بيان الوسيلة في آيات الله الكريمة:
جمع سيف بن دورة الكعبي
———–
سورة الكهف:
قال تعالى
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) سورة الكهف
تضرعوا لله بربوبيته وسألوا الله التيسير في أمورهم والهداية
قال الطبري:
القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ((10))}
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد لا أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا) حين أوى الفتية أصحاب الكهف إلى كهف الجبل، هربا بدينهم إلى الله، فقالوا إذ أووه: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} رغبة منهم إلى ربهم، في أن يرزقهم من عنده رحمة، وقوله (وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) يقول: وقالوا: يسر لنا بما نبتغي وما نلتمس من رضاك والهرب من الكفر بك، ومن عبادة الأوثان التي يدعونا إليها قومنا، {رَشَدا} يقول: سدادا إلى العمل بالذي تحبّ …..
ثم ذكر اختلاف أهل العلم في سبب مصير هؤلاء الفِتية إلى الكهف الذي ذكره الله في كتابه، فقال بعضهم ….. فذكر الأقوال.
قال ابن القيم:
{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوالا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةلا وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدلاا} [الكهف (10)]
* (فصل)
إذا سلم العبد من فتنة الشبهات والشهوات حصل له أعظم غايتين مطلوبتين، بهما سعادته وفلاحه وكماله. وهما الهدى، والرحمة.
قال تعالى عن موسى وفتاه:
{فَوَجَدا عَبْدًا مِن عِبادنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِن عِنْدِنا وعَلَّمْناهُ مِن لَدُنّا عِلْمًا} [الكهف: (65)].
فجمع له بين الرحمة والعلم، وذلك نظير قول أصحاب الكهف: {رَبَّنا آتِنا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً وهَيِّئْ لَنا مِن أمْرِنا رَشَدًا} [الكهف: (10)].
فإن الرشد هو العلم بما ينفع، والعمل به. والرشد والهدى إذا أفرد كل منها تضمن الآخر، وإذا قرن أحدهما. فالهدى هو العلم بالحق. والرشد هو العمل به وضدهما الغى واتباع الهوى.
وقد يقابل الرشد بالضر والشر. قال تعالى: {قُلْ إنِّي لا أمْلِكُ لَكم ضَرا ولا رَشَدًا} [الجن: (21)].
وقال مؤمنو الجن: {وَأنّا لا نَدْرِي أشَر أُرِيدَ بِمَن في الأرْضِ أمْ أرادَ بِهِمْ رَبُّهم رَشَدًا} [الجن: (10)].
فالرشد يقابل الغي، كما في قوله: {وَإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخذُوهُ سَبِيلًا، وإنْ يَروْا سَبيلَ الغى يَتَّخِذوهُ سَبِيلًا} [الأعراف: (146)].
ويقابل الضر والشر كما تقدم، وذلك لأن الغي سبب حصول الشر والضر ووقوعهما بصاحبه.
فالضر والشر غاية البغي وثمرته، كما أن الرحمة والفلاح غاية الهدى وثمرته.
فلهذا يقابل كل منهما بنقيضه وسبب نقبضه، فيقابل الهدى بالضلال، كقوله: {يُضِلُّ مَن يَشاءُ ويَهْدِي مَن يَشاء} [النحل: (93)] وقوله {إنْ تَحْرصْ عَلى هُداهم فَإنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَن يُضِلُّ} [النحل: (37)] وهو كثير.
ويقابل بالضلال والعذاب. كقوله: {فَمنِ اتَّبَعَ هُداى فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقى} [طه: (123)].
فقابل الهدى بالضلال والشقاء.
وجمع سبحانه بين الهدى والفلاح، والهدى والرحمة، كما يجمع بين الضلال والشقاء والضلال والعذاب: كقوله: {إنّ المُجْرِمِينَ في ضَلاَلٍ وسُعُرٍ} [القمر: (47)].
فالضلال ضد الهدى، والسعر العذاب، وهو ضد الرحمة.
وقال: {وَمَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعيِشَةً ضَنْكًا ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمَي} [طه: (124)].
والمقصود: أن من سلم من فتنة الشبهات والشهوات جمع له بين الهدى والرحمة، والهدى والفلاح.
قال تعالى عن أوليائه: {رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا وهَبْ لَنا مِن لَدُنْكَ رَحْمَة إنّكَ أنت الوَهّابُ} [آل عمران: (8)] ……. وذكر آيات مشابهة لهذا المعنى
قال الشنقيطي:
قَوْلُهُ تَعالى: {إذْ أوى الفِتْيَةُ إلى الكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً وهَيِّئْ لَنا مِن أمْرِنا رَشَدًا}.
ذَكَرَ جَلَّ وعَلا في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ مِن صِفَةِ أصْحابِ الكَهْفِ أنَّهم فِتْيَةٌ، وأنَّهم أوَوْا إلى الكَهْفِ، وأنَّهم دَعَوْا رَبَّهم هَذا الدُّعاءَ العَظِيمَ الشّامِلَ لِكُلِّ خَيْرٍ، وهو قَوْلُهُ عَنْهم: {رَبَّنا آتِنا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً وهَيِّئْ لَنا مِن أمْرِنا رَشَدًا} [الكهف: (10)].
وَبَيِّنَ في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ أشْياءَ أُخْرى مِن صِفاتِهِمْ وأقْوالِهِمْ؛ كَقَوْلِهِ: {إنَّهم فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وزِدْناهم هُدًى} – إلى قَوْلِهِ – {يَنْشُرْ لَكم رَبُّكم مِن رَحْمَتِهِ ويُهَيِّئْ لَكم مِن أمْرِكم مِرفَقًا} [الكهف: (13) – (16)] و إذْ في قَوْلِهِ هُنا: {إذْ أوى الفِتْيَةُ} [الكهف: (10)] مَنصُوبَةٌ بِـ اذْكُرْ مُقَدَّرًا، وقِيلَ: بِقَوْلِهِ: عَجَبًا، ومَعْنى قَوْلِهِ: {إذْ أوى الفِتْيَةُ إلى الكَهْفِ} [الكهف: (10)]، أيْ جَعَلُوا الكَهْفَ مَاوًى لَهم ومَكانَ اعْتِصامٍ.
وَمَعْنى قَوْلِهِ: {آتِنا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً}، أيْ أعْطِنا رَحْمَةً مِن عِنْدِكَ، والرَّحْمَةُ هُنا تَشْمَلُ الرِّزْقَ والهُدى والحِفْظَ مِمّا هَرَبُوا خائِفِينَ مِنهُ مِن أذى قَوْمِهِمْ، والمَغْفِرَةَ.
والفِتْيَةُ: جَمْعُ فَتًى جَمْعُ تَكْسِيرٍ، وهو مِن جُمُوعِ القِلَّةِ، ويَدُلُّ لَفْظُ الفِتْيَةِ عَلى قِلَّتِهِمْ، وأنَّهم شَبابٌ لا شِيبَ، خِلافًا لِما زَعَمَهُ ابْنُ السَّرّاجِ مِن: أنَّ الفِتْيَةَ اسْمُ جَمْعٍ لا جَمْعَ تَكْسِيرٍ، وإلى كَوْنِ … مِثْلِ الفِتْيَةِ جَمْعَ تَكْسِيرٍ مِن جُمُوعِ القِلَّةِ، أشارَ ابْنُ مالِكٍ في الخُلاصَةِ بِقَوْلِهِ:
أفْعِلَةٌ أفْعُلٌ ثُمَّ فِعْلَهْ كَذاكَ أفْعالٌ جُمُوعِ قِلَّةْ
والتَّهْيِئَةُ: التَّقْرِيبُ والتَّيْسِيرُ، أيْ يَسِّرْ لَنا وقَرِّبْ لَنا مِن أمْرِنا رَشَدًا، والرَّشَدُ: الِاهْتِداءُ والدَّيْمُومَةُ عَلَيْهِ. و مِن في قَوْلِهِ: مِن أمْرِنا فِيها وجْهانِ: أحَدُهُما أنَّها هُنا لِلتَّجْرِيدِ، وعَلَيْهِ فالمَعْنى: اجْعَلْ لَنا أمْرَنا رَشَدًا كُلَّهُ، كَما تَقُولُ: لَقِيتُ مِن زَيْدٍ أسَدًا. ومِن عَمْرٍو بَحْرًا.
والثّانِي أنَّها لِلتَّبْعِيضِ، وعَلَيْهِ فالمَعْنى: واجْعَلْ لَنا بَعْضَ أمْرِنا؛ أيْ وهو البَعْضُ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ مِن مُفارَقَةِ الكَفّارِ، رَشَدًا، حَتّى نَكُونَ بِسَبَبِهِ راشِدِينَ مُهْتَدِينَ.
قال ابن عاشور:
والمُرادُ بِالفِتْيَةِ: أصْحابُ الكَهْفِ، وهَذا مِنَ الإظْهارِ في مَقامِ الإضْمارِ؛ لِأنَّ مُقْتَضى الظّاهِرِ أنْ يُقالَ: إذْ أوَوْا، فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ لِما يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الفِتْيَةِ مِن كَوْنِهِمْ أتْرابًا مُتَقارِبِي السِّنِّ، وذَكَرَهم بِهَذا الوَصْفِ لِلْإيماءِ إلى ما فِيهِ مِنِ اكْتِمالِ خَلْقِ الرُّجُولِيَّةِ المُعَبَّرِ عَنْهُ بِالفُتُوَّةِ الجامِعِ لِمَعْنى سَدادِ الرَّايِ، وثَباتِ الجَاشِ، والدِّفاعِ عَنِ الحَقِّ، ولِذَلِكَ عَدَلَ عَنِ الإضْمارِ، فَلَمْ يَقِلْ: إذْ أوَوْا إلى الكَهْفِ.
ودَلَّتِ الفاءُ في جُمْلَةِ فَقالُوا عَلى أنَّهم لَمّا أوَوْا إلى الكَهْفِ، بادَرُوا بِالِابْتِهالِ إلى اللَّهِ.
ودَعَوُا اللَّهَ أنْ يُؤْتِيَهم رَحْمَةً مِن لَدُنْهُ، وذَلِكَ جامِعٌ لِخَيْرِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، أيْ أنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ بِرَحْمَةٍ عَظِيمَةٍ تُناسِبُ عِنايَتَهُ بِاتِّباعِ الدِّينِ الَّذِي أمَرَ بِهِ، فَزِيادَةُ مِن لَدُنْكَ لِلتَّعَلُّقِ بِفِعْلِ الإيتاءِ، تُشِيرُ إلى ذَلِكَ؛ لِأنَّ في (مِن) مَعْنى الِابْتِداءِ وفي (لَدُنْ) مَعْنى العِنْدِيَّةِ والِانْتِسابِ إلَيْهِ، فَذَلِكَ أبْلَغُ مِمّا لَوْ قالُوا: آتِنا رَحْمَةً؛ لِأنَّ الخَلْقَ كُلَّهم بِمَحَلِّ الرَّحْمَةِ مِنَ اللَّهِ، ولَكِنَّهم سَألُوا رَحْمَةً خاصَّةً وافِرَةً في حِينِ تَوَقُّعِ ضِدِّها، وقَصَدُوا الأمْنَ عَلى إيمانِهِمْ مِنَ الفِتْنَةِ، ولِئَلّا يُلاقُوا في اغْتِرابِهِمْ مَشَقَّةً وألَمًا، وأنْ لا يُهِينَهم أعْداءُ الدِّينِ فَيَصِيرُوا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الكافِرِينَ.
ثُمَّ سَألُوا اللَّهَ أنْ يُقَدِّرَ لَهم أحْوالًا تَكُونُ عاقِبَتُها حُصُولَ ما خَوَّلَهم مِنَ الثَّباتِ عَلى الدِّينِ الحَقِّ، والنَّجاةِ مِن مُناوَأةِ
المُشْرِكِينَ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ التَّقْدِيرِ بِالتَّهْيِئَةِ الَّتِي هي إعْدادُ أسْبابِ حُصُولِ الشَّيْءِ.
و (مِن) في قَوْلِهِ {مِن أمْرِنا} ابْتِدائِيَّةٌ.
والأمْرُ هُنا: الشَّانُ والحالُ الَّذِي يَكُونُونَ فِيهِ، وهو مَجْمُوعُ الإيمانِ والِاعْتِصامِ إلى مَحَلِّ العُزْلَةِ عَنْ أهْلِ الشِّرْكِ، وقَدْ أعَدَّ اللَّهُ لَهم مِنَ الأحْوالِ ما بِهِ رُشْدُهم، فَمِن ذَلِكَ صَرْفُ أعْدائِهِمْ عَنْ تَتَبُّعِهِمْ، وأنْ ألْهَمَهم مَوْضِعَ الكَهْفِ، وأنْ كانَ وضْعُهُ عَلى جِهَةٍ صالِحَةٍ بِبَقاءِ أجْسامِهِمْ سَلِيمَةً، وأنْ أنامَهم نَوْمًا طَوِيلًا لِيَمْضِيَ عَلَيْهِمُ الزَّمَنُ الَّذِي تَتَغَيَّرُ فِيهِ أحْوالُ المَدِينَةِ، وحَصَلَ رُشْدُهم إذْ ثَبَتُوا عَلى الدِّينِ الحَقِّ، وشاهَدُوهُ مَنصُورًا مُتَّبَعًا، وجَعَلَهم آيَةً لِلنّاسِ عَلى صِدْقِ الدِّينِ، وعَلى قُدْرَةِ اللَّهِ، وعَلى البَعْثِ.
والرَّشَدُ بِفَتْحَتَيْنِ: الخَيْرُ وإصابَةُ الحَقِّ والنَّفْعُ والصَّلاحُ، وقَدْ تَكَرَّرَ في سُورَةِ الجِنِّ بِاخْتِلافِ هَذِهِ المَعانِي، والرُّشْدُ بِضَمِّ الرّاءِ وسُكُونِ الشِّينِ مُرادِفُ الرَّشَدِ، وغُلِّبَ في حُسْنِ تَدْبِيرِ المالِ، ولَمْ يُقْرَا هَذا اللَّفْظُ هُنا في القِراءاتِ المَشْهُورَةِ إلّا بِفَتْحِ الرّاءِ
قال السعدي:
ثم ذكر قصتهم مجملة، وفصلها بعد ذلك فقال: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ} أي: الشباب، {إِلَى الْكَهْفِ} يريدون بذلك التحصن والتحرز من فتنة قومهم لهم، {فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} أي تثبتنا بها وتحفظنا من الشر، وتوفقنا للخير {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} أي: يسر لنا كل سبب موصل إلى الرشد، وأصلح لنا أمر ديننا ودنيانا، فجمعوا بين السعي والفرار من الفتنة، إلى محل يمكن الاستخفاء فيه، وبين تضرعهم وسؤالهم لله تيسير أمورهم، وعدم اتكالهم على أنفسهم وعلى الخلق، فلذلك استجاب الله دعاءهم
——-