بيان الوسيلة في آيات القرآن الكريمة
سورة آل عمران الآية 147
قال تعالى:
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147).سورة آل عمران
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:”وما كان قولهم”، وما كان قول الرِّبِّيين – و”الهاء والميم” من ذكر أسماء الربيين -“إلا أن قالوا”، يعني: ما كان لهم قولٌ سوى هذا القول، إذ قتل نبيهم وقوله:”ربنا اغفر لنا ذنوبنا”، يقول: لم يعتصموا، إذ قتل نبيهم، إلا بالصبر على ما أصابهم، ومجاهدة عدوهم، وبمسألة ربهم المغفرة والنصر على عدوهم. ومعنى الكلام: وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا.
وأما”الإسراف”، فإنه الإفراط في الشيء: يقال منه:”أسرف فلانٌ في هذا الأمر”، إذا تجاوز مقداره فأفرط.
ومعناه هاهنا: اغفر لنا ذنوبنا: الصغارَ منها، وما أسرفنا فيه منها فتخطينا إلى العظام. وكان معنى الكلام: اغفر لنا ذنوبنا، الصغائر منها والكبائر
تفسير الطبري
في تفسير الوسيط: والمتأمل في هذه الدعوات الثلاث يراها قد جمعت أسمى ألوان الأدب وحسن الترتيب، فهم قد صدروا دعاءهم بالتوسل بوصف الربوبية فقالوا رَبَّنا أى يا خالقنا ويا منشئنا ويا مربينا ويا مميتنا، وفي ذلك إشعار أنهم يلجئون إلى من بيده وحده النفع والضر، والنصر والهزيمة. ثم افتتحوا دعاءهم بطلب الصبر عند المخاوف لأنه هو عدة القتال الأولى، وركنه الأعلى، إذ به يكون ضبط النفس فلا تفزع، وبه يسكن القلب فلا يجزع. ثم التمسوا منه- سبحانه- أن يثبت أقدامهم عند اللقاء لأن هذا الثبات هو مظهر الصبر، ووسيلة النصر، وعنوان القوة.
ثم ختموا دعاءهم بما هو ثمرة ونتيجة للصبر والثبات وهو النصر على الأعداء.
قال ابن عطية في الآية:
واسْتِغْفارُ هَؤُلاءِ القَوْمِ المَمْدُوحِينَ في هَذا المَوْطِنِ يَنْحُو إلى أنَّهم رَأوا ما نَزَلَ مِن مَصائِبِ الدُنْيا إنَّما هو بِذُنُوبٍ مِنَ البَشَرِ …
وبعد الاستغفار دعو الله على هذا النحو اجْعَلْنا دائِبِينَ عَلى طاعَتِكَ والإيمانِ بِكَ، وتَثْبِيتُ القَدَمِ عَلى هَذا اسْتِعارَةٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ في مَعْنى ما بَعْدَهُ مِن قَوْلِهِ: {وانْصُرْنا عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ} فَيُرادَ ثُبُوتُ القَدَمِ حَقِيقَةً في مَواقِفِ الحَرْبِ؛ قالَ ابْنُ فُورَكٍ: في هَذا الدُعاءِ رَدٌّ عَلى القَدَرِيَّةِ، لِقَوْلِهِمْ: إنَّ اللهَ لا يَخْلُقُ أفْعالَ العَبْدِ، ولَوْ كانَ ذَلِكَ لَمْ يَسُغْ أنْ يُدَّعى فِيما لا يَفْعَلُهُ ..
تفسير المحرر الوجيز
قال ابن تيمية:
فجمعوا بين الصبر والاستغفار، وهذا هو المأمور به في المصائب: الصبر عليها والاستغفار من الذنوب التي كانت سببها. [ابن تيمية: (2) / (156)]
قال البقاعي:
ولَمّا أثْنى – سُبْحانَهُ وتَعالى – عَلى فِعْلِهِمْ؛ أتْبَعَهُ قَوْلَهُمْ؛ فَقالَ: {وما كانَ}؛ أيْ: شَيْءٌ مِنَ القَوْلِ؛ {قَوْلَهُمْ}؛ أيْ: بِسَبَبِ ذَلِكَ الأمْرِ الَّذِي دَهَمَهُمْ؛ {إلا أنْ قالُوا}؛ أيْ: وهم يَجْتَهِدُونَ في نَصْرِ دِينِ اللَّهِ؛ ناسِبِينَ الخِذْلانَ إلى أنْفُسِهِمْ؛ بِتَعاطِي أسْبابِهِ {رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا}؛ أيْ: الَّتِي اسْتَوْجَبْنا بِها الخِذْلانَ؛ {وإسْرافَنا في أمْرِنا}؛ هَضْمًا لِأنْفُسِهِمْ؛ فَمَعَ كَوْنِهِمْ رَبّانِيِّينَ؛ مُجْتَهِدِينَ؛ نَسَبُوا ما أصابَهم إلى ذُنُوبِهِمْ؛ فافْعَلُوا أنْتُمْ فِعْلَهُمْ؛ لِتَنالُوا مِنَ الكَرامَةِ ما نالُوا؛ كَما أشارَ لَكم – سُبْحانَهُ وتَعالى – إلى ذَلِكَ؛ قَبْلَ الأخْذِ في قَصِّ القِصَّةِ؛ عِنْدَما وصَفَ بِهِ المُتَّقِينَ؛ مِن قَوْلِهِ: {أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهم ذَكَرُوا اللَّهَ فاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: (135)]
ولَمّا دَعَوْا بِمَحْوِ ما أوْجَبَ الخِذْلانَ؛ دَعَوْا بِثَمَرَةِ المَحْوِ؛ فَقالُوا: {وثَبِّتْ أقْدامَنا}؛ إشارَةً إلى أنَّ الرُّعْبَ مِن نَتائِجِ الذَّنْبِ؛ والثَّباتَ مِن ثَمَراتِ الطّاعَةِ – «إنَّما تُقاتِلُونَ النّاسَ بِأعْمالِكُمْ» – ثُمَّ أشارُوا إلى أنَّ قِتالَهم لَهم إنَّما هو لِلَّهِ؛ لا لِحَظٍّ مِن حُظُوظِ النَّفْسِ أصْلًا؛ بِقَوْلِهِ: {وانْصُرْنا عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ}
قال النسفي:
وما كانَ قَوْلَهم إلّا هَذا القَوْلُ، وهو إضافَةُ الذُنُوبِ إلى أنْفُسِهِمْ، مَعَ كَوْنِهِمْ رَبّانِيِّينَ، هَضْمًا لَها {وَإسْرافَنا في أمْرِنا} تَجاوُزَنا حَدَّ العُبُودِيَّةِ،
{وَثَبِّتْ أقْدامَنا} في القِتالِ.
{وانْصُرْنا عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ} بِالغَلَبَةِ، وقَدَّمَ الدُعاءَ بِالِاسْتِغْفارِ مِنَ الذُنُوبِ عَلى طَلَبِ تَثْبِيتِ الأقْدامِ في مَواطِنِ الحَرْبِ والنُصْرَةِ عَلى الأعْداءِ، لِأنَّهُ أقْرَبُ إلى الإجابَةِ، لِما فِيهِ مِنَ الخُضُوعِ والِاسْتِكانَةِ.
قال البيضاوي:
أيْ وما كانَ قَوْلُهم مَعَ ثَباتِهِمْ وقُوَّتِهِمْ في الدِّينِ وكَوْنِهِمْ رَبّانِيِّينَ إلّا هَذا القَوْلَ، وهو إضافَةُ الذُّنُوبِ والإسْرافِ إلى أنْفُسِهِمْ هَضْمًا لَها وإضافَةً لِما أصابَهم إلى سُوءِ أعْمالِهِمْ والِاسْتِغْفارِ عَنْها، ثُمَّ طَلَبَ التَّثْبِيتَ في مُواطِنِ الحَرْبِ والنَّصْرِ عَلى العَدُوِّ لِيَكُونَ عَنْ خُضُوعٍ وطَهارَةٍ، فَيَكُونُ أقْرَبَ إلى الإجابَةِ، وإنَّما جَعَلَ قَوْلَهم خَبَرًا لِأنَّ “أنْ قالُوا” أعْرَفُ لِدَلالَتِهِ عَلى جِهَةِ النِّسْبَةِ وزَمانِ الحَدَثِ.
قال القنوجي:
(وانصرنا على القوم الكافرين) تقريباً له إلى حين القبول فإن الدعاء المقرون بالخضوع الصادر عن زكاء وطهارة أقرب إلى الاستجابة، والمعنى لم يزالوا مواظبين على هذا الدعاء من غير أن يصدر عنهم قول يوهم شائبة الجزع والتزلزل في مواقف الحرب، ومراصد الدين، وفيه من التعريض بالمنهزمين ما لا يخفى.
قال السعدي
علموا أن الذنوب والإسراف من أعظم أسباب الخذلان، وأن التخلي منها من أسباب النصر، فسألوا ربهم مغفرتها. [تفسير السعدي: (151)]
قال الألوسي:
طلبوا الغفران أولاً ليستحقوا طلب النصر على الكافرين بترجحهم بطهارتهم عن الذنوب عليهم وهم محاطون بالذنوب. وفي طلبهم النصر- مع كثرتهم المفرطة التي دل عليها ما سبق- إيذان بأنهم لا ينظرون إلى كثرتهم، ولا يعولون عليها، بل يسندون ثبات أقدامهم إلى الله تعالى، ويعتقدون أن النصر منه سبحانه وتعالى. [الألوسي: (4) / (85)]
(9) / (10) / (2020) (21): (06) – سيف بن دورة الكعبي: بيان الوسيلة في آيات القرآن الكريمة
سورة آل عمران الآية 191
قال تعالى
رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191).سورة آل عمران
الوسيلة في وصف أهل الإيمان أنهم يتفكرون في خلق السماوات والأرض
قال ابن عطية:
وقَوْلُهُ تَعالى: “رَبَّنا” مَعْناهُ: يَقُولُونَ: رَبَّنا عَلى النِداءِ، {ما خَلَقْتَ هَذا باطِلا}، يُرِيدُ لِغَيْرِ غايَةٍ مَنصُوبَةٍ بَلْ خَلَقْتَهُ وخَلَقْتَ البَشَرَ لِيُنْظَرَ فِيهِ فَتُوَحَّدَ وتُعْبَدَ، فَمَن فَعَلَ ذَلِكَ نَعَّمْتَهُ ومَن ضَلَّ عن ذَلِكَ عَذَّبْتَهُ لِكُفْرِهِ وقَوْلِهِ عَلَيْكَ ما لا يَلِيقُ بِكَ. ولِهَذا المَعْنى الَّذِي تُعْطِيهِ قُوَّةُ اللَفْظِ حَسُنَ قَوْلُهُمْ: “سُبْحانَكَ”، أيْ تَنْزِيهًا لَكَ عَمّا يَقُولُ المُبْطِلُونَ. وحَسُنَ قَوْلُهُمْ: “فَقِنا عَذابَ النارِ” إذْ نَحْنُ المُسَبِّحُونَ المُنَزِّهُونَ لَكَ المُوَحِّدُونَ.
وقَوْلُهُمْ: {رَبَّنا إنَّكَ مَن تُدْخِلِ النارَ فَقَدْ أخْزَيْتَهُ}، اسْتِجارَةٌ واسْتِعاذَةٌ، أيْ: فَلا تَفْعَلْ بِنا ذَلِكَ، ولا تَجْعَلْنا مِمَّنْ يَعْمَلُ عَمَلَها. والخِزْيُ: الفَضِيحَةُ المُخْجِلَةُ الهادِمَةُ لِقَدْرِ المَرْءِ، خَزِيَ الرَجُلُ يَخْزى خِزْيًا إذا افْتُضِحَ، وخَزايَةً إذا اسْتَحْيى، الفِعْلُ واحِدٌ والمَصْدَرُ مُخْتَلِفٌ.
وقالَ أنَسُ بْنُ مالِكٍ والحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ وابْنُ جُرَيْجٍ وغَيْرُهُمْ: هَذِهِ إشارَةٌ إلى مَن يَخْلُدُ في النارِ، ومَن يَخْرُجُ مِنها بِالشَفاعَةِ والإيمانِ فَلَيْسَ بِمَخْزِيٍّ. وقالَ جابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وغَيْرُهُ: كُلُّ مَن دَخَلَ النارَ فَهو مَخْزِيٌّ وإنْ خَرَجَ مِنها، وإنَّ في دُونِ ذَلِكَ لَخِزْيًا.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
أما إنَّهُ خِزْيٌ دُونَ خِزْيٍ، ولَيْسَ خِزْيَ مَن يَخْرُجُ مِنها بِفَضِيحَةٍ هادِمَةٍ لِقَدْرِهِ، وإنَّما الخِزْيُ التامُّ لِلْكُفّارِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: {وَما لِلظّالِمِينَ مِن أنْصارٍ} هو مِن قَوْلِ الداعِينَ، وبِذَلِكَ يَتَّسِقُ وصْفُ الآيَةِ.
قال ألآلوسي:
وبَعْضُهم قالَ: بِهَذا التَّاكِيدِ ولَمْ يَقُلْ بِالِاعْتِراضِ وجَعَلَ ما بَعْدَ الفاءِ مُتَرَتِّبًا عَلى التَّنْزِيهِ المَدْلُولِ عَلَيْهِ بِسُبْحانِكَ، وادَّعى أنَّهُ الأظْهَرُ لِانْدِراجِ تَنَزُّهِهِ تَعالى عَنْ رَدِّ سُؤالِ الخاضِعِينَ المُلْتَجِئِينَ إلَيْهِ فِيهِ، ولا يَخْفى تَفَرُّعُ المَسْألَةِ عَلى التَّنْزِيهِ عَنْ خَيْبَةِ رَجاءِ الرّاجِينَ
قال السعدي:
فإذا تفكروا بها، عرفوا أن الله لم يخلقها عبثا، فيقولون: {ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك} عن كل ما لا يليق بجلالك، بل خلقتها بالحق وللحق، مشتملة على الحق. {فقنا عذاب النار} بأن تعصمنا من السيئات، وتوفقنا للأعمال الصالحات، لننال بذلك النجاة من النار. ويتضمن ذلك سؤال الجنة، لأنهم إذا وقاهم الله عذاب النار حصلت لهم الجنة، ولكن لما قام الخوف بقلوبهم، دعوا الله بأهم الأمور عندهم،
قال القنوجي:
ويقولون (ربّنا ما خلقت هذا) الخلق الذي نراه (باطلاً) أي عبثاً ولهواً بل خلقته دليلاً على حكمتك ووحدانيتك وقدرتك. والباطل الزائل الذاهب، وخلق بمعنى جعل والإشارة بقوله ” هذا ” إلى السموات والأرض أو إلى الخلق على أنه بمعنى المخلوق.
(سبحانك) تنزيهاً لك عما لا يليق بك من الأمور التي من جملتها أن يكون خلقك لهذه المخلوقات باطلاً وهزلاً وعبثاً، والفاء في (فقنا) لترتيب هذا الدعاء على ما قبله (عذاب النار) علم عباده كيفية الدعاء، فمن أراد أن يدعو فليقدم الثناء على الله أولاً ثم يأتي بالدعاء. انتهى من تفسير القنوجي
قال البقاعي:
ولَمّا كانَتْ آياتُ المَعْرِفَةِ؛ إمّا في الآفاقِ؛ وإمّا في الأنْفُسِ؛ وكانَتْ آياتُ الآفاقِ أعْظَمَ – {لَخَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ أكْبَرُ مِن خَلْقِ النّاسِ} [غافر: (57)]-؛ قالَ: {فِي خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ}؛ عَلى كِبَرِهِما؛ واتِّساعِهِما؛ وقُوَّةِ ما فِيهِما مِنَ المَنافِعِ؛ لِحَصْرِ الخَلائِقِ؛ فَيَعْلَمُونَ – بِما في ذَلِكَ مِنَ الأحْكامِ؛ مَعَ جَرْيِ ما فِيهِما مِنَ الحَيَوانِ؛ الَّذِي خُلِقا لِأجْلِهِ؛ عَلى غَيْرِ انْتِظامٍ – أنَّ وراءَ هَذِهِ الدّارِ دارًا؛ يُثْبَتُ فِيها الحَقُّ؛ ويُنْفى الباطِلُ ويُظْهَرُ العَدْلُ؛ ويَضْمَحِلُّ الجَوْرُ؛ فَيَقُولُونَ – تَضَرُّعًا إلَيْهِ؛ وإقْبالًا عَلَيْهِ -: {رَبَّنا}؛ أيْ: أيُّها المُحْسِنُ إلَيْنا؛ {ما خَلَقْتَ هَذا}؛ أيْ: الخَلْقَ العَظِيمَ؛ المُحْكَمَ؛ {باطِلا}؛ أيْ: لِأجْلِ هَذِهِ الدّارِ الَّتِي لا تُفْصَلُ فِيها عَلى ما شَرَعْتَ القَضايا؛ ولا تَنْصِفُ فِيها الرُّعاةُ الرَّعايا؛ بَلْ إنَّما خَلَقْتَهُ لِأجْلِ دارٍ أُخْرى؛ يَكُونُ فِيها مَحْضُ العَدْلِ؛ ويَظْهَرُ فِيها الفَصْلُ.
ولَمّا كانَ الِاقْتِصارُ عَلى هَذِهِ الدّارِ؛ مَعَ ما يُشاهِدُهُ مِن ظُهُورِ الأشْرارِ؛ نَقْصًا ظاهِرًا؛ وخَلَلًا بَيِّنًا؛ نَزَّهُوهُ عَنْهُ؛ فَقالُوا: {سُبْحانَكَ}؛ وفي ذَلِكَ تَعْلِيمُ العِبادِ أدَبَ الدُّعاءِ؛ بِتَقْدِيمِ الثَّناءِ قَبْلَهُ؛ وتَنْبِيهٌ عَلى أنَّ العَبْدَ كُلَّما غَزُرَتْ مَعْرِفَتُهُ؛ زادَ خَوْفُهُ؛ فَزادَ تَضَرُّعُهُ؛ فَإنَّهُ يَحْسُنُ مِنهُ كُلُّ شَيْءٍ؛ مِن تَعْذِيبِ الطّائِعِ؛ وغَيْرِهِ؛ ولَوْلا أنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ لَكانَ الدُّعاءُ بِدَفْعِهِ عَبَثًا؛ وما أحْسَنَ خَتْمَها! حِينَ تَسَبَّبَ عَمّا مَضى تَيَقُّنُهم أنَّ أمامَنا دارًا يَظْهَرُ فِيها العَدْلُ؛ مِمّا هو شَانُ كُلِّ أحَدٍ في عَبِيدِهِ؛ فَيُعَذِّبُ فِيها العاصِيَ؛ ويُنَعِّمُ فِيها الطّائِعَ؛ كَما هو دَابُ كُلِّ مَلِكٍ في رَعِيَّتِهِ؛ بِقَوْلِهِمْ – رَغْبَةً في الخَلاصِ في تِلْكَ الدّارِ -: {فَقِنا عَذابَ النّارِ}؛ عَلى وجْهٍ جَمَعَ بَيْنَ ذِكْرِ العَذابِ المُخْتَتَمِ بِهِ آيَةُ مُحِبِّي المَحْمَدَةِ بِالباطِلِ؛ والنّارِ المُحَذَّرِ مِنها فِي: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النّارِ} [آل عمران: (185)] انتهى من تفسير الدرر للبقاعي
قال ابن عاشور:
وقَوْلُهُ {رَبَّنا ما خَلَقْتَ هَذا باطِلًا} وما بَعْدَهُ جُمْلَةٌ واقِعَةٌ مَوْقِعَ الحالِ عَلى تَقْدِيرِ قَوْلٍ: أيْ يَتَفَكَّرُونَ قائِلِينَ: رَبَّنا إلَخْ لِأنَّ هَذا الكَلامَ أُرِيدَ بِهِ حِكايَةُ قَوْلِهِمْ بِدَلِيلِ ما بَعْدَهُ مِنَ الدُّعاءِ.
فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ تَواطَأ الجَمِيعُ مِن أُولِي الألْبابِ عَلى قَوْلِ هَذا التَّنْزِيهِ والدُّعاءِ عِنْدَ التَّفْكِيرِ مَعَ اخْتِلافِ تَفْكِيرِهِمْ وتَأثُّرِهِمْ ومَقاصِدِهِمْ. قُلْتُ: يُحْتَمَلُ أنَّهم تَلَقَّوْهُ مِن رَسُولِ اللَّهِ فَكانُوا يُلازِمُونَهُ عِنْدَ التَّفَكُّرِ وعَقِبِهِ، ويُحْتَمَلُ أنَّ اللَّهَ ألْهَمَهم إيّاهُ فَصارَ هَجِّيراهم مِثْلَ قَوْلِهِ تَعالى {وقالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا} [البقرة: (285)] الآياتِ. ويَدُلُّ لِذَلِكَ حَدِيثُ ابْنُ عَبّاسٍ في الصَّحِيحِ قالَ: بِتُّ عِنْدَ خالَتِي مَيْمُونَةَ «فَقامَ رَسُولُ اللَّهِ فَمَسَحَ النَّوْمَ عَنْ وجْهِهِ ثُمَّ قَرَأ العَشْرَ الآياتِ مِن سُورَةِ آلِ عِمْرانَ» إلى آخِرِ الحَدِيثِ.
ويَجُوزُ عِنْدِي أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ {رَبَّنا ما خَلَقْتَ هَذا باطِلًا} حِكايَةً لِتَفَكُّرِهِمْ في نُفُوسِهِمْ، فَهو كَلامُ النَّفْسِ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ المُتَفَكِّرِينَ لِاسْتِوائِهِمْ في صِحَّةِ التَّفَكُّرِ لِأنَّهُ تَنَقَّلَ مِن مَعْنًى إلى مُتَفَرِّعٍ عَنْهُ، وقَدِ اسْتَوى أُولُو الألْبابِ المُتَحَدَّثِ عَنْهم هُنا في إدْراكِ هَذِهِ المَعانِي، فَأوَّلُ التَّفْكِيرِ أنْتَجَ لَهم أنَّ المَخْلُوقاتِ لَمْ تُخْلَقْ باطِلًا، ثُمَّ تَفَرَّعَ عَنْهُ تَنْزِيهُ اللَّهِ وسُؤالِهِ أنْ يَقِيَهم عَذابَ النّارِ، لِأنَّهم رَأوْا في المَخْلُوقاتِ طائِعًا وعاصِيًا، فَعَلِمُوا أنَّ وراءَ هَذا العالَمِ ثَوابًا وعِقابًا، فاسْتَعاذُوا أنْ يَكُونُوا مِمَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذابِ. وتَوَسَّلُوا إلى ذَلِكَ بِأنَّهم بَذَلُوا غايَةَ مَقْدُورِهِمْ في طَلَبِ النَّجاةِ إذِ اسْتَجابُوا لِمُنادِي الإيمانِ وهو الرَّسُولُ – عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -، وسَألُوا غُفْرانَ الذُّنُوبِ، وتَكْفِيرَ السَّيِّئاتِ، والمَوْتَ عَلى البِرِّ إلى آخِرِهِ. فَلا يَكادُ أحَدٌ مِن أُولِي الألْبابِ يَخْلُو مِن هَذِهِ التَّفَكُّراتِ ورُبَّما زادَ عَلَيْها، ولَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ وشاعَتْ بَيْنَهُمُ، اهْتَدى لِهَذا التَّفْكِيرِ مَن لَمْ يَكُنِ انْتَبَهَ لَهُ مِن قَبْلُ فَصارَ شائِعًا بَيْنَ المُسْلِمِينَ بِمَعانِيهِ وألْفاظِهِ. …… وفصل في بقية الآيات
قال ابن عثيمين:
جواز التوسل في الدعاء بالأعمال الصالحة؛ لقولهم: {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} عطفًا على قولهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا}، والتوسل بالأعمال الصالحة مما ثبت بالسنة أيضًا، في قصة الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار بصخرة عظيمة.