بيان الوسيلة في آيات الله الكريمة
قال تعالى:
(وَلَمَّا جَا ءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَاكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّ ا وَخَرَّ مُوسَى صَعِق ا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)
[سورة الأعراف 143]
قدَّم موسى وسيلة التنزيه وختم بوسيلة الإقرار بالإيمان.
قال الطبري:
القول في تأويل قوله: {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ((143))}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما ثاب إلى موسى عليه السلام فهمه من غشيته، وذلك هو الإفاقة من الصعقة التي خرّ لها موسى = ” قال سبحانك”، تنزيهًا لك، يا رب، وتبرئةً أن يراك أحد في الدنيا، ((38)) ثم يعيش = “تبت إليك”، من مسألتي إياك ما سألتك من الرؤية= “وأنا أوّل المؤمنين”، بك من قومي، أن لا يراك في الدنيا أحد إلا هلك.
قال البقاعي:
{فَلَمّا أفاقَ} أيْ: مِن غَشْيَتِهِ {قالَ سُبْحانَكَ} أيْ: تَنْزِيهًا لَكَ عَنْ أنْ أطْلُبَ مِنكَ ما لَمْ تَاذَنْ فِيهِ {تُبْتُ إلَيْكَ} أيْ: مِن ذَلِكَ {وأنا أوَّلُ المُؤْمِنِينَ} أيْ: مُبادِرٌ غايَةَ المُبادَرَةِ إلى الإيمانِ بِكُلِّ ما أخْبَرْتَ بِهِ كُلَّ ما تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الآياتُ، [فَتَعْبِيرُهُ بِالإيمانِ في غايَةِ المُناسَبَةِ لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ لِأنَّ شَرْطَ الإيمانِ أنْ يَكُونَ بِالغَيْبِ
قال ابن عاشور:
وسُبْحانَكَ مَصْدَرٌ جاءَ عِوَضًا عَنْ فِعْلِهِ أيْ: أُسَبِّحُكَ وهو هُنا إنْشاءُ ثَناءٍ عَلى اللَّهِ وتَنْزِيهٍ عَمّا لا يَلِيقُ بِهِ، لِمُناسَبَةِ سُؤالِهِ مِنهُ ما تَبَيَّنَ لَهُ أنَّهُ لا يَلِيقُ بِهِ سُؤالُهُ دُونَ اسْتِئْذانِهِ وتَحَقُّقِ إمْكانِهِ كَما قالَ – تَعالى – لِنُوحٍ فَلا تَسْألْنِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ في سُورَةِ هُودٍ.
وقَوْلُهُ ({تُبْتُ إلَيْكَ}) إنْشاءٌ لِتَوْبَةٍ مِنَ العَوْدِ إلى مِثْلِ ذَلِكَ دُونَ إذْنٍ مِنَ اللَّهِ، وهَذا كَقَوْلِ نُوحٍ – عَلَيْهِ السَّلامُ – {رَبِّ إنِّي أعُوذُ بِكَ أنْ أسْألَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [هود: (47)]. وصِيغَةُ – الماضِي مِن قَوْلِهِ تُبْتُ مُسْتَعْمَلَةٌ في الإنْشاءِ فَهي مُسْتَعْمَلَةٌ في زَمَنِ الحالِ مِثْلَ صِيَغِ العُقُودِ في قَوْلِهِمْ بِعْتُ وزَوَّجْتُ، مُبالَغَةً في تَحَقُّقِ العَقْدِ.
وقَوْلُهُ {وأنا أوَّلُ المُؤْمِنِينَ} أُطْلِقَ (الأوَّلُ) عَلى المُبادِرِ إلى الإيمانِ، وإطْلاقُ الأوَّلِ عَلى المُبادِرِ مَجازٌ شائِعٌ مُساوٍ لِلْحَقِيقَةِ، والمُرادُ بِهِ هُنا وفي نَظائِرِهِ – الكِنايَةُ عَنْ قُوَّةِ إيمانِهِ، حَتّى إنَّهُ يُبادِرُ إلَيْهِ حِينَ تَرَدُّدِ غَيْرِهِ فِيهِ، فَهو لِلْمُبالَغَةِ وقَدْ
تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ في قَوْلِهِ – تَعالى – {ولا تَكُونُوا أوَّلَ كافِرٍ بِهِ} [البقرة: (41)] في سُورَةِ البَقَرَةِ، وقَوْلِهِ {وأنا أوَّلُ المُسْلِمِينَ} [الأنعام: (163)] في سُورَةِ الأنْعامِ.
والمُرادُ بِالمُؤْمِنِينَ مَن كانَ الإيمانُ وصْفَهم ولَقَبَهم، أيِ الإيمانُ بِاللَّهِ وصِفاتِهِ كَما يَلِيقُ بِهِ، فالإيمانُ مُسْتَعْمَلٌ في مَعْناهُ اللَّقَبِيِّ، ولِذَلِكَ شُبِّهَ الوَصْفُ بِأفْعالِ السَّجايا فَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ مُتَعَلِّقٌ، ومَن ذَهَبَ مِنَ المُفَسِّرِينَ يُقَدِّرُ لَهُ مُتَعَلِّقًا فَقَدْ خَرَجَ عَنْ نَهْجِ المَعْنى.
قال السعدي:
قَالَ سُبْحَانَكَ أي: تنزيها لك، وتعظيما عما لا يليق بجلالك تُبْتُ إِلَيْكَ من جميع الذنوب، وسوء الأدب معك وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أي: جدد عليه الصلاة والسلام إيمانه، بما كمل اللّه له مما كان يجهله قبل ذلك، فلما منعه اللّه من رؤيته – بعدما ما كان متشوقا إليها – أعطاه خيرا كثيرا