1122 التعليق على الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، ونوح وعبدالخالق، وموسى الصوماليين.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا)
——-‘——‘——–‘
——-‘——-‘——-‘
——-‘——–‘——‘
الصحيح المسند (ج2/ رقم 1122):
قال الإمام أبو داود رحمه الله: حدثنا أحمد بن صالح وأحمد بن عمرو بن السرح قالا حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن وهب بن منبه عن أخيه عن معاوية: اشفعوا تؤجروا، فإني لأريد الأمر فأؤخره كيما تشفعوا فتؤجروا؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اشفعوا تؤجروا)).قال أبو عبد الرحمن: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
===================
الحديث سيكون من وجوه:
تمهيد:
يقول الله تعالى: {من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا}
[النساء 85]
الشفاعة وهي طلب الخير للغير من الغير. وقد دعت إليها ظروف. إذ ليس كل أحد يستطيع الوصول إلى [صاحب القرار]، وليس كل أحد يتمكن من الدخول عليه ليوضح له مراده وليعرف حاله على حقيقته.
و”التعاون على الخير والنفع سلوك حسن، وعبادة جليلة على أن تكون في خير وصدق، لا في إثم وكذب، أو في حد من الحدود، أو لمقابل رخيص كهدية أو غيرها”.
وهذا الحديث توجيه للحاشية أن يكونوا ألسنة خير ومعروف ومساعدة لا أن يكونوا ألسنة شر وأعوانا للشياطين، ((اشفعوا تؤجروا)) إذا عرضت قضية أمامكم فحاولوا جبر العثرات واقترحوا .. العفو وتخفيف العقوبات يكن لكم أجركم من الله قبلت شفاعتكم أو لم تقبل، وما شفاعتكم إلا نصيحة ودعوة إلى الخير، وسيقضي [ذاك] بما يشاء الله حكمه وكان الله على كل شيء قديرا. [فتح المنعم باختصار]
الوجه الأول: شرح وفقه الحديث. جاء في صحيح البخاري ((كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذَا جَاءَهُ السَّائِلُ أوْ طُلِبَتْ إلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، ويَقْضِي اللَّهُ علَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما شَاءَ)) يَحكي لنا أبو موسى الأشعريُّ رضي الله عنه إنَّ النَّبي -صلَّى الله عليه وسلم- كان إذا أتاهُ سائل أو طالب حاجة، قال: ((اشفعُوا تُؤْجروا)). النَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- من حِرْصِهِ على أنْ يَكْسِبَ المُسْلِمُون الأجر والثَّواب يقُول مثل هذا الكلام،، أنْتَ مَامُور بالشَّفَاعة، {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} [النِّساء / 85]؛ فالشَّفاعة لا تُكَلِّفُ شيئاً هي مُجَرَّد كلمة،، ونَعْرِف من سَادَ الأُمَّة لا بِقُوَّتِهِ ولا بِمَالِهِ إنما بمثل هذه الشَّفَاعَات؛ لأنّ بعض النَّاس يتصور أنَّهُ كُل ما كتب تهبط قيمتُهُ، لا لا أبداً العكس، الذِّي يَتَولَّى الشَّفاعة للنَّاس لا شكَّ أنَّ الله -جلَّ وعلا- يَرْفَعُهُ في الدُّنيا والآخرة، النَّووي -رحمهُ الله- كان صاحب شَفَاعَات من جاءَهُ كَلَّم عنهُ الوُلاة وكَتَب، ويَسْمَع أَحياناً ما يَسُرُّهُ وأحياناً ما يَسُوءُهُ، يَضِيرُهُ شيء؟!، بعث له الوالي مرَّة من المرَّات، قال: لا تَشْفَع لِأَحَد، فَجَاءَهُ شخص شفع لهُ، ثاني شفع لهُ، لمَّا نَظَر الوالي وين المَسْأَلة؟ اعْتَرَفْ بِأَنَّ أَمْرَهُ لله، ولاّ بعض النَّاس إذا جَاءَهُ مثل هذا الكلام الخَشِن تَاخُذُهُ العِزَّةُ بِالإِثْم ويَيْأَس. ومنهم الشيخ ابن باز كان كثير الخدمة والشفاعات للمسلمين، ورَفَعَ الله -جَلَّ وعلا- مَنْزِلَتَهُ فِي الدُّنيا والآخرة، والآخرة اللهُ أعلمُ بِها؛ لكنْ هذا الذِّي يَغْلِبْ على الظَّن، امْتِثَالاً لهذا الحديث: ((اشفعوا تُؤجروا))، وفي الحديث: ((إنما أنا قاسمٌ واللهُ المُعطِي)).
[شرح جوامع الأخبار].
الوجه الثاني: فقه الحديث.
قال النووي في الحديث: استحباب الشفاعة لأصحاب الحوائج المباحة سواء كانت الشفاعة إلى سلطان ووال ونحوهما أم إلى واحد من الناس وسواء كانت الشفاعة إلى سلطان في كف ظلم أو إسقاط تعزير أو في تخليص عطاء لمحتاج أو نحو ذلك، وقد بوب عليه: ” بَابُ اسْتِحْبَابِ الشَّفَاعَةِ فِيمَا لَيْسَ بِحَرَامٍ”.
قال: وأما الشفاعة في الحدود فحرام، وكذا الشفاعة في تتميم باطل أو إبطال حق ونحو ذلك فهي حرام. اهـ
وقال عياض: ولا يستثنى من الوجوه التي تستحب فيها الشفاعة إلا الحدود.
وفي الحديث: الحض على الخير بالفعل، وبالتسبب إليه بكل وجه.
وقد ترجم البخاري بـ: باب كراهة الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان، والكراهة تطلق عند السلف والمراد كراهة تحريم. فالجمهور على تحريمها، أما قبل أن يرفع إلى السلطان فهي على استحبابها فعند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه والحاكم في قصة الذي سرق رداؤه ثم أراد أن يقطع السارق فقال له النبي صلى الله عليه وسلم هلا قبل أن تأتيني به، وفي حديث آخر في قصة رجل سرق فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطعه فلما قطع رأوا منه أسفا عليه فقالوا يا رسول الله كأنك كرهت قطعه فقال: وما يمنعني لا تكونوا أعوانا للشيطان على أخيكم.
قال العلماء: عن استحبابها قبل وصول الأمر إلى الحاكم ولا سيما إذا وقعت الحادثة من أهل العفاف، وأما المصرون على فسادهم المشتهرون في باطلهم فلا يشفع لهم؛ لينزجروا عن ذلك.
والله أعلم. [فتح المنعم]
وقد وقع من النبي صلى الله عليه وسلم شفاعات منها شفاعته لأهل ثقيف أن يرجع إليهم الصحابة السبي من اهليهم. وشفاعته لمغيث في شأن بريرة. وشفاعته عند كعب بن مالك لينزل الشطر من دينه. وهناك شفاعات له صلى الله عليه وسلم يوم القيامة كما سيأتي بيانه.
الوجه الثالث: المسائل المتعلقة بالباب وسيكون على النحو التالي:
الفصل الأول: تعريف الشفاعة، وأقسامه:
فالشفاعة، هي: التوسط للغير في جلب المنفعة أو دفع المضرة. قال العلامة صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله في ((إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد)): ((الشفاعة معناها: التوسط في قضاء حاجة المحتاج لدى من هي عنده. سميت بذلك؛ لأن طالب الحاجة كان منفرداً في الأول، ثمّ لما انضم إليه الشافع صار شفعاً؛ لأن الشفع ضد الوتر، فلما كان طالب الحاجة منفرداً، ثمّ انضم إليه الواسطة شفعه في الطلب، ولذلك سمّي شافعاً، وسمّي هذا العمل شفاعة)) اهـ.
[وهي قسمان]:القسم الأول: الشفاعة التي تكون في الآخرة ـ يوم القيامة ـ.
القسم الثاني: الشفاعة التي تكون في أمور الدنيا.
فأما الشفاعة التي تكون في الآخرة، فهي نوعان:
النوع الأول: الشفاعة الخاصة، وهي: التي تكون للرسول صلى الله عليه وسلم خاصة لا يشاركه فيها غيره من الخلق، وهي أقسام:
أولها: الشفاعة العظمى، وهي: من المقام المحمود الذي وعده الله إياه في قوله تعالى: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)} سورة الإسراء. وحقيقة هذه الشفاعة هي أن يشفع لجميع الخلق حين يؤخر الله الحساب فيطول بهم الانتظار في أرض المحشر يوم القيامة فيبلغ بهم من الغم والكرب ما لا يطيقون، فيقولون: من يشفع لنا إلى ربنا حتى يفصل بين العباد، يتمنون التحول من هذا المكان، فيأتي الناس إلى الأنبياء فيقول كل واحد منهم: “لست لها”، حتى إذا أتوا إلى نبينا صلى الله عليه وسلم فيقول: ((أنا لها، أنا لها)). فيشفع لهم في فصل القضاء، فهذه الشفاعة العظمى، وهي من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.
والأحاديث الدالة على هذه الشفاعة كثيرة في الصحيحين وغيرهما، ومنها ما رواه البخاري في صحيحه (1748) عن ابن عمر رضي الله عنهما: “إن الناس يصيرون يوم القيامة جُثاً، كل أمة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود”.
ثانيها: الشفاعة لأهل الجنة لدخول الجنة: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك)). رواه مسلم (333)، وفي رواية له (332) ((أنا أول شفيع في الجنة)).
ثالثها: شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب: فعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال: ((لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه)). رواه البخاري (1408) ومسلم (360)
رابعها: شفاعته صلى الله عليه وسلم في دخول أناس من أمته الجنة بغير حساب: وهذا النوع ذكره بعض العلماء واستدل له بحديث أبي هريرة الطويل في الشفاعة وفيه: “ثُمَّ يُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَاسَكَ سَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَرْفَعُ رَاسِي فَأَقُولُ أُمَّتِي يَا رَبِّ أُمَّتِي يَا رَبِّ أُمَّتِي يَا رَبِّ فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لا حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَبْوَابِ ” رواه البخاري (4343) ومسلم (287).
النوع الثاني: الشفاعة العامة، وهي تكون للرسول صلى الله عليه وسلم ويشاركه فيها من شاء الله من الملائكة والنبيين والصالحين، وهي أقسام:
أولاها: الشفاعة لأناس قد دخلوا النار في أن يخرجوا منها؛ والأدلة على هذا القسم كثيرة جدا منها:
ما جاء في صحيح مسلم (269) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا: ” فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون. فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا … ، فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط”.
ثانيها: الشفاعة لأناس قد استحقوا النار في أن لا يدخلوها، وهذه قد يستدل لها بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه) أخرجه مسلم (1577) فإن هذه شفاعة قبل أن يدخل النار، فيشفعهم الله في ذلك.
ثالثها: الشفاعة لأناس من أهل الإيمان قد استحقوا الجنة أن يزدادوا رفعة ودرجات في الجنة؛ ومثال ذلك ما رواه مسلم رحمه الله (1528) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا لأبي سلمة فقال: ((اللّهمّ اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديّين، واخلفه في عقبه في الغابرين واغفر لنا وله يا ربّ العالمين، وافسح له في قبره، ونوّر له فيه)).
شروط هذه الشفاعة: دلت الأدلة على أن الشفاعة في الآخرة لا تقع إلا بشروط هي:
1) رضا الله عن المشفوع له؛ لقول تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) الأنبياء/ 28. وهذا يستلزم أن يكون المشفوع له من أهل التوحيد؛ لأن الله لا يرضى عن المشركين. وفي صحيح البخاري (97) عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لا يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِه”ِ.
2) إذن الله للشافع أن يشفع؛ لقوله تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) البقرة/255.
3) رضا الله عن الشافع، لقوله تعالى: (إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) النجم/26.
كما بَيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن اللعانين لا يكونون شفعاء يوم القيامة كما روى مسلم في صحيحه (4703) عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ” إِنَّ اللَّعَّانِينَ لا يَكُونُونَ شُهَدَاءَ وَلا شُفَعَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَة “ِ.
القسم الثاني: الشفاعة المتعلقة بالدنيا، وهي على نوعين:
الأول: ما يكون في مقدور العبد واستطاعته القيام به؛ فهذه جائزة بشرطين:
1) أن تكون في شيء مباح، فلا تصح الشفاعة في شيء يترتب عليه ضياع حقوق الخلق أو ظلمهم، كما لا تصح الشفاعة في تحصيل أمر محرم، كمن يشفع لأناس قد وجب عليهم الحد أن لا يقام عليهم، قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} المائدة:2.
وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها ” أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَانُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلا أُسَامَةُ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟!)) ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، فَقَالَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا)). رواه البخاري (3261) ومسلم (3196).
وفي صحيح البخاري (5568) ومسلم (4761) عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ أَقْبَلَ عَلَى جُلَسَائِهِ، فَقَالَ: ((اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا وَلْيَقْضِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا أَحَب)).
2) أن لا يعتمد بقلبه في تحقيق المطلوب ودفع المكروه إلا على الله وحده، وأن يعلم أن هذا الشافع لا يعدو كونه سببا أَذِنَ الله به، وأن النفع والضر بيد الله وحده، وهذا المعنى واضح جدا في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فإذا تخلف أحد هذين الشرطين صارت الشفاعة ممنوعة منهيا عنها.
الثاني: ما لا يكون في مقدور العبد، وطاقته ووسعه، كطلب الشفاعة من الأموات وأصحاب القبور، أو من الحي الغائب معتقدا أن بمقدوره أن يسمع وأن يحقق له طلبه، فهذه هي الشفاعة الشركية التي تواردت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بنفيها وإبطالها لما في ذلك من وصفهم بصفات الخالق عز وجل؛ لأن من صفاته عز وجل أنه هو الحي الذي لا يموت.
وشبهة هؤلاء أنهم يقولون: إن الأولياء وإن السادة يشفعون لأقاربهم، ولمن دعاهم، ولمن والاهم، ولمن أحبهم، ولأجل ذلك يطلبون منهم الشفاعة، وهذا بعينه هو ما حكاه الله عن المشركين الأولين حين قالوا: (هؤلاء شفعاؤنا عند الله) يونس/18، يعنون معبوداتهم من الملائكة، ومن الصالحين، وغيرهم، وأنها تشفع لهم عند الله، وكذلك المشركون المعاصرون الآن؛ يقولون: إن الأولياء يشفعون لنا، وإننا لا نجرؤ أن نطلب من الله بل نطلب منهم وهم يطلبون من الله، ويقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والصالحين أعطاهم الله الشفاعة، ونحن ندعوهم ونقول: اشفعوا لنا كما أعطاكم الله الشفاعة. ويضربون مثلاً بملوك الدنيا فيقولون: إن ملوك الدنيا لا يوصل إليهم إلا بالشفاعة إذا أردت حاجة فإنك تتوسل بأوليائهم ومقربيهم من وزير وبواب وخادم وولد ونحوهم يشفعون لك حتى يقضي ذلك الملك حاجتك، فهكذا نحن مع الله تعالى نتوسل ونستشفع بأوليائه وبالسادة المقربين عنده، فوقعوا بهذا في شرك السابقين، وقاسوا الخالق بالمخلوق.
والله تعالى ذكر عن الرجل المؤمن في سورة يس قوله: (أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً) (يس:23)، وذكر الله تعالى أن الكفار اعترفوا على أنفسهم بقولهم: (قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين * فما تنفعهم شفاعة الشافعين) المدثر/43 – 48.
والنبي صلى الله عليه وسلم وإن أعطي الشفاعة يوم القيامة، إلا أنه لن يتمكن منها إلا بعد إذن الله تعالى، ورضاه عن المشفوع له.
ولهذا لم يدع صلى عليه وسلم أمته لطلب الشفاعة منه في الدنيا، ولا نقل ذلك عنه أحد من أصحابه رضي الله عنهم، ولو كان خيرا، لبلَّغه لأمته، ودعاهم إليه، ولسارع إلى تطبيقه أصحابه الحريصون على الخير، فعُلم أن طلب الشفاعة منه الآن منكر عظيم؛ لما فيه من دعاء غير الله، والإتيان بسبب يمنع الشفاعة، فإن الشفاعة لا تكون إلا لمن أخلص التوحيد لله.
وأهل الموقف إنما يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع لهم في فصل القضاء، لحضوره معهم، واستطاعته أن يتوجه إلى ربه بالسؤال، فهو من باب طلب الدعاء من الحي الحاضر فيما يقدر عليه.
ولهذا لم يرد أن أحدا من أهل الموقف سيطلب منه صلى الله عليه وسلم أن يشفع له في مغفرة ذنبه.
وهؤلاء الذين يطلبون منه الشفاعة الآن، بناء على جواز طلبها في الآخرة، لو ساغ لهم ما يدّعون، للزمهم الاقتصار على قولهم: يا رسول الله اشفع لنا في فصل القضاء!! ولكن واقع هؤلاء غير ذلك، فهم لا يقتصرون على طلب الشفاعة، وإنما يسألون النبي صلى الله عليه وسلم -وغيره – تفريج الكربات، وإنزال الرحمات، ويفزعون إليه في الملمات، ويطلبونه في البر والبحر، والشدة والرخاء، معرضين عن قول الله (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أءله مع الله) النمل/62.
ومن خلال ما سبق يتضح لكل منصف أن الشفاعة المثبتة هي الشفاعة المتعلقة بإذن الله ورضاه؛ لأن الشفاعة كلها ملكله. ويدخل في ذلك ما أذن الله به من طلب الشفاعة في أمور الدنيا من المخلوق الحي القادر على ذلك، وينتبه هنا إلى أن هذا النوع إنما جاز؛ لأن الله أذن به، وذلك؛ لأنه ليس فيه تعلقٌ قلبيٌ بالمخلوق وإنما غاية الأمر أنه سبب كسائر الأسباب التي أذن الشرع باستخدامها. وأن الشفاعة المنفية هي التي تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ لأن غير الله لا يملك الشفاعة ولا يستطيعها حتى يأذن الله له بها، ويرضى. فمن طلبها من غيره فقد تعدى على مقام الله، وظلم نفسه، وعرضها للحرمان من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، نسأل الله العافية والسلامة، ونسأله أن يُشفِّع فينا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم .. آمين.
[للاستزادة ينظر كتاب القول المفيد للشيخ محمد ابن عثيمين (1/ 423)، أعلام السنة المنشورة (144)، وغيرهما].
فصل: الأدلة في الشفاعات الدنيوية منها ما هو مشروع، ومنها ما ليس بمشروع، قال الله سبحانه وتعالى: {من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا}.
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: وقوله تعالى: من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها أي من يسعى في أمر فيترتب عليه خير كان له نصيب من ذلك، ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها أي يكون عليه وزر من ذلك الأمر الذي ترتب على سعيه ونيته، كما ثبت في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه قال: ((اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء)). اهـ المراد منه.
وقد جاءت السنة المطهرة ببيان ما يحل من الشفاعة وما يحرم:223 – قال البخاري -رحمه الله- (ج3 ص299): حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبدالواحد حدثنا أبوبردة بن عبدالله بن أبي بردة حدثنا أبوبردة ابن أبي موسى عن أبيه -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إذا جاءه السائل أو طلبت إليه حاجة قال: ((اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ما شاء)).
الحديث أعاده البخاري (ج13 ص448) من طريق محمد بن العلاء حدثنا أبوأسامة عن بريدة. وأخرجه مسلم (ج4 ص2026)، وأبوداود (ج5 ص346)، والترمذي (ج4 ص148)، والنسائي (ج5 ص58)، وأحمد (ج4 ص413)، والحميدي (ج2 ص340)، والبيهقي (ج8 ص167)، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» ص (75).
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وبريد يكنى أبا بردة أيضا، وهو كوفي ثقة في الحديث، روى عنه شعبة والثوري وابن عيينة.
كذا قال الترمذي وقد عرفت أنه بريد بن عبدالله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري.
224 – قال أبوداود -رحمه الله- (ج5 ص347): حدثنا أحمد بن صالح وأحمد بن عمرو بن السرح قالا: حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن وهب ابن منبه عن أخيه عن معاوية: اشفعوا تؤجروا فإني لأريد الأمر فأؤخره كيما تشفعوا فتؤجروا، فإن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((اشفعوا تؤجروا)).
الحديث أخرجه النسائي (ج5 ص58)، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» ص (75) ورجاله رجال الصحيح.
225 – قال الإمام أحمد -رحمه الله- (ج2 ص184): ثنا عبدالصمد ثنا حماد يعني ابن سلمة ثنا محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: شهدت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يوم حنين، وجاءته وفود هوازن، فقالوا: يا محمد إنا أصل وعشيرة فمن علينا من الله عليك، فإنه قد نزل بنا من البلاء ما لا يخفى عليك، فقال: ((اختاروا بين نسائكم وأموالكم وأبنائكم)).
قالوا: خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا، نختار أبناءنا.
فقال: ((أما ما كان لي ولبني عبدالمطلب فهو لكم، فإذا صليت الظهر فقولوا: إنا نستشفع برسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على المؤمنين، وبالمؤمنين على رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في نسائنا وأبنائنا)).
قال: ففعلوا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم)).
وقال المهاجرون: ما كان لنا فهو لرسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-. وقالت الأنصار مثل ذلك.
وقال عيينة بن بدر: أما ما كان لي ولبني فزارة فلا.
وقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا.
وقال عباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا.
فقالت الحيان: كذبت، بل هو لرسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((يا أيها الناس ردوا عليهم نساءهم وأبناءهم، فمن تمسك بشيء من الفيء فله علينا ستة فرائض من أول شيء يفيئه الله علينا)).
ثم ركب راحلته وتعلق به الناس، يقولون: اقسم علينا فيئنا بيننا حتى ألجؤوه إلى سمرة فخطفت رداءه.
فقال: ((يا أيها الناس ردوا علي ردائي، فوالله لو كان لكم بعدد شجر تهامة نعم لقسمته بينكم، ثم لا تلفوني بخيلا ولا جبانا ولا كذوبا)).
ثم دنا من بعيره فأخذ وبرة من سنامه فجعلها بين أصابعه السبابة والوسطى، ثم رفعها، فقال: ((يا أيها الناس ليس لي من هذا الفيء [ولا هذه الوبرة] إلا الخمس والخمس مردود عليكم، فردوا الخياط والمخيط فإن الغلول يكون على أهله يوم القيامة عارا ونارا وشنارا)).
فقام رجل معه كبة من شعر، فقال: إني أخذت هذه أصلح بها بردعة بعير لي دبر. قال: ((أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك)).
فقال الرجل: يا رسول الله أما إذا بلغت ما أرى فلا أرب لي ونبذها.
الحديث أخرجه أحمد (ج2 ص218)، وابن إسحاق كما في «سيرة ابن هشام» (ج2 ص489). وعند أحمد في الموضع الثاني، وعند ابن هشام تصريح ابن إسحاق بالتحديث، ولكنه ينتهي عند قوله: ((فردوا على الناس أبناءهم ونساءهم)) وبقيته عند ابن إسحاق بدون سند، فتمام الحديث بسند أحمد ضعيف لعنعنة ابن إسحاق، وما في «سيرة ابن إسحاق» لأنه لم يسق سنده فهو معضل.
226 – قال البخاري -رحمه الله- (ج9 ص408): حدثني محمد أخبرنا عبدالوهاب حدثنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس أن زوج بريرة كان عبدا يقال له: مغيث كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لعباس: ((يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثا؟)) فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((لو راجعته)) قالت: يا رسول الله تأمرني؟ قال: ((إنما أنا أشفع)) قالت: لا حاجة لي فيه.
الحديث أخرجه أبوداود (ج2 ص671)، والنسائي (ج8 ص265)، وابن ماجة (ج1 ص671)، وأحمد (ج1 ص215).
227 – قال ابن ماجه -رحمه الله- (ج1 ص635): حدثنا هشام بن عمار ثنا معاوية بن يحيى ثنا معاوية بن يزيد عن يزيد عن أبي حبيب عن أبي الخير عن أبي رهم قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((من أفضل الشفاعة أن يشفع بين الاثنين في النكاح)).
قال المعلق في «الزوائد»: هذا إسناد مرسل، أبورهم هذا اسمه أحزاب بن أسيد بفتح الهمزة وقيل بضمها، قال البخاري: هو تابعي، وقال أبوحاتم ليست له صحبة.
فصل في أدلة ما لا تحل الشفاعة فيه: قال البخاري -رحمه الله- (ج6 ص513): حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة -رضي الله عنها- أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-؟ فكلمه أسامة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((أتشفع في حد من حدود الله؟)) ثم قام فاختطب ثم قال: ((إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)).
الحديث أعاده البخاري (ج12 ص87) من طريق سعيد بن سليمان حدثنا الليث به، وأخرجه مسلم (ج3 ص1315)، وأبوداود (ج4 ص537)، والترمذي (ج2 ص442) وقال: حسن صحيح. وابن ماجة (ج2 ص851)، والنسائي (ج8 ص65، 66)، وابن الجارود ص (273)، وأحمد (ج6 ص162)، والدارمي (ج2 ص173)، والطحاوي في «مشكل الآثار» (ج2 ص276)، والبيهقي في «السنن» (ج8 ص332).
229 – قال أبوداود -رحمه الله- (ج4 ص23): حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا عمارة بن غزية عن يحيى بن راشد قال: جلسنا لعبدالله بن عمر فخرج إلينا فجلس فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ((من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله، ومن خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع عنه، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال)).
الحديث أخرجه أحمد (ج2 ص70)، والحاكم (ج2 ص27)، والبيهقي (ج8 ص332)، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وسكت عليه الذهبي.
طريق أخرى: قال أبوداود -رحمه الله- (ج4 ص23): حدثنا علي بن الحسين بن إبراهيم حدثنا عمر بن يونس حدثنا عاصم بن محمد بن زيد العمري حدثني المثنى بن يزيد عن مطر الوراق عن نافع عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بمعناه، قال: ((ومن أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله عز وجل)).
الحديث في سنده المثنى بن يزيد، قال الذهبي في «الميزان»: تفرد عنه عاصم بن محمد العمري.
وقال الحافظ في «التقريب»: مجهول.
وقال ابن أبي حاتم في «العلل» عن أبيه: الصحيح موقوف عن ابن عمر. اهـ (ج2 ص183).
وقد روى الحديث البيهقي (ج8 ص332) من طريق سعيد بن بشير عن مطر الوراق، وسعيد ضعيف لكنه يصلح في الشواهد والمتابعات.
طريق أخرى: قال الإمام أحمد -رحمه الله- (ج2 ص82): حدثنا محمد ابن الحسن بن آتش أخبرني النعمان بن الزبير عن أيوب بن سلمان رجل من أهل صنعاء قال: كنا بمكة فجلسنا إلى عطاء الخراساني إلى جنب جدار المسجد فلم نسأله ولم يحدثنا، قال: ثم جلسنا إلى ابن عمر مثل مجلسكم هذا فلم نساله ولم يحدثنا قال: فقال: ما لكم لا تتكلمون، ولا تذكرون الله، قولوا: الله أكبر والحمد لله، وسبحان الله وبحمده بواحدة عشرا وبعشر مائة من زاد زاده الله ومن سكت غفر له، ألا أخبركم بخمس سمعتهن من رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-؟ قالوا: بلى. قال: ((من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فهو مضاد الله في أمره، ومن أعان على خصومة بغير حق فهو مستظل في سخط الله حتى يترك، ومن قفا مؤمنا أو مؤمنة حبسه الله في ردغة الخبال عصارة أهل النار، ومن مات وعليه دين أخذ لصاحبه من حسناته لا دينار ثم ولا درهم، وركعتا الفجر حافظوا عليهما فإنهما من الفضائل)).
الحديث في سنده أيوب بن سلمان، قال الحافظ في «تعجيل المنفعة»: فيه جهالة. وقال في «لسان الميزان»: عن ابن عمر بحديث: ((من حالت شفاعته دون حد … )) الحديث، وعنه النعمان بن الزبير وحده، رواه أحمد في «المسند»، وأيوب لا يعرف حاله.
قال أبوعبد الرحمن الوادعي: بما أنه انفرد عنه راو واحد، ولم يوثقه معتبر فهو مجهول العين.
وأخرجه عبدالرزاق (ج11 ص425) عن معمر عن عطاء الخراساني عن ابن عمر موقوفا، وهو منقطع لأن عطاء لم يسمع من ابن عمر ولا من أحد من الصحابة كما في «تهذيب التهذيب».
طريق أخرى: قال الحاكم -رحمه الله- (ج4 ص383): حدثنا أبوبكر ابن إسحاق أنبأ أحمد بن بشر المرثدي ثنا بشر بن معاذ ثنا عبدالله بن 6جعفر حدثني مسلم بن أبي مريم عن عبدالله بن عامر بن ربيعة عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله تعالى في أمره)).
الحديث قال الهيثمي (ج1 ص251): رواه الطبراني، وفيه عبدالله بن جعفر المديني وهو متروك.
230 – قال الإمام مالك -رحمه الله- في «الموطأ» (ج3 ص41): عن ربيعة ابن عبدالرحمن أن الزبير بن العوام لقي رجلا قد أخذ سارقا وهو يريد أن يذهب به إلى السلطان، فقال: فشفع له الزبير ليرسله، فقال: لا، حتى أبلغ به السلطان. فقال الزبير: إذا بلغت به السلطان فلعن الله الشافع والمشفع.
الأثر موقوف ومعضل.
قال الدارقطني -رحمه الله- (ج3 ص205): نا الحسين بن إسماعيل نا عمر بن شبة نا أبوغزيةالأنصاري نا عبدالرحمن بن أبي الزناد عن هشام ابن عروة عن أبيه قال: شفع الزبير في سارق، فقيل: حتى يبلغه الإمام. فقال: ((إذا بلغ الإمام فلعن الله الشافع والمشفع)) كما قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
قال الهيثمي (ج6 ص259): رواه الطبراني في «الكبير» و «الأوسط»، وفيه أبوغزية: ضعفه أبوحاتم وغيره ووثقه الحاكم.
وقال الدارقطني -رحمه الله-: ثنا عبدالله بن جعفر بن خشيش نا سلم بن جنادة نا وكيع نا هشام بن عروة عن عبدالله بن عروة عن الفرافصة الحنفي قال: مروا على الزبير بسارق فشفع له، فقالوا: يا أبا عبدالله تشفع للسارق؟ قال: نعم، لا بأس به ما لم يؤت به الإمام، فإذا أتي به الإمام فلا عفا الله عنه إن عفا عنه.
الحديث أخرجه البيهقي (ج8 ص333) وفي سنده الفرافصة الحنفي: روى عنه القاسم بن محمد وعبدالله بن أبي بكر كما في «التاريخ الكبير» للبخاري و «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم، ولم يذكرا فيه جرحا ولا تعديلا، ويضاف إليهما ما في هذا السند وهو عبدالله بن عروة، فيكون الفرافصة مجهول الحال يصلح حديثه في الشواهد والمتابعات.
قال البيهقي -رحمه الله- (ج8 ص333): أخبرنا أبوعبدالله الحافظ ثنا أبوالعباس محمد بن يعقوب ثنا العباس الدوري ثنا أبونعيم الفضل بن دكين ثنا إسرائيل عن أبي بكر بن أبي الجهم عن عروة بن الزبير عن أبيه الزبير بن العوام -رضي الله عنه- قال: اشفعوا في الحدود ما لم تبلغ السلطان، فإذا بلغت السلطان فلا تشفعوا.
وهذا السند رجاله ثقات، وأبوبكر بن أبي الجهم: هو أبوبكر بن عبدالله ابن أبي الجهم، وثقه ابن معين كما في «تهذيب التهذيب».
فالظاهر صحة وقف الحديث على الزبير -رضي الله عنه-.
231 – قال الدارقطني -رحمه الله- (ج3 ص204): نا القاضي أحمد بن كامل نا أحمد بن عبدالله الفرسي نا أبونعيم النخعي نا محمد بن عبيدالله العرزمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كان صفوان بن أمية بن خلف نائما في المسجد، ثيابه تحت رأسه، فجاء سارق فأخذها فأتى به النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فأقر السارق، فأمر به النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أن يقطع، فقال صفوان: يا رسول الله أيقطع رجل من العرب في ثوبي؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((أفلا كان هذا قبل أن تجيء به؟)) ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((اشفعوا ما لم يتصل إلى الوالي، فإذا أوصل إلى الوالي فعفا فلا عفا الله عنه)) ثم أمر بقطعه من المفصل.
قال أبو الطيب في تعليقه على الدارقطني: الحديث ضعفه ابن القطان في كتابه، فقال: العرزمي متروك، وأبونعيم عبدالرحمن بن هاني النخعي لا يتابع على ما له من حديث. اهـ يعني كلام ابن القطان إلى أن قال أبوالطيب: لكن روي حديث صفوان من وجوه كثيرة، ولذا قال في «التنقيح»: حديث صفوان حديث صحيح رواه أبوداود والنسائي وابن ماجة وأحمد في «مسنده» من غير وجه. اهـ
232 – قال الترمذي -رحمه الله- (ج2 ص392): حدثنا عبدالله بن عبدالرحمن حدثنا يحيى بن حماد عن أبي عوانة عن عبدالأعلى الثعلبي عن بلال بن مرداس الفزاري عن خيثمة وهو البصري عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((من ابتغى القضاء وسأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده)).
هذا حديث حسن غريب، وهو أصح من حديث إسرائيل عن عبد الأعلى. اهـ يعني حديثا هذا بمعناه.
الحديث أخرجه الخطيب في «موضح أوهام الجمع والتفريق» (ج2 ص7)، وقال المناوي في «فيض القدير»: قال في «المنار» ولم يبين علته: وقد خرجه من طريقين، ففيه من طريق خيثمة البصري لم تثبت عدالته، وقال ابن معين: ليس بشيء، ومن الطريق الأخرى: بلال بن مرداس مجهول، وعبدالأعلى بن عامر ضعيف. اهـ[الشفاعة للشيخ مقبل بن هادي الوادعي]
—-
—-
الفصل الثاني: بعض أحكام، ولطائف الباب [*] وقد أمر الشارع الحكيم بوساطة الخير والشفاعة الحسنة في هذه الدنيا وحث عليها ورغب فيها؛ قال الله سبحانه وتعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء: 85].
قال القرطبي رحمه الله في ((تفسيره)): ((فقال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم هي في شفاعات الناس بينهم في حوائجهم)) اهـ.
وقال ابن كثير رحمه الله في ((تفسيره)): ((من سعى في أمر، فترتب عليه خير، كان له نصيب من ذلك)) اهـ.
وقال ابن حجر رحمه الله في ((فتح الباري)): ((إشارة إلى أن الأجر على الشفاعة ليس على العموم بل مخصوص بما تجوز فيه الشفاعة، وهي الشفاعة الحسنة، وضابطها: ما أذن فيه الشرع دون ما لم يأذن فيه، كما دلت عليه الآية وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن مجاهد، قال: هي في شفاعة الناس بعضهم لبعض وحاصله أن من شفع لأحد في الخير كان له نصيب من الأجر ومن شفع له بالباطل كان له نصيب من الوزر)) اهـ. وسبق ذكر جملة من الأدلة في ذلك.
[*] كما جاء النهي عن أخد ثمن لهذه الواسطة والأجر على هذه الشفاعة؛ فعن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من شفع لأخيه بشفاعة، فأهدى له هدية عليها فقبلها، فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا)) أخرجه أحمد وأبو داود في (باب في الهدية لقضاء الحاجة) وحسنه الإمام الألباني.
قال الأمير الصنعاني رحمه الله في ((سبل السلام)): ((فيه دليل على تحريم الهدية في مقابلة الشفاعة وظاهره سواء كان قاصدا لذلك عند الشفاعة أو غير قاصد لها، وتسميته ربا من باب الاستعارة للشبه بينهما ذلك؛ لأن الربا هو الزيادة في المال من الغير لا في مقابلة عوض وهذا مثله)) اهـ.
[*] ومن توسط في فعل خير كجلب نفع أو دفع ضر، فهو مأجور سواء قُضِي ما شفع له أو لم يقض؛ عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا أتاه السائل وربما قال جاءه السائل أو صاحب الحاجة، قال: ((اشفعوا فلتؤجروا ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء)) متفق عليه، وفي لفظ عند البخاري ((اشفعوا لتؤجروا))، وفي رواية عند أبي داود وصححها الإمام الألباني ((اشفعوا إِليَّ لِتُؤْجَروا))، وفي رواية عند النسائي وصححها الإمام الألباني ((اشفعوا تشفعوا)).
قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)): ((ووقع في رواية أبي داود اشفعوا لتؤجروا وهو يقوي أن اللام للتعليل)) اهـ.
قلت: لم أجده في سنن أبي داود وهو بهذا اللفظ عند البخاري في الصحيح كما بينت سابقا.
وأخرج النسائي في ((الصغرى)) و ((الكبرى)) وصححه الإمام الألباني عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((إن الرجل ليسألني الشيء فأمنعه حتى تشفعوا فيه، فتؤجروا))، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اشفعوا، تؤجروا)).
وفي روية عند أبي داود وصححها الإمام الألباني عن معاوية: اشفعوا تؤجروا فإني لأريد الأمر، فأؤخره كيما تشفعوا فتؤجروا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اشفعوا تؤجروا)). وهي رواية الباب.
[*] فتعلق الأجر بالشفاعة، والنصيب من الأجر لم يعلق بتحقق ما شفع من أجله، فالشافع محسن فهو مأجور على كل حال فضلا من الله ونعمة، فالساعي في خير وإن لم تنقض الحاجة، فإن قبلت الشفاعة فخير على خير.
قال ابن الجوزي في ((كشف المشكل من حديث الصحيحين)): ((والمراد من الحديث أنكم تؤجرون في الشفاعة وإن لم تقض الحوائج)) اهـ.
فهذه تسلية لكل من توسط في فعل خير فقبلت وساطته بالرفض، فهو مأجور على ما بدله لتحقيق المطلوب، هذا أولا.
وثانيا: لتعلم يا راعاك الله أنه لم تقبل شفاعة من هو خير منك، ورفض وساطته، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أن مغيثا كان عبدا، فقال: يا رسول الله اشفع لي إليها. فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((يا بريرة اتقي الله، فإنه زوجك وأبو ولدك)).
فقالت: يا رسول الله أتأمرني بذلك.
قال: ((لا، إنما أنا شافع)) فكان دموعه تسيل على خده، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم للعباس: ((ألا تعجب من حب مغيث بريرة، وبغضها إياه)).
أخرجه أبو داود وصححه الإمام الألباني.
فبريرة رضي الله عنها لم تقبل وساطة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أشرف الخلق وأفضلهم، وطلبت الخلع من زوجها مغيث رضي الله عنه.
بل جاء في رواية أخرجها النسائي وغيره وصححها الإمام الألباني تصريحها بالرفض قالت: (فلا حاجة لي فيه).
وكل هذا لم يأت عاتب منه عليه الصلاة والسلام لها في عدم قبول شفاعته ولم يلمها لرد وساطته، وقابل رفضها بصدر رحب.
وهذا نبي الله نوح عليه الصلاة والسلام دعا فقال: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود: 45]، فلم يستجب له، قال الله تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46].
وهذا خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام دعا لأبيه فقال: {قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا} [مريم: 47]، فلم يستجب له قال الله تعالى: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم} [التوبة: 114].
وكذلك ما جاء عن نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أخرج مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أقبل ذات يوم من العالية حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه ودعا ربه طويلا ثم انصرف إلينا، فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((سألت ربي ثلاثا فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها)).
وهذا أيضا فيه تسلية وسلوان لمن لم تقبل وساطته.
وفي الختام أعرض نموج لعالم من علماء الأمة في هذا العصر أشتهر بكثرة الشفاعة، وهو سماحة الإمام ابن باز رحمه الله كان مثلا حيا لبذل جاهه وقضاء حوائج الناس نستقي منه الدروس العظيم في الشفاعة.
وقد ذكر سماحته أنه لما كان قاضياً كتب لبعض المسؤولين يطلب تعيين شخص ليكون أميراً على قرية من القرى، فرد عليه ذلك المسؤول: بأن هذا ليس من اختصاصك، وهذا له جهة معينة، وأنت قاضٍ، وينبغي أن تترك مثل هذه الأمور.
فرد عليه سماحة الشيخ وقال: إذا كان القضاة والعلماء لا يدخلون في مثل هذه الأمور، فمن الذي يدخل؟
القضاة أولى من غيرهم، فسكت ذلك المسؤول، واستجاب لشفاعة سماحة الشيخ.
وبالجملة فلا أعلم أنه عُرض عليه شيء، أو رأى أمراً يستدعي شفاعته صغر أو كبر إلا بادر إليه.
كل يوم يسن مجداً بديعاً بفعال في المكرمات بديع
هذه صورة مجملة للشفاعات التي كان يقوم بها سماحته.
أما تفصيلها فلا يتسع المقام لذكره؛ فشرح واحدة من هذه الشفاعات يحتاج إلى كتاب مفرد، فكم رفع بسببه من الظلم، وكم منحت لأجله من إقامة، وكم من المنح الدراسية التي قبلت شفاعته بها، وكم من ملايين الريالات قد سُدِّد بها ديون عن طريقه، وكم من المساجد التي عمرت وجهزت تماماً بفضل الله ثم جهده وشفاعته، وكم من الطرق، والمرافق العامة قد أصلحت بسببه، وكم من ذاتِ بين اجتمعت بعد فُرقتها بسببه، وكم من الجمعيات والمراكز الإسلامية تقوم بعد توفيق الله على دعمه وتأييده، وكم أفرج بسببه من المسجونين، وكم، وكم، فماذا تقول وماذا تدع؟)) انتهي من كتاب جوانب من سيرة ابن باز. [السلوان لمن توسط ولم تقبل وساطته من الأهل والإخوان].
الفصل الثالث: تعريف الحد، وأقسامه.
سبق في الحديث (1119) بيان ذلك، ومن ذلك: ” وجوب إقامة الحدود وتحريم الشفاعة فيها:
تجب إقامة الحدود بين الناس منعاً للمعاصي وردعاً للعصاة، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرغباً في إقامة الحدود: «إقامة حد من حدود الله، خير من مطر أربعين ليلة في بلاد الله عز وجل».
وتحرم الشفاعة في الحدود لإسقاطها وعدم إقامتها، إذا بلغت الإمام وثبتت عنده، كما يحرم على ولي الأمر قبول الشفاعة في ذلك؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فقد ضاد الله في أمره»، ولرده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شفاعة أسامة بن زيد في المخزومية التي سرقت، وغضبه لذلك، حتى قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها».
وأما العفو عن الحدّ قبل أن يبلغ الإمام فجائز؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للذي سُرقَ رداؤه، فأراد أن يعفو عن السارق: «فهلاَّ قبل أن تأتيني به» “. انتهى المقصود. وراجع أيضًا موسوعة الفقه الإسلامي.
الفصل الرابع: [*] تنبيه: قال المحدث عبدالمحسن العباد – حفظه الله -: أورد أبو داود هذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) وهذا يدل على أن الحدود لا يشفع فيها، وأنه لابد أن ينفذ الحد إذا بلغ السلطان،
وأما العثرات التي ليس فيها حدود وكان الشخص الذي حصل منه ذلك ليس له سوابق، أو أنه معروف بالسلامة والصلاح ولكنه حصل منه خطأ عارض فإنه يمكن مسامحته وإقالة عثرته،
وأما من كان معروفاً بالتساهل في هذه الأمور التي ليس فيها حد ولكن فيها تعزير، فإن هذا يردع بما يمنعه حتى لا يعود، وأما إذا حصل ممن له منزلة ومكانة وهو معروف بالصلاح، وهو غير متكرر منه، فإنه تقال عثرته، وهذا هو مقتضى هذا الحديث، وهو يدل على أن غير الحدود ليست كالحدود، وأنه يمكن أن يشفع فيها ويمكن أن يعفى عنها في حق من يكون كذلك من ذوي الهيئات”. شرح سنن أبي داود” (494/ 8).
[*] (السؤال السادس من الفتوى رقم (1591) س 6: ما حكم الواسطة، وهل هي حرام؟ مثلا إذا أردت أن أوظف أو أدخل في مدرسة أو نحو ذلك واستخدمت الواسطة فما حكمها؟ ج 6: أولا: إذا ترتب على توسط من شفع لك في الوظيفة حرمان من هو أولى وأحق بالتعيين فيها من جهة الكفاية العلمية التي تتعلق بها، والقدرة على تحمل أعبائها والنهوض بأعمالها مع الدقة في ذلك فالشفاعة محرمة؛ لأنها ظلم لمن هو أحق بها، وظلم لأولي الأمر بسبب حرمانهم من عمل الأكفاء وخدمتهم لهم، ومعونتهم إياهم على النهوض بمرفق من مرافق الحياة، واعتداء على الأمة بحرمانها ممن ينجز أعمالها، ويقوم بشئونها في هذا الجانب على خير حال، ثم هي مع ذلك تولد الضغائن وظنون السوء، ومفسدة للمجتمع.
– أما إذا لم يترتب على الواسطة ضياع حق لأحد أو نقصانه فهي جائزة، بل مرغب فيها شرعا، ويؤجر عليها الشفيع إن شاء الله؛ ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء» [متفق عليه].
ثانيا: المدارس والمعاهد والجامعات مرافق عامة للأمة، يتعلمون فيها ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ولا فضل لأحد من الأمة فيها على أحد منها إلا بمبررات أخرى غير الشفاعة، فإذا علم الشافع أنه يترتب على الشفاعة حرمان من هو أولى من جهة الأهلية أو السن أو الأسبقية في التقديم أو نحو ذلك كانت الواسطة ممنوعة؛ لما يترتب عليها من الظلم لمن حرم أو اضطر إلى مدرسة أبعد فناله تعب ليستريح غيره، ولما ينشأ عن ذلك من الضغائن وفساد المجتمع.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس: عبد العزيز بن عبد الله بن باز
نائب الرئيس: عبد الرزاق عفيفي
عضو: عبد الله بن غديان
عضو: عبد الله بن قعود)، واللهُ أعلَمُ.
[*] حكم الشفاعة في الحدود بعد رفعها للشرطة؟
س: من المعلوم أنَّ الحدود إذا رُفعت إلى القاضي لا يجوز إسقاطها ولا الشَّفاعة فيها، فهل تصح الشفاعة فيها أو التنازل عنها عندما تكون عند جهة التَّحقيق –الشرطة- وقبل أن تُرفع إلى القاضي؟
ج: هذا محلُّ نظرٍ؛ لأنَّ جهة الشرطة جهة حكومية ومُبلّغة بتنفيذ الأوامر، فهي جزءٌ من السلطان، فالواجب بعد رفعه إلى السلطان التَّنفيذ، فالذي يظهر -والله أعلم- أنه بعد وصول الجناية إلى الشرطة أو إلى المحكمة أو إلى الإمارة لا يجوز تركها، بل يجب أن تُقام الحدود.
أما ما دامت فيما بين الجيران وبين الناس ولم تصل إلى مركزٍ حكوميٍّ فلا مانع أن يستروها وينصحوه ويُوبِّخوه ولا يُفشوها عليه، ومَن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة. [الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله تعالى – فتاوى الدروس]
[*] فائدة: الفرق بين التوسل وبين الشفاعة:
• التوسل لا يكون فيه شافع يدعو للمشفوع له، فالمتوسل يتوسل بمن لا وجود له أو بمن هو غائب.
• والشفاعة يكون فيها شافع يدعو لهذا المشفوع له، فالشافع يستشفع بمن هو موجود، فالصحابة كانوا يستشفعون بدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وهذا الأمر يخلط فيه كثير من الناس فيجعلون التوسل هو الشفاعة، و كثير من العامة يستعملون لفظ الشفاعة في معني التوسل، يقول شيخ الإسلام: (كثير من العامة يستعملون لفظ الشفاعة في معني التوسل، فيقول أحدهم: اللهم إنا نستشفع إليك بفلان و فلان -أي نتوسل به- ويقولون لمن توسل في دعائه بنبي أو غيره قد تشفع به من غير أن يكون المستشفع أو المستشفع به شفع له ولا دعا له، بل وقد يكون غائبا لم يسمع كلامه ولا شفع له، وهذا ليس لغة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وعلماء الأمة، بل ولا هو لغة العرب، فإن الاستشفاع طلب الشفاعة، والشافع هو الذي يشفع السائل فيطلب له ما يطلب من المسؤول المدعو المشفوع إليه).