تتمة لطائف التفسير 109
وقوفاً مع سورة أخرى، هي سورة النور وهي مدنية وآياتها أربع وستون آية .. وهي في الآداب الاجتماعية والتربية والنورانية التي تشع بنورها في البيت والأسرة والمجتمع.
ويجري سياق السورة حول محورها الأصيل – التربية – في خمس أشواط [54]
· … الأول: يتضمن الإعلان الحاسم الذي تبدأ به، ويليه بيان حدّ الزنا، ثم بيان حدّ القذف، ثم حديث الإفك.
· … الثاني: وسائل الوقاية من الجريمة وتجنيب النفوس أسباب الإغراء والغواية فيبدأ بآداب البيوت والاستئذان على أهلها والأمر بغض البصر والنهي عن إبداء الزينة، والحض على إنكاح الأيامى والتحذير من دفع الفتيات إلى البغاء.
- … الثالث: يتوسّط مجموعة من الآداب التي تتضمّنها السورة فيربطها بنور الله، ويتحدّث عن أطهر البيوت، وفي الجانب المقابل الذين كفروا وأعمالهم … ثم يكشف عن فيوض الله في الآفاق.
الرابع: يتحدث عن مجافاة المنافقين للأدب الواجب مع رسول الله ويصوّر أدب المؤمنين.
الخامس: آداب الاستئذان والضيافة في محيط البيوت وآداب الجماعة المسلمة كلها كأسرة واحدة.
فيعجب المتأمّل من هذا الترتيب المنطقي البديع الذي بدأ أولاً بتطهير المجتمع من الجريمة ووضع العقاب والزجر ليرتدع المجرم، وقدّم ذلك على عرض وسائل الوقاية لتتهيّأ النفس لاستقبال تلك الآداب الوقائية بنفس هادئة وتقبل على أساليبها بحب ممتزج بالخوف من الله، وهذان الموضوعان لازمان للدخول في الحديث عن آداب آخرى يربطها بنور الله
ثم تصوير للآداب المفقودة في حق المنافقين فتقدم على تصوير آداب المؤمنين فبدأ من الأدنى للتنفير منه، ثم للأعلى ليشحذ الهمم وتنشط النفس وترغيبها بعد ترهيبها.
يتقدّم تنظيم العلاقات الأسرية الصغيرة داخل البيوت، لأن ذلك هو النواة والأساس الذي ينى عليه بعد ذلك تنظيم العلاقات بين الأسرة الكبيرة في المجتمع المسلم ككل … فيتقدّم قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوّافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبيّن الله لكم الآيات والله عليم حكيم)) (النور 58) وهي الأسرة الصغيرة، على قوله تعالى: ((إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم)) (النور 62) (وهي الأسرة الكبير).
وفي وسط هذه الآداب تأتي وقفة – ليمضي السياق في عرض مشاهد الكون ومظاهر الوجود الجميل والتأمّل في تقلّب الليل والنهار وعرض مظاهر القدرة على الخلق والتنويع في أشكال الخلق (وذلك في الآيات من 41 – 45) لتتوسط هذه الوقفة الكونية ما سبقها من آداب وتعاليم وما لحقها من آداب وتعاليم، فهذه السورة نموذج من ذلك التنسيق، لقد تضمّنت بعض الحدود إلى جانب الاستئذان على البيوت، وإلى جانبها جولة ضخمة في مجال الوجود، ثم عاد السياق يتحدث عن حسن أدب المسلمين في التحاكم إلى الله ورسوله وسوء أدب المنافقين إلى جانب وعد الله الحق للؤمنين بالاستخلاف والأمن والتمكين، وها هو ذا يعود إلى آداب الاستئذان في داخل البيوت إلى جانب الاستئذان من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وينظم علاقة الزيارة والطعام بين الأقارب والأصدقاء إلى جانب الأدب الواجب في خطاب الرسول ودعائه.
التقديم والتأخير في المتشابه:
قد تأتي بعض الآيات متشابهة في كلماتها ولكننا نجد كلمة قدمت في آية وأخرت في أخرى لسر بلاغي أودعه الله في السياق، وسوف نقف – بإذن الله وتوفيقه – مع بعض هذه النماذج القرآنية التي وردت عبر السور المختلفة .. ومن ذلك قوله تعالى: ((واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون)) (البقرة 123)
فالآيتان من مشاهد القيامة والحكم، وقد سُبقت الآيتان بآية تامة التشابه متحدة الكلمات وانتظامها، وهي قوله تعالى: ((يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأنّي فضّلتكم على العالمين)) (البقرة 47) … ((يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأنّي فضّلتكم على العالمين)) (البقرة 122)
وهذا التكرار للحثّ على التذكّر للنعمة والتحذير من الإعراض عن الله ورسوله، فاليهود أمّة جبلت على العناد والتّمرّد وذلك على الرغم من أنّهم أكثر الأمم رسلاً وأنبياء، وقدّم الشفاعة في السياق الأوّل (آية 48) قطعاً لطمع من زعم أن آباءهم تشفع لهم، وأن الأصنام شفعاؤهم عند الله، وأخّرها في الآية الأخرى (123) لأن التقدير في الآيتين معاً لا يقبل منها شفاعة فتنفعها تلك الشفاعة، لأن النفع بعد القبول، وقدم العدل في الآية الأخرى ليكون لفظ القبول مقدّماً فيها.
ومما يشدّ من أزر ذلك المعنى الذي يبرز قطع الأمل في تلك الشفاعة، أنه جاء بـ (يوماً) على التنكير للتهويل ودفع النفس نحو الخوف والحذر، ونكر النفس مرتين للدلالة على العموم والشمول لكل نفس، وهو الإقناط الكلي القاطع للمطامع [57]، وقد جاء بالفعل (يُقبل) مع (شفاعة) لأنها محلّ القبول على سبيل الرحمة والرأفة، وجيء بالفعل (يؤخذ) مع (عدل) لأن ذلك على سبيل الفداء [58] ومن ذلك قوله تعالى: ((وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطّةٌ نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين)) (البقرة 58)
وقوله تعالى: ((وإذا قيل لهم اسكنوا هذه القرية وادخلوا منها حيث شئتم وقولوا حطةٌ وادخلوا الباب سجداً نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين)) (الأعراف 161)
ففي الآية الأولى: ((وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطةٌ)) وفي الآية الثانية (وقولوا حطةٌ وادخلوا الباب سجداً))
وقف صاحب الكشاف على هذا الاختلاف على استحياء ولم يشأ الدخول في غماره وأعماقه، فاكتفى بقوله: لا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هناك تناقض، ولا تناقض بين قوله (اسكنوا هذه القرية وكلوا منها) وبين قوله (فكلوا) لأنهم إذا سكنوا القرية فتسببت سكناهم للأكل منها، وسواء قدّموا الحطة على دخول الباب أو أخروها فهم جامعون في الإيجاد بينهم، وترك الرغد لا يناقض إثباته.
والحق أن السياق اختلف فأدّى إلى معان بلاغية دقيقة، فقد جاء صدر الآية في السياق الأول بالفعل المبني للمعلوم بإثبات (نا) لله تعالى على التعظيم فقالوا: (وإذ قلنا) فناسب ذلك المقام ذكر (رغداً) على التنكير التفخيمي .. ولما كان الدخول في قوله: (ادخلوا هذه القرية) غير السكن في قوله: (اسكنوا هذه القرية) لأن السكن يعني اللبث والإقامة والاطمئنان، فقد جاء في السياق الأول الفاء في (فكلوا) والثاني (وكلوا) … وقدّم (وادخلوا الباب سجداً) على قوله: (وقولوا حطة) في سورة البقرة وأخّرها في الأعراف لأن السابق في هذه السورة (ادخلوا) فبيّن كيفية الدخول .. وفي هذه السورة (أي سورة البقرة) (وسنزيد) بواو، وفي الأعراف (سنزيد) بغير واو، لأن اتصالها في هذه السورة أشد لاتفاق اللفظين. واختلفا في الأعراف فكان اللائق به (سنزيد) فحذف الواو ليكون استئنافاً للكلام.
ومن التقديم في المتشابه قوله تعالى: ((ختم على الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم)) (البقرة 7)
وقوله تعالى: ((أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضلّه الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تتذكرون)) (الجاثية 23)
في آية البقرة جاء الحديث قبلها عن المتقين ثم الكافرين الذين ختم الله على قلوبهم التي هي المضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، كما جاء في الحديث الشريف، فكان الكلام في هذه الآية على عمومه … أما في آية الجاثية فهي تتكلم عن خاصة بعينها تقع في فئة من الناس، يتّخذون العبادة بأهوائهم، ومن القراءات: (إلهه هواه) فينتقلون في عبادتهم من حجر إلى حجر أو غيره حسبما يتراءى لهم … فناسب ذلك تقديم الختم على السمع لأنه سمع التعقّل والهداية وهو أداة ووسيلة لنقل الفهم، كما جاء في قوله تعالى: ((ولهم آذان لا يسمعون بها)) (الأعراف 179)
ومن ذلك قوله تعالى: ((وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين)) (القصص 20)
وقوله تعالى: ((وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين)) (يس 20)
بداية نرى صدر الآية جاء بـ (جاء) دون (أتى) لأن (جاء) تحيط به معاني العلم واليقين وتحقق الوقوع والقصد [61] .. وبالنظر إلى الآيتين نجد تقديم (رجل) في الأولى وتأخير في الثانية لاختلاف المقام فيهما ففي الآية الأولى تقدم (رجل) لتسليط الضوء عليه ولفت الذهن إليه وما يحمله من نبأ المؤامرة، بوصوله إلى موسى عليه السلام يتغير الموقف ويخرج موسى متخفياً مترقّباً .. أما في الآية الثانية فالمقام يقتضي تسليط الضوء ولفت الانتباه إلى المدينة بصفة أساسية لا إلى الرجل، فتظهر المدينة على غفلتها وعدم إتباعها المرسلين ثم إرادة الرجل هدايتهم … فتأخر الرجل هنا يبين أنه لم يكن محتاجاً للسرعة والعجلة ومسابقة الزمن بالقدر العظيم الذي كان يحتاجه المقام الأول … ومن هنا يتبين بعد ما ذهب إليه الكرماني في قوله: خصت في هذه السورة (أي القصص) بالتقديم لقوله قبله: فوجد فيها رجلين ثم قال (وجاء رجل) فاكتفى بالنظر إلى التقديم على أساس ذكر الرجلين من قبل لا غير!
ومن ذلك قوله تعالى: ((وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرّتهم الحياة الدنيا وذكّر به أن تُبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله وليٌّ ولا شفيعٌ وإن تعدل كلّ عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أُبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون)) (الأنعام 70)
وقوله: ((اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفّار نباته ثم يهيج فتراه مصفرّاً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلّا متاع الغرور)) (الحديد 20)
وقوله تعالى: ((وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون)) (العنكبوت64) فآيتا الأنعام والحديد في معرض الحديث عن الدنيا وأحوالها، وفي تدرّج من الأدنى إلى الأعلى فاللعب أولى مراحل الطفولة، والتكاثر في الأموال والأولاد نهاية المطلب وقمة اعتلاء عروش الدنيا … أما آية الحديد فهي في معرض المقابلة بين الدنيا والآخرة، فالأولى لهو ولعب والثانية هي الحياة البالغة، وكان لأسلوب المقابلة هنا حسن التنسيق والإيقاع الجميل، وهي من جملة طرق العرض التي يلجأ إليها القرآن، وهي متكاملة متجانسة مع بقية الأساليب لأداء الأغراض والقيم التي يريدها المنهج القرآني، لكنها تعد من أبرز الطرق الواضحة في العرض، وفي الأداء البياني الذي يسعى إليه القرآن [62]، وقال الكرماني بدأ بذكر اللهو لأنه في زمان الشباب، وهو أكثر من زمان اللعب وهو زمان الصبا [63].
ومن ذلك قوله تعالى: ((قالوا أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين)) (المؤمنون 82 – 83)
وقوله تعالى: ((وقال الذين كفروا أئذا كنا تراباً وآباؤنا أئنا لمخرجون لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين)) (النمل 67 – 68)
بتأخير اسم الإشارة (هذا) في الأولى، وتقديمه في الثانية ولعل ذلك راجع إلى التفصيل المذكور في آية المؤمنين الموت والتراب والعظام، فأغنى التفصيل عن تقديم اسم الإشارة، وهو لم يقع في آية النمل، وبقي أن نشير إلى أن الآيتين قد صدّرتا بالقول: (قالوا) …. (وقال) إشارة إلى أنه زعم باطل ليس له رصيد من اليقين والحق، ثم يصوّر القرآن الكريم مدى اعتمال الانفعال في نفوسهم وإصرارهم على العناد وذلك عن طريق أسلوب القصر بالنفي والاستثناء وبالأداة (إن) إيثار على (ما) مثلاً.
ومن ذلك قوله تعالى: ((فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضّل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة مّا سمعنا بهذا في آبائنا الأولين)) (المؤمنين 24)
وقوله: ((وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذّبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون)) (المؤمنون 33)
فقدّم (الذين كفروا) على (من قومه) في الآية الأولى، وأخّر في الثانية، وذلك لاختلاف المقام وتباين السياق بينهما ففي الأولى صرّح بذكر الرسول فقال: ((ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم … )) (المؤمنون 23) وكرّر ذكر القوم مرتين وأضاف (قوم) إلى ضمير نوح لأنه أرسل إليهم فلهم مزيد اختصاص به، ولأنه واحد منهم وهم بين أبناء له وأنسباء، فإضافتهم إلى ضميره تعريف لهم إذ لم يكن لهم اسم خاص من أسماء الأمم الواقعة من بعد [64].
بينما تقدّم ذكر (قومه) على (الذين كفروا) في الثانية لأنها سبقت بذكر الرسول المرسل منكراً فقال تعالى: ((فأرسلنا فيهم رسولاً منهم)) (المؤمنون 32) وهم قوم هود، فاحتيج إلى تقديم قومه الذين لم يذكروا صراحة ولو مرة واحدة في الآية 32.
وربما كان تقديم (وقال الملأ الذين كفروا) لاختصاص القول بهم وشموله لهم وبيان أثر قولهم في قومه وفي الناس كافة، إذ لم يؤمن معه إلا قليل كما جاء صريحاً في القرآن ((وما آمن معه إلا قليل)) (هود 40) وجاء تقديم (وقال الملأ من قومه … ) لاختصاص القول بقومه – قوم عاد – وبيان أثرهم في الناس. والله تعالى أعلم
الخاتمة:
إن القرآن الكريم معين لا ينضب وجنة فيحاء لا ينقضي ثمرها، بل يظل ملء السمع والبصر، يملك الفؤاد ويستولى على العقل والوجدان … وإننا بعد هذا التطوّف الّذي منّ به الرحمن نذكر من النظرات ما يأتي:
أولاً: إن الإعجاز البلاغي لأسلوب التقديم والتأخير إعجاز فيّاض عظيم التدفّق لا يقع في حصر .. وسبيل التعرّض لفيوضاته وتلمّس أسراره لا يقف عند حد في كلمة أو جملة، بل يشهد السياق في مجمله بستاناً مورقاً يانع الثمار والأزهار، لا تكاد تمد يداً لقطف ثمرة إلا وتجذبك الأخرى والأخرى فلا تستطيع الفراغ حتى تأتي على البستان كلّه.
ثانياً: الألفاظ القرآنية لها دلالتها في سياق الجملة فلا يمكن أن يرادف لفظٌ لفظاً آخر فيتساوى معه في المعنى تمام المساواة، بل إن الكلمة ذاتها لتتكرر في أكثر من سياق لتدلّ على معنى آخر مغاير في كل سياق، فإذا نظرنا إلى دلالة الكلمة المختارة في ظل تقديمها أدّى ذلك إلى إبراز المعنى في قوّة وجلاء، وساعد على تصوير المشهد في تدفّق وحياة.
ثالثاً: كان لأسلوب التقديم سمة أسلوبية بالغة الأثر في معرفة خواص تراكيب الكلام وكشف خبايا النفس والنفوذ إلى أعماقها وتصوير شخصيات المشهد في صورة حضورية تبيّن ما عليها من فرح أو ترح أو اضطراب أو توتر أو إيمان أو نفاق أو نحو ذلك.
رابعاً: كان لأسلوب التقديم والتأخير سمة التغلغل والانتشار في كافّة سياقات القرآن – تقريباً – وكان له دور بارز في آيات الأحكام وأساليب الحوار لا يقلّ بحال عن دوره في الآيات المكّيّة وما حملته من مشاهد القصص أو الآخرة.
خامساً: استطاع أسلوب التقديم أن يخاطب العقل والوجدان في آن معاً، وكان له القدرة على حمل السامع أو القارئ على المشاركة في تفعيل الموقف القرآني وما يبثّه من معان وآداب رفيعة، فنشّط الخيال وحرّك الأذهان والعقول.
سادساً: لا يقف التقديم والتأخير عند حد جزيئات اللغة من كلمات وجمل يقدّم بعضها على بعض وإنما يمتدّ ليشمل الآيات والموضوعات الكبرى التي جاء في ترتيبها توقيفاً من عند الله تعالى بإجماع العلماء، وما كان لآية أن تسبق أختها أو موضوع هو سابق لأخيه إلا لنكتة بلاغية ودلالة معنوية يثبتها السياق في مضمونه وبين طياته.
انتهى
========