2658 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك محمد البلوشي وعبدالله البلوشي أبوعيسى، وطارق أبو تيسير وعبدالملك وعبدالله المشجري وأحمد بن علي ونزار
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
صحيح مسلم
(6) – بابُ مَعْنى كُلِّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ وحُكْمِ مَوْتِ أطْفالِ الكُفّارِ وأطْفالِ المُسْلِمِينَ
(22) – ((2658)) حَدَّثَنا حاجِبُ بْنُ الوَلِيدِ، حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أنَّهُ كانَ يَقُولُ: قالَ رَسُولُ اللهِ لا: «ما مِن مَوْلُودٍ إلّا يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ، فَأبَواهُ يُهَوِّدانِهِ ويُنَصِّرانِهِ ويُمَجِّسانِهِ، كَما تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيها مِن جَدْعاءَ؟» ثُمَّ يَقُولُ: أبُو هُرَيْرَةَ واقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ: {فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ} [الروم (30)] الآيَةَ.
(22) – حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا عَبْدُ الأعْلى، ح وحَدَّثَنا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أخْبَرَنا عَبْدُ الرَّزّاقِ، كِلاهُما عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذا الإسْنادِ، وقالَ: «كَما تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً» ولَمْ يَذْكُرْ: جَمْعاءَ.
(22) – حَدَّثَنِي أبُو الطّاهِرِ، وأحْمَدُ بْنُ عِيسى، قالا: حَدَّثَنا ابْنُ وهْبٍ، أخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهابٍ، أنَّ أبا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أخْبَرَهُ أنَّ أبا هُرَيْرَةَ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ لا: «ما مِن مَوْلُودٍ إلّا يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ» ثُمَّ يَقُولُ: اقْرَءُوا: {فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ} [الروم (30)].
(23) – ((2658)) حَدَّثَنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنا جَرِيرٌ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أبِي صالِحٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ لا: «ما مِن مَوْلُودٍ إلّا يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ، فَأبَواهُ يُهَوِّدانِهِ ويُنَصِّرانِهِ ويُشَرِّكانِهِ» فَقالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللهِ أرَأيْتَ لَوْ ماتَ قَبْلَ ذَلِكَ؟ قالَ: «اللهُ أعْلَمُ بِما كانُوا عامِلِينَ».
(23) – حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ وأبُو كُرَيْبٍ، قالا: حَدَّثَنا أبُو مُعاوِيَةَ، ح وحَدَّثَنا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنا أبِي، كِلاهُما عَنِ الأعْمَشِ، بِهَذا الإسْنادِ، فِي حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ: «ما مِن مَوْلُودٍ يُولَدُ إلّا وهُوَ عَلى المِلَّةِ» وفِي رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ، عَنْ أبِي مُعاوِيَةَ: «إلّا عَلى هَذِهِ المِلَّةِ، حَتّى يُبَيِّنَ عَنْهُ لِسانُهُ» وفِي رِوايَةِ أبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أبِي مُعاوِيَةَ: «لَيْسَ مِن مَوْلُودٍ يُولَدُ إلّا عَلى هَذِهِ الفِطْرَةِ، حَتّى يُعَبِّرَ عَنْهُ لِسانُهُ».
(24) – ((2658)) حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ رافِعٍ، حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّزّاقِ، حَدَّثَنا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قالَ: هَذا ما حَدَّثَنا أبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ لا – فَذَكَرَ أحادِيثَ مِنها – وقالَ رَسُولُ اللهِ لا: «مَن يُولَدُ يُولَدُ عَلى هَذِهِ الفِطْرَةِ، فَأبَواهُ يُهَوِّدانِهِ ويُنَصِّرانِهِ، كَما تَنْتِجُونَ الإبِلَ، فَهَلْ تَجِدُونَ فِيها جَدْعاءَ، حَتّى تَكُونُوا أنْتُمْ تَجْدَعُونَها» قالُوا: يا رَسُولَ اللهِ أفَرَأيْتَ مَن يَمُوتُ صَغِيرًا؟ قالَ: «اللهُ أعْلَمُ بِما كانُوا عامِلِينَ».
(25) – ((2658)) حَدَّثَنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنا عَبْدُ العَزِيزِ يَعْنِي الدَّراوَرْدِيَّ، عَنِ العَلاءِ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أنَّ رَسُولَ اللهِ لا، قالَ: «كُلُّ إنْسانٍ تَلِدُهُ أُمُّهُ عَلى الفِطْرَةِ، وأبَواهُ بَعْدُ يُهَوِّدانِهِ ويُنَصِّرانِهِ ويُمَجِّسانِهِ، فَإنْ كانا مُسْلِمَيْنِ، فَمُسْلِمٌ كُلُّ إنْسانٍ تَلِدُهُ أُمُّهُ يَلْكُزُهُ الشَّيْطانُ فِي حِضْنَيْهِ إلّا مَرْيَمَ وابْنَها».
(26) – ((2659)) حَدَّثَنا أبُو الطّاهِرِ، أخْبَرَنا ابْنُ وهْبٍ، أخْبَرَنِي ابْنُ أبِي ذِئْبٍ، ويُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهابٍ، عَنْ عَطاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أنَّ رَسُولَ اللهِ لا، سُئِلَ عَنْ أوْلادِ المُشْرِكِينَ فَقالَ: «اللهُ أعْلَمُ بِما كانُوا عامِلِينَ».
(26) – حَدَّثَنا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أخْبَرَنا عَبْدُ الرَّزّاقِ، أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، ح وحَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بِهْرامَ، أخْبَرَنا أبُو اليَمانِ، أخْبَرَنا شُعَيْبٌ، ح وحَدَّثَنا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنا الحَسَنُ بْنُ أعْيَنَ، حَدَّثَنا مَعْقِلٌ وهُوَ ابْنُ عُبَيْدِ اللهِ، كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِإسْنادِ يُونُسَ وابْنِ أبِي ذِئْبٍ، مِثْلَ حَدِيثِهِما، غَيْرَ أنَّ فِي حَدِيثِ شُعَيْبٍ ومَعْقِلٍ: سُئِلَ عَنْ ذَرارِيِّ المُشْرِكِينَ.
(27) – ((2659)) حَدَّثَنا ابْنُ أبِي عُمَرَ، حَدَّثَنا سُفْيانُ، عَنْ أبِي الزِّنادِ، عَنِ الأعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ لا، عَنْ أطْفالِ المُشْرِكِينَ مَن يَمُوتُ مِنهُمْ صَغِيرًا، فَقالَ: «اللهُ أعْلَمُ بِما كانُوا عامِلِينَ».
(28) – ((2660)) وحَدَّثَنا يَحْيى بْنُ يَحْيى، أخْبَرَنا أبُو عَوانَةَ، عَنْ أبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ لا، عَنْ أطْفالِ المُشْرِكِينَ، قالَ: «اللهُ أعْلَمُ بِما كانُوا عامِلِينَ إذْ خَلَقَهُمْ».
(29) – ((2661)) حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمانَ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ رَقَبَةَ بْنِ مَسْقَلَةَ، عَنْ أبِي إسْحاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ لا: «إنَّ الغُلامَ الَّذِي قَتَلَهُ الخَضِرُ طُبِعَ كافِرًا، ولَوْ عاشَ لَأرْهَقَ أبَوَيْهِ طُغْيانًا وكُفْرًا».
(30) – ((2662)) حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنا جَرِيرٌ، عَنِ العَلاءِ بْنِ المُسَيِّبِ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، عَنْ عائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ، قالَتْ: تُوُفِّيَ صَبِيٌّ، فَقُلْتُ: طُوبى لَهُ عُصْفُورٌ مِن عَصافِيرِ الجَنَّةِ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ لا: «أوَ لا تَدْرِينَ أنَّ اللهَ خَلَقَ الجَنَّةَ وخَلَقَ النّارَ، فَخَلَقَ لِهَذِهِ أهْلًا ولِهَذِهِ أهْلًا».
(31) – ((2662)) حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا وكِيعٌ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيى، عَنْ عَمَّتِهِ عائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، عَنْ عائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ، قالَتْ: دُعِيَ رَسُولُ اللهِ لا إلى جَنازَةِ صَبِيٍّ مِنَ الأنْصارِ، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ طُوبى لِهَذا، عُصْفُورٌ مِن عَصافِيرِ الجَنَّةِ لَمْ يَعْمَلِ السُّوءَ ولَمْ يُدْرِكْهُ، قالَ: «أوَ غَيْرَ ذَلِكَ، يا عائِشَةُ إنَّ اللهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أهْلًا، خَلَقَهُمْ لَها وهُمْ فِي أصْلابِ آبائِهِمْ، وخَلَقَ لِلنّارِ أهْلًا، خَلَقَهُمْ لَها وهُمْ فِي أصْلابِ آبائِهِمْ».
(31) – حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبّاحِ، حَدَّثَنا إسْماعِيلُ بْنُ زَكَرِيّاءَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيى، ح وحَدَّثَنِي سُلَيْمانُ بْنُ مَعْبَدٍ، حَدَّثَنا الحُسَيْنُ بْنُ حَفْصٍ، ح وحَدَّثَنِي إسْحاقُ بْنُ مَنصُورٍ، أخْبَرَنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، كِلاهُما عَنْ سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيى بِإسْنادِ وكِيعٍ، نَحْوَ حَدِيثِهِ.
==========
التمهيد:
الفطر: الشق، والجمع منه فُطورٌ، قال تعالى: {فارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرى مِن فُطُورٍ}، وفطر اللَّه العالم: أوجده ابتداء، وفطر الخلق: خلقهم وبدأهم، {إنِّي وجَّهْتُ وجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَواتِ والأرْضَ}، والفطرة: الخلقة التي خُلِقَ عليها كل موجود أول خلقة، والخلقة التي خلق عليها المولود في رحم أمه، والدين، والطبيعة السليمة التي لم تُشَبْ بعيبٍ، [المعجم الوسيط، مادة (فطر)، (2) / (694)، والقاموس المحيط، فصل الفاء، باب الراء، ص (587)، ومختار الصحاح، مادة (فطر)، ص (212)]،
قال الرسول – لا -: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه، أو ينصِّرانه، أو يمجِّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون بها من جَدْعاء»، [يعني: أن البهيمة تلد الولد كامل الخلقة، فلو ترك كذلك كان بريئًا من العيب، لكنهم تصرفوا فيه بقطع أذنه مثلًا، فخرج عن الأصل وهو تشبيه واقع ووجه واضح. انظر: فتح الباري، (3) / (249)]، ثم يقول أبو هريرة – رضي الله عنه -: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}. [كيفية دعوة الملحدين إلى الله تعالى].
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله:
((6)) – بابُ مَعْنى: «كُل مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ»، وحُكْمٍ مَوْتِ أطْفالِ الكُفّارِ، وأطْفالِ المُسْلِمِينَ
قال الإمام مسلم رحمه الله:
[(6732)] ((2658)) – وفي رواية للبخاريّ: «كلُّ مولود يولد على الفطرة».
قال في «الفتح»: قوله: «كل مولود»؛ أي: من بني آدم، وصرَّح به جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، عن أبي هريرة،
والمراد من التركيب أن الكفر ليس من ذات المولود، ومقتضى طبعه، بل إنما حصل بسبب خارجيّ، فإن سَلِم من ذلك السبب، استمرَّ على الحقّ، وهذا يُقَوِّي المذهب الصحيح في تأويل الفطرة، كما سيأتي. انتهى [«الفتح» (4) / (181)، كتاب «الجنائز» رقم ((1385))].
قال الطيبيّ -رحمه الله-: لأن هذا الدِّين حُسنه موجود في النفوس، وإنما يُعدل عنه لآفة من الآفات البشريّة والتقليد، كقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى} [البقرة (16)]. انتهى [«الكاشف عن حقائق السنن» (2) / (545) – (546)].
(عَلى الفِطْرَةِ) بكسر الفاء، وسكون الطاء المهملة، سيأتي الاختلاف في تفسيرها قريبًا -إن شاء الله تعالى-.
(فَأبواهُ)؛ أي: المولود، قال الطيبيّ –: الفاء إما للتعقيب، أو السببية، أو جزاء شرط مقدّر؛ أي: إذا تقرَّر ذلك، فمن تغيَّر كان بسبب أبويه،
إما بتعليمهما إياه، أو بترغيبهما فيه، وكونُهُ تبعًا لهما في الدِّين يقتضي أن يكون
حُكمه حُكمهما، وخُصّ الأبوان بالذِّكر؛ للغالب، فلا حجة فيه لمن حَكَم بإسلام الطفل الذي يموت أبواه كافرين، كما هو قول أحمد، فقد استمرّ عمل الصحابة – رحمهم الله -، ومن بعدهم على عدم التعرّض لأطفال أهل الذمة. [«الفتح (4) / (185)].
(يُهَوِّدانِهِ)؛ أي: يجعلانه يهوديًّا إذا كان يهوديين، (ويُنَصِّرانِهِ)؛ أي: يجعلانه
نصرانيًّا إذا كانا نصرانيين، (ويُمَجِّسانِهِ)؛ أي: يجعلانه مجوسيًّا إذا كان مجوسيين.
قال الحافظ وليّ الدين –رحمه الله-: قوله: «فأبواه يهوّدانه، وينصّرانه» يَحْتَمِل
أن يكون بطريق العقل، والتعليم، والتسبيب، ويحْتَمِل أن يكون بالتبعية حكمًا،
وإن لم يقع ذلك فعلًا، وفيه على الثاني: تبعية الصغير لأبويه الكافرين في حكم
الكفر، وهو كذلك بالإجماع، والواو في قوله: «وينصّرانه» بمعنى «أو»؛ لأن الأبوين لا يفعلان الأمرين معًا، وإنما يفعلان أحدهما. انتهى [» طرح التثريب في شرح التقريب” (7) / (221)].
وفي رواية للبخاريّ: «كمثل البهيمة تُنتج البهيمةَ»؛ أي: تَلِدها، ف «البهيمةَ» الثانيةُ بالنصب على المفعولية.
وقوله: (تُنْتَجُ البَهِيمَةُ) – بضم أوله، وسكون النون، وفتح المثناة، بعدها جيم- قال أهل اللغة: نُتجت الناقة على صيغة ما لم يُسَمَّ فاعله، تُنْتَج، بفتح المثناة، وأنتَجَ الرجلُ ناقته، يُنتِجُها إنتاجًا، قاله في «الفتح» [«الفتح» (4) / (185)].
وقال الفيّوميّ –رحمه الله-: «النِّتاج» بالكسر: اسم يَشمَل وضْع البهائم من
الغنم، وغيرها، وإذا ولي الإنسانُ ناقةً، أو شاة ماخِضًا حتى تضع قيل: نتَجَها
نَتْجًا، من باب ضرب [المصباح المنير» (2) / (591) – (592)]
(بَهِيمَةً جَمْعاء)؛ أي: لم يذهب من بدنها شيء، سُمّيت بذلك؛ لاجتماع سلامة أعضائها، لا جَدْع بها، ولا كيّ. [«الكاشف عن حقائق السنن» (2) / (546)].
والمراد به العلم بالشيء، يريد أنها تُولَد لا جدع فيها وإنما يحصل فيها النقص، والجدع بعد ولادتها، فكذلك يخرج المولود سليمًا من الكفر، وإنما يطرأ له ذلك بعدُ، قاله وليّ الدين –رحمه الله-[«طرح التثريب في شرح التقريب» (7) / (229)].والفتح لابن حجر
(ثُمَّ يَقُولُ أبُو هُرَيْرَةَ) – رحمه الله -، هذا ظاهر في أن تلاوة الآية من أبي هريرة، وليس مرفوعًا، ففي الرواية الآتية إدراجٌ، فليُتنبّه.
والاتيوبي هنا رد على من قال أن الآيات ليس على أنها قرآن لعدم الاستعاذة. قال إنما لم يستعذ لأنها مستحبة. انتهى
ويمكن أن يقال أنه استعاذ ولم يذكر للشهرة أو يقال إذا ذكرت آية في موضع الإستشهاد فلا يستعاذ.
({لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم (30)] أي: فيكم، من قبول الإسلام، وهو مؤوّل بأنه من شأنه، أو الغالب فيه، أنه لا يبدّل، أو يقال: الخبر بمعنى النهي، ولا يجوز أن يكون إخبارًا محضًا، لحصول التبديل.
قال حماد بن سلمة في معنى الحديث: هذا عندنا حيث أخَذ الله العهد في أصلاب آبائهم، فقالوا: بلى، قال الخطابيّ: هذا معنى حسنٌ، وكأنه ذهب إلى أنه لا عبرة بالإيمان الفطريّ في أحكام الدنيا، وإنما يُعتبر الإيمان الشرعيّ المكتسَب بالإرادة، ألا ترى أنه يقول: «فأبواه يهوّدانه» في حكم الدنيا، فهو مع وجود الإيمان الفطريّ فيه محكوم له بحكم أبويه الكافرين.
قال القرطبيّ –رحمه الله-: أقول- والعلم عند الله تعالى-: ويؤيّد هذا وجوه:
أحدها: أن التعريف في قوله – لا -: «يولد على الفطرة» إشارة إلى معهود،
وهو قوله تعالى: {فَأقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها} الآية [الروم (30)] لأن معنى المأمور به بقوله: {فَأقِمْ وجْهَكَ} [الروم (43)]:
اثبُت على العهد القديم المعنيّ في قوله تعالى: {وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأشْهَدَهُمْ عَلى أنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى} [الأعراف (172)].
وثانيها: ما جاء في طرق هذا الرواية: «ما من مولود إلا وهو يولد على
الملّة»، وكذا أورد الترمذيّ هذا الحديث في كتابه بغير لفظة الفطرة، ولفظه:
«كلّ مولود يولد على الملّة»؛ لأن الدِّين في قوله تعالى: {فَأقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} هو عَيْن الملّة؛ لقوله تعالى: {دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا} [الأنعام (161)] وقوله – لا – حكاية عن الله تعالى: «إني خلقت عبادي حنفاء كلّهم وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم … » الحديث، أخرجه مسلم.
وثالثها: التشبيه بالمحسوس المعايَن؛ ليفيد أن ظهوره بلغ في الكشف والبيان مبلغ هذا المحسوس المشاهَد، ثم قيّده بقوله: «هل تحسّونه» تقريرًا لذلك، كما سبق.
وتلخيصه: أن العالَم إما عالم الغيب، وإما عالم الشهادة، فإذا نُزِّل الحديث على عالم الغيب أشكل معناه، وإذا صُرِف إلى عالم الشهادة الذي عليه مبنى ظاهر الشرع، سهل تعاطيه، كما قال الخطّابيّ.
وتحريره: أن الناظر إذا نظر إلى المولود نفسه من غير اعتبار عالم الغيب، وأنه وُلد على الخلقة التي خَلَق الله الناس عليها، من الاستعداد للمعرفة، وقبول الحق، والتأبي عن الباطل، والتمييز بين الخطأ والصواب …..
[فإن قلت]:
أمْر الغلام الذي قتله الخضر ينقض عليك هذا البناء؛ لأنه لم يُلحق بأبويه، بل خيف إلحاقهما به؛ لقول تعالى: {فَخَشِينا أنْ يُرْهِقَهُما طُغْيانًا وكُفْرًا} [الكهف (80)]، ولقوله – لا -:» الغلام الذي قتله الخضر طُبع يوم طُبع كافرًا «، وهو حديث رواه مسلم.
[قلت]:
لا ينقضه، بل يرفعه، ويُشَيِّد بنيانه؛ لأن الخضر؛ نظر إلى عالم الغيب، وقَتل الغلام، وموسى -عليه الصلاة والسلام- اعتبر عالم الشهادة، وظاهر الشرع، فأنكر عليه، ولذلك لمّا اعتَذَر الخضر بالعلم الخفي الغائب، أمسك موسى؛ عن الاعتراض. انتهى كلام الطيبيّ -رحمه الله-[«الكاشف عن حقائق السنن» (2) / (547) – (548)].
وحديث أبي هريرة – رحمه الله – هذا متفقٌ عليه.
فوائد الحديث:
(1) – (منها): بيان إثبات القدر، وأن الله تعالى علم الأشياء قبل وجودها، وقدّرها، وكتبها، ثم إنها توجد على طِبق ذلك.
(2) – (ومنها): أنه استُدِلّ به على أن الولد الصغير يتبع أبويه في الإسلام والكفر، ففي رواية لمسلم: «فإن كانا مسلمين فمسلم»، وقد أجمع المسلمون
على ذلك، وإنما اختلفوا فيما إذا أسلم أحد أبويه، فقال الشافعيّ، وأبو
حنيفة، وأحمد، والجمهور: يتبع أيهما أسلم، سواء كان هو الأب، أو الأم،
وقال مالك: يتبع أباه خاصّه، دون أمه، حتى لو أسلمت أمه، وأبوه كافر
استمرّ على الحكم له بالكفر.
واختلفوا أيضًا فيما إذا سُبِيٍ، وليس معه أحد أبويه، فقال الجمهور أيضًا: يتبع السابي، فإذا كان مسلمًا فهو مسلم، ولو كان أبواه كافرين حيَّين، وقال مالك: هو على حاله من الحكم عليه بالكفر، ولو انفرد عنهما حتى يُسْلم استقلالًا بعد البلوغ، ذكره وليّ الدين -[» طرح التثريب في شرح التقريب” (7) / (223)].
(3) – (ومنها): أن ابن عبد البر: حكى عن طائفة أنه ليس في هذا الحديث ما يقتضي العموم، وأن معناه: أن كل من وُلد على الفطرة، وكان أبواه على غير الإسلام هوّداه، أو نصّراه، أو مجّساه، قالوا: وليس معناه أن جميع المولودين يولدون على الفطرة، بل المعنى: أن المولود على الفطرة بين الأبوين الكافرين يكفِّرانه، وكذا من يولد على الفطرة، وكان أبواه كافرين حُكم له بحكمهما في صِغَره، حتى يبلغ، فيكون له حُكْم نفسه حينئذ، لا حكم أبويه.
واحتَجّ هؤلاء بحديث الغلام الذي قَتَله الخضر، فإنه لم يولد على الفطرة، بل طُبع كافرًا، وحديث أبي سعيد مرفوعًا: «ألا إن بني آدم خُلقوا طبقات شتى، فمنهم من يولد مؤمنًا، ويحيا مؤمنًا، ويموت مؤمنًا، ومنهم من
يولد كافرًا، ويحيا كافرًا، ويموت كافرًا، ومنهم من يولد مؤمنًا، ويحيا مؤمنًا،
ويموت كافرًا، ومنهم من يولد كافرًا، ويحيا كافرًا، ويموت مؤمنًا».
ويردّ هذا التأويل لفظ الرواية الأخرى بلفظ: «ما من مولود يولد إلا على هذه الفطرة» [«طرح التثريب في شرح التقريب» (7) / (223)]، فقد ذكره بأداة الحصر، فأفاد العموم، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
تنبيه قال المقدسي ابن القيسراني: حديث أبي سعيد «ألا إن بني آدم خُلقوا طبقات ….
رَواهُ عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعانَ، عَنْ أبِي نَضْرَةَ، عَنْ أبِي سَعِيدٍ.
وعَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ هَذا مَتْرُوكُ الحَدِيثِ
تذكرة الحفاظ لابن القيسراني =أطراف أحاديث كتاب المجروحين لابن حبان (1) / (148) —
(المسألة الأولى): في اختلاف أهل العلم في معنى «الفطرة» المذكورة في هذا الحديث:
(اعلم): أنه قد اختَلَف السلف في المراد بها على أقوال كثيرة:
[أحدهما]: أن المراد: الخِلقة، فإن الفَطْر بمعنى الخَلْق، والمراد: الخلقة
المعروفة الأُولى المخالفة لخلق البهائم؛ أي: على خلقة يَعرف بها ربه، إذا
بلغ مبلغ المعرفة، ذكره ابن عبد البرّ عن جماعة من أهل الفقه والنظر، قال:
وأنكروا أن يُفْطَر المولود على كفر، أو إيمان، وإنما يعتقد ذلك بعد البلوغ إذا مَيَّز، ولو فُطر في أول أمره على شيء ما انتقل عنه، وقد نجدهم يؤمنون، ثم يكفرون، ومحال أن يعقل الطفل حال ولادته كفرًا أو إيمانًا، والله تعالى يقول:
{واللَّهُ أخْرَجَكُمْ مِن بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل (78)]، فمن لا يعلم
شيئًا استحال منه الكفر والإيمان، قال ابن عبد البرّ: هذا القول أصحّ ما قيل
في ذلك.
[القول الثاني]: أن المراد هنا: الإسلام، حكاه ابن عبد البرّ عن أبي هريرة، والزهريّ، وغيرهما، وقال هؤلاء: هذا هو المعروف عند عامّة السلف، من أهل العلم بالتأويل، فقد أجمعوا في قول الله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها} [الروم (30)] أنها دين الإسلام، واحتجوا بقول أبي هريرة – رضي الله عنه – في هذا الحديث: اقرءوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها}، واحتجوا بقوله في حديث عياض بن حمار – رضي الله عنه-: «إن الله خَلَق آدم وبنيه حنفاء مسلمين»،
ثم ردّه ابن عبد البر بأن الإسلام مستحيل من الطفل، وقرَّر المازري ذلك بأن المراد بالفطرة: ما أُخذ عليهم في صُلب آدم يوم قال: {ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ}، وأن الولادة تقع عليها، حتى يقع التعبير بالأبوين، وقرره أبوالعباس القرطبيّ بأن الله تعالى خلق قلوب بني آدم مُؤَهّلة لقبول الحقّ، كما خَلَق أعينهم، وأسماعهم قابلة للمرئيات، والمسموعات، فما دامت على ذلك القبول، وعلى تلك الأهلية، أدركت الحقّ، ودين الإسلام، وصحح هذا أبوالعباس القرطبيّ بقوله في رواية مسلم: «على هذه الملة»، وهي إشارة إلى ملة الإسلام، قال: وقد جاء ذلك مصرَّحًا به في «صحيح مسلم»: «وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم … » الحديث.
وفي معنى ذلك قول النوويّ: الأصح أن معناه: أن كل مولود يولد متهيأ
للإسلام، فمن كان أبواه، أو أحدهما مسلمًا استَمَرّ على الإسلام في أحكام
الآخرة والدنيا، وإن كان أبواه كافرين جرى عليه حكمهما، فيتبعهما في أحكام الدنيا، وهذا معنى: «يهوّدانه، وينصّرانه»؛ أي: يُحكم له بحكمهما في الدنيا، فإن بلغ استمرّ عليه حُكمُ الكفر، ودينهما، فإن سبقت له سعادة أسلم، وإلا مات على كفره. انتهى [«شرح النوويّ» (16) / (208)].
[القول الثالث]: أن المراد: البداءة التي ابتدأهم عليها؛ أي: على ما فَطر الله عليه خَلْقه، من أنه ابتدأهم للحياة، والموت، والشقاء، والسعادة، قال محمد بن نصر المروزيّ: وهذا المذهب سببه ما حكاه أبو عبيد، عن عبد الله بن المبارك، أنه سئل عن قول النبيّ – لا -: «كل مولود يولد على الفطرة»، فقال: يفسِّره الحديث الآخر حين سئل عن أطفال المشركين، فقال: «الله أعلم بما
كانوا عاملين»، قال: وقد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول، ثم تركه،
وقال ابنه عبد الله ما رسمه مالك في «الموطإ»، وذكره في أبواب القدر فيه من الآثار ما يدلّ على أن مذهبه في ذلك نحو هذا القول.
تنبيه: تراجع الإمام أحمد نقله ابن تيمية:
فنقل ابن تيمية كلام لأحمد حول سبي الأطفال منفردين او مع والديهم … وقال:
ومثل هذا كثير في أجوبته، يحتج بالحديث على أن الطفل إنما يصير كافرًا بأبويه، فإن لم يكن مع أبوين كافرين فهو مسلم، فلو لم تكن الفطرة: الإسلام، لم يكن بعدم أبويه يصير مسلمًا، فإن الحديث إنما دل على أنه يولد على الفطرة.
ونقل عنه الميموني أن الفطرة هي الدين، وهي الفطرة الأولى.
قال الخلال: (أخبرني الميموني أنه قال لأبي عبد الله: كل مولود يولد على الفطرة يدخل عليه إذا كان أبواه، معناه: أن يكون حكمه حكم ما كانوا صغارًا؟ فقال لي: نعم، ولكن يدخل عليك في هذا.
فتناظرنا بما يدخل علي من هذا القول، وبما يكون بقوله.
قلت لأبي عبد الله: فما تقول أنت فيها، وإلى أي شيء تذهب؟ قال: إيش أقول
أنا؟ ما أدري أخبرك هي مسلمة كم ترى، ثم قال لي: والذي يقول: كل مولود يولد على الفطرة ينظر أيضًا إلى الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها.
قلت له: فما الفطرة الأولى: هي الدين؟ قال لي: نعم.
فمن الناس من يحتج بالفطرة الأولى مع قول النبي لا: «كل مولود يولد على الفطرة».
قلت لأبي عبد الله: فما تقول لأعرف قولك؟ قال: أقول: (إنه على الفطرة الأولى).
فجوابه: أنه على الفطرة الأولى، وقوله: إنها الدين – يوافق القول بأنه على دين الإسلام.
وأما جواب أحمد: أنه على ما فطر عليه من شقاوة وسعادة، الذي ذكر محمد بن نصر أنه كان به ثم تركه، فقال الخلال: (أخبرني محمد بن يحيى الكحال، أنه قال لأبي عبد الله: كل مولود يولد على الفطرة، ما تفسيرها؟ قال: هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها، شقي أو سعيد).
درء تعارض العقل والنقل (8) / (395)
[القول الرابع]: أن معناه: أن الله تعالى قد فطرهم على الإنكار، والمعرفة، وعلى الكفر، والإيمان، فأخذ من ذرية آدم – عليه الصلاة والسلام- الميثاق حين خلقهم، فقال: {ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ} قالوا جميعًا: {بَلى}، فأما أهل السعادة، فقالوا: بلى على معرفة له طوعًا من قلوبهم، وأما أهل الشقاوة، فقالوا: بلى
كرهًا، لا طوعًا، قال محمد بن نصر المروزيّ: وسمعت إسحاق بن راهويه
يذهب إلى هذا المعنى، واحتَجّ بقول أبي هريرة – رضي الله عنه-: اقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} قال إسحاق: يقول: لا تبديل لخِلْقته التي جُبل عليها ولدُ آدم كلهم؛ يعني: من الكفر والايمان، والمعرفة والإنكار، قال: واحتَجَّ له بقوله تعالى: {وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية، قال إسحاق: أجمع أهل العلم إنها الأرواح قبل الأجساد، واحتَجَّ لهذا أيضًا بحديث أُبَيّ بن كعب – رضي الله تعالى عنه – في قصة الغلام الذي قَتَله الخضر، وأنه طُبع كافرًا، وبحديث عائشة – رضي الله تعالى عنها -، وقوله – لا – لها: «أوَ لا تدرين أن الله خلق الجنة، وخلق النار، فخلق لهذه أهلًا، ولهذه أهلًا؟» [رواه مسلم.].
قال إسحاق: فهذا الأصل الذي يعتمد عليه أهل العلم، قال ابن عبد البر: إن أراد هؤلاء أن الله خلق الأطفال، وأخرجهم من بطون أمهاتهم ليعرف منهم العارف، ويعترف، فيؤمن، ويُنكر منهم المنكر، فيكفر، كما سبق له القضاء،
وذلك في حين يصح منهم فيه الإيمان والكفر، فذلك ما قلنا، وإن أرادوا أن
الطفل يولد عارفًا مقرًّا مؤمنًا وعارفًا جاحدًا كافرًا في حين ولادته، فهذا يكذبه العيان والعقل، قال: وقول إسحاق في هذا الباب لا يرضاه الحذّاق الفهماء من أهل السُّنَّة، وإنما هو قول المجبرة. انتهى
[القول الخامسٍ]: أن معناه: ما أخذ الله من ذرية آدم من الميثاق قبل أن
يخرجوا إلى الدنيا يوم استخرج ذرية آدم من ظهره، فخاطبهم: {ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى} فأقرُّوا له جميعًا بالربوبية عن معرفة منهم به، ثم أخرجهم من أصلاب آبائهم، مخلوقين، مطبوعين على تلك المعرفة، وذلك الإقرار، قالوا: وليست تلك المعرفة بإيمان، ولا ذلك الإقرار بإيمان، ولكنه إقرار من الطبيعة للرب فطرةٌ ألزمها قلوبهم، ثم أرسل إليهم الرسل، فدعَوْهم إلى الاعتراف له بالربوبية، فمنهم من أنكر بعد المعرفة؛ لأنه لم يكن الله ليدعو خَلْقه إلى الإيمان به، وهو لم يُعرِّفهم نفسه، رواه أبو داود في «سننه» عن حماد بن سلمة أنه سئل عن هذا الحديث فقال: هذا عندنا حيث أخذ الله عليهم العهد في أصلاب آبائهم، حين قال: {ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى}.
[القول السادس]: أن المراد بالفطرة: ما يقلّب الله قلوب الخلق إليه بما يريد، فقد يكفر العبد، ثم يؤمن، فيموت مؤمنًا، وقد يؤمن، ثم يكفر، فيموت كافرًا، وقد يكفر، ثم لا يزال على كفره، حتى يموت عليه، وقد يكون مؤمنًا، حتى يموت على الإيمان، فالفطرة عند هؤلاء ما قدّره الله على عباده من أول أحوالهم إلى آخرها، سواء كانت حالة واحدة لا تنتقل، أو حالًا بعد حال.
قال ابن عبد البرّ: وهذا وإن كان صحيحًا في الأصل، فإنه أضعف الأقاويل من جهة اللغة في معنى الفطرة، حكاها كلها ابن عبد البرّ وغيره.
[القول السابع]: أن المراد بالفطرة: ملّة أبيه؛ أي: دِينه؛ بمعنى: أن له
حُكمه، حكاه القاضي عياض، وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: سألت
محمد بن الحسن عن هذا الحديث، فقال: كان هذا في أول الإسلام قبل أن
تنزل الفرائض، وقبل الأمر بالجهاد، قال أبو عبيد: كأنه يعني: أنه لو كان يولد
على الفطرة، ثم مات قبل أن يهوِّداه أبواه، أو ينصّرانه، لم يرثهما، ولم يرثاه؛
لأنه مسلم، وهما كافران، ولَما جاز أن يُسْبى، فلما فُرضت الفرائض، وتقررت السنن على خلاف ذلك عُلم أنه يولد على دينهما. انتهى.
وهذا يوافق القول الثاني أن المراد بالفطرة: الإسلام لله، وجعله منسوخًا لِما
ذكره، والحقّ أنه لا يحتاج فيه إلى دعوى النسخ؛ لأنه وإن كان معناه الولادة على
الإسلام، فقد أخبر في بقيته أن أبويه يهوّدانه، وينصّرانه؛ أي: يثبت له حكمهما
بطريق التبعية، فالحكم بإسلامه هو الباطن، ويهوديته، أو نصرانيته هو في الظاهر.
وقال ابن عبد البرّ: أظن محمد بن الحسن حاد عن الجواب فيه لإشكاله عليه، أو لجهله به، أو لكراهة الخوض في ذلك، قال: وقوله: إن ذلك كان قبل
الأمر بالجهاد، فليس كما قال؛ لأن في حديث الأسود بن سَرِيع ما يُبيّن أن ذلك
كان بعد الأمر بالجهاد، وهو حديث صحيح، ثم رَوى عن الأسود بن سَرِيع قال: قال رسول الله – لا -: «ما بال قوم بلغوا في القتل حتى قتلوا الولدان؟» فقال
رجل: أوَ ليس أبناؤهم أولاد المشركين؟ فقال رسول الله – لا -: «أوَ ليس خياركم
أولاد المشركين؟ إنه ليس من مولود، إلا وهو يولد على الفطرة، فيعبّر عنه
لسانه، ويهوِّده أبواه، أو ينصّرانه»، ذكر هذا كلّه ولي الدين العراقيّ [«طرح التثريب في شرح التقريب» (7) / (221)].
تأول ابن القيم حديث خياركم أولاد المشركين بأن المقصود به السابقين من المهاجرين والأنصار؛ لم يضرهم أن آباءهم كانوا كفاراً (أحكام أهل الذمة)
وأخرج أحمد (9271) حديث أبي هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ لا يَقُولُ: «عَجِبَ رَبُّنا مِن رِجالٍ يُقادُونَ إلى الجَنَّةِ فِي السَّلاسِلِ»
وصححه محققو المسند ونقلوا عن ابن حبان أنه قال:
والقصد في هذا الخبر السبيُ الذين يسبيهم المسلمون من دار الشرك مُكَتفين بالسلاسل يقادون بها إلى دور الإسلام حتى يسلموا فيدخلوا الجنة، وهذا المعنى أراد لا بقوله في خبر الأسود بن سريع: «أوليس خيارَكم أولادُ المشركين» وهذه اللفظة أطلقت أيضا بحذف «من» عنها
يريد: أوليس من خياركم.
وقال ابن الجوزي: معناه أنهم أسِرُوا وقيدوا، فلما عرفوا صحة الإسلام دخلوا طوعًا فدخلوا الجنة، فكان الإكراه على الأسر والتقييد هو السبب الأول، وكأنه أطلق على الإكراه التسلسل، ولما كان هو السبب في دخول الجنة أقام المسبب مقام السبب. انتهى من تحقيق المسند
أخرجه الخلال وسأل الإمام أحمد عنه: فَقالَ: «إنَّ خِيارَكُمْ أوْلادُ المُشْرِكِينَ، إنَّها لَيْسَتْ نَسَمَةٌ إلّا تُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ، ثُمَّ لا تَزالُ عَلى ذَلِكَ حَتّى يُعْرَبَ عَنْها، فَإمّا يَهُودِيًّا، أوْ نَصْرانِيًّا». سَمِعْتُ أبا عَبْدِ اللَّهِ وسَألْتُهُ عَنْ مَعْنى هَذا الحَدِيثِ، فَقالَ لِي -[(536)]-: نَقُولُ: الفِطْرَةُ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ العِبادَ مِنَ الشَّقاءِ والسَّعادَةِ
قالَ أبُو حاتِمٍ يعني ابن حبان: فِي خَبَرِ الأسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ هَذا: (ما مِن مَوْلُودٍ يُولَدُ إلّا عَلى فِطْرَةِ الإسْلامِ) أرادَ بِهِ: الفِطْرَةَ الَّتِي يَعْتَقِدُها أهْلُ الإسْلامِ الَّتِي ذَكَرْناها قَبْلُ حَيْثُ أخْرَجَ الخَلْقَ مِن صُلْبِ آدَمَ فَإقْرارُ المَرْءِ بِتِلْكَ الفِطْرَةِ مِنَ الإسْلامِ فَنَسْبُ الفِطْرَةُ إلى الإسْلامِ عِنْدَ الِاعْتِقادِ عَلى سَبِيلِ المُجاوَرَةِ
وصرح الحسن بالسماع من الأسود في بعض الأسانيد: لكن بعضهم اعتبر السماع غلط:
فقد قال ابنُ أبي حاتم في المراسيل ص (90) – (40): ثنا محمد بنُ أحمد بن البراء، قال: سئل عليّ بنُ المدينيّ عن حديث الأسود بنِ سريع، فقال: الحسن لم يسمع من الأسود بن سريع، لأن الأسود بن سريع خرج من البصرة أيام عليّ – لا -، ومن الحسن بالمدينة. قلتُ له: قال المبارك -يعني ابن فضالة- في حديث الحسن عن الأسود بن سريع، قال: أتيتُ النبيّ – لا -، فقلتُ:
إني حمدت رب بمحامد: «أخبرني الأسود» فلم يعتمد على المبارك في ذلك. اهـ.
ونقل المزيُّ في تهذيب الكمال (3) / (222) عن أبي عبد الله بن منده، أنه قال: لا يصح سماع الحسن منه. ورأيتُ في معجم الصحابة لابن قانع ج (8) / ق (128) / (1) في ترجمة عتبة بن غزوان، أن ابنَ قانع قال: لم يدرك الحسن – أيضًا – الأسود بن سريع. وساق الحافظُ ابن حجر في التهذيب (1) / (339) بعض الروايات في وفاة الأسود ابن سريع، ثم قال: وكل هذا يدل على أن الحسن وأقرانه لم يلحقوه. اهـ.
وصححه الألباني – «الصحيحة» ((402)). واعتبر أن الإسناد الذي فيه التصريح بالسماع صحيح.
والسخاوي خرج حديث ما من مولود وذكره ايضا من حديث الأسود:
ثم قال: ذكر شيء من فوائد هذا الحديث: قال مسدد: حدثنا حماد عن سعيد بن أبي صدقه قال: قلت لمحمد بن سيرين: هذا الحديث «كل مولود يولد على الفطرة» من قاله؟ قال: قاله من كان يعلمه.
وقال أبو داود عقب تخريجه له: حدثنا الحسن بن علي أخبرنا حجاج بن المنهال سمعت حماد بن سلمة يفسر حديث: “كل مولود يولد
على الفطرة» قال: هذا حديث عندنا حيث أخذ الله عليهم العهد في أصلاب آبائهم حيث قال: (ألست بربكم قالوا بلى) وقال أيضًا: قرئ على الحارث بن مسكين وأنا أسمع أخبرك يوسف بن عمرو أخبرنا ابن وهب سمعت مالكًا وقيل له: إن أهل الأهواء يحتجون علينا بهذا الحديث، قال مالك: أحتج عليهم بآخره، قالوا: أرايت من يموت وهو صغير؟ قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين».
الأجوبة المرضية
قال ابن القيّم في كتابه أحكام أهل الذمة:
[فَصْلٌ تَفْسِيرُ قَوْلِ النَّبِيِّ علبه السلام فَأبَواهُ يُهَوِّدانِهِ ويُنَصِّرانِهِ ويُمَجِّسانِهِ]
(188) – فَصْلٌ
[تَفْسِيرُ قَوْلِ النَّبِيِّ – لا -: ««فَأبَواهُ يُهَوِّدانِهِ، ويُنَصِّرانِهِ، ويُمَجِّسانِهِ»».]
وأمّا تَفْسِيرُهُ قَوْلَ النَّبِيِّ – لا -: ««فَأبَواهُ يُهَوِّدانِهِ، ويُنَصِّرانِهِ، ويُمَجِّسانِهِ»» إنْ أرادَ بِهِ مُجَرَّدَ الإلْحاقِ فِي أحْكامِ الدُّنْيا دُونَ تَغْيِيرِ الفِطْرَةِ، فَهَذا خِلافُ ما دَلَّ عَلَيْهِ الحَدِيثُ: فَإنَّهُ شِبْهُ تَكْفِيرِ الأطْفالِ بِجَدْعِ البَهائِمِ تَشْبِيهًا لِلتَّغْيِيرِ بِالتَّغْيِيرِ.
وأيْضًا، فَإنَّهُ ذَكَرَ هَذا الحَدِيثَ لَمّا قَتَلُوا أوْلادَ المُشْرِكِينَ، ونَهاهُمْ عَنْ قَتْلِهِمْ، وقالَ: ««ألَيْسَ خِيارُكُمْ أوْلادَ المُشْرِكِينَ؟ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ»»، فَلَوْ أرادَ أنَّهُ تابِعٌ لِأبَوَيْهِ فِي الدُّنْيا لَكانَ هَذا حُجَّةً لَهُمْ، يَقُولُونَ:
هُمْ كُفّارٌ كَآبائِهِمْ، فَنَقْتُلُهُمْ مَعَهُمْ، وكَوْنُ الصَّغِيرِ يَتْبَعُ أباهُ فِي أحْكامِ الدُّنْيا هُوَ لِضَرُورَةِ حَياتِهِ فِي الدُّنْيا، فَإنَّهُ لا بُدَّ لَهُ مِن مُرَبٍّ يُرَبِّيهِ، وإنَّما يُرَبِّيهِ أبَواهُ، فَكانَ تابِعًا لَهُما ضَرُورَةً، ولِهَذا إذا سُبِيَ مُنْفَرِدًا عَنْهُما صارَ تابِعًا لَهُما عِنْدَ جُمْهُورِ العُلَماءِ، وإنْ سُبِيَ مَعَهُما، أوْ مَعَ أحَدِهِما، أوْ ماتا، أوْ أحَدُهُما، فَفِيهِ نِزاعٌ ذَكَرْناهُ فِيما مَضى.
واحْتَجَّ الفُقَهاءُ والأئِمَّةُ بِهَذا الحَدِيثِ، ووَجْهُ الحُجَّةِ مِنهُ أنَّهُ إذا وُلِدَ عَلى المِلَّةِ فَإنَّما يَنْقُلُهُ عَنْها الأبَوانِ اللَّذانِ يُغَيِّرانِهِ عَنِ الفِطْرَةِ، فَمَتى سَباهُ المُسْلِمُونَ مُنْفَرِدًا عَنْهُما لَمْ يَكُنْ هُناكَ مَن يُغَيِّرُ دِينَهُ، وهُوَ مَوْلُودٌ عَلى المِلَّةِ الحَنِيفِيَّةِ، فَيَصِيرُ مُسْلِمًا بِالمُقْتَضى السّالِمِ عَنِ المُعارِضِ، ولَوْ كانَ الأبَوانِ يَجْعَلانِهِ كافِرًا فِي نَفْسِ الأمْرِ بِدُونِ تَعْلِيمٍ، وتَلْقِينٍ لَكانَ الصَّبِيُّ المَسْبِيُّ بِمَنزِلَةِ البالِغِ الكافِرِ، ومَعْلُومٌ أنَّ الكافِرَ البالِغَ إذا سَباهُ المُسْلِمُونَ لَمْ يَصِرْ مُسْلِمًا؛ لِأنَّهُ صارَ كافِرًا حَقِيقَةً، فَلَوْ كانَ الصَّبِيُّ التّابِعُ لِأبَوَيْهِ كافِرًا حَقِيقَةً لَمْ يَنْتَقِلْ عَنِ الكُفْرِ بِالسِّباءِ، فَعُلِمَ أنَّهُ كانَ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الكُفْرِ فِي الدُّنْيا تَبَعًا لِأبَوَيْهِ، لا لِأنَّهُ صارَ كافِرًا فِي نَفْسِ الأمْرِ …… ومَنشَأُ الِاشْتِباهِ فِي هَذِهِ المَسْألَةِ اشْتِباهُ أحْكامِ الكُفْرِ فِي الدُّنْيا بِأحْكامِ الكُفْرِ فِي الآخِرَةِ: فَإنَّ أوْلادَ الكُفّارِ لَمّا كانَتْ تَجْرِي عَلَيْهِمْ أحْكامُ الكُفْرِ فِي أُمُورِ الدُّنْيا مِثْلُ ثُبُوتِ الوِلايَةِ عَلَيْهِمْ لِآبائِهِمْ، وحَضانَةِ آبائِهِمْ لَهُمْ، وتَمْكِينِ آبائِهِمْ مِن تَعْلِيمِهِمْ، وتَادِيبِهِمْ، والمُوارَثِةِ بَيْنَهُمْ، وبَيْنَ آبائِهِمْ، واسْتِرْقاقِهِمْ إذا كانَ آباؤُهُمْ مُحارِبِينَ، وغَيْرِ ذَلِكَ، صارَ يَظُنُّ مَن يَظُنُّ أنَّهُمْ كُفّارٌ فِي نَفْسِ الأمْرِ كالَّذِي تَكَلَّمَ بِالكُفْرِ، وأرادَهُ، وعَمِلَ بِهِ.
ومِن هُنا قالَ مَن قالَ: إنَّ هَذا الحَدِيثَ كانَ قَبْلَ أنْ تَنْزِلَ الأحْكامُ كَما قالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ، وقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ هَذا القَوْلَ غَيْرُ واحِدٍ مِنَ الأئِمَّةِ ….. إلى آخر كلامه رحمه الله
قال الأتيوبي عفا الله عنه: عندي أرجح الأقوال هو القول الثاني، وهو أن
المراد بالفطرة هو الإسلام، وقد تقدّم أنه هو المعروف عند عامّة السلف،
وصححه النووي، والقرطبيّ، قال النوويّ –رحمه الله-: والأصح أن معنى قوله: «يولد على الفطرة» أن كل مولود يولد متهيئًا للإسلام، فمن كان أبواه، أو أحدهما
مسلمًا استمرّ على الإسلام في أحكام الآخرة والدنيا، وإن كان أبواه كافرين
جرى عليه حكمهما في أحكام الدنيا، وهذا معنى: «يهوِّدانه، وينصِّرانه، ويمجِّسانه»؛ أي: يُحكم له بحكمهما في الدنيا، فإن بلغ استمرّ عليه حُكْمُ
الكفر ودِينهما، فإن كانت سبقت له سعادة أسلم، وإلا مات على كفره، وإن
مات قبل بلوغه فالأصح أنه من أهل الجنة.
والجواب عن حديث: «الله أعلم بما كانوا عاملين» أنه ليس فيه تصريح بأنهم في النار، وحقيقة لفظه: «الله أعلم بما كانوا يعملون» لو بلغوا، ولم يبلغوا؛ إذ التكليف لا يكون إلا بالبلوغ.
وأما غلام الخضر، فيجب تأويله قطعًا؛ لأن أبويه كانا مؤمنين، فيكون هو مسلمًا، فيُتأوّل على أن معناه: أن الله أعلمُ أنه لو بلغ لكان كافرًا، لا أنه كافر في الحال، ولا يجري عليه في الحال أحكام الكفار، والله أعلم. انتهى.
او أنه كان قد بلغ سن التكليف
والحاصل: أن أرجح الأقوال هو القول بأن الفطرة هي الإسلام، ويقوّي ذلك رواية مسلم بعد هذا بلفظ: «ما من مولود يولد إلا وهو على هذه الملّة»،
فإنه صريح في كون معنى الفطرة هو الإسلام، ويقوّيه أيضًا ما سيأتي لمسلم في
«كتاب صفة الجنّة» من حديث عياض بن حمار – رضي اللَّه عنه – الطويل، وفيه: «وإني
خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم المشياطين، فاجتالتهم عن دينهم … » الحديث، فهو أيضًا صريح في أنهم فُطروا على هذه الملّة، وهي الإسلام،
فتأمَّله بالإمعان، والله تعالى وليّ التوفيق.
وفي فتاوى اللجنة الدائمة ذكروا عدم التعارض بين حديث «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه» الحديث، وحديث: «يكتب رزقه وعمله وشقي أو سعيد
قالوا في الجواب:
اولا: معنى الحديث الأول أن الإنسان مفطور على الإسلام بالقوة لكن لا بد من تعلمه بالفعل، فمن قدر الله كونه من أهل السعادة فيهيئ الله له من يعلمه سبيل الهدى فصار مهيئا بالفعل، ومن خذله وأشقاه سبب له من يغير فطرته ويثني عزيمته كما جاء في تحويل الأبوين لابنهما إلى اليهودية أو النصرانية أو المجوسية ..
ثانيا: معنى كتابة الشقاوة والسعادة أنها كتابة أزلية باعتبار ما سبق في علم الله وأن الخواتيم تكون بحسب ما سبق في علم الله.
ثالثا: بتأمل معنى الحديث الأول والحديث الثاني بالنظر لمحل السؤال يتبين أنه لا معارضة بينهما، فإن الإنسان مفطور على الخير بالقوة فإن كان من أهل السعادة في علم الله ويحسب الخاتمة هيأ الله له من يدله على طريق الخير، وإن كان من أهل الشقاوة في علم الله قيض له من يصرفه عن طريق الخير ويصاحبه في طريق الشر ويحثه عليه ويلازمه حتى يختم له بخاتمة سيئة. وقد تكاثرت النصوص بذكر الكتاب السابق بالسعادة والشقاوة، ففي الصحيحين عن علي لا، عن النبي لا أنه قال: «ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة، فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: الآيتين»، وفي هذا الحديث أن السعادة والشقاوة قد سبق الكتاب بهما، وأن ذلك مقدر بحسب الأعمال، وأن كلا ميسر لما خلق له من الأعمال التي هي سبب السعادة والشقاوة. انتهى من فتاوى اللجنة
وفي فتاوي لجان أخرى:
فقد دل هذا الحديث على أن الأصل في كل مولود أنه يولد مسلمًا، وأن التهود أو التنصر أو التمجس أمر طارئ على أصل الفطرة، قال ابن حجر في فتح الباري: الكفر ليس من ذات المولود ومقتضى طبعه بل إنما حصل بسبب خارجي، فإن سلم من ذلك السبب استمر على الحق. انتهى
ولهذا فإن النبي لا قال: فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه … .. ولم يقل: «أو يسلمانه» لأنه يولد مسلمًا، ويؤيد ذلك ما في رواية مسلم قال: وفي رواية أبي كريب عن أبي معاوية: ليس من مولود يولد إلا على الفطرة، حتى يعبر عنه لسانه.
وفي رواية أخرى له من حديث ابن نمير: ما من مولود يولد إلا وهو على الملة.
قال النووي: والأصح أن معناه: أن كل مولود يولد متهيئًا للإسلام، فمن كان أبواه أو أحدهما مسلمًا استمر على الإسلام في أحكام الآخرة والدنيا، وإن كان أبواه كافرين جرى عليه حكمهما في أحكام الدنيا. انتهى
ونقل ابن حجر عن الطيبي قال: والمراد تمكُّن الناس من الهدى في أصل الجبلة والتهيؤ لقبول الدين، فلو ترك المرء عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها، لأن حسن هذا الدين ثابت في النفوس، وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية كالتقليد. انتهى
ومن هذا يتبين أن الذي يولد لأبوين مسلمين فليس مقلدًا لهما بل هو باق على أصل فطرته، وإنما يحصل التقليد ممن يتهود أو يتنصر أو يتمجس وغير ذلك من الملل.
(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم في حكم الأطفال، هل هم من أهل الجنّة، أم من أهل النار؟
(اعلم): أن هذا الخلاف مخصوص بأطفال المشركين، وأما أولاد المسلمين، فلا خلاف في كونهم من أهل الجنّة، كما حكاه القاضي أبو يعلى الفرّاء الحنبليّ عن الإمام أحمد -رحمه الله – أنه قال: لا يُختلف فيهم أنهم من أهل الجنّة، وهذا هو المشهور بين الناس، وأما ما نُقل عن بعضهم أنهم توقّفوا، وقالوا: إن الوِلدان كلهم تحت المشيئة، فغريب جدًّا، كما نبّه عليه الحافظ ابن كثير في «تفسيره» [راجع: «تفسير سورة الإسراء» لابن كثير (3) / (35)]، فتنبّه.
إذا عرفت هذا فاعلم أنه قد اختلف العلماء قديمًا وحديثًا في هذه المسألة على أقوال:
[أحدها]: أنهم في مشيئة الله تعالى، وهو منقول عن الحمّادَين، وابن
المبارك، وإسحاق، ونقله البيهقيّ في «الاعتقاد» عن الشافعيّ في حقّ أولاد
الكفار خاصّة، قال ابن عبد البرّ: وهو مقتضى صنيع مالك، وليس عنده في
هذه المسألة شيء منصوص، إلا أن أصحابه صرّحوا بأن أطفال المسلمين في
الجنة، وأطفال الكفار خاصّة في المشيئة، والحجة فيه حديث: «الله أعلم بما
كانوا عاملين».
قال ابن القيّم –رحمه الله-: قالوا: وقد رَوى ابن حبان في «صحيحه» من حديث
جرير بن حازم قال: سمعت أبا رجاء العُطارديّ قال: سمعت ابن عباس يقول،
وهو على المنبر: قال رسول الله – لا -: «لا يزال أمر هذه الأمة قَوّامًا، أو مقاربًا
ما لم يتكلموا في الوِلدان، والقَدَر».
قال أبو حاتم: الوِلدان أراد بهم أطفال المشركين، قال ابن القيّم: وفيما
استدلّت به هذه الطائفة نظر، والنبيّ – لا – لم يجب فيهم بالوقف، وإنما وكَلَ
عِلم ما كانوا يعملونه لو عاشوا إلى الله، وهذا جواب عن سؤالهم: كيف يكونون مع آبائهم بغير عمل؟ وهو طرف من الحديث، ويدل عليه حديث عائشة – رضي الله عنها – الذي ذكره أبو داود [قال الأتيوبي معلقا: “أراد: ما أخرجه أبو داود في «سننه» (4) / (229): عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله ذراري المؤمنين؟ فقال: «هم من آبائهم»، فقلت: يا رسول الله بلا عمل؟ قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين»، قلت: يا رسول الله فذراري المشركين؟
قال: «من آبائهم»، قلت: بلا عمل؟ قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» ” انتهى]، والنبيّ – لا – وكَل العلم بعملهم إلى الله، ولم يقل: الله أعلم حيث يستقرون، أو أين يكونون، فالدليل غير مطابق لمذهب هذه الطائفة.
وأما حديث أبي رجاء عن ابن عباس في المنع من الكلام فيهم، ففي القلب مِن رَفْعه شيء [صححه الشيخ الألبانيّ -. راجع: «الصحيحة» (4) / (19)].
وبالجملة فإنما يدلّ على ذمّ من تكلم فيهم بغير علم، أو ضَرَب الأحاديث فيهم بعضها ببعض، كما فعل مع الذين أنكر عليهم كلامهم في القدر، وأما من تكلم فيهم بعلم وحقّ فلا يُذمّ. انتهى [«حاشية ابن القيم على سنن أبي داود» (12) / (321)].
و قال ابن القيّم أيضا: «وأمّا حديث أبي رجاءٍ العطاردي، عن ابن عباس: ففي رَفْعِهِ نَظَرٌ، والنّاس إنما رووه موقوفًا عليه، وهو الأشبهُ، وابن حِبّان كثيرًا ما يرفعُ في كتابه ما يَعْلَمُ أئمة الحديث أنه موقوف» أحكام أهل الذمة 2/ 622
وقال في موضع آخر: «في القلب من رَفْعِهِ شيءٌ، وإن أخْرَجَهُ ابن حبان في (صحيحه)، وهو يدلُّ على ذَمِّ من تَكَلَّمَ فيهم بغير علم، أو ضَرَبَ النُّصوصَ بعضها ببعض فيهم … وأما من تَكَلَّمَ فيهم بعلمٍ وحقٍّ: فلا» طريق الهجرتين ص (674)
وذكره الشيخ مقبل في أحاديث معلة:
هذا الحديث صحيح رجاله رجال الصحيح، إلا يزيد بن صالح اليشكري، وقد قال ابن أبي حاتم عن أبيه: إنه مجهول. فتعقبه الذهبي في «الميزان» فقال: كان ورعا مجتهدا كبير القدر، قال الحسن بن سفيان فاتني لأجل أمي يحيى بن يحيى فعوضني الله بأبي خالد الفراء قال أبو حاتم الرازي مجهول
قلت: وثقه غيره. اهـ
وهو مقرون بمحمد بن أبن أبان الواسطي، وقد وثقه مسلمة كما في «تهذيب التهذيب»، وقد قيل فيه إنه من شيوخ البخاري.
وأما الحسن بن سفيان وإن كان أنزل من رجال الصحيح طبقة فإنه إمام عظيم الشأن.
هذا ما قررته على ظاهر السند ثم رأيت في «كشف الأستار» (ج (3) ص (36)) قال البزار قد رواه جماعة فوقفوه على ابن عباس. اهـ.
[ثانيها]: أنهم تَبَع لآبائهم، فأولاد المسلمين في الجنة، وأولاد الكفار
في النار، وحكاه ابن حزم عن الأزارقة، من الخوارج، واحتجوا بقوله تعالى:
{رَبِّ لا تَذَرْ عَلى الأرْضِ مِنَ الكافِرِينَ دَيّارًا} [نوح (26)]، وتعقبه بأن المراد: قوم نوح خاصّة، وإنما دعا بذلك لَمّا أوحى الله إليه {أنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إلّا مَن قَدْ آمَنَ} [هود (36)]،
فلا يلدوا إلا فاجرا كفارا … هو معنى حديث فأبواه يهوّدانه ….
وأما حديث: «هم من آبائهم- أو منهم»، فذاك ورد في
حكم الحربيّ.
ورَوى أحمد من حديث عائشة – رضي الله عنها -: سألت رسول الله – لا – عن وِلدان
المسلمين؟، قال: «في الجنة»، وعن أولاد المشركين؟ قال: «في النار»،
فقلت: يا رسول الله لم يُدرِكوا الأعمال، قال: «ربك أعلم بما كانوا عاملين،
لو شئتِ أسمعتك تضاغيهم [أي: صياحهم] في النار»، وهو حديث ضعيف جدًّا؛ لأن في إسناده أبا عَقِيل مولى بُهَيَّة، وهو متروك.
وقال ابن القيّم: وهذا القول مذهب طائفة، وحكاه القاضي أبو يعلى روايةً عن أحمد، قال شيخنا- يعني: ابن تيميّة –رحمه الله- وهو غلط منه على
أحمد، وسبب غلطه أن أحمد سئل عنهم، فقال: هم على الحديث، قال القاضي: أراد حديث خديجة، إذ سألت النبيّ – لا – عن أولادها الذين ماتوا قبل الإسلام، فقال: «إن شئت أسمعتُك تضاغيهم في النار».
قال شيخنا: وهذا حديث موضوع، وأحمد أجلّ من أن يَحتج بمثله، وإنما أراد حديث عائشة: «الله أعلم بما كانوا عاملين».
[ثالثها]: أنهم يكونون في برزخ بين الجنة والنار؛ لأنهم لم يعملوا حسنات يدخلون بها الجنة، ولا سيئات يدخلون بها النار.
قال ابن القيّم: وهذا أيضًا ليس بشيء، فإنه لا دار للقرار إلا الجنة والنار، وأما الأعراف، فإن مآل أصحابها إلى الجنة، كما قاله الصحابة – رضي الله عنهم -.
[رابعها]: خَدَم أهل الجنة، وفيه حديث عن أنس، ضعيف، أخرجه أبو داود الطيالسيّ، وأبو يعلى، وللطبرانيّ، والبزار، من حديث سمرة مرفوعًا: «أولاد المشركين خَدَم أهل الجنة»، وإسناده ضعيف.
[خامسها]: أنهم يصيرون ترابًا، رُوي عن ثمامة بن أشرس.
[سادسها]: هم في النار، حكاه عياض عن أحمد، وغلّطه ابن تيمية، بأنه قول لبعض أصحابه، ولا يُحفظ عن الإمام أصلًا.
[سابعها]: أنهم يُمتحنون في الآخرة، بأن تُرفع لهم نار، فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن أبى عُذّب، أخرجه البزار، من حديث أنس،
وأبي سعيد، وأخرجه الطبرانيّ من حديث معاذ بن جبل، وقد صحت مسألة
الامتحان في حقّ المجنون، ومن مات في الفترة، من طرق صحيحة، وحَكى
البيهقيّ في «كتاب الاعتقاد» أنه المذهب الصحيح، ومال إليه ابن القيّم، قال:
وهذا أعدل الأقوال، وبه يُجمع بين شمل الأدلّة، وتتّفق الأحاديث في هذا الباب.
قال الأتيوبي عفا الله عنه: لو صحّت أحاديث امتحان الأطفال لكان هذا المذهب أعدل المذاهب، وأرجحها، كما قال ابن القيّم، لكنها غير ثابتة، فقد أخرجها أبو يعلى الموصليّ من حديث أنس – رضي الله عنه-، وفي سنده ليث بن أبي سُليم، وهو متروك، وأخرجها الذهليّ، والبزّار من حديث أبي سعيد الخدريّ – رضي الله عنه-، وفي سندها عطيّة العوفيّ، وهو ضعيف جدًّا، ورُوي من حديث معاذ بن جبل – رضي الله عنه، وفي سنده عمرو بن واقد الدمشقيّ، وهو متروك.
والحاصل: أن أحاديث امتحان الأطفال غير ثابتة، وإنما يصحّ حديث امتحان الأصمّ، والأحمق، والهَرِم، وأهل الفترة، فقد أخرجه أحمد من حديث الأسود بن سَرِيع – رضي الله عنه-، فقال في «مسنده»:
((16344)) – حدّثنا عليّ بن عبد الله، حدّثنا معاذ بن هشام، حدّثنا أبي،
عن قتادة، عن الأحنف بن قيس، عن الأسود بن سَرِيع، أن رسول الله – لا –
قال: «أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصمّ، لا يسمع شيئًا، ورجل أحمق،
ورجل هَرِم، ورجل مات في فترة، فأما الأصمّ، فيقول: رب قد جاء الإسلام،
وما أسمع شيئًا، وأما الأحمق، فيقول: رب قد جاء الإسلام، والصبيان
يحذفوني بالبعر، وأما الهرِم، فيقول: رب لقد جاء الإسلام، وما أعقل شيئًا،
وأما الذي مات في الفترة، فيقول؛ رب ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم
لَيُطيعنّه، فيرسِل إليهم أن ادخلوا النار، فو الذي نفس محمد بيده، لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا».
ثم ساق بالإسناد المذكور عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة مثله، غير أنه قال في آخره: «فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلاما، ومن لم يدخلها يُسحب إليها». انتهى [«مسند الإمام أحمد بن حنبل» (4) / (24)].
وهذا إسناد صحيح، فظهر بهذا أن حديث الامتحان بالنسبة للأصمّ، ومن
ذُكر معه صحيح، لا حديث امتحان الأطفال، فترجيح القول بالامتحان في
حقّهم به غير صحيح؛ لأن طُرقه كلها واهية، فلا يمكن تصحيحها بتعدّد
طرقها، فتنبّه، وتأمّل بالإمعان، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: تُعُقّب القول بالامتحان المذكور بأن الآخرة ليست دار تكليف،
فلا عمل فيها، ولا ابتلاء.
وأجيب بأن ذلك بعد أن يقع الاستقرار في الجنة، أو النار، وأما في عرصات القيامة فلا مانع من ذلك، وقد قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ ويُدْعَوْنَ إلى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ ((42))} [القلم (42)] وفي «الصحيحين»: «إن الناس يؤمَرون
بالسجود، فيصير ظَهْر المنافق طبقًا، فلا يستطيع أن يسجد».
[ثامنها]: أنهم في الجنة، قال النوويّ –: وهو المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون؛ لقوله تعالى: {وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء (15)]، وإذا كان لا يعذِّب العاقل؛ لكونه لم تبلغه الدعوة، فلأن لا يعذِّب غير العاقل من بابِ أولى، ولحديث سمرة الطويل، وفيه: «والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم — ، والصبيان حوله، فأولاد الناس … »، ولحديث عمة خنساء قالت: قلت: يا رسول الله، مَن في الجنة؟ قال: «النبيّ في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة»، رواه أحمد، وإسناده حسن.
[تاسعها]: الوقف.
[عاشرها]: الإمساك، قال الحافظ -: وفي الفرق بينهما دقة. انتهى [«الفتح» (4) / (178) – (179)، كتاب «الجنائز» رقم ((1384))].
قال الأتيوبي رحمه الله: أرجح الأقوال عندي هو قول من قال: إنهم في
الجنّة، كما هو ظاهر مذهب البخاريّ -، وذكر النوويّ: أنه المذهب
الصحيح المختار الذي صار إليه المحقّقون للآية المذكورة: {وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء (15)].
فإن قال قائل: إنها في عذاب الدنيا. قلنا: اللفظ عامّ، فلا ينفي دخول
عذاب الآخرة.
ومِن أصرح الأدلّة: حديث سمرة بن جندب – في «صحيح البخاريّ»
أنه – لا – قال في جملة ذلك المنام حين مرّ على ذلك الشيخ تحت الشجرة،
وحوله وِلدان، فقال له جبريل: هذا إبراهيم، وهؤلاء أولاد المسلمين،
وأولاد المشركين، قالوا: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ قال: «نعم، وأولاد المشركين»، وهذا أوضح دليل، وأبْيَن حجة في المسألة.
وقد مال الإمام البخاريّ — إلى ترجيح هذا القول، فقال في «صحيحه»: «باب ما قيل في أولاد المشركين»، قال في «الفتح»: هذه الترجمة تُشعر بأنه كان متوقفًا في ذلك، وقد جزم بعد هذا في «تفسير سورة الروم» بما يدلّ على اختيار القول الصائر إلى أنهم في الجنة، كما سيأتي تحريره، وقد رَتَّب أيضًا أحاديث هذا الباب ترتيبًا يشير إلى المذهب المختار، فإنه صدّره بالحديث الدالّ على التوقف- وهو حديث: «الله أعلم بما كانوا عاملين» -، ثم ثنى بالحديث المرجِّح لكونهم في الجنة -وهو حديث الفطرة-، ثم ثلّث بالحديث المصرِّح بذلك -وهو حديث قصّة الرؤيا- فإن قوله في سياقه: «وأما الصبيان حوله، فأولاد الناس» قد أخرجه في «التعبير» بلفظ: «وأما الولدان الذين حوله، فكل مولود يولد على الفطرة»، فقال بعض المسلمين: وأولاد المشركين؟ فقال: «وأولاد المشركين»، ويؤيده ما رواه أبو يعلى من حديث أنس مرفوعًا: «سألت ربي اللّاهين من ذرية البشر، أن لا يعذبهم، فأعطانيهم»،
إسناده حسن، وورد تفسير اللاهين بأنهم الأطفال من حديث ابن عباس مرفوعًا، أخرجه البزار، وروى أحمد من طريق خنساء بنت معاوية بن صُريم عن عمتها، قالت: قلت: يا رسول الله، مَن في الجنة؟ قال: «النبيّ في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة»، إسناده حسن. انتهى.
والحاصل: أن المذهب الراجح في الأطفال، سواء كانوا للمسلمين -وهذا بلا خلاف- أو للمشركين، فإنهم في الجنة؛ لوضوح أدلّته، وقوّة حجته، والله تعالى أعلم.
——
وكنا نقلنا في شرحنا لصحيح البخاري المسمى رياح المسك مبحث يعتبر أوسع مبحث وأدقه في مسألة حكم أولاد المشركين خلص الباحث أنهم في الجنة:
و أشير قبل أن انقله إلى أن البيهقي يرجح أن أطفال المشركين يرجعون لحديث: الله أعلم بما كانوا عاملين.
ويحمل حديث النبي والشهيد والمولود في الجنة. إن صح إلى أنه في علم الله من أهل الجنة.
وكذلك حديث الذين يمتحنون ومنهم الصغير فمن دخل الجنة فهو في علم الله في الجنة ومن دخل النار فهو في علم الله في النار
وحديث أن أولاد المشركين في كفالة إبراهيم يرى البيهقي أن هذه الزيادة في إسنادها نظر مع أن البخاري أخرجها
أو يحمله أن هؤلاء من سبق في علم الله أنه في الجنة. انتهى ملخصا من كتاب القضاء والقدر للبيهقي
تنبيه: مسلم أخرج حديث أن أولاد الناس في كفالة إبراهيم ومنهم أولاد المشركين
لكن اجتزأ على أوله كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه فقال: من رأى منكم الليلة رؤيا. فهل يقصد تعليل بقية المتن أم اجتزأ بما احتاجه.
وإليكم البحث وهو بحث طويل أخذنا منه مبحث مناقشة الأدلة والترجيح:
—–
-مسألة الأطفال والأحاديث الواردة فيها وما تحتج به كل فريق، مع مناقشة أدلة أشهر الأقوال في المسألة مع الترجيح:
مناقشة الأقوال والمذاهب في المسألة:
لقد اختلف العلماء في هذه المسألة اختلافا شديدا، وتباينت آراؤهم بسبب ما ورد من الأحاديث التي ظاهرها الاختلاف، والآن نأتي لمناقشة ما استدل به كل فريق، فنقول:
أولا: مناقشة القول بأنهم في الجنة
وهو اختيار غير واحد من أهل العلم كالبخاري والقرطبي والنووي و السبكي وابن حزم وابن الجوزي وغيرهم، وهو أيضا مذهب الجمهور على قول ابن حزم.
استدل من قال بذلك بأدلة من الكتاب والسنة العامة، كما استدلوا بأدلة خاصة من السنة تقدم ذكرها، وقد نوقشت من وجهين:
الوجه الأول: معارضتها بنصوص الوقف
عن القطع للأطفال بجنة أو نار إما على عموم الأطفال أو على خصوص أطفال المشركين صحيحة المخارج، وتدل على أنهم يصيرون إلى علم الله فيهم، وليس لأحد أن يعرف علم الله فيهم، فيجب التوقف عن الجزم مع تعارض النصوص.
وأجيب عنه: بأن نصوص التوقف ليست صريحة في تعذيب الأطفال لا على العموم ولا على الخصوص، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يجب بالتوقف، وإنما ذكر أن الله أعلم بما كانوا عاملين أي لو أدركوا العمل، ليس فيها أن الله يجازيهم بعلمه فيهم من غير أن يصدر منهم عمل.
أضف إلى ذلك أن النصوص الكثيرة تدل على أنهم في الجنة.
وهي أيضا متأخرة إلى زمن الفتح لحديث أنس في أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه اللاهين فأعطاهم وقد تقدم، وسياق حديث ابن عباس يدل على أنه كان في غزوة الفتح، لما فيه من أنه صلى الله عليه وسلم رأى طفلا بعد الطواف.
الوجه الثاني: معارضتها بنصوص الامتحان
والجمع بين النصوص المتعارضة واجب مهما أمكن، ونصوص الامتحان ظاهرة، فتكون هي الجامعة بين ظواهر النصوص المختلفة، فما كان فيه أنهم في الجنة فهو من سيجتاز الامتحان، وما فيه أنهم في النار فهو من يستحقها بعد الامتحان، وما فيها توقف فهو ترك الإطلاق بأنهم في الجنة أو النار، وأن منهم من سيكون من أهل الجنة ومنهم من سيكون من أهل النار بعد الامتحان، ولا تجتمع النصوص إلا بهذا.
ويلزم من القطع لهم بالجنة ضرب النصوص بعضها ببعض، أوترك العمل ببعضها والله أعلم.
وأجيب عنه من وجهين:
أولا: لم يصح منها شيء يعتمد عليه.
وثانيا: ومادام لم تصح نصوص الامتحان فلا شك أن غيره مما صحت فيه الأخبار أولى منه، وأخبار الجزم لهم بالجنة أصرحها وأصحها والله أعلم.
ثانيا: مناقشة القول بأنهم في النار
وهو قول طائفة من أهل الحديث وغيرهم كما قال ابن تيمية، و قول جماعة من المتكلمين وأهل التفسير وأحد الوجهين لأصحاب أحمد كما قال ابن القيم.
قال الباحث: جملة ما استدل به من ذهب هذا المذهب من الأحاديث ستة، وقد نوقش هذا الاستدلال من وجوه:
الوجه الأول: أن منها ما لا يصلح للاستدلال.
قلت ذكر الأحاديث المحتج بها وهي ثلاثة
حديث عائشة الذي فيه ” لو شئت لأسمعتك تضاغيهم في النار ” وهو حديث واه مداره على أبي عقيل مولى بهية.
وحديث خديجة وهو منقطع بين خديجة والراوي عنها.
حديث علي والكلام فيه كالكلام على حديث خديجة من حيث ضعف سنده، فإن مداره على رجل مجهول لا يدرى من هو؟ مع نكارة متنه، فلا تعارض الأحاديث الصحيحة بمثله.
ومع ضعفهما – أي حديث خديجة وحديث علي – فيمكن أن يقال إنهما منسوخان بالأحاديث المتأخرة عنهما بيقين.
ثانيا: ما لا يصلح للاستدلال لكونه خارجا عن محل النزاع:
وهو حديث الصعب بن جثامة وما في معناه، وذلك أن لفظ الحديث يدل على أنه في أحكام أطفال المشركين في الدنيا، وأنهم تبع لآبائهم في أحكام الدنيا، ولهذا جاء فيه أنهم سألوه صلى الله عليه وسلم عن الذراري عند تبييت الكفار، وقد نقل غير واحد من العلماء أنه لا خلاف بين المسلمين في أن أطفال المشركين في أحكام الدنيا كحكم آبائهم.
قال ابن تيمية في درء التعارض (8/ 433): ولا نزاع بين المسلمين أن أولاد الكفار الأحياء مع آبائهم اهـ.
ونقل الباحث كلام ابن عبد البر في الاستذكار (3/ 111) وابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/ 89) وفي حاشية أبي داود كذلك (12/ 322)
والحافظ في الفتح (3/ 290)
وخلاصة ذلك: أن حديث الصعب بن جثامة وما في معناه خارج عن محل النزاع والله أعلم.
ما يحتمل التأويل أو يمكن تأويله لمعارضته نصوصا أخرى عامة وخاصة.
بقي النظر في الأحاديث الثلاثة الأخرى، وخلاصتها قصة المرأة التي وأدت بنتها في الجاهلية، وهذه تحتمل أوجها بيانها في الوجه التالي:
الوجه الثاني: لا بد من النظر في الجمع بينها ولو بنوع تكلف، أو الترجيح ما لم يمكن الجمع، لأن الأخذ بظاهر حديث ابن مسعود وسلمة بن يزيد يؤدي إلى إهمال بقية الأحاديث.
والجمع بين هذه الأحاديث المتعارضة يكون من وجوه:
أولها: حمل حديث سلمة بن يزيد وابن مسعود ” الوائد والموءودة في النار ” على قصة خاصة وواقعة معينة، وحمل الأحاديث الأخرى المصرحة بأن الموءودة في الجنة على العموم، وهو أسهل وإن كان فيه نوع تكلف لكنه يرتكب أخف الأمرين.
ثانيها: أن هذه الموءودة كانت قد بلغت الحنث، ولا عبرة بقول الراوي إنها لم تبلغ، والنبي صلى الله عليه وسلم أجاب على ما هو الواقع، ولم يلتفت إلى قول السائل إنها لم تبلغ، ثم ذكر هذه اللفظة ليس موضع اتفاق بين رواة الحديث، بل لم ترد في رواية ابن مسعود رضي الله عنه للحديث.
قال ابن حزم في الفصل (2/ 382): هذه اللفظة وهي قوله ” لم تبلغ الحنث ” ليست من كلام رسول الله بلا شك، ولكنها من كلام سلمة بن يزيد الجعفي وأخيه اللذين سألا رسول الله، فلما أخبر أن الموءودة في النار كان ذلك إنكارا وإبطالا لقولهما ” لم تبلغ الحنث “، وتصحيحا لأنها كانت قد بلغت الحنث بوحي من الله إليه بخلاف ظنهما، لا يجوز إلا هذا القول، لأن كلامه لا يتناقض ولا يتكاذب، ولا يخالف كلام ربه، بل كلامه يصدق بعضه بعضا، ويوافق ما أخبر به عن ربه عز وجل، ومعاذ الله من غير ذلك، وقد صح إخبار النبي بأن أطفال المشركين في الجنة، وقال تعالى ((وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت)) فنص تعالى على أنه لا ذنب للموءودة، فكان هذا مبينا لأن إخبار النبي بأن تلك الموءودة في النار إخبار عن أنها كانت قد بلغت الحنث، بخلاف ظن إخوتها اهـ المراد منه.
والخلاصة في هذا الوجه: أن التعارض قائم، وأن الوجه الأول والثالث في الجمع أقوى ما قيل على ضعف فيه والله أعلم
الوجه الثالث: النظر وهو أن الله تعالى ذكر في كتابه أنه لا يعذب حتى يبعث رسولا، وحتى تقوم الحجة على الناس ولذلك أرسل الرسل كما قال (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)، وصح في السنة أنه يمتحن يوم القيامة من لم تبلغه الدعوة والرسالة، إما لعدم أهليته لفهمها كالمجنون والمعتوه والشيخ الكبير الخرف، وإما لعدم سماعه الرسالة كحال أهل الفترة، ثم يكون منهم من يطيع فيدخل الجنة لطاعته، ومنهم من يعصيه فيدخل النار بعصيانه.
وإذا كان لا يعذب من لم تبلغه الدعوة مع تمام عقله وكامل قوته، فما بال الصغير يعذب وهو مثله بل هو أقرب إلى الاعذار منه؟؟ هذا ممتنع.
يؤيد ذلك قوله تعالى ((كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء))، فهذا دليل على أن كل فوج يلقى في النار لا بد وأن يكونوا قد جاءهم النذير وكذبوه، وهذا ممتنع في حق الأطفال كما قال ابن القيم في حاشيته على أبي داود (12/ 322).
وقالوا: فالله لا يعذب أحدا إلا بذنبه، فالنار دار عدله، لا يدخلها أحد إلا بعمل، وأما الجنة فدار فضله يدخلها بغير عمل، ولهذا ينشئ للفضل الذي يبقى فيها أقواما يسكنونها قاله ابن القيم رحمه الله تعالى في حاشية سنن أبي داود 12/ 322).
ثالثا: مناقشة القول بأنهم يمتحنون يوم القيامة
هذا القول هو اختيار جمع من العلماء المحققين كابن تيمية وابن القيم وابن كثير، وعزاه الأشعري لأهل السنة والجماعة، وقد نوقش هذا القول من وجوه:
الوجه الأول: تضعيف الأدلة
وهو أقوى الوجوه، فالأحاديث التي وردت بامتحان أهل الفترة ومن ذكر معهم يوم القيامة منها صحاح، ومنها حسان، ومنها ضعاف، لكنه لم يرد في شيء من الأحاديث الصحيحة ذكر المولود، وما ورد من ذلك في حديث معاذ بن جبل وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك، فلا يصلح شيء من ذلك للاستدلال:
أما حديث أنس فلضعف ليث بن أبي سليم، وجهالة عبد الوارث راويه عن أنس، والمخالفة في المتن والإسناد التي تجعله منكرا، وقد تقدم أنه مع ذلك لايصلح للتقوية.
وأما حديث معاذ بن جبل ففيه عمرو بن واقد وهو متروك.
وأما حديث أبي سعيد الخدري ففيه عطية العوفي، ضعيف مدلس، وقد عنعنه وهما علتان، ومع ذلك فيصلح للتقوية عند بعض العلماء، لكنه ليس له في الباب ما يصلح لتقويته.
ولهذا قال أبو عمر ابن عبد البر في الاستذكار (3/ 114): وهي كلها أسانيد ليست بالقوية، ولا تقوم بها حجة، وقد ذكرنا أسانيدها في التمهيد اهـ.
ثانيا: وأما القياس على من ورد فيهم النص وأنهم يمتحنون ففاسد الاعتبار، لأنه مصادم للنصوص الخاصة في أطفال المشركين، سواء قلنا إنهم في النار أو قلنا إنهم في الجنة، ولا تعارض هذه النصوص الصحيحة بقياس التمثيل.
ثالثا: وأما النظر فضعيف لأمور:
الأمر الأول: أن قولكم: إن الجنة لمن عمل صالحا … إلى آخره منقوض بأطفال المسلمين الذين لم يعملوا، وحالهم في العمل كحال أطفال المشركين.
الأمر الثاني: أنه قد جاء في الصحيح أن الله عز وجل يخلق للجنة خلقا ولفظه عند البخاري (رقم4850) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا ” وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا “، وهذا يدل على أن الجنة يدخلها من لم يعمل صالحا، ويضعف القول باستحقاق الجنة بالعمل فقط.
الأمر الثالث: أما القول بأن النصوص لا تجتمع إلا عليه فغير صحيح، حيث إن أوجه الجمع لا تنحصر في هذا الوجه، وإن كان أقرب إلى الجمع من غيره لو صحت فيه الأخبار، ولكن فيه فرق بين كونه أقرب الأوجه للجمع وبين كون أوجه الجمع تنحصر فيه، على أنه ضعيف من جهة عدم صحة ما يدل عليه، وقد تقدم الكلام على طرق الأحاديث الواردة فيه وأنها لا تصلح للتقوية بحال.
الوجه الثاني: لم تصح أحاديث امتحان الأطفال كما تقدم، فالتمسك بظواهر النصوص التي ليس لها معارض صحيح متعين، ومن تأولها من العلماء فإنما تأول لظنه صحة شيء منها.
الوجه الثالث: المعارضة بالنظر
بيانه: أن بعض العلماء اعترضوا على القول بالامتحان في الآخرة: أن الآخرة دار جزاء وليست دار عمل وابتلاء.
قال الباحث: وهذا الوجه ضعيف، وقد ناقشه ابن القيم من وجوه في طريق الهجرتين، ولا يعني عدم صحة الأحاديث الواردة في امتحان الأطفال أنه لا يكون فيه امتحان مطلقا، بل ما صح من الأحاديث المشار إليها في امتحان من مات في الفترة ومن ذكر معه يدل على حصول الابتلاء في القيامة قبل استقرار الناس إما في الجنة وإما في النار، وعلى هذا يبقى الوجه الأول والثاني بمكان من القوة دون الوجه الثالث والله أعلم.
الوجه الرابع: هل أهل السنة أجمعوا على الامتحان؟
فإن قيل ذكر ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/ 103) أن هذا مذهب أهل السنة، وأنهم متفقون عليه فقال: وهذا قول جميع أهل السنة والحديث اهـ.
وقال ابن كثير في البداية والنهاية (2/ 100): وقد حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري إجماعا عن أهل السنة والجماعة؟.
قلنا: الجواب عليه من وجوه:
الوجه الأول: أنه تقدم أن القول بأنهم في الجنة صح عن سلمان وذكر عنه ابن عبد البر في الاستذكار (3/ 112) واختاره البخاري، و ابن عبد البر في التمهيد، وعزاه في الاستذكار (3/ 110) للأكثر، كما عزاه ابن حزم للجمهور، فلا يكون لأهل السنة في المسألة إجماع، يؤيده الوجه الثاني:
الوجه الثاني: أنه أيضا قد تقدم أن القول بأنهم في النار قاله طائفة من أهل الحديث كما قال ابن تيمية في الفتاوى (4/ 303) وهذه لفظة تدل على أن جمعا من أهل السنة قالوا بذلك، فلا يكون لهم اتفاق على الامتحان، يؤيده أيضا:
الوجه الثالث: أنه اختلف في مراد من وقف عن الحكم كالحمادين ومن ذكر معهم، فقيل في تفسير قولهم أن الأطفال تحت المشيئة، فقيل: مرادهم هو:” أن أولاد الناس كلهم إذا ماتوا صغارا لم يبلغوا في مشيئة الله عز وجل يصيرهم إلى ما شاء من رحمة أو عذاب، وذلك كله عدل منه وهو أعلم بما كانوا عاملين ” قاله ابن عبد البر في الاستذكار (3/ 108) يؤيده أيضا:
الوجه الرابع: أن بعض أهل السنة نقل عنهم الامساك عن الكلام في المسألة والخوض فيها، واعتبر مذهبا مستقلا كما صنع الحافظ ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/ 102) فقال: المذهب التاسع: مذهب الإمساك، وهو ترك الكلام في المسألة نفيا وإثباتا بالكلية، وجعلها مما استأثر الله بعلمه وطوى معرفته عن الخلق ثم ذكر عن ابن عباس بسند صحيح تقدم في أول الكتاب، فكيف يقال مع ذلك إنهم أجمعوا على قول واحد هو الامتحان.
الوجه الخامس: أن في نقل الأشعري مذهب أهل السنة والحديث في مسألة الأطفال نوع اضطراب، وبيانه:
قلت: ذكر أمثلة تدل على اضطرابه في بعض المسائل التي نقل فيها الإجماع وشيخ الإسلام تتبع تلك المواضع وأوردها في كتابه درء تعارض العقل والنقل (7/ 35)
وهناك أمثلة أخرى غير ما ذكرت لا نطيل بها المقام، والخلاصة: أن الأشعري لا يلتزم في نقله لمذاهب أهل السنة اتفاقهم على ما ذكره عنهم، فلا يدل على إجماعهم على الامتحان.
رابعا: مناقشة القول بالتوقف وعدم الحكم لهم بشيء.
هذا القول نقل عن غير واحد من أهل العلم، و في معناه أو المراد منه أقوال كما تقدم، وعليه:
فإن قيل: المراد منه الامتحان يوم القيامة، وترك أمرهم لما يظهر منهم من طاعة أو عصيان فقد تقدمت مناقشته قريبا.
وإن قيل: المراد منه أنه يجوز أن يدخل جميعهم الجنة، ويجوز أن يدخل جميعهم النار، كما هو قول طائفة من المنتسبين إلى السنة من أهل الكلام وغيرهم من أصحاب أبي الحسن الأشعري وغيرهم.
أو قيل المراد منه: أنه لا يعلم حكمهم، فلا يتكلم فيهم بشيء، كما هو أيضا قول طائفة أخرى من المنتسبين إلى السنة.
فمنقوض من وجوه:
الوجه الأول: أن هذه الأحاديث لا تدل على الوقف والنبي صلى الله عليه وسلم لم يجب بالوقف، وإنما وكل علم ما كانوا يعملون لو عاشوا إلى الله،
ترجيح الباحث:
– وبكل ما تقدم يتضح – في نظري والعلم عند الله – أن أقوى الأقوال، وأجراها على القواعد، وأصحها أدلة هو القول بأنهم في الجنة على العموم، وقد تقدم التفصيل لمن رامه في مواضعه.