نفح الطيب في شرح أحاديث الترغيب والترهيب
نورس الهاشمي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
9 – وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ما ابتغي به وجه الله.
رواه الطبراني بإسناد لا بأس به.
—————
[كل ما يشغل عن الله في الدنيا فهو مذموم]
قال العلامة ابن رجب الحنبلي رحمه الله:
فالدنيا وكل ما فيها ملعونة، أي مبعدة عن الله، لأنها تشغل عنه، إلا العلم النافع الدال على الله، وعلى معرفته، وطلب قربه ورضاه، وذكر الله وما والاه مما يقرب من الله، فهذا هو المقصود من الدنيا، فإن الله إنما أمر عباده بأن يتقوه ويطيعوه، ولازم ذلك دوام ذكره، كما قال ابن مسعود، تقوى الله حق تقواه أن يذكر فلا ينسى. وإنما شرع الله إقام الصلاة لذكره، وكذلك الحج والطواف. وأفضل أهل العبادات أكثرهم ذكرا لله فيها، فهذا كله ليس من الدنيا المذمومة وهو المقصود من إيجاد الدنيا وأهلها، كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56] [الذاريات: 56].
وقد ظن طوائف من الفقهاء والصوفية أن ما يوجد في الدنيا من هذه العبادات أفضل مما يوجد في الجنة من النعيم، قالوا: لأن نعيم الجنة حظ العبد، والعبادات في الدنيا حق الرب، وحق الرب أفضل من حظ العبد، وهذا غلط، ويقوي غلطهم قول كثير من المفسرين في قوله: {من جاء بالحسنة فله خير منها} [النمل: 89] [النمل: 89] قالوا: الحسنة: لا إله إلا الله، وليس شيء خيرا منها. ولكن الكلام على التقديم والتأخير، والمراد: فله منها خير، أي: له خير بسببها ولأجلها.
والصواب إطلاق ما جاءت به نصوص الكتاب والسنة أن الآخرة خير من الأولى مطلقا. وفي ” صحيح الحاكم ” عن المستورد بن شداد، قال: «كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فتذكروا الدنيا والآخرة: فقال بعضهم: إنما الدنيا بلاغ للآخرة، وفيها العمل، وفيها الصلاة، وفيها الزكاة. وقالت طائفة منهم: الآخرة فيها الجنة، وقالوا ما شاء الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الدنيا في الآخرة إلا كما يمشي أحدكم إلى اليم، فأدخل أصبعه فيه، فما خرج منه فهو الدنيا» فهذا نص بتفضيل الآخرة على الدنيا، وما فيها من الأعمال.
ووجه ذلك أن كمال الدنيا إنما هو في العلم والعمل، والعلم مقصود الأعمال، يتضاعف في الآخرة بما لا نسبة لما في الدنيا إليه، فإن العلم أصله العلم بالله وأسمائه وصفاته، وفي الآخرة ينكشف الغطاء، ويصير الخبر عيانا، ويصير علم اليقين عين اليقين، وتصير المعرفة بالله رؤية له ومشاهدة، فأين هذا مما في الدنيا؟ وأما الأعمال البدنية، فإن لها في الدنيا مقصدين: أحدهما: اشتغال الجوارح بالطاعة، وكدها بالعبادة. والثاني: اتصال القلوب بالله وتنويرها بذكره.
فالأول قد رفع عن أهل الجنة، ولهذا روي أنهم إذا هموا بالسجود لله عند تجليه لهم يقال لهم: ارفعوا رءوسكم فإنكم لستم في دار مجاهدة.
وأما المقصود الثاني، فحاصل لأهل الجنة على أكمل الوجوه وأتمها، ولا نسبة لما حصل لقلوبهم في الدنيا من لطائف القرب والأنس والاتصال إلى ما يشاهدونه في الآخرة عيانا، فتتنعم قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم بقرب الله ورؤيته، وسماع كلامه، ولا سيما في أوقات الصلوات في الدنيا، كالجمع والأعياد، والمقربون منهم يحصل ذلك لهم كل يوم مرتين بكرة وعشيا في وقت صلاة الصبح وصلاة العصر، ولهذا لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة يرون ربهم، حض عقيب ذلك على المحافظة على صلاة العصر وصلاة الفجر؛ لأن وقت هاتين الصلاتين وقت لرؤية خواص أهل الجنة ربهم وزيارتهم له، وكذلك نعيم الذكر وتلاوة القرآن لا ينقطع عنهم أبدا، فيلهمون التسبيح كما يلهمون النفس. قال ابن عيينة: لا إله إلا الله لأهل الجنة، كالماء البارد لأهل الدنيا، فأين لذة الذكر للعارفين في الدنيا من لذتهم به في الجنة. {جامع العلوم و الحكم (2/ 199 – 201).
و قال العلامة المناوي رحمه الله: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان منها لله عز وجل) يمكن أن يكون المراد بلعنها ملاذ شهواتها وجمع حطامها وما زين من حب النساء والبنين وقناطير الذهب والفضة وحب البقاء بها فيكون قوله ملعونة متروكة مبعدة متروك ما فيها واللعن للترك وقد يراد أنها متروكة للأنبياء والأصفياء كما في خبر لهم الدنيا ولنا الآخرة. فيض القدير (3/ 733).
و فيه: ذم ما أشغل من الدنيا عن ذكر الله وطاعته، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9]،
وأما ما أعان على طاعة الله من الدنيا فليس بمذموم، قال تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ} [النور: 37]. تطريز رياض الصالحين (322).
سئل العلامة ابن باز رحمه الله:
ما مدى صحة حديث: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه)؟ وما معنى هذا الحديث؟ وهل اللعن شامل لكل ما في الدنيا من جماد وحيوان وخاصة المستخدم منها في معصية الله؟ الجواب الحديث لا بأس به وإسناده جيد، ومعناه عند أهل العلم: (ملعونة)، أي: مذمومة، كما قال تعالى: {إنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعامُ الأثِيمِ} [الدخان: (43) – (44)]، وسماها في موضع آخر: {والشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ} [الإسراء: (60)]، بمعنى: مذمومة فالدنيا مذمومة ومذموم ما فيها، إلا ذكر الله، وتوحيده وطاعته سبحانه، وما والى ذلك من المؤمنين والأخيار المطيعين لله من أهل الإسلام، وعالماَ ومتعلمًا، فما كان لله وفي طاعة الله وفي الخير، وما كان يعين على طاعة الله؛ فليس بمذموم، وما كان في سبيل الكفر والضلال والإعانة على المعاصي فهذا هو المذموم، ولهذا قال: (إلا ذكر الله وما والاه)، ما والاه من طاعة الله ورسوله، وما يعين العبد على طاعة الله ورسوله، هذا هو الذي ليس بمذموم، وأما ما أعان على طاعة الشيطان ومعصية الرحمن من مال أو غيره فهو المذموم، وهكذا الجاهل الذي يعين على معاصي الله، وهكذا كل شيء يستعان به على معاصي الله فهو مذموم، وإنما الممدوح المثني عليه ما أعان على طاعة الله، ونفع عباد الله من مال وغيره.
دروس للشيخ عبد العزيز بن باز (6) / (16) — ابن باز (ت (1420))
[ذم الدنيا]
عقد ابن الجوزي في كتابه آداب حسن البصري
الفصل الرابع في ذم الدنيا ونهيه عن التعلق بها
قال هشام بن حسان: سمعت الحسن يقول: والله ما أحدٌ من الناس بسط له في أمرٍ من أمور دنياه، فلم يخف أن يكون ذلك مكراً به، واستدراجاً له، إلا نقص ذلك من عمله، ودينه، وعقله، ولا أحدٌ أمسك الله الدنيا عنه، ولم ير أن ذلك خيرٌ له، إلا نقص ذلك من عمله، وبان العجز في رأيه.
وكان يقول: ما من مسلمٍ رزق يوماً بيومٍ فلم يعلم أن ذلك خيرٌ له، إلا كان عاجز الرأي.
وكان يقول: إن الله -عز وجل- ليعطي العبد من الدنيا؛ مكراً به، ويمنعه؛ نظراً له.
وكان يقول: أدركت أقواماً كانت الدنيا أهون عندهم من التراب الذي تمشون عليه.
وكان يقول: رحم الله أقواماً كانت الدنيا عندهم وديعةً، حتى ردوها إلى من ائتمنهم عليها، ثم راحوا خفافاً غير مثقلين، ولقد أدركت أقواماً كانت الدنيا تتعرض لأحدهم، وإنه لمجهودٌ، فيتركها مخافة الساعة.
وكان يقول: والله ما بلغت الدنيا ولا انتهى قدرها إلى أن يضيع الرجل فيها حسبه ودينه.
وكان يقول: والله ما عجبت من شيء كعجبي من رجلٍ لا يحسب حب الدنيا من الكبائر؛ وايم الله! إن حبها لمن أكبر الكبائر، وهل تشعبت الكبائر إلا من أجلها؟ وهل عبدت الأصنام، وعصي الرحمن، إلا لحب الدنيا؟ فالعارف لا يجزع من ذلها، ولا ينافس بقربها، ولا يأسى لبعدها.
وكان يقول: يحشر الناس عراةً يوم القيامة، ما خلا أهل الزهادة في الدنيا.
وكان يقول: أيها الناس! والله ما أعز هذا الدرهم أحدٌ إلا أذله الله تعالى يوم القيامة؛ لقد ذكر أن إبليس، لما ضرب الدينار والدرهم، أعزهما، وجعلهما على رأسه، وقال: من أحبكما، فهو عبدي حقاً، أصرفه كيف أشاء.
وقال: إذا أحب بنو آدم الدنيا، فما أبالي ألا يعبدوا صنماً، ولا يتخذوا إلهاً غير الله رباً، حبهم الدنيا يورثهم المهالك.
وكان يقول: رأينا من أعطي الدنيا بعمل الآخرة، وما رأينا من أعطي الآخرة بعمل الدنيا.
وكان يقول: المؤمن لا يصفو له في الدنيا عيشٌ.
وكان يقول: لقد روي عن المسيح -عليه السلام- قال: الدنيا لإبليس مزرعةٌ، والناس له حراثون.
وكان يقول: من عرف ربه، أحبه، وآثر ما عنده، ومن عرف الدنيا وغرورها، زهد فيها …..
و جاء في كتاب الدرر السنية:
أيها المسلمون، الدنيا لا تدوم نعمتها، ولا يستمر خيرها؛ بل هي مجمع الآفات، ومستودع المصائب، لا يركن إليها إلا مغرور، ولا ينخدع بها إلا مفتون.
أما المؤمن الحقيقي، فهي مطيته إلى الآخرة، إن أتته سراء شكر الله عليها، وإن أصابته ضراء صبر لها؛ يأمر بالمعروف ويسارع إليه، وينهى عن المنكر ولا يقر به. (الدرر السنية 15/ 465).