بيان الوسيلة في آيات القرآن الكريمة
جمع سيف بن دوره الكعبي ومجموعة من طلاب العلم
——–
بيان الوسيلة في قوله تعالى:
قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38). سورة آل عمران
الاية فيها التوسل بالربوبية. وطلب الذرية الطيبة التي تدعو لآبائها. والتوسل بأنه سميع الدعاء. ومعناه أنك يا رب تسمع الدعاء وتجيب من دعاك
قال أبو جعفر: فتأويل الآية، فعند ذلك دعا زكريا ربه فقال: رب هب لي من عندك ولدًا مباركًا، إنك ذو سَمعٍ دُعاءَ من دَعاك.
قال البغوي: {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} أَيْ سَامِعُهُ، وَقِيلَ مُجِيبُهُ.
قال البقاعي: {قالَ رَبِّ} أيِ الَّذِي عَوَّدَنِي بِإحْسانِهِ …. {ذُرِّيَّةً} فِيهِ إشْعارٌ بِكَثْرَةٍ ونَسْلٍ باقٍ، فَأُجِيبَ بِوَلَدٍ فَرْدٍ لَمّا كانَ زَمانَ انْتِهاءٍ في ظُهُورِ كَلِمَةِ الرُّوحِ وبِأنَّهُ لا يُنْسِلُ فَكانَ يَحْيِى حَصُورًا لِغَلَبَةِ الرُّوحانِيَّةِ عَلى إنْسانِيَّتِهِ. انْتَهى.
{طَيِّبَةً} أيْ مُطِيعَةً لَكَ لِأنَّ ذَلِكَ طِلْبَةُ أهْلِ الخُصُوصِ، ثُمَّ عَلَّلَ إدْلالَهُ عَلى المَقامِ الأعْظَمِ بِالسُّؤالِ بِقَوْلِهِ: {إنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ} أيْ مُرِيدُهُ ومُجِيبُهُ لِأنَّ مِن شَانِ مَن يَسْمَعُ – ولَمْ يَمْنَعْ – أنْ يُجِيبَ إذا كانَ قادِرًا كامِلًا، وقَدْ ثَبَتَتِ القُدْرَةُ بِرُّبُوبِيَّةِ الكامِلَةِ الَّتِي لا تَحْصُلُ إلّا مِنَ الحَيِّ القَيُّومِ
تنبيه على قولهم: أن معنى (حصور) هو الذي لا يشتهي النساء بل بعضهم أورد أنه ليس معه إلا هدبة وهو حديث أعله بعض أهل العلم:
قال ابن كثير (حصور): َالْمَقْصُودُ أَنَّهُ مَدَحَ يَحْيَى بِأَنَّهُ حَصُورٌ لَيْسَ أَنَّهُ لَا يَاتِي النِّسَاءَ، بَلْ مَعْنَاهُ كَمَا قَالَهُ هُوَ وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ مَعْصُومٌ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالْقَاذُورَاتِ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ تَزْوِيجِهِ بِالنِّسَاءِ الْحَلَالِ وَغَشَيَانِهِنَّ وَإِيلَادِهِنَّ، بَلْ قَدْ يُفْهَمُ وُجُودُ النَّسْلِ لَهُ مِنْ دُعَاءِ زَكَرِيَّا الْمُتَقَدِّمِ حَيْثُ قَالَ: {هَبْ ((21)) لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَدًا لَهُ ذُرِّيَّةٌ وَنَسْلٌ وعَقِب.
قال أبوالسعود:
{هُنالِكَ} هُنا” ظَرْفُ مَكانٍ و “اللّامُ” لِلدِّلالَةِ عَلى البُعْدِ و “الكافُ” لِلْخِطابِ، أيْ: في ذَلِكَ المَكانِ حَيْثُ هو قاعِدٌ عِنْدَ مَرْيَمَ في المِحْرابِ أوْ في ذَلِكَ الوَقْتِ إذْ يُسْتَعارُ “هُنا” و “ثَمَّةَ” و “حَيْثُ” لِلزَّمانِ.
{دَعا زَكَرِيّا رَبَّهُ} لَمّا رَأى كَرامَةَ مَرْيَمَ عَلى اللَّهِ ومَنزِلَتَها مِنهُ تَعالى رَغِبَ في أنْ يَكُونَ لَهُ مِن إيشاعَ ولَدٌ مِثْلُ ولَدِ حَنَّةَ في النَّجابَةِ والكَرامَةِ عَلى اللَّهِ تَعالى و إنْ كانَتْ عاقِرًَا عَجُوزًَا فَقَدْ كانَتْ حَنَّةُ كَذَلِكَ. وقِيلَ: لَمّا رَأى الفَواكِهَ في غَيْرِ إبّانِها تَنَبَّهَ لِجَوازِ وِلادَةِ العَجُوزِ العاقِرِ مِنَ الشَّيْخِ الفانِي
فَأقْبَلَ عَلى الدُّعاءِ مِن غَيْرِ تَاخِيرٍ، كَما يُنْبِئُ عَنْهُ تَقْدِيمُ الظَّرْفِ عَلى الفِعْلِ لا عَلى مَعْنى أنَّ ذَلِكَ كانَ هو المُوجِبَ لِلْإقْبالِ عَلى الدُّعاءِ فَقَطْ بَلْ كانَ جُزْءًَا أخِيرًَا مِنَ العِلَّةِ التّامَّةِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها كِبَرُ سِنِّهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ و ضَعْفُ قُواهُ وخَوْفُ مَوالِيهِ حَسْبَما فُصِّلَ في سُورَةِ مَرْيَمَ ….
{رَبِّ هَبْ لِي مِن لَدُنْكَ} كِلا الجارَّيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِهَبْ لِاخْتِلافِ مَعْنَيَيْهِما، فَـ”اللّامُ” صِلَةٌ لَهُ و “مِن” لِابْتِداءِ الغايَةِ مَجازًَا، أيْ: أعْطِنِي مِن مَحْضِ قُدْرَتِكَ مِن غَيْرِ وسَطٍ مُعْتادٍ …. {إنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ} أيْ: مُجِيبُهُ، و هو تَعْلِيلٌ لِما قَبْلَهُ وتَحْرِيكٌ لِسِلْسِلَةِ الإجابَةِ
قال الألوسي:
وجاء الطلب بلفظ الهبة؛ لأن الهبة إحسان محض ليس في مقابلة شيء، وهو يناسب ما لا دخل فيه للوالد لكبر سنه، ولا للوالدة لكونها عاقرة لا تلد. [الألوسي: (3) / (144)]
قال ابن عاشور:
وسَألَ الذُّرِّيَّةَ الطَّيِّبَةَ لِأنَّها الَّتِي يُرْجى مِنها خَيْرُ الدُّنْيا والآخِرَةِ بِحُصُولِ الآثارِ الصّالِحَةِ النّافِعَةِ. ومُشاهَدَةُ خَوارِقِ … العاداتِ خَوَّلَتْ لِزَكَرِيّاءَ الدُّعاءَ بِما هو مِنَ الخَوارِقِ، أوْ مِنَ المُسْتَبْعَداتِ، لِأنَّهُ رَأى نَفْسَهُ غَيْرَ بَعِيدٍ عَنْ عِنايَةِ اللَّهِ تَعالى، لا سِيَّما في زَمَنِ الفَيْضِ أوْ مَكانِهِ، فَلا يُعَدُّ دُعاؤُهُ بِذَلِكَ تَجاوُزًا لِحُدُودِ الأدَبِ مَعَ اللَّهِ عَلى نَحْوِ ما قَرَّرَهُ القَرافِيُّ في الفَرْقِ بَيْنَ ما يَجُوزُ مِنَ الدُّعاءِ وما لا يَجُوزُ. وسَمِيعٌ هُنا بِمَعْنى مُجِيبٍ.
قال ابن عثيمين:
(قَالَ رَبِّ هَبْ لِي} أي: أعطني عطاء بلا ثمن.
{مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}، {مِنْ لَدُنْكَ}: من عندك، وأضافه إلى عندية الله عز وجل ليكون أبلغ وأعظم؛ لأن هدية الكريم أكرم.