6799 الفوائد المنتقاة شرح صحيح مسلم
مشاركة محمد البلوشي وعبدالله المشجري وعلي الكربي وعبدالله البلوشي أبي عيسى
وأبي صالح حازم
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان رحمه الله ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——–‘——–‘——-‘
——–‘——–‘——-‘
——–‘——–‘——-‘
صحيح مسلم، كتاب 46 – كتاب البر والصلة والآداب، 27 – باب تَحْرِيمِ الْكَذِبِ وَبَيَانِ مَا يُبَاحُ مِنْهُ
6799 – حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّ أُمَّهُ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَكَانَتْ، مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَلِ اللاَّتِي بَايَعْنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ ” لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَقُولُ خَيْرًا وَيَنْمِي خَيْرًا “. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَىْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلاَّ فِي ثَلاَثٍ الْحَرْبُ وَالإِصْلاَحُ بَيْنَ النَّاسِ وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا.
6800 – حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ. مِثْلَهُ غَيْرَ أَنَّفِي حَدِيثِ صَالِحٍ وَقَالَتْ وَلَمْ أَسْمَعْهُ يُرَخِّصُ فِي شَىْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ إِلاَّ فِي ثَلاَثٍ. بِمِثْلِ مَا جَعَلَهُ يُونُسُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ شِهَابٍ.
6801 – وَحَدَّثَنَاهُ عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ إِلَى قَوْلِهِ ” وَنَمَى خَيْرًا “. وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ.
==========
تمهيد:
يقول الإمام النووي رحمه الله كما في كتابه “رياض الصالحين” (ص: 586):
“اعلم أن الكذب وإن كان أصله محرَّمًا، فيجوز في بعض الأحوال بشروط قد أوضحتها في كتاب الأذكار، ومختصر ذلك:
أن الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن تحصيله بغير الكذب يحرم الكذب فيه، وإن لم يكن تحصيله إلا بالكذب، جاز الكذب، ثم إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحًا، كان الكذب مباحًا، وإن كان واجبًا، كان الكذب واجبًا.
فإذا اختفى مسلم من ظالم يريد قتله، أو أخذ ماله، وسئل إنسان عنه، وجب الكذب بإخفائه، وكذا لو كان عنده وديعة، وأراد ظالم أخذها، وجب الكذب بإخفائها، والأحوط في هذا كله أن يوري، ومعنى التورية: أن يقصد بعبارته مقصودًا صحيحًا ليس هو كاذبًا بالنسبة إليه، وإن كان كاذبًا في ظاهر اللفظ، وبالنسبة إلى ما يفهمه المخاطب، ولو ترك التورية وأطلق عبارة الكذب، فليس بحرام في هذا الحال.
واستدل العلماء بجواز الكذب في هذا الحال؛ بحديث أم كلثوم رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فيَنمي خيرًا أو يقول خيرًا)).
• زاد مسلم في رواية: “قالت أم كلثوم: ولم أسمعه يُرخِّص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث”؛ تعني: “الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها”.اهـ[رياض الصالحين، كتَاب الأمُور المَنهي عَنْهَا، باب: بيان مَا يجوز من الكذب، مقدمة الباب].
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
((27)) – (بابُ: تَحْرِيمِ الكَذِبِ، وبَيانِ ما يُباحُ مِنهُ)
الأول:
(أُمُّهُ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أبِي مُعَيْطٍ) الأُمَويّة،
أخت عثمان بن عفّان لأمه،
أسلمت قديمًا، وبايعت،
وحُبست عن الهجرة، إلى أن هاجرت سنة سبع في الهُدْنة،
تزوجها: زيد بن حارثة، فقُتل عنها، ثم الزبير بن العوّام، ثم طلقها، فتزوجها عمرو بن العاص، فماتت عنده.
رَوَت عن النبيّ – -:
«ليس الكاذب من أصلح بين الناس … » الحديث، وعن بُسرة بنت صفوان،
وروى عنها ابناها: إبراهيم، وحميد ابنا عبد الرحمن بن عوف، وذكر البلاذريّ أنها كانت مع عمرو بمصر،
ماتت: في خلافة عليّ – رضي الله عنهم -.
أخرج لها: البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس لها عندهم إلا حديث الباب.
(«لَيْسَ الكَذّابُ) بصيغة المبالغة، وفي رواية: ((ليس الكاذب))، وقال في ((العمدة)): معنى قوله: ((ليس الكذّاب)). أنه من باب ذي كذا؛ أي: ليس بذي كذب؛ كما قيل في قوله تعالى: {وما رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت (46)]؛ أي: وما ربك بذي ظلم؛ لأن نفي الظلامية لا يستلزم نفي كونه ظالِمًا، فلذلك يقدَّر كذا؛ لأن الله تعالى لا يظلم مثقال ذرّة؛ يعني: ليس عنده ظلم أصلًا. انتهى. [«عمدة القاري» (13) / (268)].
ب. وكذا كلُّ كذب يؤدي إلى خير، كما أشار إليه، بقوله: «فينمي» بفتح أوله، وكسر الميم، مخفّفًا؛ أي: يبلغ «خيرًا» على وجه الإصلاح، «ويقول خيرًا»؛ أي: يُخبر بما عمله المخبَر عنه
من الخير، ويسكت عما عمله من الشرّ، فإن ذلك جائزٌ، بل محمود، بل قد يُندَب، بل قد يجب، لكن في اشتراط قَصْد التورية خُلْف.
وليس المراد: نفي ذات الكذب، بل نفي إثمه، فالكذب كذبٌ، وإن قيل لإصلاح، أو غيره، كذا قرره جمع.
وقال البيضاوي: قوله: «ينمي خيرًا»؛ أي: يُبلِغ خير ما يسمعه، ويدَع شرّه.
والكذبُ في الإصلاح بين اثنين: أن يَنمي من أحدَهما إلى صاحبه خيرًا، ويُبلغه جميلًا، وإن لم يكن سمعه منه بقصد الإصلاح،
والكذب في الحرب: أن يُظهر في نفسه قوّة، ويتحدث بما يُقَوِّي به أصحابه، ويكيد عدوه، والكذب للزوجة: أن يَعِدها، ويُمَنِّيها، ويُظهر لها أكثر مما في نفسه؛ ليستديم صحبتها، ويُصلح به خُلُقها.
قال النوويّ: وقد ضبط العلماء ما يباح من الكذب، وأحسن ما رأيته في ضَبْطه قول الغزاليّ: الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود، يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعًا، فالكذب فيه حرام؛ لعدم الحاجة، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب، ولم يمكن بالصدق، فالكذب فيه مباح لمباح، وواجب لواجب. انتهى كلام المناويّ رحمه الله [«فيض القدير» (5) / (359)].
وفي رواية البخاريّ: «فينمي خيرًا، أو يقول خيرًا»، قال في «الفتح»: قوله: «أو يقول خيرًا» هو شك من الراوي، قال العلماء: المراد هنا: أنه يُخبر بما علمه من الخير، ويسكت عما علمه من الشرّ، ولا يكون ذلك كذبًا؛ لأن الكذب الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به، وهذا ساكت، ولا يُنسب لساكت قول، ولا حجة فيه لمن قال: يُشترط في الكذب القصد إليه؛ لأن هذا ساكت. انتهى [«الفتح» (6) / (575)، كتاب «الصلح» رقم ((2692))].
(قالَ ابْنُ شِهابٍ) هذا صريح في أن هذا الكلام من الزهريّ، وليس لأم كلثوم، فهو مدرج في الروايات الأخرى.
قال في «الفتح»: وما زاده مسلم، والنسائيّ من رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، في آخره: «ولم أسمعه يُرَخِّص في شيء مما يقول الناس: إنه كذب إلا في ثلاث … »، فذكرها، وهي الحرب، وحديث الرجل لامرأته، والإصلاح بين الناس.
وأورد النسائي أيضًا هذه الزيادة من طريق الزُّبيديّ، عن ابن شهاب، وهذه الزيادة مُدْرَجة بَيَّن ذلك مسلم في روايته من طريق يونس، عن الزهريّ، فذكر الحديث، قال: وقال الزهريّ.
وكذا أخرجها النسائيّ مفردة من رواية يونس، وقال: يونس أثبت في الزهريّ من غيره، وجزم موسى بن هارون وغيره بإدراجها.
قال الحافظ: ورويناه في «فوائد بن أبي ميسرة» من طريق عبد الوهاب بن رُفيع، عن ابن شهاب، فساقه بسنده، مقتصرًا على الزيادة، وهو وهَمٌ شديد. انتهى [«الفتح» (6) / (575)].
* قال ابن الملقن في التوضيح: ” هذا الحديث زاد فيه مسلم في رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن صالح، عن الزهري: قالت ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث. تعني: الحرب والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها، وجعل يونس ومعمر هذه الزيادة عن الزهري، فقال: لم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث.
قال الخطيب: القول قولهما والحق معهما، وذكره أيضا موسى بن هارون. وقال: آخر حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “أو يقول خيرا” يعني: كما عند البخاري قال: وهو أمر بين واضح أن آخر الحديث إنما هو من قول الزهري لا من قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
وساقها ابن بطال من حديث عبد العزيز بن محمد، عن عبد الوهاب ابن رفيع عن ابن شهاب بلفظ: ما سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يرخص في الكذب إلا في ثلاث كان – عليه السلام – يقول: “لا أعدهن كذبا: الرجل يصلح بين الناس يقول قولا يريد به الصلاح، والرجل يحدث زوجته، والمرأة تحدث زوجها، والرجل يقول في الحرب”
وللترمذي: “لا يحل الكذب إلا في ثلاث: يحدث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس”.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقول أم كلثوم: «ولم أسمعه يرخَّص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث» تعني بذلك: أنه لم يرخص في شيء مما يكذب الناس فيه إلا في هذه الثلاث، وقد جاء لفظ الكذب نصًّا في كتاب الترمذيّ من حديث أسماء بنت يزيد، قالت: قال رسول الله – -: «لا يحلّ الكذب إلا في ثلاث: يحدّث الرجل امرأته لِيُرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس»، فهذه الأحاديث قد أفادت: أن الكذب كلّه محرّم لا يحل منه شيء إلا هذه الثلاثة، فإنّه رخّص فيها لِما يحصل بذلك من المصالح، ويندفع به من المفاسد، والأولى ألا يكذب في هذه الثلاثة، إذا وجد عنه مندوحة، فإنْ لم توجد المندوحة أُعملت الرّخصة، وقد يجب ذلك بحسب الحاجة إلى تلك المصلحة، والضرورة إلى دفع تلك المفسدة، وما ذكرته هو – إن شاء الله- مذهب أكثر العلماء.
وقد ذهب الطبريّ إلى أنه لا يجوز الكذب الصريح بشيء من الأشياء، لا في هذه الثلاثة، ولا في غيرها، متمسِّكًا بالقاعدة الكليّة في تحريمه، وتأوّل هذه الأحاديث على التورية والتعريض، وهو تأويل لا يعضده دليل، ولا تعارُض بين العموم والخصوص، كما هو عن العلماء منصوص، وأما كَذْبَةٌ تُنجي ميتًا، أو وليًّا، أو أُممًا، أو مظلومًا ممن يريد ظُلمه، فذلك لا تختلف في وجوبه أمة من الأمم، لا العرب، ولا المعجم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله. [«المفهم» (6) / (591) – (592)]، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
—
أولاً: تبويبات الأئمة:
* بوب البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب الصلح باب لَيْسَ الكَاذِبُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ وأورد تحته حديث أم كلثوم 2692.
* بوب النسائي في الكبرى 9066 الرخصة في أن يحدث الرجل أهله بما لم يكن.
* بوب الخرائطي في كتابه مساوئ الأخلاق بَابُ مَا يُرَخَّصُ فِيهِ مِنَ الْكَذِبِ.
* بوب ابن شاهين في الترغيب في فضائل الأعمال وثواب ذلك ص 145: بَابُ فَضْلِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ وَالرُّخْصَةِ فِي الْكَذِبِ بَيْنَهُمَا بِمَا يُوجِبُ الصُّلْحَ.
* ابن الأثير رحمه الله في جامع الأصول أورد هذا الحديث في الكتاب الثاني من حرف الكاف بعنوان: في الكذب، في الفصل الثاني منه: فيما يجوز من الكذب، وأورد تحته من الأحاديث:
• (ت) أسماء بنت يزيد – رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «يا أيُّها الناس، ما يحملكم على أن تتايعوا على الكذب كتتايُعِ الفراش على النار، الكذبُ كلُّه على ابن آدمَ، إلا في ثلاث خصال: رجل كذب امرأته ليُرضِيَها، ورجل كذب في الحرب، فإن الحرب خدْعَة، ورجل كذبَ بين مُسْلمَيْن ليُصْلح بينهما».
وفي رواية قالت: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يحلُّ الكذب إلا في ثلاث .. » وذكر الحديث. أخرج الترمذي الثانية، والأولى ذكرها رزين.
[شَرْحُ الْغَرِيبِ] تتايعوا، التتايع: التساقط والتهافت في الأمر. [ص:604] الفراش: هذا الطائر الذي يتواقع في ضوء السراج فيحترق.
• ثم ذكر حديث الباب.
• (ط) صفوان بن سليم الزرقي – رحمه الله -: أن رجلا قال لرسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-: «أكْذِبُ امآرتي؟ فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: لا خير في الكذب، فقال الرجل: يا رسول الله، أفأعدُها وأقول لها؟ فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: لا جُنَاحَ عليك» أخرجه الموطأ.
- (خ م د ت) أبو هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «لم يكذب إبراهيم النبيُّ – عليه السلام – قطُّ إلا ثلاثَ كذَبَات، ثنتين في ذات الله، قوله: {إني سقيم} [الصافات: 89] وقوله: {بل فعله كبيرُهم هذا} [الأنبياء: 63] وواحدة في شأن سارة، فإنه قدم أرضَ جبَّار، ومعه سارَةُ، وكانت أحسن الناس، فقال لها: إن هذا الجبَّارَ إنّ يعْلَم أنَّكِ امرأتي يغْلِبْني عليك، فإن سألك فأخبريه أنَّكِ أختي، فإنك [ص:606] أختي في الإسلام، فإني لا أعلم في الأرض مُسْلما غيري وغيرَك …… وساق الحديث مطولا
واختصره الترمذي، وهذا لفظه، قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: لم يكذب إبراهيم في شيء قطُّ إلا في ثلاث، قوله: {إني سقيم} ولم يكن سقيما، وقوله لسارة: أختي، وقوله: {بل فعله كبيرهم هذا}.
* بوب النووي على الحديث في رياض الصالحين: باب الإصلاح بَيْنَ الناس، وباب بيان ما يجوز من الكذب.
* قال البيهقي في شعب الإيمان: الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَهُوَ بَابٌ فِي حِفْظِ اللِّسَانِ ” عَمَّا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَأَوَّلُ مَا دَخَلَ فِي هَذَا لُزُومُ الصِّدْقِ وَمُجَانَبَةُ الْكَذِبِ.
وكذلك السَّادِسُ وَالسَّبْعُونَ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَهُوَ بَابٌ فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ إِذَا مَرَجُوا وَفَسَدَتْ ذَاتُ بَيْنِهِمْ إِمَّا لِدَمٍ أُرِيقَ فِيهِمْ وَإِمَّا لِمَالٍ حَظِيرٍ أُصِيبَ لِبَعْضِهِمْ وَإِمَّا لِتَنَافُسٍ وَقَعَ بَيْنَهُمْ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُفْسِدُ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَتَقْطَعُ الْمَوَدَّةَ.—-
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أم كلثوم بنت عُقبة بن أبي معيط – رضي الله عنهما – هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم في الكذب المذكور في الحديث:
قال القاضي عياض رحمه الله: لا خلاف في جواز الكذب في هذه الصور المذكورة في هذا الحديث، واختلفوا في المراد بالكذب المباح فيها ما هو؟
فقالت طائفة: هو على إطلاقه، وأجازوا قول ما لم يكن في هذه المواضع؛ للمصلحة، وقالوا: الكذب المذموم ما فيه مضرّة؛ واحتجوا بقول إبراهيم عليه السلام: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء (63)]، وقوله: {إنِّي سَقِيمٌ} [الصافات (89)]،
وقوله: «إنها أختي»، وقول منادي يوسف عليه السلام: {أيَّتُها العِيرُ إنَّكُمْ لَسارِقُونَ} [يوسف (70)]، قالوا: ولا خلاف: أنه لو قَصَد ظالم قَتْل رجل هو عنده مختفٍ، وجب عليه الكذب في أنه لا يعلم أين هو؟
وقال آخرون، منهم الطبريّ: لا يجوز الكذب في شيء أصلًا، قالوا: وما جاء من الإباحة في هذا المرادُ به: التورية، واستعمال المعاريض، لا صريح الكذب، مثل أن يَعِد زوجته أن يُحسن إليها، ويكسوها كذا، وينوي إن قَدّر الله ذلك.
وحاصله: أن يأتي بكلمات مُحْتَمِلة، يَفهم المخاطَب منها ما يُطَيِّب قلبه، وإذا سعى في الإصلاح نَقَل عن هؤلاء إلى هؤلاء كلامًا جميلًا، ومن هؤلاء إلى هؤلاء كذلك، ووَرّى، وكذا في الحرب، بأن يقول لعدوّه: مات إمامكم الأعظم، وينوي إمامهم في الأزمان الماضية، أو غدًا يأتينا مددٌ؛ أي: طعام ونحوه، هذا من المعاريض المباحة، فكل هذا جائز، وتأولوا قصة إبراهيم، ويوسف، وما جاء من هذا على المعاريض، والله أعلم.
وأما كَذِبه لزوجته، وكذبها له، فالمراد به في إظهار الودّ والوعد بما لا يلزم، ونحو ذلك، فأما المخادعة في مَنع ما عليه، أو عليها، أو أخْذ ما ليس له، أو لها، فهو حرام بإجماع المسلمين، والله أعلم. انتهى [«شرح النوويّ» (16) / (157) – (158)].
وقال في «العمدة»: قال الطبريّ: اختَلف العلماء في هذا الباب،
فقالت طائفة: الكذب المرخَّص فيه في هذه هو جميع معاني الكذب، فحمَله قوم على الإطلاق، وأجازوا قول ما لم يكن في ذلك؛ لِما فيه من المصلحة؛ فإن الكذب المذموم إنما هو فيما فيه مضرّة للمسلمين
وقال آخرون: لا يجوز الكذب في شيء من الأشياء، ولا الخبر عن شيء بخلاف ما هو عليه، وما جاء في هذا إنما هو على التورية، وطريق المعاريض، تقول للظالم: فلان يدعو لك، وتنوي قوله: اللَّهُمَّ اغفر لجميع المسلمين، ويعِد زوجته، وبنته، ويريد في ذلك: إن قدّر الله تعالى، أو إلى مدّة، وكذلك الإصلاح بين الناس، وحديث المرأة زوجها يَحْتَمِل أنه مما يحدّث أحدهما الآخر من وُدّه له، واغتباطه به، والكذب في الحرب هو أن يُظهر من نفسه قوّة، ويتحدث بما يَشْحَذ به بصيرة أصحابه، ويكيد به عدوّه، وقد قال رسول الله – -: «الحرب خَدْعَة».
وقال المهلَّب: ليس لأحد أن يعتقد إباحة الكذب، وقد نهى النبيّ – – عن الكذب نهيًا مطلقًا، وأخبر أنه مخالف للإيمان، فلا يجوز استباحة شيء منه، وإنما أطلق النبيّ – – للصلح بين الناس؛ أن يقول ما عَلِم من الخير بين الفريقين، ويسكت عما سمع من الشرّ بينهم، ويعِد أن يسهّل ما صَعُب، ويقرّب ما بعُد، لا أنه يُخبِر بالشيء على خلاف ما هو عليه؛ لأن الله قد حرّم ذلك، ورسوله – -، وكذلك الرجل يَعِدُ المرأة، ويُمَنِّيها، وليس هذا من طريق الكذب؛ لأن حقيقته الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه، والوعد لا يكون حقيقة حتى يُنجَز، والأنجاز مرجوّ في الاستقبال، فلا يصلح أن يكون كذبًا، وكذلك في الحرب، إنما يجوز فيها المعاريض، والأبهام بألفاظ تَحْتَمِل وجهين.
فيُوَرِّي بها عن أحد المعنيين؛ ليغترّ السامع بأحدهما عن الآخر، وليس حقيقته الإخبار عن الشيء بخلافه وضدّه، ونحوُ ذلك، ما رُوي عن رسول الله – – أنه مازح عجوزًا، فقال: «إن العُجَّز لا يدخلن الجنة»، فأوهمها في ظاهر الأمر أنهن لا يدخلن الجنة أصلًا، وإنما أراد أنهن لا يدخلن الجنة إلا شبابًا، فهذا وشِبْهه من المعاريض التي فيها مندوحة عن الكذب، وأما صريح الكذب فليس بجائز لأحد، وما نقل أن بعض السلف قاله عند بعض الأمراء فيخرج لأحد معاني الكذب الذي رُوي عن رسول الله – – أنه أذِن فيها، وإنما ذلك من جنس إحياء الرجل نفسه عند الخوف، كالذي يضطرّ إلى الميتة، ولحم الخنزير، فيأكل ليُحيي نفسه، وكذلك الخائف له أن يُخَلِّص نفسه ببعض ما حَرَّم الله تعالى عليه، وله أن يحلف على ذلك، ولا حرج عليه، ولا إثم.
قال عياض: وأما المخادعة في مَنع حقّ عليه، أو عليها، أو أخْذ ما ليس له، أو لها، فهو حرام بالإجماع. انتهى [«عمدة القاري» (13) / (269) – (270)].
قال [الأتيوبي] عفا الله عنه: عندي أن القول الأول، وهو حَمْل الكذب المذكور في هذا الحديث على ظاهره هو الحقّ؛ لأنه مقتضى ظاهر الحديث، فلا حاجة إلى العدول عنه، فيكون مخصوصًا من عموم تحريم الكذب،
وأما تأويل أهل القول الثاني بما سبق، فإخراج للحديث عن معناه الظاهر، فلا يعَوّل عليه، والله تعالى أعلم.
يقصد الشيخ الأتيوبي: لا نحتاج أن نقول أنه من باب التورية بل يجوز الكذب الصريح في هذه الثلاثة للمصلحة.
[تنبيه]: قال البخاريّ رحمه الله في «صحيحه»: «باب الكذب في الحرب»، ثم
ذكر فيه حديث جابر – رضي الله عنه – في قصة قتل كعب بن الأشرف وهو حديث جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما -، أن النبيّ – – قال: «من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله»،
قال محمد بن مسلمة: أتحبّ أن أقتله يا رسول الله؟
قال: «نعم»، قال: فأتاه، فقال: إن هذا- يعني: النبيّ – – – قد عَنّانا، وسألَنا الصدقة، قال: وأيضًا والله لتملنّه، قال: فإنا قد اتبعناه، فنكره أن نَدَعه، حتى ننظر إلى ما يصير أمره، قال: فلم يزل يكلمه، حتى استمكن منه، فقتله. انتهى.].
قال ابن المُنَيِّر: الترجمة غير مطابقة؛ لأن الذي وقع منهم في قتل كعب بن الأشرف، يمكن أن يكون تعريضًا؛ لأن قولهم: «عنّانا»؛ أي: كلّفنا بالأوامر، والنواهي، وقولهم: «سألَنا الصدقة»؛ أي: طلبها منّا ليضعها مواضعها، وقولهم: «فنكره أن ندعه إلخ»؛ معناه: نَكْرَه فراقه، ولا شك أنهم كانوا يحبون الكون معه أبدًا. انتهى.
قال الحافظ: والذي يظهر أنه لم يقع منهم فيما قالوه بشيء من الكذب أصلًا، وجميع ما صدر منهم تلويح، كما سبق، لكن ترجم بذلك لقول محمد بن مسلمة للنبيّ – – أوّلًا: ائذن لي أن أقول، قال: «قل»، فإنه يدخل فيه الإذن في الكذب تصريحًا وتلويحًا، وهذه الزيادة وإن لم تُذكر في سياق حديث الباب، فهي ثابتة فيه، كما في الباب الذي بعده، على أنه لو لم يُرِد ذلك لَما كانت
الترجمة منافرة للحديث؛ لأن معناها حينئذ: باب الكذب في الحرب، هل يسوغ مطلقًا، أو يجوز منه الإيماء، دون التصريح؟ وقد جاء من ذلك صريحًا ما أخرجه الترمذيّ من حديث أسماء بنت يزيد، مرفوعًا: «لا يحل الكذب إلا في ثلاث: تحدُّث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، وفي الإصلاح بين الناس»، وكذا حديث أم كلثوم بنت عقبة المذكور في الباب.
قال النوويّ: الظاهر إباحة حقيقة الكذب في الأمور الثلاثة، لكن التعريض أولى.
وقال ابن العربيّ: الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنصّ، رفقًا بالمسلمين؛ لحاجتهم إليه، وليس للعقل فيه مجالٌ، ولو كان تحريم الكذب بالعقل ما انقلب حلالًا. انتهى.
ويقويه ما أخرجه أحمد، وابن حبان، من حديث أنس – رضي الله عنه – في قصة الحجاج بن علاط الذي أخرجه النسائيّ، وصححه الحاكم في استئذانه النبيّ – – أن يقول عنه ما شاء لمصلحته في استخلاص ماله من أهل مكة، وأذِن له النبيّ – -، وإخباره لأهل مكة أن أهل خيبر هَزَموا المسلمين، وغير ذلك مما هو مشهور فيه.
ولا يعارض ذلك ما أخرجه النسائيّ من طريق مصعب بن سعد، عن أبيه، في قصة عبد الله بن أبي سرح، وقول الأنصاريّ للنبيّ – – لَمّا كفَّ عن بيعته: هلّا أومأت إلينا بعينك، قال: «ما ينبغي لنبيّ أن تكون له خائنة الأعين»؛ لأن طريق الجمع بينهما: أن المأذون فيه بالخداع والكذب في الحرب حالة الحرب خاصّةً، وأما حال المبايعة فليست بحال حرب.
وتعقّبه الحافظ، فقال: كذا قال، وفيه نظر؛ لأن قصة الحجاج بن علاط أيضًا لم تكن في حال حرب.
والجواب المستقيم أن نقول: المنع مطلقًا من خصائص النبيّ – -، فلا يتعاطى شيئًا من ذلك، وإن كان مباحًا لغيره، ولا يعارض ذلك ما تقدم من أنه كان إذا أراد غزوة ورّى بغيرها، فإن المراد أنه كان يريد أمرًا، فلا يظهره؛ كأن يريد أن يغزو وجهة الشرق، فيسأل عن أمر في جهة الغرب، ويتجهز للسفر، فيظن من يراه، ويسمعه أنه يريد جهة الغرب، وأما أن يصرح بإرادته الغرب، وإنما مراده الشرق فلا، والله أعلم.
وقال ابن بطال: سألت بعض شيوخي عن معنى هذا الحديث، فقال: الكذب المباح في الحرب ما يكون من المعاريض، لا التصريح بالتأمين مثلًا، قال: وقال المهلَّب: موضع الشاهد للترجمة من حديث الباب قول محمد بن مسلمة: «قد عنّانا، وسألَنا الصدقة»؛ لأن هذا الكلام يَحْتَمِل أن يُفْهَم أن اتّباعهم له إنما هو للدنيا، فيكون كذبًا محضًا، ويحْتَمِل أن يريد أنه أتعبنا بما يقع لنا من محاربة العرب، فهو من معاريض الكلام، وليس فيه شيء من الكذب الحقيقيّ الذي هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه،
ثم قال: ولا يجوز الكذب الحقيقيّ في شيء من الدِّين أصلًا، قال: ومحال أن يأمر بالكذب من يقول: «من كذب عليّ متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار». انتهى [«الفتح» (7) / (284) – (285)، كتاب «الجهاد» رقم ((30) – (31))].
قال [الأتيوبي] عفا الله عنه: لا إشكال في حديث: «من كذب عليّ متعمِّدًا إلخ»، فإن الذي قاله هو الذي قال: «ليس الكذّاب الذي يُصلح بين الناس إلخ»، فكلٌّ من عند الله تعالى، فلا تعارُض، بل الكذب المحرّم هو الذي لا يتضمّن جلب مصلحة، أو دَفْع مفسدة، وأما الذي يجوز من الكذب، فهو المتضمّن لذلك، وليس فيه إضاعة حقّ لمسلم، فافهم الفرق، تعرف الحقّ.
والحاصل: أن الصواب أن الحديث على ظاهره، فيحلّ الكذب في الأشياء الثلاثة التي استثناها الشارع في تحريم الكذب ولو كان صريحًا، لكن إذا وجد مندوحة، فالأولى أن يستعمله، وإلا فالصريح جائز، وقد تقدم عن القرطبيّ ترجيح هذا القول، وعَزاه إلى أكثر العلماء، والله تعالى أعلم.
=====
الثاني:
( … ) – (حَدَّثنا عَمْرٌو النّاقِدُ، حَدَّثنا يَعْقُوبُ بْنُ إبْراهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنا أبِي، عَنْ صالِحٍ، حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ شِهابٍ، بِهَذا الإسْنادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أنَّ فِي حَدِيثِ صالِحٍ: وقالَتْ: ولَمْ أسْمَعْهُ يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِمّا يَقُولُ النّاسُ، إلّا فِي ثَلاثٍ، بِمِثْلَ ما جَعَلَهُ يُونُسُ مِن قَوْلِ ابْنِ شِهابٍ).
[تنبيه]: رواية صالح بن كيسان عن الزهريّ ساقها الإمام أحمد رحمه الله في «مسنده»، فقال: ((27313)) «(6) / (403)
وساقها البخاريّ أيضًا في (صحيحه)، إلا أنها مختصرة، قال: ((2546)) –
=====
الثالث:
[تنبيه]: رواية معمر عن الزهريّ هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في» مسنده «، فقال:
((27314)) – حدّثنا عبد الرزاق، قال: أنا معمرٌ، عن الزهريّ، عن
حُميد بن عبد الرحمن، عن أمه أم كلثوم بنت عقبة، وكانت من المهاجرات الأُوَل، قالت: سمعت رسول الله – – يقول: ((ليس الكذّاب من أصلح بين الناس، فقال خيرًا، أو نَمى خيرًا- وقال مرّةً-: ونَمى خيرًا)). انتهى [» مسند الإمام أحمد بن حنبل” (6) / (403)]. [انظر: البحر المحيط الثجاج]
=====
ملحقات:
“كَذِب التَّعْرِيفُ:
(1) – الكَذِبُ لُغَةً: الاخْبارُ عَنِ الشَّيْءِ بِخِلاَفِ ما هُوَ، سَواءٌ فِيهِ العَمْدُ والخَطَأُ. [المصباح المنير مادة: كذب].
ولاَ يَخْرُجُ اصْطِلاَحُ الفُقَهاءِ عَنِ المَعْنى اللُّغَوِيِّ.
الالْفاظُ ذاتُ الصِّلَةِ:
أ – التَّزْوِيرُ:
(2) – التَّزْوِيرُ فِي اللُّغَةِ: تَزْيِينُ الكَذِبِ، وزَوَّرْتُ الكَلاَمَ فِي نَفْسِي: هَيَّاتُهُ.
وفِي الاِصْطِلاَحِ: تَحْسِينُ الشَّيْءِ ووَصْفُهُ بِخِلاَفِ صِفَتِهِ حَتّى يُخَيَّل إلى مَن سَمِعَهُ أوْ رَأَىهُ أنَّهُ بِخِلاَفِ ما هُوَ عَلَيْهِ فِي الحَقِيقَةِ، فَهُوَ تَمْوِيهُ الباطِل بِما يُوهِمُ أنَّهُ حَقٌّ.
وبَيْنَ الكَذِبِ والتَّزْوِيرِ عُمُومٌ وخُصُوصٌ وجْهِيٌّ: فالتَّزْوِيرُ يَكُونُ فِي القَوْل والفِعْل، والكَذِبُ لاَ يَكُونُ إلاَّ فِي القَوْل.
والكَذِبُ قَدْ يَكُونُ مُزَيَّنًا أوْ غَيْرَ مُزَيَّنٍ، والتَّزْوِيرُ لاَ يَكُونُ إلاَّ فِي الكَذِبِ المُمَوَّهِ.
ب – الاِفْتِراءُ:
(3) – الاِفْتِراءُ فِي اللُّغَةِ والاِصْطِلاَحِ: الكَذِبُ والاِخْتِلاَقُ، قال تَعالى: {أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ}، أيِ: اخْتَلَقَهُ وكَذَبَ بِهِ عَلى اللَّهِ.
والصِّلَةُ بَيْنَ الكَذِبِ والاِفْتِراءِ: عُمُومٌ وخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، فَإنَّ الكَذِبَ قَدْ يَقَعُ عَلى سَبِيل الافْسادِ، وقَدْ يَكُونُ عَلى سَبِيل الاصْلاَحِ، كالكَذِبِ لِلاصْلاَحِ بَيْنَ المُتَخاصِمَيْنِ، أمّا الاِفْتِراءُ فَإنَّ اسْتِعْمالَهُ لاَ يَكُونُ إلاَّ فِي الافْسادِ.
الحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
(4) – الاصْل فِي الكَذِبِ أنَّهُ حَرامٌ بِالكِتابِ والسُّنَّةِ وإجْماعِ الامَّةِ، وهُوَ مِن أقْبَحِ الذُّنُوبِ وفَواحِشِ العُيُوبِ؛ قال تَعالى: {ولاَ تَقُولُوا لِما تَصِفُ ألْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذا حَلاَلٌ وهَذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلى اللَّهِ الكَذِبَ إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ}.
ورَوى ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أنَّ رَسُول اللَّهِ قال: إنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ، وإنَّ الرَّجُل لَيَصْدُقُ حَتّى يَكُونَ صِدِّيقًا، وإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إلى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إلى النّارِ، وإنَّ الرَّجُل لَيَكْذِبُ حَتّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذّابًا.
أخرجه البخاري (فتح الباري (10) / (507)) ومسلم ((4) / (2012) – (2013)) واللفظ للبخاري. وسيأتي الحديث عن ذلك بعد الباب الذي سيأتي إن شاء الله تعالى]
وقال عليه الصلاة والسلام: كَبُرَتْ خِيانَةً أنْ تُحَدِّثَ أخاكَ حَدِيثًا هُوَ لَكَ بِهِ مُصَدِّقٌ وأنْتَ لَهُ بِهِ كاذِبٌ أخرجه أبو داود ((5) / (253) – (254)) من حديث سفيان بن أسيد الحضرمي، وضعف إسناده النووي في الأذكار ص (585)].
وإجْماعُ الامَّةِ مُنْعَقِدٌ عَلى تَحْرِيمِهِ مَعَ النُّصُوصِ المُتَظاهِرَةِ عَلى ذَلِكَ. [إحياء علوم الدين (9) / (1582)، والأذكار ص (335)].
(5) – وقَدْ يَكُونُ الكَذِبُ مُباحًا أوْ واجِبًا، فالكَلاَمُ وسِيلَةٌ إلى المَقاصِدِ، وكُل مَقْصُودٍ مَحْمُودٍ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِغَيْرِ الكَذِبِ يَحْرُمُ الكَذِبُ فِيهِ، وإنْ لَمْ يُمْكِنْ تَحْصِيلُهُ إلاَّ بِالكَذِبِ جازَ الكَذِبُ فِيهِ …. وسبقت النقولات
الاِسْتِثْناءات الثلاث في الكذب ورَدَ فِيها صَرِيح النص وفِي مَعْناها ما عَداها إذا ارْتَبَطَ بِهِ مَقْصُودٌ صَحِيحٌ لَهُ أوْ لِغَيْرِهِ.
فَأمّا ما هُوَ صَحِيحٌ لَهُ فَمِثْل أنْ يَاخُذَهُ ظالِمٌ ويَسْألَهُ عَنْ مالِهِ فَلَهُ أنْ يُنْكِرَهُ، أوْ يَاخُذَهُ سُلْطانٌ فَيَسْألَهُ عَنْ فاحِشَةٍ بَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّهِ تَعالى ارْتَكَبَها فَلَهُ أنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ، فَيَقُول: ما زَنَيْتُ، ما سَرَقْتُ، وقال رَسُول اللَّهِ : اجْتَنِبُوا هَذِهِ القاذُورَةَ الَّتِي نَهى اللَّهُ عَنْها، فَمَن ألَمَّ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ ولْيَتُبْ إلى اللَّهِ فَإنَّهُ مَن يُبْدِ لَنا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتابَ اللَّهِ عز وجل أخرجه الحاكم وصححه ((4) / (244)) من حديث ابن عمر، ووافقه الذهبي].
وذَلِكَ أنَّ إظْهارَ الفاحِشَةِ فاحِشَةٌ أُخْرى، فَلِلرَّجُل أنْ يَحْفَظَ دَمَهُ ومالَهُ الَّذِي يُؤْخَذُ ظُلْمًا وعِرْضَهُ بِلِسانِهِ وإنْ كانَ كاذِبًا.
وأمّا عِرْضُ غَيْرِهِ فَبِأنْ يُسْأل عَنْ سِرِّ أخِيهِ فَلَهُ أنْ يُنْكِرَهُ، ونَحْوُ ذَلِكَ، ولَكِنَّ الحَدَّ فِيهِ أنَّ الكَذِبَ مَحْذُورٌ، ولَوْ صَدَقَ فِي هَذِهِ المَواضِعِ تَوَلَّدَ مِنهُ مَحْذُورٌ، فَيَنْبَغِي أنْ يُقابَل أحَدُهُما بِالاخَرِ، ويَزِنَ بِالمِيزانِ القِسْطِ، فَإذا عَلِمَ أنَّ المَحْذُورَ الَّذِي يَحْصُل بِالصِّدْقِ أشَدُّ وقْعًا فِي الشَّرْعِ مِنَ الكَذِبِ فَلَهُ أنْ يَكْذِبَ، وإنْ كانَ المَقْصُودُ أهْوَنَ مِن مَقْصُودِ الصِّدْقِ فَيَجِبُ الصِّدْقُ، وقَدْ يَتَقابَل الامْرانِ بِحَيْثُ يَتَرَدَّدُ فِيهِما، وعِنْدَ ذَلِكَ المَيْل إلى الصِّدْقِ أوْلى؛ لأِنَّ الكَذِبَ يُباحُ لِضَرُورَةٍ أوْ حاجَةٍ مُهِمَّةٍ، فَإنْ شَكَّ فِي كَوْنِ الحاجَةِ مُهِمَّةً، فالاصْل التَّحْرِيمُ، فَيُرْجَعُ إلَيْهِ.
ولأِجْل غُمُوضِ إدْراكِ مَراتِبِ المَقاصِدِ ويَنْبَغِي أنْ يَحْتَرِزَ الانْسانُ مِنَ الكَذِبِ ما أمْكَنَهُ، وكَذَلِكَ مَهْما كانَتِ الحاجَةُ لَهُ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أنْ يَتْرُكَ أغْراضَهُ ويَهْجُرَ الكَذِبَ،
فَأمّا إذا تَعَلَّقَ الغَرَضُ بِغَيْرِهِ فَلاَ تَجُوزُ المُسامَحَةُ لِحَقِّ الغَيْرِ والاضْرارُ بِهِ.
[إحياء علوم الدين (9) / (1588)، ودليل الفالحين شرح رياض الصالحين لابن علان الشافعي (4) / (398) طبعة البابي الحلبي.، والآداب الشرعية لابن مفلح (1) / (20) – (22) مكتبة ابن تيمية].
وقالَتْ طائِفَةٌ مِنَ العُلَماءِ: لاَ يَجُوزُ الكَذِبُ فِي شَيْءٍ مُطْلَقًا، وحَمَلُوا الكَذِبَ المُرادَ فِي حَدِيثِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ عَلى التَّوْرِيَةِ والتَّعْرِيضِ، كَمَن يَقُول لِلظّالِمِ: دَعَوْتُ لَكَ أمْسِ، وهُوَ يُرِيدُ قَوْلَهُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ، ويَعِدُ امْرَأتَهُ بِعَطِيَّةِ شَيْءٍ، ويُرِيدُ إنْ قَدَّرَ اللَّهُ ذَلِكَ”. [الموسوعة الكويتية، بتصرف يسير]
* قال الطحاوي في شرح مشكل الآثار (7/ 356): باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما رخص فيه من الكلام الذي يراد به الصلاح بين الناس والكلام الذي يحدث به الرجل امرأته , والكلام الذي تحدث به المرأة زوجها , والكلام في الحرب، ثم أورد أحاديث الباب وحمل ذلك على المعاريض قال:
” ….. وفيما روينا من أحاديث أم كلثوم هذه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس الكذاب الذي يمشي يصلح بين الناس , فينمي خيرا أو يقوله , وفي ذلك نفي رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن كانت تلك حاله الكذب , وإذا انتفى عنه بذلك الكذب انتفى عمن كان منه الكذب أيضا , وثبت أن الذي كان في ذلك هو المعاريض لا ما سواها” … ” وهذه المعاني التي خرجنا معاني هذه الآثار عليها , فأما حديث أسماء ابنة يزيد الذي فيه التصريح بما صرح به فيه فإنما دار على عبد الله بن عثمان بن خثيم , وهو رجل مطعون في روايته منسوب إلى سوء الحفظ , وإلى قلة الضبط ورداءة الأخذ , وأما حديث أم كلثوم فمن رواه من أهل العلم الذين يؤخذ مثله عنهم فإنما ذكر فيه نفي الكذب , منهم مالك بن أنس , ومنهم صالح بن كيسان وزاد على مالك فيه أن الذي رخص فيه فذكر تلك الأشياء , ثم قال: مما يقول الناس إنه كذب , فأضاف الكذب إلى قول الناس في تلك الأشياء , لا إلى حقائق تلك الأشياء , والله نسأله التوفيق ”
* قال البيهقي في شعب الإيمان (6/ 443): ” فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي … ثم أورد حديث أم كلثوم ثم قال: ” فَقَدْ قَالَ الْحُلَيْمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: ” إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى صرِيحِ الْكَذِبِ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ بِحَالٍ، وَإِنَّما الْمُبَاحُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْرِيَةِ ” وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا وَرَّى بِغَيْرِهِ “.
[ص:445] قَالَ الْحُلَيْمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: ” وَذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُلْبِسَ الْوَجْهَ الَّذِي يَقْصدُهُ عَلَى غَيْرِهِ لِلطَّرِيقِ الْآخَرِ أَسَهْلٌ، هُوَ أَمْ وَعْرٌ وَيَسْأَلَ عَنْ عَدَدِ مَنَازِلِهِ لِيَظُنَّ مَنْ سَمِعَ أَنَّهُ يُرِيدُهُ وَهُوَ يُرِيدُ غَيْرَهُ، وَهَكَذَا الْإِصلَاحُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لَمْ يُبَحْ فِيهِ صرِيحُ الْكَذِبِ، وَلَكِنِ التَّعْرِيضُ كَالْمَرْأَةِ تَشْكُو أَنَّ زَوْجَهَا يُبْغِضُهَا وَلَا يُحْسِنُ إِلَيْهَا، فَتَقُولُ لَهَا لَا تَقُولِي ذَلِكَ فَمَنْ لَهُ غَيْرُكَ وَإِذَا لَمْ يُحِبَّكِ فَمَنْ يُحِبُّ، وَإِذَا لَمْ يُحْسِنْ إِلَيْكِ فَمَنْ يُحْسِنُ إِحْسَانَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُوهِمُهَا أَنَّ زَوْجَهَا بِخِلَافِ مَا تَظُنُّهُ، وَإِنْ كَانَتْ صَادِقَةً فِي ظَنِّهَا لِيُصلِحَ ذَلِكَ مَا بَيْنَهُمَا، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يَقُولُ فِي الصلَاحِ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ وَقَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] أَرَادَ بِهِ سَأَسْقَمُ، وَقَوْلُهُ لِسَارَةَ أُخْتِي أَرَادَ بِهِ فِي الدِّينِ لَا فِي النَّسَبِ، وَقَوْلُهُ {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] مُقَيَّدٌ بِقَوْلِهِ: {إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63]، وَإِنَّما سُمِّيَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ كَذِبًا لِإِنَّهَا أَوْهَمَتِ الْكَذِبَ، وَإِنْ كَانَتْ بِأَنْفُسِهَا غَيْرَ كَذِبٍ “.
“قال النووي: “قد تظاهرتْ نصوصُ الكتاب والسنة على تحريم الكذب في الجملة، وهو من قبائح الذنوب وفواحش العيوب. وإجماعُ الأمة منعقدٌ على تحريمه مع النصوص المتظاهرة، فلا ضرورة إلى نقل أفرادها، وإنما المهمُّ بيان ما يُستثنى منه، والتنبيه على دقائقه”. [((الأذكار)) (ص 377)].
ثم قال: (وقد ضبط العلماءُ ما يُباح منه. وأحسنُ ما رأيتُه في ضبطه، ما ذكرَه الإِمامُ أبو حامد الغزالي فقال: الكلامُ وسيلةٌ إلى المقاصد، فكلُّ مقصودٍ محمودٍ يُمكن التوصلُ إليه بالصدق والكذب جميعًا، فالكذبُ فيه حرامٌ؛ لعدم الحاجة إليه، وإن أمكنَ التوصل إليه بالكذب، ولم يمكن بالصدق، فالكذبُ فيه مباحٌ …..
قال أبو حامد الغزالي: وكذلك كلُّ ما ارتبط به غرضٌ مقصودٌ صحيح له أو لغيره، فالذي له، مثل أن يأخذَه ظالم، ويسألَه عن ماله ليأخذَه، فله أن ينكرَه، أو يسألَه السلطانُ عن فاحشةٍ بينَه وبينَ الله تعالى ارتكبَها، فله أن ينكرَها ويقول: ما زنيتُ، أو ما شربتُ مثلًا.
وقد اشتهرتِ الأحاديث بتلقين الذين أقرُّوا بالحدود الرجوع عن الإِقرار.
وأما غرضُ غيره، فمثل أن يُسأَل عن سرِّ أخيه فينكرَهُ ونحو ذلك، وينبغي أن يُقابِلَ بين مَفسدةِ الكذب والمفسدةِ المترتبة على الصدق، فإن كانت المفسدةُ في الصدق أشدَّ ضررًا، فله الكذبُ، وإن كان عكسُه، أو شكَّ، حَرُم عليه الكذب، ومتى جازَ الكذب، فإن كان المبيحُ غرضًا يتعلَّق بنفسه، فيستحبُّ أن لا يكذبَ، ومتى كان متعلقًا بغيره، لم تجزِ المسامحةُ بحقِّ غيره، والحزمُ تركه في كلِّ موضعٍ أُبيحَ، إلا إذا كان واجبًا) [((الأذكار)) (ص 377)، وانظر ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 137)].
_____________
قال ابن عثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين:
فالإنسان إذا قصد الإصلاح بين الناس وقال للشخص: إن فلاناً يثني عليك ويمدحك ويدعو لك وما أشبه ذلك من الكلمات، فإن ذلك لا بأس به.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، هل المراد أن يكذب الإنسان كذباً صريحاً، أو أن المراد أن يوري، بمعنى أن يظهر للمخاطب غير الواقع، لكنه له وجه صحيح، كأن يعني بقوله مثلاً: فلان يثني عليك أي: على جنسك وأمثالك من المسلمين، فإن كل إنسان يثني على المسلمين من غير تخصيص.
أو يريد بقوله: إنه يدعو لك؛ أنه من عباد الله، والإنسان يدعو لكل عبد صالح في كل صلاة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنكم إذا قلتم ذلك)) ـ يعني قلتم السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ـ ((فقد سلمتم على كل عبد صالح في السماء والأرض)).
وقال بعضهم: إن التورية تعد كذباً؛ لأنها خلاف الواقع، وإن كان المتكلم قد نوى بها معنى صحيحاً، واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام يعتذر عن الشفاعة بأنه كذب ثلاث كذبات في ذات الله)) وهو لم يكذب عليه الصلاة والسلام، لكنه ورّى.
وعلى كل حال فالإنسان المصلح ينبغي له أن يتحرز من الكذب، وإذا كان ولابد فليتأول؛ ليكون بذلك مورياً، والإنسان إذا كان مورياً فلا إثم عليه فيما بينه وبين الله، والتورية جائزة عند المصلحة.
أما اللفظ الثاني ففيه زيادة عن الإصلاح بين الناس، وهو الكذب في الحرب.
والكذب في الحرب هو أيضاً نوع من التورية مثل أن يقول للعدو: إن ورائي جنوداً عظيمة وما أشبه ذلك من الأشياء التي يرهب بها الأعداء.
وتنقسم التورية في الحرب إلى قسمين:
قسم في اللفظ، وقسم في الفعل. مثل ما فعل القعقاع بن عمرو رضي الله عنه في إحدى الغزوات؛ فإنه أراد أن يرهب العدو فصار يأتي بالجيش في الصباح، ثم يغادر المكان، ثم يأتي به في صباح يوم آخر وكأنه مدد جديد جاء ليساعد المحاربين المجاهدين، فيتوهم العدو أن هذا مدد جديد جاء ليساعد المحاربين المجاهدين، فيتوهم العدو أن هذا مدد جديد فيرهب ويخاف، وهذا جائز للمصلحة.
أما المسألة الثالثة فهي أن يحدث الرجل زوجته وتحدث المرأة زوجها، وهذا أيضاً من باب التورية، مثل أن يقول لها: إنك من أحب الناس إليّ، وإني أرغب في مثلك، وما أشبه ذلك من الكلمات التي توجب الألفة والمحبة بينهما.
ولكن مع هذا لا ينبغي فيما بين الزوجين أن يكثر الإنسان من هذا الأمر؛ لأن المرأة إذا عثرت على شيء يخالف ما حدثها به، فإنه ربما تنعكس الحال وتكرهه أكثر مما كان يتوقع، وكذلك المرأة مع الرجل.
___________
6 – [تَغْلِيظ الكَذِبِ عَلى اللَّهِ تَعالى وعَلى رَسُولِهِ ]:
– الكَذِبُ عَلى اللَّهِ تَعالى وعَلى رَسُولِهِ مِنَ الكَبائِرِ الَّتِي لاَ يُقاوِمُها شَيْءٌ، قال اللَّهُ تَعالى: {ومَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا أوْ قال أُوحِيَ إلَيَّ ولَمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ ومَن قال سَأُنْزِل مِثْل ما أنْزَل اللَّهُ}، وقال سُبْحانَهُ: {ويَوْمَ القِيامَةِ تَرى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ}، وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: «أنَّ رَسُول اللَّهِ قال: مَن كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّا مَقْعَدَهُ مِنَ النّارِ.
أخرجه البخاري (فتح الباري (1) / (202)) ومسلم ((1) / (10)) من حديث أبي هريرة].
قال ابْنُ حَجَرٍ:
عَدُّ هَذَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ هُوَ ما صَرَّحُوا بِهِ وهُوَ ظاهِرٌ، بَل قال أبُو مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِيُّ: إنَّ الكَذِبَ عَلى النَّبِيِّ كُفْرٌ. وقال بَعْضُ المُتَأخِّرِينَ: وقَدْ ذَهَبَتْ طائِفَةٌ مِنَ العُلَماءِ إلى أنَّ الكَذِبَ عَلى اللَّهِ ورَسُولِهِ كُفْرٌ يُخْرِجُ عَنِ المِلَّةِ ولاَ رَيْبَ أنَّ تَعَمُّدَ الكَذِبِ عَلى اللَّهِ ورَسُولِهِ فِي تَحْلِيل حَرامٍ أوْ تَحْرِيمِ حَلاَلٍ كُفْرٌ مَحْضٌ، وإنَّما الكَلاَمُ فِي الكَذِبِ عَلَيْهِما فِيما سِوى ذَلِكَ. [الزواجر (1) / (97)].
قال النَّوَوِيُّ:
وكَما يَحْرُمُ تَعَمُّدُ الكَذِبِ عَلى رَسُول اللَّهِ فَإنَّهُ يَحْرُمُ رِوايَةُ الحَدِيثِ المَوْضُوعِ عَلى مَن عَرَفَ كَوْنَهُ مَوْضُوعًا، أوْ غَلَبَ عَلى ظَنِّهِ وضْعُهُ ولَمْ يُبَيِّنْ حال رُواتِهِ ووَضْعَهُ، فَهُوَ داخِلٌ فِي هَذا الوَعِيدِ مُنْدَرِجٌ فِي جُمْلَةِ الكَذّابِينَ عَلى رَسُول اللَّهِ ، ويَدُل عَلَيْهِ قَوْلُهُ : مَن حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يَرى أنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أحَدُ الكاذِبِينَ. أخرجه مسلم ((1) / (9)) من حديث المغيرة بن شعبة].
ولِهَذا قال العُلَماءُ: يَنْبَغِي لِمَن أرادَ رِوايَةَ الحَدِيثِ أوْ ذِكْرَهُ أنْ يَنْظُرَ فَإنْ كانَ صَحِيحًا أوْ حَسَنًا، قال: قال رَسُول اللَّهِ كَذا، أوْ فَعَلَهُ، أوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِن صِيَغِ الجَزْمِ، وإنْ كانَ ضَعِيفًا فَلاَ يَقُل: قال أوْ فَعَل أوْ أمَرَ أوْ نَهى وشَبَهَ ذَلِكَ مِن صِيَغِ الجَزْمِ، بَل يَقُول: رُوِيَ عَنْهُ كَذا أوْ جاءَ عَنْهُ كَذا أوْ يُرْوى أوْ يُذْكَرُ أوْ يُحْكى أوْ يُقال أوْ بَلَغَنا وما أشْبَهَهُ. واللَّهُ أعْلَمُ.
[شرح صحيح مسلم (1) / (59)].
وسيأتي تفصيل مسائل الكذب بعد باب، في “29 – باب قُبْحِ الْكَذِبِ وَحُسْنِ الصِّدْقِ وَفَضْلِهِ “.