138 – لطائف التفسير والمعاني
عبدالله المشجري ومحمد بن ديرية
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا)
——-‘——‘——–‘
——-‘——-‘——-‘
——-‘——-‘——-‘
لطيفة:
قاعدة: لم يذكر علم فاضل في القرآن إلا ذكر معه الإيمان أو أحد وسائله الموصلة إليه أو لوازمه أو ثمراته أو صفات أهله
—–‘—–‘—–
مقدمة:
قال ابن القيم رحمه الله في الفوائد (من ص: 103 إلى نهاية الفائدة)
*فَائِدَة عَظِيمَة أفضل مَا اكتسبته النُّفُوس وحصلته الْقُلُوب العَبْد ونال بِهِ العَبْد الرّفْعَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة هُوَ الْعلم وَالْإِيمَان*
وَلِهَذَا قرن بَينهمَا سُبْحَانَهُ فِي قَوْله {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْم الْبَعْث} وَقَوله {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات} وهؤلاهم خُلَاصَة الْوُجُود ولبه والمؤهلون للمراتب الْعَالِيَة.
وَلَكِن أَكثر النَّاس غالطون فِي حَقِيقَة مُسَمّى الْعلم وَالْإِيمَان اللَّذين بهما السَّعَادَة والرفقة وَفِي حقيقتهما حَتَّى أَن كل طَائِفَة تظن أَن مَا مَعهَا من الْعلم وَالْإِيمَان هُوَ هَذَا الَّذِي بِهِ تنَال السَّعَادَة وَلَيْسَ كَذَلِك بل أَكْثَرهم لَيْسَ مَعَهم إِيمَان يُنجي وَلَا علم يرفع بل قد سدوا على نُفُوسهم طرق الْعلم وَالْإِيمَان اللَّذين جَاءَ بهما الرَّسُول ودعا إِلَيْهِمَا الْأمة وَكَانَ عَلَيْهِمَا هُوَ وَأَصْحَابه من بعده وتابعوهم على منهاجهم وآثارهم
فَكل طَائِفَة اعتقدت أَن الْعلم مَا مَعهَا وفرحت وتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لديهم فَرِحُونَ وَأكْثر مَا عِنْدهم كَلَام وآراء وخرص وَالْعلم وَرَاء الْكَلَام كَمَا قَالَ حمّاد بن زيد قلت لأيوب الْعلم الْيَوْم أَكثر أَو فِيمَا تقدّم فَقَالَ الْكَلَام الْيَوْم أَكثر وَالْعلم فِيمَا تقدم أَكثر
فَفرق هَذَا الراسخ بَين الْعلم وَالْكَلَام فالكتب كَثِيرَة جدا وَالْكَلَام والجدال والمقدرات الذهنية كَثِيرَة وَالْعلم بمعزل عَن أَكْثَرهَا وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول عَن الله قَالَ تَعَالَى {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ من الْعلم} وَقَالَ {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَك من العلم} وَقَالَ فِي الْقُرْآن {أنزلهُ بِعِلْمِهِ} أَي وَفِيه علمه.
وَلما بعد الْعَهْد بِهَذَا الْعلم آل الْأَمر بِكَثِير من النَّاس إِلَى أَن اتَّخذُوا هواجس الأفكار وسوانح الخواطر والآراء علما وَوَضَعُوا فِيهَا الْكتب وأنفقوا فِيهَا الأنفاس فضيعوا فِيهَا الزَّمَان وملأوا بهَا الصُّحُف مدادا والقلوب سوادا حَتَّى صرح كثير مِنْهُم أَنه لَيْسَ فِي الْقُرْآن وَالسّنة علم وَأَن أدلتها لفظية لَا تفِيد يَقِينا وَلَا علما وصرخ الشَّيْطَان بِهَذِهِ الْكَلِمَة فيهم وأذَّن بهَا بَين أظهرهم حَتَّى أسمعها دانيهم لقاصيهم فانسلخت بهَا الْقُلُوب من الْعلم وَالْإِيمَان كانسلاخ الْحَيَّة من قشرها وَالثَّوْب عَن لابسه قَالَ الإِمَام الْعَلامَة شمس الدّين ابْن الْقيم وَلَقَد أَخْبرنِي بعض أَصْحَابنَا عَن بعض أَتبَاع أَتبَاع تلاميذ هَؤُلَاءِ أَنه رَأَىهُ يشْتَغل فِي بعض كتبهمْ وَلم يحفظ الْقُرْآن فَقَالَ لَهُ لَو حفظت الْقُرْآن أَولا كَانَ أولى فَقَالَ وَهل فِي الْقُرْآن علم قَالَ ابْن الْقيم وَقَالَ لي بعض أَئِمَّة هَؤُلَاءِ إِنَّمَا نسْمع الحَدِيث لأجل الْبركَة لَا لنستفيد مِنْهُ الْعلم لِأَن غَيرنَا قد كفانا هَذِه المؤونة فعمدتنا على مَا فهموه قرروه وَلَا شكّ أَن من كَانَ هَذَا مبلغه من الْعلم فَهُوَ كَمَا قَالَ الْقَائِل
نزلُوا بِمَكَّة فِي قبائل هَاشم … وَنزلت بالبطحاء أبعد منزل
قَالَ وَقَالَ لي شَيخنَا مرّة فِي وصف هَؤُلَاءِ أَنهم طافوا على أَرْبَاب الْمذَاهب ففازوا بأخس المطالب وَيَكْفِيك دَلِيلا على أَن هَذَا الَّذِي عِنْدهم لَيْسَ من عِنْد الله مَا ترى فِيهِ من التنقائض وَالِاخْتِلَاف ومصادمة بعضه لبَعض قَالَ تَعَالَى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كثيرا} وَهَذَا يدل على أَن مَا كَانَ من عِنْده سُبْحَانَهُ لَا يخْتَلف وَأَن مَا اخْتلف وتناقض فَلَيْسَ من عِنْده وَكَيف تكون الآراء والخيالات وسوانح الأفكار دينا يدان بِهِ وَيحكم بِهِ على الله وَرَسُوله سُبْحَانَكَ هَذَا بهتان عَظِيم
وَقد كَانَ علم الصَّحَابَة الَّذِي يتذاكرون فِيهِ غير عُلُوم هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفين الخرّاصين كَمَا حكى الْحَاكِم فِي تَرْجَمَة أبي عبد الله البُخَارِيّ قَالَ كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله إِذا اجْتَمعُوا إِنَّمَا يتذاكرون كتاب رَبهم وَسنة نَبِيّهم لَيْسَ بَينهم رَاي وَلَا قِيَاس وَلَقَد أحسن الْقَائِل
الْعلم قَالَ الله قَالَ رَسُوله … قَالَ الصَّحَابَة لَيْسَ بالتمويه
مَا الْعلم نصبك للْخلاف سفاهة … بَين الرَّسُول وَبَين رَاي فَقِيه
كلا وَلَا جحد الصِّفَات ونفيها … حذرا من التَّمْثِيل والتشبيه فصل
وَأما الْإِيمَان فَأكْثر النَّاس أَو كلهم يَدعُونَهُ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بمؤمنين وَأكْثر الْمُؤمنِينَ إِنَّمَا عِنْدهم إِيمَان مُجمل وَأما الْإِيمَان الْمفصل بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول معرفَة وعلما وإقرارا ومحبة وَمَعْرِفَة بضده وكراهيته وبغضه فَهَذَا إِيمَان خَواص الْأمة وخاصة الرَّسُول وَهُوَ إِيمَان الصدّيق وَحزبه وَكثير من النَّاس حظهم من الْإِيمَان الْإِقْرَار بِوُجُود الصَّانِع وَأَنه وَحده الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا وَهَذَا لم يكن يُنكره عبّاد الْأَصْنَام من قُرَيْش وَنَحْوهم وَآخَرُونَ الْإِيمَان عِنْدهم هُوَ التَّكَلُّم بِالشَّهَادَتَيْنِ سَوَاء كَانَ مَعَه عمل أَو لم يكن وَسَوَاء وَافق تَصْدِيق الْقلب أَو خَالفه وَآخَرُونَ عِنْدهم الْإِيمَان مُجَرّد تَصْدِيق الْقلب بِأَن الله سُبْحَانَهُ خَالق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله وَإِن لم يقر بِلِسَانِهِ وَلم يعْمل شَيْئا بل وَلَو سبّ الله وَرَسُوله وأتى بِكُل عَظِيمَة وَهُوَ يعْتَقد وحدانية الله ونبوة رَسُوله فَهُوَ مُؤمن وَآخَرُونَ عِنْدهم الْإِيمَان هُوَ جحد صِفَات الرب تَعَالَى من علوه على عَرْشه وتكلمه بكلماته وَكتبه وسَمعه وبصره ومشيئته وَقدرته وإرادته وحبه وبغضه وَغير ذَلِك مِمَّا وصف بِهِ نَفسه وَوَصفه بِهِ رَسُوله فالإيمان عِنْدهم إِنْكَار حقائق ذَلِك كُله وجحده وَالْوُقُوف مَعَ مَا تَقْتَضِيه آراء المتهوكين وأفكار المخرصين الَّذين يرد بَعضهم على بعض وينقض بَعضهم قَول بعض الَّذين هم كَمَا قَالَ عمر بن الْخطاب وَالْإِمَام أَحْمد مُخْتَلفُونَ فِي الْكتاب مخالفون للْكتاب متفقون على مُفَارقَة الْكتاب وَآخَرُونَ عِنْدهم الْإِيمَان عبَادَة الله بِحكم أذواقهم ومواجيدهم وَمَا تهواه نُفُوسهم من غير تَقْيِيد بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول وَآخَرُونَ
الْإِيمَان عِنْدهم مَا وجدوا عَلَيْهِ آبَاءَهُم وأسلافهم بِحكم الِاتِّفَاق كَائِنا مَا كَانَ بل إِيمَانهم مَبْنِيّ على مقدمتين إِحْدَاهمَا أَن هَذَا قَول أسلافنا وَآبَائِنَا وَالثَّانيَِة أَن مَا قَالُوهُ فَهُوَ الْحق وَآخَرُونَ عِنْدهم الْإِيمَان مَكَارِم الْأَخْلَاق وَحسن الْمُعَامَلَة وطلاقة الْوَجْه وإحسان الظَّن بِكُل أحد وتخلية النَّاس وغفلاتهم وَآخَرُونَ عِنْدهم الْإِيمَان التجرد من الدُّنْيَا وعلائقها وتفريغ الْقلب مِنْهَا والزهد فِيهَا فَإِذا رَأَوْا رجلا هَكَذَا جَعَلُوهُ من سَادَات أهل الْإِيمَان وَإِن كَانَ منسلخا من الْإِيمَان علما وَعَملا وَأَعْلَى من هَؤُلَاءِ من جعل الْإِيمَان هُوَ مُجَرّد الْعلم وَإِن لم يقارنه عمل وكل هَؤُلَاءِ لم يعرفوا حَقِيقَة الْإِيمَان وَلَا قَامُوا بِهِ وَلَا قَامَ بهم وهم أَنْوَاع مِنْهُم من جعل الْإِيمَان مَا يضاد الْإِيمَان وَمِنْهُم من جعل الْإِيمَان مَا لَا يعْتَبر فِي الْإِيمَان وَمِنْهُم من جعله مَا هُوَ شَرط فِيهِ وَلَا يَكْفِي فِي حُصُوله وَمِنْهُم من اشْترط فِي ثُبُوته مَا يناقضه ويضاده وَمِنْهُم من اشْترط فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ بِوَجْه الْإِيمَان
وَالْإِيمَان وَرَاء ذَلِك كُله وَهُوَ حَقِيقَة مركبة من معرفَة مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول علما والتصديق بِهِ عقدا وَالْإِقْرَار بِهِ نطقا والانقياد لَهُ محبَّة وخضوعا وَالْعَمَل بِهِ بَاطِنا وظاهرا وتنفيذه والدعوة إِلَيْهِ بِحَسب الْإِمْكَان وكماله فِي الْحبّ فِي الله والبغض فِي الله وَالعطَاء لله وَالْمَنْع لله وَأَن يكون الله وَحده إلهه ومعبوده وَالطَّرِيق إِلَيْهِ تَجْرِيد مُتَابعَة رَسُوله ظَاهرا وَبَاطنا وتغميض عين الْقلب عَن الِالْتِفَات إِلَى سوى الله وَرَسُوله وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق من اشْتغل بِاللَّه عَن نَفسه كفاء الله مؤونة نَفسه وَمن اشْتغل بِاللَّه عَن النَّاس كَفاهُ الله مؤونة النَّاس وَمن اشْتغل بِنَفسِهِ عَن الله وَكله الله إِلَى نَفسه وَمن اشْتغل بِالنَّاسِ عَن الله وَكله الله إِلَيْهِم.
قال ابن تيمية وهو يتكلم عن مواضع ذكر الإيمان:
فَيُقالُ «اسْمُ الإيمانِ» تارَةً يُذْكَرُ مُفْرَدًا غَيْرَ مَقْرُونٍ بِاسْمِ الإسْلامِ ولا باسِمِ العَمَلِ الصّالِحِ ولا غَيْرِهِما وتارَةً يُذْكَرُ مَقْرُونًا؛ إمّا بِالإسْلامِ كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ جبرائيل: {ما الإسْلامُ وما الإيمانُ}؟ وكَقَوْلِهِ تَعالى: {إنّ المُسْلِمِينَ والمُسْلِماتِ والمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ}. وقَوْلِهِ عز وجل: {قالَتِ الأعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ولَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا}. وقَوْله تَعالى {فَأخْرَجْنا مَن كانَ فِيها مِنَ المُؤْمِنِينَ} {فَما وجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ المُسْلِمِينَ}. وكَذَلِكَ ذُكِرَ الإيمانُ مَعَ العَمَلِ الصّالِحِ؛ وذَلِكَ فِي مَواضِعَ مِن القُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعالى: {إنّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ}. وإمّا مَقْرُونًا بِاَلَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ كَقَوْلِهِ تَعالى: {وقالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ والإيمانَ} وقَوْلِهِ: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ والَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجاتٍ}. وحَيْثُ ذُكِرَ الَّذِينَ آمَنُوا فَقَدْ دَخَلَ فِيهِمْ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ؛ فَإنَّهُمْ خِيارُهُمْ قالَ تَعالى: {والرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا}. وقالَ: {لَكِنِ الرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنهُمْ والمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ وما أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ} قَالَ تَعَالَى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}. وَقَالَ: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} ……. ثم تمم الكلام حول إفراد الإيمان أو قرنه بغيره
مجموع الفتاوى 7/ 13
——‘—–‘—-
من الآيات التي جمعت العلم والإيمان:
قال: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء:311] ”
فيذهب إلى أن الكتاب هو: ما يتلى عن اللَّه تعالى.
والحكمة هي: ما جاءت به الرسالة عن اللَّه، مما بينْت سُنَّة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
الرسالة: باب (ما نزل عامًا دلت السنة الخاصة على أنه يراد به الخاص):
قال الشّافِعِي رحمه الله: وقال الله تعالى: (وأنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) الآية.
فذكر اللَّه الكتاب وهو: القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة: سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرسالة (أيضًا): باب (ما أبان الله لخلقه من فرضه على رسوله اتباع ما أوحى إليه)
قال تعالى:
{قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا * وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} الإسراء 107 – 109.
قال السعدي رحمه الله:
{قُلْ} لمن كذب به وأعرض عنه: {آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا} فليس لله حاجة فيكم، ولستم بضاريه شيئًا، وإنما ضرر ذلك عليكم، *فإن لله عبادًا غيركم، وهم الذين آتاهم الله العلم النافع: {إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا} أي: يتأثرون به غاية التأثر، ويخضعون له.*
{وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا} عما لا يليق بجلاله، مما نسبه إليه المشركون. {إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا} بالبعث والجزاء بالأعمال {لَمَفْعُولا} لا خلف فيه ولا شك.
{وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ} أي: على وجوههم {يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ} القرآن {خُشُوعًا}
وهؤلاء كالذين من الله عليهم من مؤمني أهل الكتاب كعبد الله ابن سلام وغيره، ممن أمن في وقت النبي صلى الله عليه وسلم وبعد ذلك.
قال تعالى:
(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُو ا إِلَى صِرَاط مُّسْتَقِيم)
[سورة الحج 54]
قال ابن تيمية في الإكليل في المتشابه والتأويل: وفي قوله: {وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم} دليل على أن العلم يدل على الإيمان ليس أن أهل العلم ارتفعوا عن درجة الإيمان – كما يتوهمه طائفة من المتكلمة – بل معهم العلم والإيمان كما قال تعالى: {لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} وقال تعالى: {وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله} الآية. وعلى هذا فقوله: {والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا} نظير هذه الآية فإنه أخبر هنا أن الذين أوتوا العلم يعلمون أنه الحق من ربهم وأخبر هناك أنهم يقولون في المتشابه: {آمنا به كل من عند ربنا}
قال تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْر لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ)
[سورة القصص 80]
قال الطبري: يَقُولُ تَعالى ذِكْرُهُ: وقالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ بِاللَّهِ، حِينَ رَأوْا قارُونَ خارِجًا عَلَيْهِمْ فِي زِينَتِهِ، لِلَّذِينَ قالُوا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ: ويْلَكُمُ، اتَّقُوا اللَّهَ وأطِيعُوهُ، فَثَوابُ اللَّهِ وجَزاؤُهُ لِمَن آمَنَ بِهِ وبِرُسُلِهِ، وعَمِلَ بِما جاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ مِن صالِحاتِ الأعْمالِ فِي الآخِرَةِ، خَيْرٌ مِمّا أُوتِيَ قارُونُ مِن زِينَتِهِ ومالِهِ
وفي التفسير الوسيط:
قالوا لهم -: ويلكم لا تطلبوا مثل ما أوتي قارون ولا تتمنوا مثل زيتته ومتاعه الدنيوي، ثواب الله في الآخرة خير من زينته ومتاعه وأعظم مما أوتيه – من ماله ورجاله – لمن آمن بالله واليوم الآخر وعمل عملًا صالحًا يرضاه، ولا يتلقى هذه النصيحة بحسن قبولها والعمل بمقتضاها إلّا الصابرون على الطاعات، وعن السيئات
وقال تعالى:
(وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَاذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَاكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)
[سورة الروم 56]
قال السعدي:
{وقالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ والإيمانَ} أي: مَنَّ الله عليهم بهما وصارا وصفا لهم العلم بالحق والإيمان المستلزم إيثار الحق، وإذا كانوا عالمين بالحق مؤثرين له لزم أن يكون قولهم مطابقا للواقع مناسبا لأحوالهم. تفسير السعدي
وفي هذا دليل على كمال عدل أهل العلم؛ فإن الله استشهد بهم على عباده، وذلك تعديل منه لهم، وفي هذا من الشرف وعلوِّ المكانة ما لا يخفى (تيسير اللطيف المنان في تفسير الأحكام: [1/ 31]).
قال ابن عاشور:
وعطف الإيمان على العلم والاهتمام به؛ لأن العلم بدون إيمان لا يرشد إلى العقائد الحق التي بها الفوز في الحياة الآخرة.
والمعنى: وقال لهم المؤمنون إنكاراً عليهم وتحسيراً لهم. والظاهر أن المؤمنين يسمعون تحاجَّ المشركين بعضهم مع بعض فيبادرون بالإنكار عليهم؛ لأن تغيير المنكر سجيتُهم التي كانوا عليها. وفي هذا أدب إسلامي، وهو: أن الذي يسمع الخطأ في الدين والإيمان لا يقرُّه ولو لم يكن هو المخاطب به” (التحرير والتنوير: [21/ 81])
قال الفقيه الإمام القاضي رحمه الله: “ذكر العلم يتضمن الإيمان ولا يصف الله بعلم من لم يعلم كل ما يوجب الإيمان، ثم ذكر الإيمان بعد ذلك تنبيهاً عليه وتشريفاً لأمره؛ فنبه على مكان الإيمان وخصه بالذكر تشريفاً” (المحرر الوجيز: [5/ 261]).
وقال ابن عاشور في التحرير والتنوير أيضا (17/ 307)
وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَقَدْ جُمِعَ لَهُمُ الْوَصْفَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فِي سُورَةِ [الرُّومِ: 56].
وَكَمَا فِي سُورَةِ [سَبَأٍ: 6] وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ.
*فَإِظْهَارُ لَفْظِ الَّذِينَ آمَنُوا فِي مَقَامِ ضَمِيرِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ لِقَصْدِ مَدْحِهِمْ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ هُوَ سَبَبُ هَدْيِهِمْ.* وَعَكْسُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ [الزمر: 3]. فَالْمُرَادُ بِالْهُدَى فِي كِلْتَا الْآيَتَيْنِ عِنَايَةُ اللَّهِ بِتَيْسِيرِهِ وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّهَ هَدَى الْفَرِيقَيْنِ بِالدَّعْوَةِ وَالْإِرْشَادِ فَمِنْهُمْ مَنِ اهْتَدَى وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ.
قال بعض أهل التفسير: {أُوتُوا الْعِلْمَ} ولم يقل: علموا؟: “كأن العلم ليس كَسْباً؛ إنما إيتاء من عَالِم منك يعطيك. فإنْ قُلتَ: أليس للعلماء دور في الاستدلال والنَظر في الأدلة؟ نقول: نعم، لكن مَنْ نصب لهم هذه الأدلة؟ إذن، فالعلم عطاء من الله”
وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11]. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤتوا العلم درجات” (الدر المنثور: [14/ 322]).
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ: “قَوْله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة من الآية:11]. خَصَّ سُبْحَانَهُ رَفْعَهُ بِالْأَقْدَارِ وَالدَّرَجَاتِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ؛ وَهُمْ الَّذِينَ اسْتَشْهَدَ بِهِمْ فِي قَوْله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} [آل عمران من الآية:18]. وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ يَرَوْنَ مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ هُوَ الْحَقُّ بِقَوْلِهِ تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ من الآية:6]، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَعَلُّمَ الْحُجَّةِ وَالْقِيَامَ بِهَا يَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَنْ يَرْفَعُهَا كَمَا قَالَ تعالى: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ} [الأنعام من الآية:83]، قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: بِالْعِلْمِ. فَرَفْعُ الدَّرَجَاتِ وَالْأَقْدَارِ عَلَى قَدْرِ مُعَامَلَةِ الْقُلُوبِ بِالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ” [مجموع الفتاوى: [16/ 49]).
وقال ابن القيم في فضل أولي العلم والإيمان: “وهؤلاء هم خلاصة الوجود ولبُّه والمؤهلون للمراتب العالية” (الفوائد؛ ص: [107]).
—
قال تعالى:
(أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) الزمر (9)
قال البقاعي:
ولَمّا كانَ الحامِلُ عَلى الخَوْفِ؛ والرَّجاءِ؛ والعَمَلِ؛ إنَّما هو العِلْمُ النّافِعُ؛ وكانَ العِلْمُ الَّذِي لا يَنْفَعُ كالجَهْلِ؛ أوِ الجَهْلُ خَيْرٌ؛ كانَ جَوابُ ما تَقَدَّمَ مِنَ الِاسْتِفْهامِ: لا يَسْتَوِيانِ؛ لِأنَّ المُخْلِصَ عالِمٌ؛ والمُشْرِكَ جاهِلٌ؛ فَأمَرَهُ بِالجَوابِ؛ بِقَوْلِهِ: {قُلْ}؛ أيْ: لا يَسْتَوِيانِ؛ لِأنَّ الحامِلَ عَلى الإخْلاصِ العِلْمُ؛ وعَلى الإشْراكِ الجَهْلُ؛ وقِلَّةُ العَقْلِ؛ ثُمَّ أنْكِرْ عَلى مَن يَشُكُّ في ذَلِكَ؛ فَقُلْ لَهُ: {هَلْ يَسْتَوِي}؛ أيْ: في الرُّتْبَةِ؛ {الَّذِينَ يَعْلَمُونَ}؛ أيْ: فَيَعْمَلُونَ عَلى مُقْتَضى العِلْمِ؛ فَأدّاهم عِلْمُهم إلى التَّوْحِيدِ؛ والإخْلاصِ في الدِّينِ؛ {والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}؛ فَلَيْسَتْ أعْمالُهم عَلى مُقْتَضى العِلْمِ؛ إمّا لِجَهْلٍ؛ وإمّا لِإعْراضٍ عَنْ مُقْتَضى العِلْمِ؛ فَصارُوا لا عِلْمَ لَهُمْ؛ لِأنَّهُ لا انْتِفاعَ لَهم بِهِ؛
نظم الدرر للبقاعي
-‘-
====
آيات أخرى:
آيات أخرى فيها ذكر العلم مع الإيمان أو وسائله أو لوازمه أو ثمراته أو صفات أهله:
وقال تعالى: (ثُمَّ يَوْمَ القِيامَةِ يُخْزِيهِمْ ويَقُولُ أيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ إنَّ الخِزْيَ اليَوْمَ والسُّوءَ عَلى الكافِرِينَ ((27)) سورة النحل
قالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ إنَّ الخِزْيَ اليَوْمَ والسُّوءَ عَلى الكافِرِينَ جُمْلَةٌ ابْتِدائِيَّةٌ حَكَتْ قَوْلَ أفاضِلِ الخَلائِقِ حِينَ يَسْمَعُونَ قَوْلَ اللَّهِ تَعالى عَلى لِسانِ مَلائِكَةِ العَذابِ: أيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشاقُّونَ فِيهِمْ.
وجِيءَ بِجُمْلَةِ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ لِأنَّها واقِعَةٌ مَوْقِعَ الجَوابِ لِقَوْلِهِ: أيْنَ شُرَكائِيَ لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ ابْتَدَرُوا الجَوابَ لَمّا وجَمَ المُشْرِكُونَ فَلَمْ يُحِيرُوا جَوابًا، فَأجابَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ جَوابًا جامِعًا لِنَفْيِ أنْ يَكُونَ الشُّرَكاءُ المَزْعُومُونَ مُغْنِينَ عَنِ الَّذِينَ أشْرَكُوا شَيْئًا، وأنَّ الخِزْيَ والسُّوءَ أحاطا بالكافرين.
والتَّعْبِير بالماضي لِتَحْقِيقِ وُقُوعِ القَوْلِ.
والَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ هُمُ الَّذِينَ آتاهُمُ اللَّهُ عِلْمَ الحَقائِقِ مِنَ الرُّسُلِ والأنْبِياءِ- عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ- والمُؤْمِنُونَ، كَقَوْلِهِ تَعالى: وقالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ والإيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إلى يَوْمِ البَعْثِ [سُورَة الرّوم: (56)]، أيْ يَقُولُونَ فِي ذَلِكَ المَوْقِفِ مِن جَرّاءِ ما يُشاهِدُوا مِن مُهَيَّأِ العَذابِ لِلْكافِرِينَ كَلامًا يَدُلُّ عَلى حَصْرِ الخِزْيِ والضُّرِّ يَوْمَ القِيامَةِ فِي الكَوْنِ عَلى الكافِرِينَ. وهُوَ قصر ادعائي لبلوغ المُعَرَّفُ بِلامِ الجِنْسِ حَدِّ النِّهايَةِ فِي جِنْسِهِ حَتّى كَأنَّ غَيْرَهُ مِن جِنْسِهِ لَيْسَ مِن ذَلِكَ الجِنْسِ.
وتَاكِيدُ الجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ وبِصِيغَةِ القَصْرِ والإتْيانِ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلاءِ الدّالِّ عَلى تَمَكُّنِ الخِزْيِ والسُّوءِ مِنهُمْ يُفِيدُ مَعْنى التَّعَجُّبِ مِن هَوْلِ ما أعدّ لَهُم.
التحرير 14/ 137
قال السعدي:
{قالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ} أي: العلماء الربانيون {إنَّ الخِزْيَ اليَوْمَ} أي: يوم القيامة {والسُّوءَ} أي: العذاب {عَلى الكافِرِينَ} وفي هذا فضيلة أهل العلم، وأنهم الناطقون بالحق في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وأن لقولهم اعتبارا عند الله وعند خلقه
قال تعالى: (وما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ ولا نَبِيٍّ إلّا إذا تَمَنّى ألْقى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَياتِهِ واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ((52)) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وإنَّ الظّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ ((53)) ولِيَعْلَمَ الَّذِينَ
أُوتُوا العِلْمَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وإنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ((54)) سورة الحج
قال البغوي:
قوله تعالى {ولِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ} التَّوْحِيدَ والقُرْآنَ. وقالَ السُّدِّيُّ: التَّصْدِيقَ بِنَسْخِ اللَّهِ تَعالى، {أنَّهُ} يَعْنِي: أنَّ الَّذِي أحْكَمَ اللَّهُ مِن آياتِ القُرْآنِ هُوَ {الحَقُّ مِن رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ} أيْ: يَعْتَقِدُوا
قال ابن تيمية في الإكليل في المتشابه في التأويل كما في مجموع الفتاوى مجلد 13:
جعل الله القلوب ثلاثة أقسام: قاسية وذات مرض ومؤمنة مخبتة؛ وذلك لأنها إما أن تكون يابسة جامدة لا تلين للحق اعترافا وإذعانا أو لا تكون يابسة جامدة.
ف «الأول» هو القاسي وهو الجامد اليابس بمنزلة الحجر لا ينطبع ولا يكتب فيه الإيمان ولا يرتسم فيه العلم؛ لأن ذلك يستدعي محلا لينا قابلا.
و ” الثاني ” لا يخلو إما أن يكون الحق ثابتا فيه لا يزول عنه لقوته مع لينه أو يكون لينه مع ضعف وانحلال. فالثاني هو الذي فيه مرض والأول هو القوي اللين
قال تعالى: (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ((79)) وقالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ ويْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَن آمَنَ وعَمِلَ صالِحًا ولا يُلَقّاها إلا الصّابِرُونَ ((80))
سورة – القصص
قال الطبري:
يَقُولُ تَعالى ذِكْرُهُ: وقالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ بِاللَّهِ، حِينَ رَأوْا قارُونَ خارِجًا عَلَيْهِمْ فِي زِينَتِهِ، لِلَّذِينَ قالُوا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ: ويْلَكُمُ، اتَّقُوا اللَّهَ وأطِيعُوهُ، فَثَوابُ اللَّهِ وجَزاؤُهُ لِمَن آمَنَ بِهِ وبِرُسُلِهِ، وعَمِلَ بِما جاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ مِن صالِحاتِ الأعْمالِ فِي الآخِرَةِ، خَيْرٌ مِمّا أُوتِيَ قارُونُ مِن زِينَتِهِ ومالِهِ لِقارُونَ.
قال تعالى: (وما كُنْتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتابٍ ولا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذًا لارْتابَ المُبْطِلُونَ ((48)) بَلْ هُوَ آَياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وما يَجْحَدُ بِآَياتِنا إلّا الظّالِمُونَ) ((49)) سورة العنكبوت:
قال السعدي:
{بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وما يَجْحَدُ بِآياتِنا إلا الظّالِمُونَ}.
أي: {بَلْ} هذا القرآن {آيات بَيِّنات} لا خفيات، {فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ} وهم سادة الخلق، وعقلاؤهم، وأولو الألباب منهم، والكمل منهم.
فإذا كان آيات بينات في صدور أمثال هؤلاء، كانوا حجة على غيرهم، وإنكار غيرهم لا يضر، ولا يكون ذلك إلا ظلما، ولهذا قال: {وما يَجْحَدُ بِآياتِنا إلا الظّالِمُونَ} لأنه لا يجحدها إلا جاهل تكلم بغير علم، ولم يقتد بأهل العلم، وهو متمكن من معرفته على حقيقته، وإما متجاهل عرف أنه حق فعانده، وعرف صدقه فخالفه.
تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (1) / (633)
قال تعالى: (ويَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يُقْسِمُ المُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذَلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ ((55)) وقالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ والإيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إلى يَوْمِ البَعْثِ فَهَذا يَوْمُ البَعْثِ ولَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ((56))
سورة الروم
قال الطبري:
عَنْ قَتادَةَ، قَوْلُهُ: «{وقالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ والإيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إلى يَوْمِ البَعْثِ} [الروم (56)] قالَ: هَذا مِن مَقادِيمِ الكَلامِ. وتَاوِيلُها: وقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الإيمانَ والعِلْمَ: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ». وذُكِرَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أنَّهُ كانَ يَقُولُ: مَعْنى ذَلِكَ: «وقالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ بِكِتابِ اللَّهِ، والإيمانَ بِاللَّهِ وكِتابِهِ»
قال تعالى: (ويَرى الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ هُوَ الحَقَّ ويَهْدِي إلى صِراطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ ((6)) سورة – سبأ
قال الطبري: يقول تعالى ذكره: أثبت ذلك في كتاب مبين ليجزي الذين آمنوا والذين سعوا في آياتنا ما قد بين لهم، وليرى الذين أوتوا العلم، فيرى في موضع نصب عطفًا به على قوله: يجزي في قوله (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) وعنى بالذين أوتوا العلم مسلمة أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، ونظرائه الذين قد قرءوا كتب الله التي أنزلت قبل الفرقان، فقال تعالى ذكره: وليرى هؤلاء الذين أوتوا العلم بكتاب الله الذي هو التوراة الكتاب الذي أنزل إليك يا محمد من ربك هو الحق.
قَوْله تَعالى {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ والَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجاتٍ}
قال ابن تيمية: خَصَّ سُبْحانَهُ رَفْعَهُ بِالأقْدارِ والدَّرَجاتِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ والإيمانَ وهُمْ الَّذِينَ اسْتَشْهَدَ بِهِمْ فِي قَوْله تَعالى {شَهِدَ اللَّهُ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هُوَ والمَلائِكَةُ وأُولُو العِلْمِ قائِمًا بِالقِسْطِ} وأخْبَرَ أنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ يَرَوْنَ ما أُنْزِلَ إلى الرَّسُولِ هُوَ الحَقُّ بِقَوْلِهِ تَعالى: {ويَرى الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ هُوَ الحَقَّ} فَدَلَّ عَلى أنَّ تَعَلُّمَ الحُجَّةِ والقِيامَ بِها يَرْفَعُ دَرَجاتِ مَن يَرْفَعُها كَما قالَ تَعالى: {نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ} قالَ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ: بِالعِلْمِ. فَرَفْعُ الدَّرَجاتِ والأقْدارِ عَلى قَدْرِ مُعامَلَةِ القُلُوبِ بِالعِلْمِ والإيمانِ فَكَمْ مِمَّنْ يَخْتِمُ القُرْآنَ فِي اليَوْمِ مَرَّةً أوْ مَرَّتَيْنِ وآخَرُ لا يَنامُ اللَّيْلَ وآخَرُ لا يُفْطِرُ وغَيْرُهُمْ أقَلُّ عِبادَةً
مجموع الفتاوى (16) / (48)