( مكرر) جامع الأجوبة الفقهية ص 241
مجموعة ناصر الريسي وسعيد الجابري
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
تعليقاتي وضعت بجوارها *
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
بلوغ المرام
71 وعن جابر بن سمرة رضي الله عنهما أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت. قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم. أخرجه مسلم
—————–
مسألة 1: أكل لحوم الإبل، هل ينقض الوضوء؟
اختلف اهل العلم في هذه المسألة على قولين:
– الأول: أن أكل لحوم الإبل لا ينقض الوضوء، وهذا قول جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والقول الجديد في مذهب الشافعي.
– الثاني: أنه ينقض الوضوء، وهو القديم من مذهب الشافعي والمشهور من مذهب أحمد، وهو مذهب أهل الحديث، ورجحه البيهقي والنووي وشيخ الاسلام ابن تيمية وابن القيم والشوكاني والألباني، وابن باز وابن عثيمين والوادعي.
انظر: بدائع الصنائع (1/ 32)، المنتقى للباجي (1/ 65)، المجموع (2/ 66)، الفروع (1/ 183)، الإنصاف (1/ 216)، صحيح ابن خزيمة (1/ 21)، صحيح ابن حبان (3/ 432)، الفتاوى الكبرى (1/ 296)، إعلام الموقعين (1/ 298).
– أدلة الجمهور على عدم انتقاض الوضوء من أكل لحوم الإبل:
الأول: عن جابر قال: “كان آخر الأمرين من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ترك الوضوء مما غيرت النار” اخرجه أبو داود في سننه (192)
وجه الدلالة أن قوله: «مما غيرت» عام يشمل الإبل وغيرها، وقد صرح بقوله: «كان آخر الأمرين»، وإذا كان آخر الأمرين، فالواجب أن نأخذ بالآخر من الشريعة؛ لأن الآخر يكون ناسخا للأول.
واجيب على هذا الدليل بأنه معل لا يصح أنظر “أحاديث معلة ظاهرها الصحة” رقم (74)
وبناء عليه فالوضوء مما مست النار محفوظ غير منسوخ، وإن كان الأمر بالوضوء مما مست النار ليس للوجوب، لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – أمر بالوضوء، ثم أكل لحماً وصلى ولم يتوضأ، فدل على أن الأمر بالوضوء منه ليس للوجوب.
وأن لحوم الإبل ليست العلة في الأمر بالوضوء منه كونه مما مسته النار، وإلا لم يكن هناك فرق بين لحوم الغنم ولحوم الإبل، لأن الجميع قد مسته النار، ومع ذلك فرق بينهما في الحكم في الحديث، كما في حديث جابر والبراء بن عازب، وسوف نأتي على ذكرهما إن شاء الله تعالى.
وقد يقال أيضاً: إن ترك الوضوء مما مست النار عام، والأمر بالوضوء من لحوم الإبل خاص، والخاص مقدم على العام، خاصة إذا علمنا أن الحديث قد جمع بين نوعين من اللحوم وكلاهما قد مسته النار، فعلق الوضوء من لحوم الغنم بالمشيئة، وأمر بالوضوء من لحوم الإبل، ولم يعلقه على المشيئة.
الثاني: عن ابن جريج عن عطاء، قال: سمعت ابن عباس يقول: “إنما النار بركة الله، وما تحل من شيء ولا تحرمه، ولا وضوء مما مست النار، ولا وضوء مما دخل، إنما الوضوء مما خرج من الإنسان”.
رواه عبد الرزاق في المصنف (653) وأخرجه البيهقي (1/ 158) من طريق عبد الوهاب، أنا ابن جريج به، وأخرجه البيهقي أيضاً (1/ 116) من طريق أبي ظبيان، عن ابن عباس بنحوه.
الثالث: عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن يحيى بن وثاب، قال: سألت ابن عمر عن الوضوء مما غيرت النار، فقال: “الوضوء مما خرج، وليس مما دخل؛ لأنه لا يدخل إلا طيباً، ولا يخرجه إلا خبيثاً”. رواه ابن الجعد مسنده (447)، ورواه عبد الرزاق في مصنفه (100) عن الثوري، عن أبي حصين، عن يحيى بن وثاب، عن ابن عباس، فجعله من مسند ابن عباس، ورواه ابن أبي شيبة (1/ 52) حدثنا هشيم، عن أبي حصين به.
– ادلة القائلين بوجوب الوضوء من أكل لحوم الإبل:
الأول: حديث الباب عن جابر بن سمرة أن رجلا سأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا توضأ، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم، فتوضأ من لحوم الإبل. قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم. قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال لا”. اخرجه مسلم (360).
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم علق الوضوء بالمشيئة في لحم الغنم، فدل هذا على أن لحم الإبل لا مشيئة فيه ولا اختيار، وأن الوضوء منه واجب.
* حديث جابر أعله ابن المديني بجهالة جعفر بن أبي ثور لكن دافع ابن القيم عن الحديث كما في تهذيب السنن قال صاحب كتاب ابن القيم وجهوده:
وهذا الحديث صَحَّحَهُ: أحمد بن حنبل (2)، وقال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: «صَحَّ في هذا الباب حديثان عن رسول الله : حديث البراء، وحديث جابر بن سمرة». وقال ابن خزيمة: «لَمْ نر خِلافًا بين علماء أهل الحديث أن هذا الخبر صحيحٌ من جهة النقل». وصححه ابن حبان بإخراجه في (صحيحه)، ومالَ البيهقيُّ إلى تصحيحه، وقد مضى كلامه. وكفى بإخراج مسلم له في (صحيحه).
فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن ما أعَلَّهُ به ابن المديني من تجهيل راويه لم يتحقق التعليل به، وقد رَدَّ ذلك ابن القَيِّم رحمه الله، واستشهد على صحة الحديث بكلام الأئمة الأعلام، فأصاب رحمه الله.
* وقد أكَّدَ ابن القَيِّم – رحمه الله – صِحَّة هذا الخبر، فقال: «أمر النبي بالوضوء من أكْلِهِ في حديثين صحيحين، لا معارضَ لهما، ولا يَصُحُّ تأويلهما بغسل اليد؛ لأنه خلافُ المعهودِ من الوضوءِ في كلامه »
زاد المعاد: ((4) / (376))
الثاني: عن البراء بن عازب قال: “سئل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن الوضوء من لحوم الإبل؟ فقال: توضؤا منها. قال: وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل، فقال: لا تصلوا فيها؛ فإنها من الشياطين، وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم؟ فقال: صلوا فيها؛ فإنها بركة”. اخرجه أحمد في المسند (4/ 303) وهو في الصحيح المسند.
* وذكر الترمذي في العلل الكبير أن رواية من رواه عن البراء أصح ممن رواه عن أسيد (العلل الكبير 46)
* وكذلك ابوحاتم كما في العلل 38 وقيل له أيهما أصح فقال: ما رَواهُ الأعمشُ، عَنْ عبد الله بن عبد الله الرّازي، عن عبد الرحمن بْنِ أبِي لَيْلى، عَن البَراء، عن النبيِّ (صلى الله عليه وسلم.). والأعمشُ أحفظ
* وفي حاشية الجريسي على علل ابن أبي حاتم لحديث البراء نقولات:
وقال الترمذي في «العلل الكبير» (ص (47)): «حديث الأعمش أصح»، ثم نقل عن إسحاق بن راهويه أنه قال: «صحَّ في هذا الباب حديثان عن النبي (صلى الله عليه وسلم): حديث البراء، وحديث جابر بن سمرة». وكذا قال أحمد كما في «سنن البيهقي» ((1) / (159)). وقال ابن خزيمة ((32)): «ولم نر خلافًا بين علماء أهل الحديث أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل؛ لعدالة ناقليه». اهـ. وقال أبو نعيم في الموضع السابق: «صوابه: ابْنِ أبِي لَيْلى، عَنِ البَراءِ؛ رواه الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عَنِ ابْنِ أبِي لَيْلى، عَن البراء».
*وأيضا يشهد لهما حديث ابن عمر
قال ابن أبي حاتم كما في العلل:
(48) – وسألتُ أبِي عَنْ حديثٍ رَواهُ أحْمَدُ بْنُ عَبْدة، عَنْ يَحْيى بْنِ كَثِيرٍ – قالَ أبِي: وهُوَ والدُ كَثِير بْنِ يَحْيى بْنِ كَثِير، وكُنيَتُه: أبُو النَّضْر، ولَيْسَ بالعَنْبري – عَنْ عَطاءِ بْنِ السّائب، عن مُحارِب بن دِثار، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) قال: تَوَضَّؤُوا مِن لُحُومِ الإبِلِ، ولاَ تَوَضَّؤُوا مِن لُحُومِ الغَنَمِ؟
قالَ أبُو مُحَمَّدٍ: سمعتُ أبِي يَقُولُ: كُنْتُ أُنكِرُ هَذا الحَدِيثَ؛ لتفرُّده، فوجدتُّ لَهُ أصْلا:
حدَّثنا ابْنُ المُصَفّى، عَنْ بَقِيَّة؛ قالَ: حدَّثني فلانٌ – سَمّاه – عَنْ عَطاءِ بْنِ السّائب، عَنْ مُحارِب، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عن النبيِّ (صلى الله عليه وسلم)، بنحوه ……
وراجع حاشية الجريسي.
* والإمام أحمد يميل لصحتها ففي جامع علوم الإمام أحمد باب مس الذكر:
وقال مرة: باب الوضوء من لحوم الإبل أصح من باب مس الذكر … مسائل أبي داود ((1890)).
وإليك كلام أحمد بتمامه:
قال الإمام أحمد:
حديث الوضوء من لحوم الإبل فيه روايتان:
رواية البراء بن عازب، ورواية جابر بن سمرة رضي الله عنهما.
قال الإمام أحمد: جميعًا صحيحين.
وقال: هذا الباب أصح من باب من الذكر. انتهى من جامع العلوم للامام أحمد 14/ 124
يقصد بحديث البراء ما أخرجه ابن ماجه ((494)) قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا عبد اللَّه بن إدريس وأبو معاوية قالا: ثنا الأعمش، عن عبد اللَّه بن عبد اللَّه، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب قال: سئل رسول اللَّه – – عن الوضوء من لحوم الإبل، فقال: «توضئوا منها».
وحديث جابر بن سمرة أخرجه مسلم وسبق
قال ابن تيمية في «الفتاوى» (21) / (15): لقد كان أحمد رحمه الله يعجب ممن يدع حديث الوضوء من لحوم الإبل مع صحته التي لا شك فيها وعدم المعارض له، ويتوضأ من مس الذكر مع تعارض الأحاديث فيه وإن أسانيدها ليست كأحاديث الوضوء من لحوم الإبل.
واعترض الجمهور على هذه الأحاديث:
بأن المقصود بالوضوء ليس الوضوء الشرعي، وإنما المراد غسل الأيدي من لحوم الإبل.
واجيب عن هذا بوجوه:
أولاً: بأن الكلام إذا صدر من الشارع فالأصل حمله على الحقيقة الشرعية، فإن تعذر ذلك حمل على الحقيقة اللغوية، ولا يوجد هنا سبب يحملنا على صرف الكلام عن حقيقته الشرعية إلى حقيقته اللغوية.
ثانياً: أن السؤال عن الوضوء من لحومها قرن بالسؤال عن الصلاة في أعطانها مما يدل على أن المراد بالوضوء الوضوء الشرعي المتعلق بالصلاة.
ثالثاً: لو كان المقصود بالوضوء هو غسل الأيدي لكان غسل الأيدي من لحوم الغنم أولى من غسلها من لحوم الإبل، وذلك أن نسبة الدهون في لحوم الغنم أكثر منها في لحوم الإبل، وهذا أمر معروف عند كل من يتعاطى أكل لحوم الإبل.
رابعاً: أن غسل الأيدي ليس واجباً لا في لحوم الإبل ولا في لحوم الغنم، فلماذا يترك الشارع غسل الأيدي من لحوم الغنم إلى مشيئة الفاعل، ولا يترك هذا الأمر في لحوم الإبل، مع أن غسل الأيدي من لحوم الإبل والغنم الحكم فيها سواء، إلا إن كنتم تذهبون إلى وجوب غسل الأيدي من لحوم الإبل، ولا قائل به.
وسيأتي كلام لابن تيمية مطولا في آخر البحث ذكر هذه الوجوه.
وكذلك اعترض الجمهور باعتراض ثاني:
فقالوا: إن هذه الأحاديث منسوخة بحديث (كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار)
واجيب عنها:
أولاً: أن الحديث اختصره شعيب بن حمزة فأخطأ فيه.
ثانياً: أنه لا يذهب إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع، ولم يتعذر هنا؛ لأن الجمع فيه إعمال لكلا الدليلين، بينما النسخ فيه إبطال لأحدهما.
ثالثاً: أن الأمر بالوضوء من لحوم الإبل خاص، وترك الوضوء مما مست النار عام، والخاص مقدم على العام.
– قال ابن القيم في تهذيب السنن (1/ 137): ((ومن العجب معارضة هذه الأحاديث بحديث جابر: (كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار) ولا تعارض بينهما أصلاً؛ فإن حديث جابر هذا إنما يدل على أن كونه ممسوساً بالنار، ليس جهة من جهات نقض الوضوء، ومن نازعكم في هذا؟ نعم هذا يصلح أن يحتجوا به على من يوجب الوضوء مما مست النار على صعوبة تقرير دلالته، وأما من يجعل كون اللحم لحم إبل هو الموجب للوضوء، سواء مسته النار أم لم تمسه، فيوجب الوضوء من نيئه ومطبوخه وقديده، فكيف يحتج عليه بهذا الحديث؟ وحتى لو كان لحم الإبل فرداً من أفراده فإنما تكون دلالته بطريق العموم، فكيف يقدم على الخاص؟ هذا مع أن العموم لم يستفد ضمناً من كلام صاحب الشرع، وإنما هو من قول الراوي.
وأيضاً فأبين من هذا كله أنه لم يحك لفظاً لا خاصاً ولا عاماً، وإنما حكى أمرين: هما فعلان: أحدهما متقدم، وهو فعل الوضوء، والآخر متأخر، وهو تركه الوضوء من ممسوس النار، فهاتان واقعتان، توضأ في إحداهما، وترك الوضوء في الأخرى من شيء معين مسته النار، لم يحك لفظاً عاماً ولا خاصاً ينسخ به اللفظ الصريح الصحيح … الخ كلامه رحمه الله تعالى.
– قال النووي في المجموع (2/ 66): وفي لحم الجزور بفتح الجيم وهو لحم الإبل قولان, الجديد المشهور: لا ينتقض, وهو الصحيح عند الأصحاب، والقديم أنه ينتقض. وهو ضعيف عند الأصحاب، ولكنه هو القوي أو الصحيح من حيث الدليل، وهو الذي أعتقد رجحانه, وقد أشار البيهقي إلى ترجيحه واختياره والذب عنه. انتهى
– قال الشيخ ابن عثيمين في فتاوى أركان الإسلام (ص: 26):
“فإذا أكل الإنسان من لحم الجزور، الناقة أو الجمل، فإنه ينتقض وضوؤه سواءً كان نيئاً أو مطبوخاً، لأنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر بن سمرة، أنه سئل النبي صلى الله عليه وسلم أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: ((إن شئت)). فقال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: ((نعم)). فكونه صلى الله عليه وسلم يجعل الوضوء من لحم الغنم راجعاً إلى مشيئة الإنسان، دليل على أن الوضوء من لحم الإبل ليس براجع إلى مشيئة الإنسان، وأنه لا بد منه، وعلى هذا فيجب الوضوء من لحم الإبل إذا أكله الإنسان نيئاً أو مطبوخاً”. انتهى
* وسئل الألباني فقال: جابر حينما روى كان آخر الأمرين من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ترك الوضوء مما مست النار، هذا كلام عام،، لكن الرسول – عليه السلام – فرق بين لحوم الإبل وبين لحوم الغنم، وفي ذلك حديثان اثنان: حديث جابر بن سمرة في صحيح مسلم، وحديث البراء بن عازب في مسند الإمام أحمد وغيره، وفيه أنتوضأ من لحم الغنم، قال: (إن شئتم) ولحم الإبل قال: (توضئوا) انتهى
* وهذه فتوى لابن تيمية: في أن الوضوء من لحوم الإبل باق:
قد ثبت في صحيح مسلم: عن جابر بن سمرة – رضي الله عنه – «أن رجلا سأل النبي – صلى الله عليه وسلم -: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ. قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم توضأ من لحوم الإبل قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم. قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا»، وثبت ذلك في السنن من حديث البراء بن عازب. قال أحمد: فيه حديثان صحيحان، حديث البراء، وحديث جابر بن سمرة.
وله شواهد من وجوه أخر. منها: ما رواه ابن ماجه عن عبد الله بن عمر: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «توضئوا من لحوم الغنم، وصلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل». وروي ذلك من غير وجه، وهذا باتفاق أهل المعرفة بالحديث أصح وأبعد عن المعارض من أحاديث مس الذكر، وأحاديث القهقهة
، وقد قال بعض الناس: إنه منسوخ بقول جابر «كان آخر الأمرين من النبي – صلى الله عليه وسلم – ترك الوضوء مما مست النار»، لم يفرق بين لحم الإبل والغنم، إذ كلاهما في مس النار سواء، فلما فرق بينهما فأمر بالوضوء من هذا، وخير في الوضوء من الآخر، علم بطلان هذا التعليل. وإذا لم تكن العلة مس النار فنسخ التوضؤ من ذلك الأمر، لا يوجب نسخ التوضؤ من جهة أخرى، بل يقال: كانت لحوم الإبل أولا يتوضأ منها كما يتوضأ من لحوم الغنم وغيرها، ثم نسخ هذا الأمر العام المشترك.
فأما ما يختص به لحم الإبل، فلو كان قبل النسخ لم يكن منسوخا، فكيف وذلك غير معلوم؟ يؤيد ذلك ” الوجه الثاني ” وهو أن الحديث كان بعد نسخ الوضوء مما مست النار، فإنه يبين فيه أنه لا يجب الوضوء من لحوم الغنم، وقد أمر فيه بالوضوء من لحوم الإبل، فعلم أن الأمر بذلك بعد النسخ. الثالث: أنه فرق بينهما في الوضوء وفي الصلاة في المعاطن أيضا، وهذا التفريق ثابت محكم لم يأت عنه نص بالتسوية بينهما في الوضوء والصلاة، فدعوى النسخ باطل، بل عمل المسلمين بهذا الحديث في الصلاة يوجب العمل فيه بالوضوء، إذ لا فرق بينهما.
الرابع: أنه أمر بالوضوء من لحم الإبل، وذلك يقتضي الوضوء منه نيا ومطبوخا، وذلك يمنع كونه منسوخا.
الخامس: أنه لو أتى عن النبي – صلى الله عليه وسلم – نص عام بقوله: «لا وضوء مما مست النار»، لم يجز جعله ناسخا لهذا الحديث من وجهين. أحدهما: أنه لا يعلم أنه قبله، وإذا تعارض العام والخاص، ولم يعلم التاريخ، فلم يقل أحد من العلماء أنه ينسخه، بل إما أن يقال الخاص هو المقدم، كما هو المشهور من مذهب مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه، وإما أن يتوقف، بل لو علم أن العام بعد الخاص لكان الخاص مقدما.
والثاني: أنه قد بينا أن هذا الخاص بعد العام، فإن كان نسخ كان الخاص ناسخا، وقد اتفق العلماء على أن الخاص المتأخر هو المقدم على العام المتقدم، فعلم باتفاق المسلمين على: أنه لا يجوز تقديم مثل هذا العام على الخاص لو كان هنا لفظ عام، كيف ولم يرد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – حديث عام ينسخ الوضوء من كل ما مسته النار.
وإنما ثبت في الصحيح: «أنه أكل كتف شاة، ثم صلى ولم يتوضأ، وكذلك أتى بالسويق فأكل منه، ثم لم يتوضأ»، وهذا فعل لا عموم له، فإن التوضؤ من لحم الغنم لا يجب باتفاق الأئمة المتبوعين، والحديث المتقدم دليل ذلك، وأما جابر فإنما نقل «عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: أن آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار»، وهذا نقل لفعله لا لقوله. فإذا شاهدوه قد أكل لحم غنم، ثم صلى ولم يتوضأ بعد أن كان يتوضأ منه، صح أن يقال: الترك آخر الأمرين، والترك العام لا يحاط به إلا بدوام معاشرته، وليس في حديث جابر ما يدل على ذلك، بل المنقول عنه الترك في قضية معينة.
ثم ترك الوضوء مما مست النار لا يوجب تركه من جهة أخرى، ولحم الإبل لم يتوضأ منه لأجل مس النار كما تقدم، بل المعنى يختص به ويتناوله نيا ومطبوخا، فبين الوضوء من لحم الإبل والوضوء مما مست النار عموم وخصوص، هذا أعم من وجه، وهذا أخص من وجه.
وقد يتفق الوجهان، فيكون للحكم علتان، وقد ينفرد أحدهما من الآخر بمنزلة التوضؤ من خروج النجاسة مع الوضوء من القبلة، فإنه قد يقبل فيمذي، وقد يقبل فلا يمذي، وقد يمذي من غير مباشرة. فإذا قدر أنه لا وضوء من مس النساء لم ينف الوضوء من المذي. وكذلك بالعكس، وهذا بين. وأضعف من ذلك قول بعضهم أن المراد بذلك الوضوء اللغوي، وهو غسل اليد، أو اليد والفم، فإن هذا باطل من وجوه. أحدها: أن الوضوء في كلام رسولنا – صلى الله عليه وسلم – لم يرد به قط إلا وضوء الصلاة، وإنما ورد بذلك المعنى في لغة اليهود، كما روي «أن سلمان قال يا رسول الله، إنه في التوراة: من بركة الطعام الوضوء قبله. فقال: من بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده».
فهذا الحديث قد تنوزع في صحته، وإذا كان صحيحا فقد أجاب سلمان باللغة التي خاطبه بها لغة أهل التوراة، وأما اللغة التي خاطب الرسول – صلى الله عليه وسلم – بها أهل القرآن، فلم يرد فيها الوضوء إلا في الوضوء الذي يعرفه المسلمون. الثاني: أنه قد فرق بين اللحمين، ومعلوم أن غسل اليد، والفم من الغمر مشروع مطلقا، بل قد ثبت عنه «أنه تمضمض من لبن ثم شربه. وقال: إن له دسما». وقال: «من بات وبيده غمر، فأصابه شيء، فلا يلومن إلا نفسه».
فإذا كان قد شرع ذلك من اللبن والغمر، فكيف لا يشرعه من لحم الغنم؟ الثالث: أن الأمر بالتوضؤ من لحم الإبل، إن كان أمر إيجاب امتنع حمله على غسل اليد والفم، وإن كان أمر استحباب امتنع رفع الاستحباب عن لحم الغنم، والحديث فيه أنه رفع عن لحم الغنم ما أثبته للحم الإبل، وهذا يبطل كونه غسل اليد، سواء كان حكم الحديث إيجابا أو استحبابا. الرابع: أنه قد قرنه بالصلاة في مباركها مفرقا بين ذلك وهذا مما يفهم منه وضوء الصلاة قطعا، والله أعلم.
الفتاوى الكبرى لابن تيمية
مجموع الفتاوى (21/ 263):