأحنف أنه شكا إليه رجل شكوى.
فقال: يا ابن أخي لقد ذهب ضوء عيني كذا وكذا سنة فما أعلمت به أحدا.
ففي ضمن هذا الإخبار من حمل الشاكي على التأسي والصبر ما يثاب عليه المخبر وصورته صورة الشكوى ولكن القصد ميز بينهما، ولعل هذا قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، لما قالت عائشة: “وارأساه، فقال بل أنا وارأساه”
أي الوجع القوي بي أنا دونك فتأسي بي فلا تشتكي، ويلوح لي فيه معنى آخر وهو أنها كانت حبيبة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بل كانت أحب النساء إليه على الإطلاق.
فلما اشتكت إليه رأسها أخبرنا أن بمحبها من الألم مثل الذي بها وهذا غاية الموافقة من المحب ومحبوبه يتألم بتألمه ويسر بسروره حتى إذا آلمه عضو من أعضائه آلم المحب ذلك العضو بعينه وهذا من صدق المحبة وصفاء المودة فالمعنى الأول يفهم أنك لا تشتكي واصبر في من الموجع مثل ما بك فتأسى بي في الصبر وعدم الشكوى.
والمعنى الثاني يفهم إعلامها بصدق محبته لها أي انظري قوة محبتي لك كيف واسيتك في ألمك ووجع رأسك فلم تكوني متوجعة وأنا سليم من الوجع بل يؤلمني ما يؤلمك كما يسرني ما يسرك كما قيل:
وإن أولى البرايا أن تواسيه لالالا عند السرور الذي واساك في الحزن
وأما الشكوى فالإخبار العاري عن القصد الصحيح بل يكون مصدره السخط وشكاية المبتلي إلى غيره فإن شكا إليه سبحانه وتعالى لم يكن ذلك شكوى بل استعطاف وتملق واسترحام له كقول أيوب لرَبِّهِ {أنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ}
وقول يعقوب {إنَّما أشْكُوا بَثِّي وحُزْنِي إلى اللَّهِ}
وقول موسى:
“اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بك”.
وقول سيد ولد آدم
“اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملّكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل علي غضبك أو ينزل بي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك”
فالشكوى إلى اللّه سبحانه لا تنافي الصبر بوجه فإن اللّه تعالى قال عن أيوب {إنّا وجَدْناهُ صابِرًا نِعْمَ العَبْدُ إنَّهُ أوّابٌ} مع إخباره عنه بالشكوى إليه في قوله {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} وأخبر عن نبيه يعقوب أنه وعد من نفسه بالصبر الجميل والنبي إذا قال وفّى مع قوله {إنَّما أشْكُوا بَثِّي وحُزْنِي إلى اللَّهِ}، ولم يجعل ذلك نقصا لصبره.
ولا يلتف أن غير هذا من ترهات القوم، كما قال بعضهم لما قال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ}.
قال تعالى: {إنّا وجَدْناهُ صابِرًا} ولم يقل صبورا حيث قال {مسّني الضر}.
وقال بعضهم لم يقل: ارحمني، وإنما قال {أنت أرحم الراحمين} فلم يزد على الإخبار بحاله ووصف ربه.
وقال بعضهم إنما شكا مس ضر حين ضعف لسانه عن الذكر فشكا مس ضر ضعف الذكر لا ضر المرض والألم.
وقال بعضهم استخرج منه هذا القول ليكون قدوة للضعفاء من هذه الأمة.
وكأن هذا القائل رأى أن الشكوى إلى اللّه تنافي الصبر وغلط أقبح الغلط فالمنافي للصبر شكواه لا الشكوى إليه فاللّه يبتلي عبده ليسمع تضرعه ودعاءه والشكوى إليه ولا يحب التجلد عليه، وأحب ما إليه انكسار قلب عبده بين يديه وتذلله له وإظهار ضعفه وفاقته وعجزه وقلة صبره، فاحذر كل الحذر إظهار التجلد عليه وعليك بالتضرع والتمسكن وإبداء العجز والفاقة والذل والضعف، فرحمته أقرب إلى هذا القلب من اليد للفم.
قال القاسمي:
وإنَّ مِن أسْبابِ الفَرَجِ دُعاءَهُ تَعالى والِابْتِهالَ إلَيْهِ والتَّضَرُّعَ لَهُ، وَذِكْرَهُ بِأسْمائِهِ الحُسْنى وصِفاتِهِ العُلْيا. وإنَّ البَلاءَ لا يَدُلُّ عَلى الهَوانِ والشَّقاءِ. فَإنَّ السَّعادَةَ والشَّقاءَ في هَذا العالَمِ لا يَتَرَتَّبانِ عَلى صالِحِ الأعْمالِ وسَيِّئِها. لِأنَّ الدُّنْيا لَيْسَتْ دارَ جَزاءٍ. وإنَّ عاقِبَةَ الصِّدْقِ في الصَّبْرِ، هي تَوْفِيَةُ الأجْرِ ومُضاعَفَةُ البِرِّ. وقَدْ رُوِيَ أنَّ أيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ، لَمّا امْتُحِنَ بِما فَقَدَ أرْزاقَهُ وهَلَكَ بِهِ جَمِيعُ آلِ بَيْتِهِ، وبِما لَبِثَ يُعانِي مِن قُرُوحِ جَسَدِهِ آلامًا، وصَبَرَ وشَكَرَ، رَحِمَهُ مَوْلاهُ فَعادَتْ لَهُ صِحَّةُ بَدَنِهِ وأُوتِيَ أضْعافَ ما فَقَدَهُ. ورُزِقَ عِدَّةَ أوْلادٍ، وعاشَ عُمْرًا طَوِيلًا أبْصَرَ أوْلادَهُ إلى الجِيلِ
قال الواحدي ((468) هـ) في البسيط:
{* وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّ الاحِمِينَ} [الأنبياء (83)]
قوله تعالى: هوَ {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} قال ابن عباس: دعا ربه.
{أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} وأصابني الجهد {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} أكثرهم رحمه. وهذا تعريض منه بمسالة الرحمة إذ أثنى عليه بأنه الأرحم وسكت.
وقال أهل العلم: لم يكن هذا جزعًا من أيوب؛ لأن الله تعالى قال: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} ولكن هذا دعاء منه لله تعالى ألا ترى أن الله تعالى قال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ}.
وروي عن ربيعة بن كلثوم أنه قال: دخلنا على الحسن وهو يشتكي ضرسه وهو يقول: مسني الضر وأنت أرحم الراحمين، اقتدى بأيوب عليه السلام في دعائه ليستجاب له كما استجيب لأيوب.
على أن الجزع إنما هو الشكوى إلى الخلق، فأما من اشتكى إلى الله تعالي ما حل به فليس يسمى جازعًا؛ لأنه مثاب على ذلك إذا كان إلى الله، والجازع مذموم، وقول يعقوب عليه السلام {أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] لا يحمل على الجزع.
وهذا معنى ما قال سفيان بن عيينة في هذه الآية: من شكا إلى الله لم يعد ذلك بشكوى ولا جزع، ألم تسمع قوله: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} قال وكذلك من شكا إلى الناس وهو في شكواه راض بقضاء الله لم يكن ذلك جزعًا ألم تسمع قول النبي — : “أجدني مغمومًا وأجدني مكروبًا”، وقوله: “بل أنا وارأساه”.
وليس في مثل هذا شكوى من الله، ولا قلة رضا بقضائه، بل رغبة فيه.
قال الثعلبي في “الكشف والبيان” 3/ 39 ب:
{* وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّ الاحِمِينَ} [الأنبياء (83)] (سمعت أستاذنا أبا القاسم بن حبيب -رحمه الله- يقول: حضرتُ مجلسًا غاصًّا بالفقهاء والأدباء في دار سلطان فسئلت عن هذه الآية بعد إجماعهم على أن قول أيوب (مسني الضر) شكاية، وقد قال الله تعالى (إنا وجدناه صابرا) فقلت: ليس هذا بشكاية، وإنما هو دعاء بيانه قوله (فاستجبنا له) والإجابة تعتقب الدعاء لا الاشتكاء، فاستحسنوه وارتضوه. أهـ.
قال أبوالسعود:
{وَأيُّوبَ} الكَلامُ فِيهِ كَما مَرَّ في قَوْلِهِ تَعالى: {وَداوُدَ وسُلَيْمانَ} أيْ: واذْكُرْ خَبَرَ أيُّوبَ {إذْ نادى رَبَّهُ أنِّي} أيْ: بِأنِّي {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} وقُرِئَ بِالكَسْرِ عَلى إضْمارِ القَوْلِ، أوْ تَضْمِينِ النِّداءِ مَعْناهُ، والضُّرُّ شائِعٌ في كُلِّ ضَرَرٍ، وبِالضَّمِّ خاصٌّ بِما في النَّفْسِ مِن مَرَضٍ وهُزالٍ ونَحْوِهِما.
{وَأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ} وصَفَهُ تَعالى بِغايَةِ الرَّحْمَةِ بَعْدَ ما ذَكَرَ نَفْسَهُ بِما يُوجِبُها واكْتَفى بِهِ عَنْ عَرْضِ المَطْلَبِ لُطْفًا في السُّؤالِ،
قال البيضاوي:
{وَأيُّوبَ إذْ نادى رَبَّهُ أنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} بِأنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ، وقُرِئَ بِالكَسْرِ عَلى إضْمارِ القَوْلِ أوْ تَضْمِينِ النِّداءِ مَعْناهُ والضَّرُّ بِالفَتْحِ شائِعٌ في كُلِّ ضَرَرٍ، وبِالضَّمِّ خاصٌّ بِما في النَّفْسِ كَمَرَضٍ وهُزالٍ. {وَأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ} وصَفَ رَبَّهُ بِغايَةِ الرَّحْمَةِ بَعْدَ ما ذَكَرَ نَفْسَهُ بِما يُوجِبُها واكْتَفى بِذَلِكَ عَنْ عَرْضِ المَطْلُوبِ لُطْفًا في السُّؤالِ
قال السعدي:
فنادى ربه: رب {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} فتوسل إلى الله بالإخبار عن حال نفسه، وأنه بلغ الضر منه كل مبلغ.
وفي الوسيط ونقله عمن سبق من المفسرين:
فأنت ترى أن أيوب – عليه السلام – لم يزد فى تضرعه عن وصف حاله (أَنِّي مَسَّنِيَ الضر) ووصف خالقه – تعالى – بأعظم صفات الرحمة دون أن يقترح شيئا أو يطلب شيئا، وهذا من الأدب السامى الذى سلكه الأنبياء مع خالقهم – عز وجل.