بيان الوسيلة في آيات الله الكريمة
سورة الأعراف
قال تعالى:
(وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) (89).سورة الأعراف
قال ابن جزي:
(أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} أي ليكونن أحد الأمرين: إما إخراجهم، أو عوجهم إلى ملة الكفر، فإن قيل: إن العود إلى الشيء يقتضي أنه قد كان فعل قبل ذلك فيقتضي قولهم: لتعودن في ملتنا أن شعيباً ومن كان معه كانوا أولاً على ملة قومهم، ثم خرجوا منها فطلب قومهم أن يعودوا إليها وذلك محال، فإن الأنبياء معصومون من الكفر قبل النبوة وبعدها فالجواب من وجهين: أحدهما: قاله ابن عطية وهو إن عاد قد تكون بمعنى صار، فلا يقتضي تقدم ذلك الحال الذي صار إليه، والثاني: قاله الزمخشري وهو أن المراد بذلك الذين آمنوا بشعيب دون شعيب، وإنما أدخلوه في الخطاب معهم بذلك كما أدخلوه في الخطاب معهم في قولهم: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك، فغلبوا في الخطاب بالعود الجماعة على الواحد، وبمثل ذلك يجاب عن قوله: {إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ} {قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} الهمزة للاستفهام والإنكار، والواو للحال، تقديره: أنعود في ملتكم ويكون لنا أن نعود فيها ونحن كارهون {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} أي إن عندنا فيها فقد وقعنا في أمر عظيم من الافتراء على الله، وذلك تبرأ من العود فيها {وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا} هذا استسلام لقضاء الله على وجه التأدب مع الله وإسناد الأمور إليه، وذلك أنه لما تبرأ من ملتهم: أخبر أن الله يحكم عليهم بما يشاء من عود وتركه فإن القلوب بيده يقلبها كيف يشاء، فإن قلت: إن ذلك يصح في حق قومه، وأما في حق نفسه فلا فإنه معصوم من الكفر؟ فالجواب: أنه قال ذلك تواضعاً وتأدباً مع الله تعالى، واستسلاماً لأمره كقول نبينا : ” يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك” مع أنه قد علم أنه يثبته {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا} أي احكم {كَأَن لَّمْ
يَغْنَوْا فِيهَا} أي كأن لم يقيموا في ديارهم {فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} أي كيف أحزن عليهم وقد استحقوا ما أصابهم من العذاب بكفرهم {بِالْبَاسَآءِ وَالضَّرَأَىءِ} قد تقدم {بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} أي أبدلنا البأساء والضراء بالنعيم اختباراً لهم في الحالتين {حَتَّى عَفَوْا} أي كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم {وَّقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَأَىءُ وَالسَّرَأَىءُ} أي قد جرى ذلك لآبائنا ولم يضرهم فهو بالاتفاق لا بقصد الاختبار.
قال الألوسي:
{وسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} فَهو سُبْحانُهُ يَعْلَمُ كُلَّ حِكْمَةٍ ومَصْلَحَةٍ ومَشِيئَتُهُ عَلى مُوجِبِ الحِكْمَةِ، فَكُلُّ ما يَقَعُ مُشْتَمِلٌ عَلَيْها، وهَذا إشارَةٌ إلى عَدَمِ الأمْنِ مِن مَكْرِ اللَّهِ سُبْحانَهُ؛ فَإنَّهُ لا يَامَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلّا القَوْمُ الكافِرُونَ، وفِيهِ مِنَ الِانْقِطاعِ إلى اللَّهِ تَعالى ما لا يَخْفى، ويُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: {عَلى اللَّهِ تَوَكَّلْنا} فَإنَّ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ إظْهارُ العَجْزِ والِاعْتِمادُ عَلَيْهِ جَلَّ شَانُهُ، وإظْهارُ الِاسْمِ الجَلِيلِ لِلْمُبالَغَةِ، وتَقْدِيمُ المَعْمُولِ لِإفادَةِ الحَصْرِ. وفي الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ لِلَّهِ تَعالى أنْ يَشاءَ الكُفْرَ.
وادَّعى شَيْخُ الإسْلامِ أنَّ المُرادَ اسْتِحالَةُ وُقُوعِ ذَلِكَ كَأنَّهُ قِيلَ: وما كانَ لَنا أنْ نَعُودَ فِيها إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ تَعالى العَوْدَ وهَيْهاتَ ذَلِكَ، ولا يَكادُ يَكُونُ كَما يُنْبِئُ عَنْهُ التَّعَرُّضُ لِعُنْوانِ الرُّبُوبِيَّةِ، وقَوْلُهُمْ: {بَعْدَ إذْ نَجّانا اللَّهُ} فَإنَّ تَنْجِيَتَهُ تَعالى إيّاهم مِنها مِن دَلائِلِ عَدَمِ مَشِيئَتِهِ سُبْحانَهُ لِعَوْدِهِمْ فِيها، وفُرِّعَ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: {وسِعَ} إلَخْ. بَعْدَ أنْ فَسَّرَهُ بِما فَسَّرَهُ مُحالَيَةُ مَشِيئَتِهِ العَوْدَ، لَكِنْ لُطْفًا وهو وجْهٌ في الآيَةِ، ولَعَلَّ ما ذَهَبْتُ إلَيْهِ فِيها أوْلى، ولا يَرِدُ عَلى تَقْدِيرِ العَوْدِ مَفْعُولًا لِلْمَشِيئَةِ أنَّهُ لَيْسَ لِذِكْرِ سِعَةِ العِلْمِ بَعْدَ حِينَئِذٍ كَبِيرُ مَعْنًى، بَلْ كانَ المُناسِبُ ذِكْرَ شُمُولِ الإرادَةِ وأنَّ الحَوادِثَ كُلَّها بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى لِما لا يَخْفى، ولا يَحْتاجُ إلى القَوْلِ بِأنَّ ذَلِكَ مِنهُ عَلَيْهِ السَّلامُ رَدٌّ لِدَعْوى الحَصْرِ بِاحْتِمالِ قِسْمٍ ثالِثٍ، والزَّمَخْشَرِيُّ بَنى تَفْسِيرَهُ عَلى عَقِيدَتِهِ الفاسِدَةِ مِن وُجُوبِ رِعايَةِ الصَّلاحِ والأصْلَحِ، وأنَّ اللَّهَ تَعالى لا يُمْكِنُ أنْ يَشاءَ الكُفْرَ بِوَجْهٍ لِخُرُوجِهِ عَنِ الحِكْمَةِ، واسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: {وسِعَ} إلَخْ، ورَدَّهُ ابْنُ المُنِيرِ بِأنَّ مَوْقِعَ ما ذُكِرَ الِاعْتِرافُ بِالقُصُورِ عَنْ عِلْمِ العاقِبَةِ والِاطِّلاعِ عَلى الأُمُورِ الغائِبَةِ.
ونَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ: {ولا أخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إلا أنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئًا وسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} فَإنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا رَدَّ الأمْرَ إلى المَشِيئَةِ وهي مُغَيَّبَةٌ مَجَّدَ اللَّهَ تَعالى بِالِانْفِرادِ بِعِلْمِ الغائِباتِ. انْتَهى، وإلى كَوْنِ المُرادِ مِنَ الِاسْتِثْناءِ التَّابِيدَ ذَهَبَ جَعْفَرُ بْنُ الحارِثِ والزَّجّاجُ أيْضًا وجَعَلُوا ذَلِكَ كَقَوْلِ الشّاعِرِ:
إذا شابَ الغُرابُ أتَيْتُ أهْلِي وصارَ القارُ كاللَّبَنِ الحَلِيبِ
وأنْتَ خَبِيرٌ بِأنَّ ذَلِكَ مُخالِفٌ لِلنُّصُوصِ النَّقْلِيَّةِ والعَقْلِيَّةِ ولِلْعِبارَةِ والإشارَةِ، وقالَ الجُبّائِيُّ والقاضِي: المُرادُ بِالمِلَّةِ الشَّرِيعَةُ، وفِيها ما لا يَرْجِعُ إلى الِاعْتِقادِ، ويَجُوزُ أنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ تَعالى عِبادَهُ بِهِ، ومَفْعُولُ المَشِيئَةِ العَوْدُ إلى ذَلِكَ، أيْ: لَيْسَ لَنا أنْ نَعُودَ إلى مِلَّتِكُمْ، إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ بِأنْ يَتَعَبَّدَنا بِها، ويَنْقُلَنا ويَنْسَخَ ما نَحْنُ فِيهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وقِيلَ: المُرادُ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ تَعالى أنْ يُمَكِّنَكم مِن إكْراهِنا، ويُخْلِيَ بَيْنَكم وبَيْنَهُ فَنَعُودَ إلى إظْهارِ مِلَّتِكم مُكْرَهِينَ، وقَوِيَ بِسَبْقِ: {أوَلَوْ كُنّا كارِهِينَ}.
وقِيلَ: إنَّ الهاءَ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ (فِيها) يَعُودُ إلى القَرْيَةِ لا المِلَّةِ، فَيَكُونُ المَعْنى أنّا سَنَخْرُجُ مِن قَرْيَتِكم ولا نَعُودُ فِيها إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ بِما يُنْجِزُهُ لَنا مِنَ الوَعْدِ في الإظْهارِ عَلَيْكم والظَّفَرِ بِكم فَنَعُودُ فِيها، وقِيلَ: إنَّ التَّقْدِيرَ: إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ أنْ يَرُدَّكم إلى الحَقِّ فَنَكُونَ جَمِيعًا عَلى مِلَّةٍ واحِدَةٍ، ولا يَخْفى أنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِمّا يُضْحِكُ الثَّكْلى، وبِالجُمْلَةِ: الآيَةُ ظاهِرَةٌ فِيما ذَهَبَ إلَيْهِ أهْلُ السُّنَّةِ وسُبْحانَ مَن سَدَّ بابِ الرُّشْدِ عَنِ المُعْتَزِلَةِ.
{رَبَّنا افْتَحْ بَيْنَنا وبَيْنَ قَوْمِنا بِالحَقِّ} إعْراضٌ عَنْ مُفاوَضَتِهِمْ إثْرَ ما ظَهَرَ مِن عُتُوِّهِمْ وعِنادِهِمْ وإقْبالٌ عَلى اللَّهِ تَعالى بِالدُّعاءِ، والفَتْحُ بِمَعْنى الحُكْمِ والقَضاءِ، لُغَةٌ لِحِمْيَرَ أوْ لِمُرادٍ. والفَتّاحُ عِنْدَهُمُ القاضِي والفُتاحَةُ بِالضَّمِّ الحُكُومَةُ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ أنَّهُ قالَ: الفَتْحُ القَضاءُ، لُغَةٌ يَمانِيَةٌ. وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ وجَماعَةٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: ما كُنْتُ أدْرِي ما قَوْلُهُ: {رَبَّنا افْتَحْ} حَتّى سَمِعْتُ ابْنَةَ ذِي يَزَنٍ وقَدْ جَرى بَيْنِي وبَيْنَها كَلامٌ فَقالَتْ: أُفاتِحُكَ، تُرِيدُ: أُقاضِيكَ، و {بَيْنَنا} مَنصُوبٌ عَلى الظَّرْفِيَّةِ، والتَّقْيِيدُ بِالحَقِّ لِإظْهارِ النَّصَفَةِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ مَجازًا عَنِ البَيانِ والإظْهارِ وإلَيْهِ ذَهَبَ الزَّجّاجُ، ومِنهُ فَتْحُ المُشْكِلِ لِبَيانِهِ وحَلِّهِ تَشْبِيهًا لَهُ بِفَتْحِ البابِ وإزالَةِ الإغْلاقِ، حَتّى يُوصَلَ إلى ما خَلْفَها، وبَيْنَنا عَلى ما قِيلَ مَفْعُولٌ بِهِ بِتَقْدِيرِ ما بَيْنَنا، {وأنْتَ خَيْرُ الفاتِحِينَ} أيِ الحاكِمِينَ لِخُلُوِّ حُكْمِكَ عَنِ الجَوْرِ والحَيْفِ أوِ المُظْهِرِينَ لِمَزِيدِ عِلْمِكَ وسِعَةِ قُدْرَتِكَ، والجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِ ما قَبْلَهُ.
قال البقاعي:
ولَمّا كانَ العَرَبُ أبْعَدَ النّاسِ مِن مُطْلَقِ الكَذِبِ وأشَدِّهِمْ لَهُ تَحامِيًا ومِنهُ نَفْرَةً فَكَيْفَ بِالكَذِبِ عَلى الأكابِرِ فَكَيْفَ بِهِ عَلى المُلُوكِ فَكَيْفَ بِهِ عَلى مَلِكِ المُلُوكِ! عَلَّقَ الكَذِبَ عَلى اللَّهِ تَعالى بِالعَوْدِ إلى مِلَّتِهِمْ بِقَوْلِهِ مُسْتَانِفًا الإخْبارَ لِمَن تَشَوَّفَ إلى عِلْمِ ما كانَ مِنهُ بَعْدَ هَذا الكَلامِ اللَّيِّنِ وتَوَقُّعِ غَيْرِهِ: {قَدِ افْتَرَيْنا} أيْ: تَعَمَّدْنا الآنَ بِما نَقُولُهُ لَكُمْ، أيْ: مَن [أنَّ] اللَّهَ حَرَّمَ الكُفْرَ والإقْرارَ عَلَيْهِ،
{عَلى اللَّهِ} أيِ: الَّذِي لَهُ جَمِيعُ العَظَمَةِ،
{كَذِبًا} ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَنْوِينُهُ لِلتَّعْظِيمِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ لِلتَّحْقِيرِ، ولِكُلٍّ وجْهٌ يَدْعُو إلَيْهِ المَقامُ لا يَخْفى.
{إنْ عُدْنا} أيْ: ساعَةً مِنَ الدَّهْرِ،
{فِي مِلَّتِكُمْ} أيْ: بِسُكُوتِنا أوْ بِسُكُوتِي وكُفْرِ مَن كانَ مِمَّنْ تَبِعَنِي كافِرًا،
{بَعْدَ إذْ نَجّانا اللَّهُ} أيِ: المَلِكُ الأعْلى خارِقًا لِلْعادَةِ بِما كُنّا جَدِيرِينَ بِالِانْغِماسِ فِيهِ مُتابَعَةً لِلْآباءِ والأجْدادِ والعَشِيرَةِ بِما لَهُ مِنَ القُدْرَةِ والعَظَمَةِ،
{مِنها} أيْ: إنْ فَعَلْنا ذَلِكَ فَقَدِ ارْتَكَبْنا أقْبَحَ القَبائِحِ عَلى بَصِيرَةٍ مِنّا بِذَلِكَ، فَهو تَعْلِيقٌ عَلى مُحالٍ عادَةً، وهو مِن وادِي قَوْلِ الأشْتَرِ النَّخَعِيِّ:
بَقَّيْتُ وفْرِي وانْحَرَفْتُ عَنِ العُلى ولَقِيتُ أضْيافِي بِوَجْهِ عَبُوسِ
إنْ لَمْ أشُنَّ عَلى ابْنِ هِنْدٍ غارَةً لَمْ تَخْلُ يَوْمًا مِن نِهابِ نُفُوسِ
غَيْرَ أنَّ المُعَلَّقَ في البَيْتِ تَقْدِيرِي، وفي الآيَةِ تَحْقِيقِي؛ لِأنَّهم أخْبَرُوهم أنَّ اللَّهَ تَعالى نَهى عَنِ الكُفْرِ، وأمَرَهم بِإنْذارِ كُلِّ كافِرٍ، فَمَتى تَرَكُوا ذَلِكَ لَزِمَهُمُ الكَذِبُ حَتْمًا،
{وما يَكُونُ لَنا} أيْ: ما يَصِحُّ وما يَتَّفِقُ {أنْ نَعُودَ فِيها} أيْ: مِلَّكِتُمْ.
ولَمّا كانَ لِلَّهِ سُبْحانَهُ أنْ يَفْعَلَ ما يَشاءُ لا واجِبَ عَلَيْهِ ولا قَبِيحَ مِنهُ، أشارَ إلى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {إلا أنْ يَشاءَ اللَّهُ} فَذَكَرَ اسْمَ الذّاتِ إشارَةً إلى أنَّ لَهُ جَمِيعَ الحَمْدِ لِذاتِهِ؛ ثُمَّ ذَكَرَ صِفَةَ الإحْسانِ عِياذًا مِن أنْ يُرادَ بِهِمُ الهَوانُ، فَقالَ: {رَبُّنا} أيْ: خَرْقَ العادَةِ؛ فَلَهُ ذَلِكَ، فَهو مِن بابِ التَّذَكُّرِ لِلْمَخاوِفِ والإشْرافِ عَلى إمْكانِ سُوءِ العَواقِبِ لِلصِّدْقِ في التَّضَرُّعِ إلى اللَّهِ تَعالى والِالتِجاءِ إلَيْهِ والِاسْتِعاذَةِ مِن مَكْرِهِ؛ ولِذَلِكَ أتى بِاسْمِ الجَلالَةِ الجامِعِ لِجَمِيعِ مَعانِي الأسْماءِ الحُسْنى وصِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ المُلْتَمَسِ بِذِكْرِها فِعْلُ ما يُفْعَلُ المُرَبِّي الشَّفِيقُ، فَكَأنَّهُ قالَ: إنَّ عَوْدَنا في مِلَّتِكم غَيْرُ مُمْكِنٍ عادَةً، والمَحالُ عادَةً لا يُقْدَرُ عَلَيْهِ إلّا بِقَدَرٍ مِنَ اللَّهِ، بَلْ ولا تُوَجَّهُ الهِمَمُ إلَيْهِ، واللَّهُ تَعالى أكْرَمُ مِن أنْ يَعُودَ فِيما وهَبَهُ لَنا مِن هَذا الأمْرِ الجَلِيلِ، ويَنْزِعَ عَنّا هَذا اللِّباسَ الجَمِيلَ، وهو صَرِيحٌ في أنَّ الكُفْرَ يَكُونُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، بَلْ ولا يَكُونُ إلّا بِمَشِيئَتِهِ، وقَوْلُهُ: {وسِعَ رَبُّنا} أيِ: المُحْسِنُ إلَيْنا،
{كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} زِيادَةٌ في حَثِّ أُمَّتِهِ عَلى الِالتِجاءِ والتَّبَرِّي مِنَ الحَوْلِ والقُوَّةِ، أيْ: لا عِلْمَ لَنا بِخَواتِمِ الأعْمالِ والعِلْمِ لِلَّهِ فَهو التّامُّ العِلْمِ الكامِلُ القُدْرَةِ، فَهَذِهِ الجُمْلَةُ كالتَّعْلِيلِ لِلتَّعْلِيقِ بِالمَشِيئَةِ [قَطْعًا] لِما عَساهُ أنْ يَحْدُثَ مِن طَمَعِ المُخاطَبِينَ في عَوْدِهِمْ، كَأنَّهُ قِيلَ: وإنَّما عَلَّقْنا العَوْدَ بِالمَشِيئَةِ لِنَقْصِ عُلُومِنا، فَرُبَّما كانَ في سَعَةِ عِلْمِهِ قِسْمٌ ثالِثٌ، وهو أنْ نَكُونَ في القَرْيَةِ عَلى دِينِنا وتَكُونُونَ أنْتُمْ أوْ لا، أوْ تُوافِقُونَنا عَلى ما نَحْنُ عَلَيْهِ، وهَكَذا يَنْبَغِي لِلْمَرْبُوبِ، ولا يَنْبَغِي الجَزْمُ بِأمْرٍ يُسْتَقْبَلُ إلّا اللَّهُ رَبُّنا لِإحاطَةِ عِلْمِهِ، والآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ في الأزَلِ عالِمًا بِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الكُلِّيّاتِ والجُزْئِيّاتِ لِأنَّ ”وسِعَ“ ماضٍ، وقَدْ تَقَدَّمَ في الأنْعامِ أنَّ قَوْلَ الخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلامُ وهَذا وآيَةُ الكَهْفِ مِن مُخْبِرٍ واحِدٍ، واللَّهُ أعْلَمُ.
ولَمّا كانَ المُرادُ مِن هَذا ما ذُكِرَ، كانَ مُزْعِجًا لِلْقُلُوبِ مُقْلِقًا لِلنُّفُوسِ مُزَعْزِعًا لِلْخَواطِرِ مُزَلْزِلًا لِلْأفْكارِ بِتَأمُّلِ هَذِهِ الأخْطارِ المُشْفِيَةِ عَلى غايَةِ الخَسارِ، فَكَأنَّ المُؤْمِنِينَ قالُوا: ما العَمَلُ وأيْنَ المَفَرُّ؟ فَقالَ: {عَلى اللَّهِ} أيِ: الَّذِي لَهُ الأمْرُ كُلُّهُ ولا أمْرَ لِأحَدٍ مَعَهُ، وحْدَهُ لا عَلى غَيْرِهِ،
{تَوَكَّلْنا} أيْ: فَوَّضْنا جَمِيعَ أُمُورِنا إلَيْهِ، وهو أكْرَمُ مِن أنْ يَخْتارَ لَنا غَيْرَ الأرْشَدِ وقَدْ تَبَرَّانا مِن حَوْلِنا وقُوَّتِنا واعْتَصَمْنا بِحَوْلِهِ وقُوَّتِهِ، وجَعَلْنا جَمِيعَ أُمُورِنا كُلِّها مَحْمُولَةً عَلى قُدْرَتِهِ كَما يَحْمِلُ الوَكِيلُ أمْرَ مُوَكِّلِهِ عَنْهُ ويُرِيحُهُ مِن هَمِّهِ وقَلَقِهِ مِنهُ.
ولَمّا جَرَتِ العادَةُ بِأنَّ المُوَكِّلَ يُخْبِرُ الوَكِيلَ بِما يُرِيدُ لِيَفْعَلَهُ، أتْبَعَ ذَلِكَ الدُّعاءَ بِالحُكْمِ بِما يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ الحالِ مِن نَصْرِ المُحِقِّ وخَذْلِ المُبْطِلِ فَقالَ: {رَبُّنا} أيْ: أيُّها المُحْسِنُ إلَيْنا،
{افْتَحْ} أيِ: احْكم {بَيْنَنا} ولَمّا كانَ يُرِيدُ اسْتِعْطافَهم لِإسْعادِهِمْ قالَ: {وبَيْنَ قَوْمِنا} وفِيهِ إشارَةٌ إلى مَيْلِهِ إلى الدُّعاءِ بِهِدايَتِهِمْ، وأدَبٍ بِعَدَمِ التَّصْرِيحِ بِما لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ،
{بِالحَقِّ} أيْ: بِالأمْرِ الفَيْصَلِ مِن مُعامَلَةِ كُلٍّ مِنَ المُحِقِّ والمُبْطِلِ بِما يَسْتَحِقُّهُ شَرْعًا وعُرْفًا بِحَيْثُ يَكُونُ لِكُلِّ فَرِيقٍ بابٌ يَصِلُ بِهِ إلى غايَةِ أمْرِهِ وهَذا مَقامُ الإنْصافِ، فَقَدْ عُلِمَ مِن إشارَةِ قَوْلِهِ العِنايَةُ بِقَوْمِهِ، ومِن عِبارَتِهِ الإنْصافُ مِن نَفْسِهِ، ولَوْ أرادَ تَرْجِيحَ نَفْسِهِ ومُتَّبِعِيهِ لَدَعا لَهم أنْ يُعامَلُوا بِالفَضْلِ وأنْ يُعامَلَ ضِدُّهم بِالعَدْلِ، والآيَةُ مُعْلِمَةٌ بِأنَّ لَهُ تَعالى أنْ يَفْعَلَ ما يُرِيدُ مِن خِذْلانِ الظّالِمِ ونَصْرِ المَظْلُومِ وتَعْذِيبِ العاصِي وإثابَةِ الطّائِعِ وعَكْسِ ذَلِكَ.
{لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: (23)] لِأنَّهُ التّامُّ المُلْكِ العَظِيمُ المُلْكِ الشّامِلُ القُدْرَةِ الحَكِيمُ الخَبِيرُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ: لا نَعُودُ إلى ما كُنّا عَلَيْهِ مِنَ السُّكُوتِ عَنْ دُعائِكم إلى اللَّهِ ونَهْيِكم عَنْ أفْعالِ الضَّلالِ؛ لِأنّا أُمِرْنا بِإنْذارِكم إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ سُكُوتُنا بِأمْرٍ يُحْدِثُهُ إلَيْنا في ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ اقْتَضاها عِلْمُهُ وقَصُرَتْ عَنْها عُلُومُنا، فَإذا أرادَ ذَلِكَ وأمَرَنا بِهِ فَعَلْنا، فَلَهُ الخَلْقُ والأمْرُ.
ولَمّا أشارَ إلى الدُّعاءِ لِقَوْمِهِ، أشارَ – بِالعَطْفِ عَلى غَيْرِ مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ ظاهِرٍ – إلى أنَّ التَّقْدِيرَ: فَأنْتَ خَيْرُ الرّاحِمِينَ: {وأنْتَ خَيْرُ الفاتِحِينَ} أيْ: عَلى مَن سُدَّتْ عَلَيْهِ الأبْوابُ ولَمْ يَجِدْ مُخَلِّصًا.