تتمة شرح صحيح مسلم باب في فضل الحب في الله
حقوق الأخوة و مستلزمات الصحبة و المحبة
لكل مسلم على أخيه المسلم حقوقا، و هذه الحقوق أوجبها عقد الإسلام، و صارت لكل مسلم بهذا العقد حرمة، لا يحل لأحد أن ينتهكها، و قد أتت جملة من هذه الحقوق، و بيان لهذه الحرمة من كلام النبي صلى الله عليه و سلم، فمن ذلك قوله صلى الله عليه و سلم: ” حقّ المسلم على المسلم ستّ: إذا لقيته فسلّم عليه، و إذا دعاك فأجبه، و إذا استنصحك فانصح له، و إذا عطس فحمد الله فشمته، و إذا مرض فعده، و إذا مات فاتبعه ” (متفق عليه)
و في بيان حرمة المسلم، و ما لا يجوز للمسلم أن يقع فيه مع سائر المسلمين قوله صلى الله عليه و سلم:” إياكم و الظنّ فإنّ الظنّ أكذب الحديث، و لا تحسّسوا، و لا تجسّسوا، و لا تنافسوا، و لا تحاسدوا، و لا تباغضوا، و كونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه و لا يخذله و لا يحقره، التقوى ههنا … و يشير إلى صدره، بحسب امرئ من الشرّ أ يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه و عرضه و ماله ” (رواه الشيخان)
إنّ عقد الأخوة رابطة بين الشخصين كعقد النكاح بين الزوجين، و يترتب على هذا العقد حقوق المال و البدن و اللسان و القلب، و بمراعاة هذه الحقوق تدوم المودة و تزداد الألفة، و يدخل المتعاقدين في زمرة المتحابين في الله، و ينالان من الأجر و الثواب ما أسلفناه
1) حقوق الأخوة في المال:
– فمن حقوق المال الواجبة إنظاره إلى ميسرة إن كان غريما، قال تعالى:” و إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة” (البقرة 280)، و قال صلى الله عليه و سلم:” من يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا و الآخرة” (مسلم و غيره)
– و من حقوق الأخوة المواساة بالمال: و هي كما قال العلماء على ثلاث مراتب:
1) أدناها أن تقوم بحاجته من فضل مالك، فإذا سنحت له حاجة، وكان عندك فضل، أعطيته ابتداءً ولم تحوجه إلى السؤال، فإن أحوجته إلى السؤال، فهو غاية التقصير في حقّ الأخوة
2) الثانية: أن تنزله منزلة نفسك، و ترضى بمشاركته إياك في مالك
قال الحسن: كان أحدهم يشقّ إزاره بينه و بين أخيه، و جاء رجل إلى أبي هريرة رضي الله عنه و قال: إني أريد أن أواخيك في الله، فقال: أتدري ما حق الإخاء؟ قال: عرّفني، قال أن لا تكون أحقّ بدينارك و درهمك مني، قال: لم أبلغ هذه المنزلة بعد، قال اذهب عني
و قال علي بن الحسين لرجل: هل يُدخل أحدكم يده في كمّ أخيه أو كيسه، فيأخذ منه ما يريد بغير إذنه؟ قال: لا، قال: فلستم بإخوان
3) الثالثة: و هي العليا، أن تؤثره على نفسك، و تقدّم حاجته على حاجتك، و هذه رتبة الصديقين، و منتهى درجات المحبين
قال ابن عمر رضي الله عنهما: أهدى لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم رأس شاة، فقال: أخي فلان أحوج مني إليه، فبعث به إليه، فبعثه ذلك الإنسان إلى آخر، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى رجع إلى الأول، بعد أن تداوله سبعة
فكانت هذه المرتبة العليا من الإيثار، هي مرتبة الصحابة الكرام رضي الله عنهم
عن حميد قال: سمعت أنسا رضي الله عنه قال: لما قدموا المدينة نزل المهاجرون على الأنصار، فنزل عبد الرحمن بن عوف على سعد ابن الربيع، فقال: أقاسمك مالي، و أنزل لك عن إحدى امرأتي، قال: بارك الله لك في أهلك و مالك، فآثره بما آثره به، و كأنه قبله ثم آثره به
و قد مدحهم الله عزّ و جلّ بقوله: ” و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة ” (الحشر (9)
قال أبو سليمان الداراني: كان لي أخ بالعراق، فكنت أجيئه في النوائب، فأقول: أعطني من مالك شيئا، فكان يلقي إليّ كيسه فآخذ منه ما أريد، فجئته ذات يوم فقلت: أحتاج إلى شيء فقال: كم تريد؟ فخرجت حلاوة إخائه من قلبي و قال آخر: إذا طلبت من أخيك مالا فقال: ماذا تصنع به فقد ترك حقّ الإخاء.
فهذه مراتب المواساة بالمال، فإن لم توافق نفسك رتبة من هذه الرتب مع أخيك فاعلم أنّ عقد الأخوة لم ينعقد بعد في الباطن، و إنما الجاري بينكما مخالطة رسمية لا وقع لها في العقل و الدين، قال ميمون بن مهران: “من رضي من الإخوان بترك الأفضال، فليؤاخ أهل القبور ”
2) حقوق الأخوة في البدن:
و يقصد بها الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات، و القيام بها قبل السؤال، و تقديمها على الحاجات الخاصة، و هذه أيضا لها درجات كالمواساة بالمال
1) أدناها القيام بالحاجة عند السؤال و القدرة مع البشاشة و الاستبشار و إظهار الفرح و قبول المنة:
قال النبي صلى الله عليه و سلم:”من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسّر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، و من ستر مسلما ستره الله في الدنيا و الآخرة، و الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ”
أرسل الحسن البصري جماعة من أصحابه في قضاء حاجة لأخ لهم، و قال: مروا بثابت البناني فخذوه معكم، فمروا بثابت فقال: أنا معتكف، فرجعوا إلى الحسن فأخبروه فقال لهم: قولوا له يا أعمش أما علمت أن سعيك في حاجة أخيك خير لك من حجّة بعد حجة، فرجعوا إلى ثابت فأخبروه، فترك اعتكافه و خرج معهم
2) الدرجة الثانية: أن تكون حاجة أخيك مثل حاجتك:
كان بعض السلف يتفقّد عيال أخيه بعد موته أربعين سنة، يقوم بحاجتهم، و يتردّد كل يوم إليهم و يمونهم من ماله، فكانوا لا يفقدون من أبيهم إلا عينه
3) أن تقدّم حاجة أخيك على حاجتك، و تبادر إلى قضائها و لو تأخرت حاجتك
قضى ابن شبرمة لبعض إخوانه حاجة كبيرة، فجاء بهدية، قال: ماهذا؟ قال: لما أسديته إليّ، قال: خذ مالك عافاك الله، إذا سألت أخاك حاجة فلم يجهد نفسه في قضائها، فتوضأ للصلاة و كبّر عليه أربع تكبيرات، و عدّه من الموتى
و كان الحسن يقول: إخواننا أحبّ إلينا من أهلنا و أولادنا لأن أهلنا يذكروننا بالدنيا، و إخواننا يذكرون بالآخرة ويدخل في حق المسلم علاخيه المسلم زيارته له في الله عزّو جلّ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:”ألا أخبركم برجالكم من أهل الجنة؟ النبي في الجنة، و الشهيد في الجنة، و الصديق في الجنة، و الرجل يزور أخاه في ناحية المصر في الجنة ”
و من الصور المشرقة للزيارة في الله عزّ و جلّ، و ما ينبغي أن تشتمل عليه من الأخلاق و الآداب، ما كان بين أبي عبيد القاسم ابن سلام و أحمد بن حنبل رحمهما الله، قال أبو عبيد: “زرت أحمد بن حنبل في بيته فأجلسني في صدر داره، و جلس دوني، فقلت: يا أبا عبد الله، أليس يقال: صاحب البيت أحقّ بصدر بيته؟ فقال: نعم، يقعد و يُقعِد من يريد، قال: فقلت في نفسي: خذ إليك يا أبا عبيد فائدة، قال: ثم قلت له: يا أبا عبد الله، لو كنت آتيك على نحو ما تستحقّ لأتيتك كلّ يوم، فقال: لا تقل، إن لي إخوانا لا ألقاهم إلا في كلّ سنة مرة، أنا أوثق بمودّتهم ممن ألقى كل يوم، قال: قلت: هذه أخرى يا أبا عبيد، فلما أردت أن أقوم قام معي فقلت: لا تفعل يا أبا عبد الله، فقال: قال الشعبي: من تمام زيارة الزائر أن تمشي معه إلى باب الدار، و تأخذ بركابه قال: فقلت يا أبا عبيد هذه ثالثة، قال: فمشى معي إلى باب الدار و أخذ بركابي
و من هذه الصور المشرقة لزيارة السلف بعضهم لبعض و فرحهم بهذه اللقاءات الداعية لمزيد من الإيمان و الحبّ في الله عزّ و جلّ ما رواه الخطيب البغدادي في “تاريخه” عن النقاش أنه قال: ” بلغني أنّ بعض أصحاب محمد بن غالب أبي جعفر المقرئ جاءه في يوم وحلٍ وطين، فقال له: متى أشكر هاتين الرجلين اللتين نعبتا إليّ، في مثل هذا اليوم لتكسباني في الثواب؟ ثم قام بنفسه فاستسقى له الماء، و غسل رجليه ”
3) حقوق الأخوة في اللسان:
و هي بالسكوت تارة و بالنطق أخرى
1) السكوت على المكاره:
1 – لا يذكر عيوبه:
فمن حق الأخ على أخيه، أن يسكت عن ذكر عيوبه في غيبته و حضرته، بل يتجاهل عنه أما ذكر عيوبه و مساويه في غيبته فهو من الغيبة المحرمة، و ذلك حرام في حق كل مسلم، و يزجرك عنه أمران بالإضافة إلى زجر الشرع: أحدهما: أن تطالع أحوال نفسك، فإن وجدت فيها شيئا واحدا مذموما، فهوِّن على نفسك ما تراه من أخيك، و قدر أنه عاجز عن قهر نفسه في تلك الخصلة الواحدة، كما أنت عاجز عن قهر نفسه في تلك الخصلة الواحدة، كما أنت عاجز عما أنت مبتلى به، و الأمر الثاني: أنك تعلم أنك لو طلبت منزها عن كل عيب اعتزلت عن الخلق كافة، و لم تجد من تصاحبه أصلا
كما قال النابغة الذبياني:
:
و لست بمستبق أخا لا تلُمُّه *** على شعث أيّ الرجال المهذّب
فما من أحد من الناس إلا و له محاسن و مساوئ، فإذا غلبت المحاسن المساوئ فهو الغاية، و المؤمن أبدا يحضر في نفسه محاسن أخيه لينبعث من قلبه التوقير و الودّ و الاحترام، و أما المنافق اللئيم فإنه أبدا يلاحظ المساوئ و العيوب
قال ابن المبارك: المؤمن يطلب المعاذير، و المنافق يطلب العثرات
و قال الفضيل: الفتوة العفو عن زلات الإخوان
2 – أن لا يفشي أسراره:
و من ذلك أن يسكت عن إفشاء أسراره و لا إلى أخصّ أصدقائه، و لو بعد القطيعة و الوحشة، فإن ذلك من لؤم الطبع و خبث النفس
قيل لبعض الأدباء: كيف حفظك للسر؟ قال: أنا قبره.
و أفشى بعضهم سرا إلى أخيه ثم قال له حفظت، قال: بل نسيت.
و قالوا: قلوب الأحرار قبور الأسرار
كان أبو سعيد الثوري يقول: إذا أردت أن تؤاخي رجلا فأغضبه ثم دس عليه من يسأله عنك فإن قال خيرا و كتم سرا فاصحبه
3 – أن لا يجادله و لا يماريه:
و من ذلك أن يسكت عن مماراته و جداله:
قال بعض السلف: من لاحى الإخوان و ماراهم، قلّت مروءته، و ذهبت كرامته
و قال عبد الله بن الحسن: إياك و مماراة الرجال، إنك لن تعدم مكر حليم، أو مفاجأة لئيم
و بالجملة فلا باعث على المماراة إلا إظهار التميّز بمزيد العقل و الفضل، واحتقار المردود عليه بإظهار جهله و بالغ بعضهم في ترك المراء و الجدال فقال: إذا قلت لأخيك قم، فقال: إلى أين؟ فلا تصحبه، بل ينبغي أن يقوم و لا يسأل
والمراء يفتن القلب وينبت الضغينة و يجفي القلب و يقسيه ويرقق الورع في المنطق و الفعل
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال:” قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: “من ترك المراء و هو مبطل بنى له بيت في ربض الجنة، و من تركه و هو محقّ بنى له في وسطها، و من حسن خلقه بنى له في أعلاها” (رواه أبو داود و غيره)
قال خالد بن يزيد بن معاوية الأموي:”إذا كان الرجل مماريا لجوجا معجبا برأيه فقد تمت خسارته ”
قال الحسن البصري:”إياكم و المراء، فإنه ساعة جهل العالم، و بها يبتغي الشيطان زلّته”
2) النطق بالمحاب:
و كما تقتضي الأخوة السكوت عن المكاره، تقتضي أيضا النطق بالمحاب، بل هو أخص بالأخوة، لأن من قنع بالسكوت صحب أهل القبور
1 – التودد باللسان:
فمن ذلك أن يتودد إليه بلسانه، و يتفقده في الأحوال التي يحب أن يتفقد فيها، و كذا جملة أحواله التي يسر بها ينبغي أن يظهر بلسانه مشاركته له في السرور بها، فمعنى الأخوة المساهمة في السراء و الضراء
2 – إخباره بمحبته:
و من ذلك أن يخبره بمحبته له: عن أنس بن مالك قال: مر رجل بالنبي صلى الله عليه و سلم و عنده ناس، فقال رجل ممن عنده: إني لأحب هذا لله، فقال النبي صلى الله عليه و سلم:”أعلمته؟ ” قال: لا، قال: ” قم إليه فأعلمه ” فقام إليه فأعلمه، فقال: أحبّك الذي أحببتني له ثم قال، ثم رجع فسأله النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره بما قال فقال النبي صلى الله عليه و سلم:”أنت مع من أحببت، و لك ما احتسبت ” (رواه أحمد و الحاكم و صححه الذهبي)
و عن المقدام بن معدى كرب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال:” إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه ” (رواه أحمد و غيره)
و إنما أمر النبي صلى الله عليه و سلم بالإخبار، لأن ذلك يوجب زيادة حب، فإن عرف أنك تحبه أحبك بالطبع لا محالة، فإذا عرفت أنه أيضا يحبك زاد حبك لا محالة، فإذا عرفت أنه أيضا يحبك زاد حبك لا محالة، فلا يزال الحب يتزايد من الجانبين و يتضاعف، و التحابب بين المسلمين مطلوب في الشرع محبوب في الدين، قال النبي صلى الله عليه و سلم: ” لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، و لا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا
فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم ” (رواه مسلم، و قال النووي: قوله:” لا تؤمنوا حتى تحابوا ” معناه لا يكمل إيمانكم، و لا يصلح حالكم في الإيمان إلا بالتحاب ”
3 – دعوته بأحبّ الأسماء إليه:
و من ذلك أن يدعوه بأحبّ أسمائه إليه في غيبته و حضوره، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاث يصفين لك ودّ أخيك: أن تسلّم عليه إذا لقيته أولا، و توسّع له في المجلس، و تدعوه بأحب الأسماء إليه
4 – الثناء عليه:
و من ذلك: أن تثني عليه بما تعرف من محاسن أحواله و آكد من ذلك أن تبلغه ثناء من أثنى عليه، مع إظهار الفرح، فإن إخفاء ذلك محض الحسد، و ذلك من غير كذب و لا إفراط، فإن ذلك من أعظم الأسباب في جلب المحبة
6 – التعليم و النصيحة:
و من ذلك التعليم و النصيحة: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:” الدين النصيحة قالوا لمن يا رسول الله، قال: ” لله و لكتابه، و لرسوله، و لأئمة المسلمين و عامتهم ” (رواه مسلم)، و بخاصة إذا استنصح الأخ أخاه وجب عليه أن يخلص له النصيحة، كما سلف في الحقوق العامة للمسلمين، و ينبغي أن تكون النصيحة في سرّ لا يطلع عليه أحد فما كان على الملإ فهو توبيخ و فضيحة، و ما كان في السر، فهو شفقة و نصيحة
قال الشافعي رحمه الله: من وعظ أخاه سرا فقد نصحه و زانه، و من وعظه علانية فقد فضحه و شانه و قال رحمه الله:
:
تعمّدني بنصحك في انفرادي *** و جنّبني النصيحة في الجماعة
فإنّ النصح بين الناس نوع *** من التوبيخ لا أرضى استماعه
و إن خالفتني و عصيت قولي *** فلا تجزع إذا لم تعط طاعة
و تتأكد النصيحة كذلك إذا تغيّر أخوك عما كان عليه من العمل الصالح
قال أبو الدرداء: إذا تغيّر أخوك، و حال عما كان عليه، فلا تدعه لأجل ذلك، فإن أخاك يعوج مرة و يستقيم مرة، و حكى عن أخوين من السلف انقلب أحدهما عن الاستقامة، فقيل لأخيه: ألا تقطعه و تهجره؟ فقال: أحوج ما كان إليّ في هذا الوقت لما وقع في عثرته أن آخذ بيده، و أتلطف له في المعاتبة، و أدعو له بالعود إلى ما كان عليه
و الأخوة عقد ينزل منزلة القرابة، فإذا انعقد تأكد الحق ووجب الوفاء بموجب العقد، و من الوفاء به أن لا يهمل أخاه أيام حاجته و فقره، و فقر الدين أشدّ من فقر المال، و الأخوة عند النائبات و حوادث الزمان، و هذا من أشدّ النوائب
و القريب ينبغي أن لا يهجر من أجل معصيته، حتى يقام له بواجب النصيحة، و ذلك لأجل قرابته، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم في عشيرته: ” فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون ” (الشعراء 216)
و لم يقل: إني برئ منكم، مراعاة لحق القرابة و لحمة النسب، و لهذا أشار أبو الدرداء لما قيل له: ألا تبغض أخاك و قد فعل كذا؟ فقال: إنما أبغض عمله و إلا فهو أخي
و كذا التفريق بين الأحباب من محاب الشيطان، كما أن مقارفة العصيان من محابه، فإذا حصل للشيطان أحد غرضيه، فلا ينبغي أن يضاف إليه الثاني
7 – الدعاء له في حياته و بعد مماته:
و من ذلك الدعاء لأخيه في حياته و بعد مماته:
عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ” ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك: و لك بمثل (رواه مسلم)
قال النووي رحمه الله: في هذا فضل الدعاء لأخيه المسلم بظهر الغيب، و لو دعا لجماعة من المسلمين حصلت هذه الفضيلة، و لو دعا لجملة من المسلمين فالظاهر حصولها أيضا، و كان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لنفسه يدعو لأخيه المسلم بتلك الدعوة، لأنها تستجاب و يحصل له مثلها، جاء في تاريخ بغداد للخطيب البغدادي في ترجمة الطيب إسماعيل أبي حمدون –أحد القراء المشهورين – قال: كان لأبي حمدون صحيفة فيها مكتوب ثلاثمائة من أصدقائه و كان يدعو لهم كل ليلة، فتركهم ليلة فنام، فقيل له في نومه يا أبا حمدون: لِمَ لَمْ تسرج مصابيحك الليلة، قال: فقعد فأسرج، و أخذ الصحيفة فدعا لواحد واحد حتى فرغ
4) حقوق الأخوة في القلب:
من حق المسلم على أخيه في الله عز و جل الوفاء و الإخلاص في محبته و صحبته، و علامة ذلك أن تدوم المحبة، و أن يجزع من الفراق، و من حقه أن تحسن به الظن، و أن تحمل كلامه و تصرفاته على أطيب ما يكون، و من ذلك أن لا يكلف أخاه التواضع له، و التفقد لأحواله، و القيام بحقوقه
1) الوفاء و الإخلاص:
و معنى الوفاء الثبات على الحب و إدامته إلى الموت معه، و بعد الموت مع أولاده و أصدقائه، فإنّ الحبّ في الله إنما يراد به ما عند الله عزّ و جلّ، فلا ينتهي بموت أخيه
قال بعضهم: قليل الوفاء بعد الوفاة، خير من كثيره في حال الحياة ..
و قد جاء أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلم أكرم عجوزا أدخلت عليه فقيل له في ذلك، فقال:”إنها كانت تأتينا أيام خديجة، و إنّ حسن العهد من الإيمان” (صححه الحاكم و الذهبي و حسنه الألباني)
– و من الوفاء للأخ مراعاة جميع أصدقائه و أقاربه و المتعلقين به
-و من الوفاء: أن لا يتغيّر حاله مع أخيه، و إن ارتفع شأنه واتّسعت ولايته و عظم جاهه
قال بعضهم:
إنّ الكرام إذا ما أيسروا ذكروا *** من كان يألفهم في المنزل الخشن
و أوصى بعض السلف ابنه فقال له: يا بنيّ لا تصحب من الناس، إلا من إذا افتقرت إليه قرب منك، و إذا استغنيت عنه لم يطمع فيك، و إن علت مرتبته لم يرتفع عليك و مهما انقطع الوفاء بدوام المحبة، شمت به الشيطان، فإنه لا يحسد متعاونين على بر، كما يحسد متواخيين في الله و متحابين فيه، فإنه يجهد نفسه لإفساد ما بينهما، قال تعالى:” و قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إنّ الشيطان ينزغ بينهم ” (الإسراء 53)
قال بعضهم: ما تواخى اثنان في الله فتفرّق بينهما، إلا بذنب يرتكبه أحدهما
و قال بعضهم: إذا قصر العبد في طاعة الله، سلبه الله من يؤنسه، و ذلك لأنّ الإخوان مسلاة الهموم و عون على الدين
و لذلك قال ابن المبارك: ألذّ الأشياء مجالسة الإخوان، و الانقلاب إلى كفاية
و من آثار الصدق و الإخلاص و تمام الوفاء، أن تكون شديد الجزع من المفارقة، نفور الطبع عن أسبابها، كما قيل:
وجدت مصيبات الزمان جميعها *** سوى فرقةِ الأحبابِ هيّنةَ الخَطْب
و أنشد ابن عُيينة هذا البيت و قال: لقد عهدت أقواما فارقتهم منذ ثلاثين سنة، ما يخيّل إليّ أن حسرتهم ذهبت من قلبي
– و من الوفاء أن لا يسمع بلاغات عن صديقه
– و من الوفاء أن لا يصادق عدو صديقه: قال الشافعي رحمه الله: إذا أطاع صديقك عدوك، فقد اشتركا في عداوتك
2) حسن الظنّ:
و من حقوق الأخوة حسن الظنّ بأخيه:
قال الله تعالى”يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظنّ فإنّ بعد الظنّ إثم” (الحجرات 12)
و من مناقب الإمام الشافعي ما قاله أحد تلامذته عنه الربيع بن سليمان قال: ” دخلت على الشافعي و هو مريض فقلت له: قوى الله ضعفك، فقال: لو قوى ضعفي قتلني، فقلت: والله ما أردت إلا الخير، قال: أعلم أنك لو شتمتني لم ترد إلا الخير ”
فينبغي أن يحمل كلام الإخوان على أحسن معانيه، و أن لا يظن بالإخوان إلا خيرا، فإن سوء الظن غيبة القلب
3) التواضع:
و من حقوق الأخوة القلبية أن يتواضع لإخوانه، و يسيء الظن بنفسه فإذا رآهم خيرا من نفسه يكون هو خيرا منهم
قال أبو معاوية الأسود: إخواني كلهم خير مني، قيل و كيف ذلك؟ قال: كلهم يرى لي الفضل عليه، و من فضلني على نفسه فهو خير مني
و مهما رأى الفضل لنفسه فقد احتقر أخاه، و هذا في عموم المسلمين مذموم، قال صلى الله عليه و سلم: ” بحسب امرئ من الشّرّ أن يحقر أخاه المسلم ” (رواه الشيخان)
لطائف و نوادر في المحبة و الإخاء
*** ليس من الوفاء ***
ليس من الوفاء مداهنة الأخ في الدين، كان الشافعي رحمه الله آخى محمد بن الحكم، و كان يقرّبه و يقبل عليه و يقول: ما يقيمني بمصر غيره، فاعتلّ محمد فعاده الشافعي فقال:
مرض الحبيب فعدته *** فمرضت من حذري عليه
و أتى الحبيب يعودني *** فبرئت من نظري إليه
وظنّ الناس لصدق مودّتهما أنه يفوّض أمر حلقته إليه بعد وفاته، فقيل للشافعي في علته التي مات منها إلى من نجلس بعدك يا أبا عبد الله، فاستشرف له محمد بن الحكم وهو عند رأسه ليومئ إليه، فقال الشافعي: سبحان الله أيشكّ في هذا؟ أبويعقوب البويطي، فانكسر لها محمد، ومال أصحابه إلى البويطي مع أنّ محمدا كان قد حمل عنه مذهبه كله، لكن كان البويطي أفضل وأقرب إلى الزهد والورع، فنصح الشافعي لله وللمسلمين، وترك المداهنة، ولم يؤثر رضا الخلق على رضا الله تعالى، و المقصود أنّ الوفاء بالمحبة من تمامها النصح لله
فالنصح لله مقدّم على الوفاء بمحبة الإخوان
*** صحبة الأحمق ***
قال أبو حاتم رحمه الله: من علامات الحمق التي يجب للعاقل تفقدّها ممن خفى عليه أمره:
سرعة الجواب، و ترك التثبت، و الإفراط في الضحك، و كثرة الالتفات، و الوقيعة في الأخيار و الاختلاط بالأشرار، و الأحمق إذا أعرضت عنه اغتمّ، و إن أقبلت عليه اغترّ، و إن حلمت عنه جهل عليك ….
*** ما ضاق مكان بمتحابين ***
عن الأثرم قال: دخل اليزيدي يوما على الخليل بن أحمد، و هو جالس على وسادة، فأوسع له فجلس معه اليزيدي على وسادته، فقال له اليزيدي: أحسبني قد ضيّقت عليك، فقال الخليل: ما ضاق مكان على اثنين متحابين، و الدنيا لا تسع اثنين متباغضين
*** صاحب أهل الدين ***
قال ابن الجوزي رحمه الله:
صاحب أهل الدين و صافهم،
واستفد من أخلاقهم و أوصافهم،
واسكن معهم بالتأدب في دارهم،
و إن عاتبوك فاصبر و دارهم،
أنت في وقت الغنائم نائم،
و قلبك في شهوات البهائم هائم،
إن صدقت في طِلابهم فانهض و بادر،
و لا تستصعب طريقهم فالمعين قادر،
تعرض لمن أعطاهم وسل فمولاك مولاهم
ربّ كنز وقع به فقير، و ربّ فضل فاز به صغير
علم الخضر ما خفى على موسى، و كشف لسليمان ما خفى عن داود
*** من أولى بالغم ***
قال الأصمعي:
سأل رجل أبا عمرو بن العلاء حاجة فوعده بها، ثم إنّ الحاجة تعذّرت على أبي عمرو، فلقيه الرجل بعد ذلك، فقال له: يا أبا عمرو وعدتني وعدا فلم تنجزه؟ فقال له أبو عمرو: فمن أولى بالغم أنا أو أنت، فقال له: أنا، فقال له أبو عمرو: بل أنا، فقال له الرجل: و كيف ذلك أصلحك الله؟ قال: لأني وعدتك وعدا فأبتَ بفرح الوعد، و أبتُ أنا بهم الإنجاز، و بتَّ ليلتك فرحا، و بتُّ مفكرا مغموما ثم مغموما، ثم عاق القدر عن بلوغ الإرادة، فلقيتني مدلا، و لقيتك محتشما، فمن هنا صرت أولى بالغم
*** من هم الأحبة؟ ***
قال الشافعي رحمه الله:
إذا المرء لا يرعاك إلا تكلفا *** فدعه و لا تُكثر عليه التأسفا
ففي النفس أبدال و في الترك راحة *** و في القلب صبر للحبيب و لو جفا
فما كل من تهواه يهواك قلبه *** و لا كل من صافيته لك قد صفا
إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة *** فلا خير في ودّ يجيء تكلفا
ولا خير في خلّ يخون خليله *** و يلقاه من بعد المودّة بالجفا
و ينكر عيشا قد تقادم عهده *** و يظهر سرا كان بالأمس قد خفا
سلام على الدنيا إذا لم يكن بها *** صديق صادق الوعد مُنصفا
صور مشرقة للمحبة الصادقة
1) النبي صلى الله عليه و سلم والصدّيق أبو بكر رضي الله عنه:
محبة صادقة في الله عز و جل، و لله عز و جل، و من المواقف التي تدل على صدق المودة و المحبة، واختصاص المحب لما يدور في قلب أخيه الذي أحبه في الله عز و جل:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ” خطب رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس و قال: إنّ الله خيّر عبدا بين الدنيا و بين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله، قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عبد خُيِّر، فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم هو المخيّر، و كان أبو بكر أعلمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ” إنّ أمَنَّ الناس عليّ في صحبته و ماله أبو بكر، و لو كنت متّخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر، و لكن أخوة الإسلام و مودّته، لا يبقيّن في المسجد باب إلا سُدّ، إلا باب أبي بكر ” (رواه الشيخان)
قال ابن رجب في “لطائف المعارف “:
لما عرّض الرسول صلى الله عليه و سلم على المنبر باختياره للقاء على البقاء و لم يصرّح، خفى المعنى على كثير ممن سمع، و لم يفهم المقصود غير صاحبه الخصيص به، ثاني اثنين إذ هما في الغار، و كان أعلم الأمة بمقاصد الرسول صلى الله عليه و سلم، فلما فهم المقصود من هذه الإشارة بكى و قال: بل نفديك بأموالنا و أنفسنا و أولادنا، فسكّن الرسول صلى الله عليه و سلم من جزعه، و أخذ في مدحه و الثناء عليه على المنبر، ليعلم الناس كلهم فضله، و لا يقع عليه اختلاف في خلافته، فقال: ” إنّ من أمَنّ الناس عليّ في صحبته و ماله أبو بكر
2) المهاجرون و الأنصار:
ما حدث بين المهاجرين و الأنصار أخوة صادقة، و مدح الله عزّ و جلّ الأنصار بقوله:”
والذين تبوّؤا الدّار و الإيمان من قبلهم يُحبون من هاجر إليهم و لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة و من يوق شُحّ نفسه فأولئك هم المفلحون ” (الحشر (9)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالت الأنصار اقسم بيننا و بين إخواننا النخيل، قال: لا، فقالوا: أتكفونا المؤنة و نشرككم في الثمرة قالوا سمعنا و أطعنا ” (البخاري)
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ” يُحبون من هاجر إليهم “: أي من أكرمهم و شرف أنفسهم، يحبون المهاجرين و يواسونهم بأموالهم، و قوله:” و لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا” قال ابن كثير رحمه الله: أي و لا يجدون في أنفسهم حسدا للمهاجرين فيما فضلهم الله به، من المنزلة و الشرف و التقديم في الذكر و الرتبة، و قوله: ” و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة ”
قال القرطبي: الإيثار هو تقديم الغير على النفس و حظوظها الدنيوية، و رغبة في الحظوظ الدينية، و ذلك ينشأ عن قوة اليقين و توكيد المحبة و الصبر على المشقة، أي يؤثرون على أنفسهم بأموالهم و منازلهم لا عن غنى بل مع احتياجهم إليها
و قال رحمه الله: و الإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال
و من الأمثال السائرة: و الجود بالنفس أقصى غاية الجود، قال الدكتور بابللي في ” معاني الأخوة في الإسلام و مقاصدها” هذا الحب لا لصنيعة سبقت من المهاجرين إليهم، أو ليد كانت لهم عليهم، و إنما الإيمان بالله الذي وحد بين قلوبهم، و هو الحب في الله الذي جمع بينهم، ففتحوا قلوبهم لإخوانهم في الدين، قبل أن يفتحوا لهم منازلهم
3) و من هذه الصور المشرقة للمحبة الصادقة: ما رواه القرطبي في “تفسيره” عن حذيفة العدوي قال: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي – و معي شيء من الماء – و أنا أقول إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به، فقلت له: أسقيك، فأشار برأسه أن نعم، فإذا أنا برجل يقول: آه، آه، فأشار إليّ ابن عمي أن أنطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم، فسمع أخر يقول آه، آه، فأشار هشام أن انطلق إليه، فجئته فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات
آفات الصحبة
بعد ذكر فضل المحبة في الله عز و جل و الأخوة فيه، من تمام النصيحة التحذير من آفات الصحبة، و من آفات الصحبة:
1) كثرة الزيارات:
فمن آفات الصحبة كثرة الزيارات و المجالس التي هي مجالس مؤانسة و قضاء وطر، أكثر منها مجالس ذكر و تذكير و تعاون على البر و التقوى، فيكون في هذه المجالس ضياع الأوقات و ذهاب المروءات و قد يجرّ فضول الكلام إلى ما يغضب الملك العلام، قال النبي صلى الله عليه و سلم: ” ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه، إلا قاموا على مثل جيفة حمار، و كان عليهم حسرة يوم القيامة ” (قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي و الألباني في الصحيحة)
قال ابن القيم رحمه الله في ” الفوائد”:
الاجتماع بالإخوان قسمان:
1) أحدهما اجتماع على مؤانسة الطبع و شغل الوقت، فهذا مضرته أرجح من منفعته، و أقل ما فيه أنه يفسد القلب و يضيّع الوقت
2) الثاني: الاجتماع بهم على أسباب النجاة و التواصي بالحق و التواصي بالصبر، فهذا من أعظم الغنيمة و أنفعها، و لكن فيه ثلاث آفات:
1 – إحداها: تزيّن بعضهم لبعض
2 – الثانية: الكلام و الخلطة أكثر من الحاجة
3 – أن يصير ذلك شهوة و عادة ينقطع بها عن المقصود
و بالجملة فالاجتماع و الخلطة لقاح إما للنفس الأمارة، و إما للقلب و النفس المطمئنة، و النتيجة مستفادة من اللقاح فمن طاب لقاحه طابت ثمرته و هكذا الأرواح الطيبة لقاحها
من الملك، و الخبيثة لقاحها من الشيطان، و قد جعل الله سبحانه بحكمته الطيبات للطيبين، و الطيبين للطيبات، و عكس ذلك
2) الإفراط في الحب و البغض:
و من آفاتها الإفراط في الحب و البغض:
عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: قال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أسلم لا يكن حبك كلفا، و لا بغضك تلفا، قلت: و كيف ذلك؟ قال: إذا أحببت فلا تكلف كما يكلف الصبي بالشيء يحبه، و إذا أبغضت فلا تبغض بغضا تحب أن يتلف صاحبك و يهلك
و عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أحبب حبيبك هونا ما، عسى أن يكون بغيضك يوما ما، و أبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما ”
و قال أبو الأسود الدؤلي:
و أحبب إذا أحببت حبا مقاربا *** فإنك لا تدري متى أنت نازع
و أبغض إذا أبغضت غير مباين *** فإنك لا تدري متى أنت راجع
و المقصود الاقتصاد في الحب و البغض، فإنّ الإسراف في الحب داع إلى التقصير، و كذلك البغض، فعسى أن يصير الحبيب بغيضا، و البغيض حبيبا، فلا تكن مسرفا في الحب فتندم، و لا في البغض فتأسف، لأن القلب يتقلب فيندم أو يستحي
قال بعض الحكماء: و لا تكن في الإخاء مكثرا، ثم تكون فيه مدبرا، فيعرف سرفك في الإكثار، بجفائك في الإدبار
و يخشى مع ذلك مع فرط المحبة أن يوافقه على باطل، أو يقصر معه في واجب النصيحة لله عزّ و جل، و قد تنقلب هذه المحبة إلى بغض مفرط، و يخشى عند ذلك إفشاء الأسرار، و ترك العدل و الإنصاف
و عن الحسن قال: أحبوا هونا و أبغضوا هونا، فقد أفرط أقوام في حب أقوام فهلكوا، و أفرط أقوام في بغض أقوام فهلكوا
3) مخالطة المحبة شيء من هوى النفس:
و من آفاتها أن يخالط هذه المحبة التي هي لله عز و جل و في الله عز و جل شيء من هوى النفس، فبدلا من أن يحب في أخيه طاعته لله عز و جل والتزامه بالشرع، يحبه لملاحة صورة أو لمنفعة كإصلاح دنيا، و بدلا من أن يرجو بهذه المحبة ما عند الله عز و جل، و يتقرّب بها إليه، يرجو بها استئناسا بشخصه، أو تحقيقا لغرضه، و هذه المحبة سرعان ما تزول بزوال سببها، او بشيء من الجفاء، فإنه ما كان لله بقى، كما يقال:
ما كان لله دام واتّصل *** و ما كان لغير الله انقطع وانفصل
قال الله عز و جل: ” الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين” (الزّخرف 17)
و قال حاكيا عن خليله أنه قال لقومه:” إنما اتّخذتم من دون الله أوثانا مودّة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض و يلعن بعضكم بعضا و مأواكم النار و ما لكم من ناصرين ” (العنكبوت 25)
فنسأل الله أن يجعل محبتنا لمن نحبه خالصة لوجهه الكريم، و مقربة إليه و إلى داره دار السلام و النعيم المقيم، و أن تكون عونا لنا على طاعته، و دفعا لنا عن معصيته
4) الاستكثار من الإخوان:
و من آفاتها الاستكثار من الإخوان، حتى يعجز عن القيام بحقوقهم و مواساتهم عند حاجتهم واضطرارهم
قال في تنبيه المغترين: من أخلاق السلف رضي الله عنهم: أنهم لا يتخذون من الإخوان إلا من علموا من نفوسهم الوفاء بحقه، فإنّ أخاك إذا لم توف بحقه كان فارغ القلب منك
و قال ابن حزم رحمه الله في “مداواة النفوس”: ليس شيء من الفضائل أشبه بالرذائل من الاستكثار من الإخوان و الأصدقاء، فإنّ ذلك فضيلة تامة مركبة، لأنهم لا يكتسبون إلا بالحلم و الجود و الصبر و الوفاء و الاستضلاع و المشاركة و العفة و حسن الدفاع و تعلم العلم و كل حال محمودة، و لكن إذا حصلت عيوب الاستكثار منهم، و صعوبة الحال في إرضائهم، و الغرر في مشاركتهم، و ما يلزمك من الحق لهم عند نكبة تعرض لهم، فإن غدرت بهم أو أسلمتهم لُؤّمت و ذممت، و إن وفيت أضررت بنفسك، و ربما هلكت فيكون السرور بهم، لا بفي بالحزن الممضّ من أجلهم ” اه باختصار
و قال عمرو بن العاص: كثرة الأصدقاء كثرة الغرماء
و قال ابن الرومي:
عدوّك من صديقك مستفاد *** فلا تستكثرنّ من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه *** يكون من الطعام أو الشراب
5) كشف الستر:
و من آفاتها: كشف الستر عن الدين و المروءة و الأخلاق و الفقر و سائر العورات، فإنّ
الإنسان لا يخلو في دينه و دنياه من عورات، و الأولى سترها، كما مدح الله عزّ و جلّ المستترين فقال: ” يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ” (البقرة 273)
و قال الشاعر:
و لا عار إن زالت عن الحرّ نعمة *** و لكن عارا أن يزول التّجمّل
و عن الحسن قال: أردت الحجّ فسمع ثابت البناني بذلك، و كان أيضا من أولياء الله فقال: بلغني أنك تريد الحجّ، فأحببت أن أصحبك، فقال له الحسن: ويحك، دعنا نتعاشر بستر الله علينا، إني أخاف أن نصطحب فيرى بعضنا من بعض ما نتماقت عليه
قال احمد فريد: و يتأكد ذلك في حق من تصدى لوعظ الناس، فلا يكثر من صحبتهم و مخالطتهم في فضول المباحات، حتى ينتفعوا بوعظه، و يتمتع بستر الله عليه، مما يكره عليه الناس من ذنوبه و عيوبه، نسأل الله العفو و العافية في الدنيا و الآخرة
6) هذه الآفة خاصة بصحبة الأغنياء:
و من آفات صحبة الأغنياء إزدراء نعمة الله عليه و تحريك الطمع و الحرص في قلبه و قد لا يتيسّر له فلا ينال إلا الغم بذلك
إنّ من نظر إلى زهرة الحياة الدنيا و زينتها تحرّك حرصه، و انبعث بقوة الحرص طمعه، و لا يرى إلا الخيبة في أكثر الأحوال، فيتأذى بذلك، و مهما اعتزل لم يشاهد، و إذا لم يشاهد لم يشته و لم يكمع و لذلك قال الله تعالى: ” و لا تمدّن عينيك إلى ما متّعنا به أزواجا منهم ” (طه 131)
و قال صلى الله عليه و سلم:” انظروا إلى من أسفل منكم و لا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم ” (رواه مسلم و البخاري بمعناه)
قال عون بن عبد الله: كنت أجالس الأغنياء، فلم أزل مغموما، كنت أرى ثوبا أحسن من ثوبي، و دابة أفره من دابتي، فجالست الفقراء فاسترحت
7) الإستئناس بالناس:
و من آفات الصحبة: الاشتغال بالإخوان عن تفريغ القلب للفكر و الاستئناس بالله عز و جل الذي هو أول مطلوب القلوب و أعظم سبب لسعادتها و نجاتها و قد قيل: الاستئناس بالناس من علامات الإفلاس
قال بعض الحكماء: إنما يستوحش الإنسان من نفسه لخلو ذاته عن الفضيلة، فيكثر حينئذ ملاقاة الناس، و يطرد الوحشة عن نفسه بالكون معهم، فإذا كانت ذاته فاضلة طلب الوحدة، ليستعين بها على الفكرة، و يستخرج العلم و الحكمة