109 لطائف التفسير والمعاني
شارك محمد بن سعد
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا)
——-‘——-‘——‘
——-‘——-‘——–
——–‘——-‘——
ترتيب ذكر الكلمات في القرآن له معنى:
فمن ذلك الترتيب من الأسهل للأشد
يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى:
” وقد حرم الله سبحانه القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء، وجعله من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها فقال تعالى: (قُُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) الأعراف/33.
فرتب المحرمات أربع مراتب:
وبدأ بأسهلها وهو الفواحش.
ثم ثَنَّى بما هو أشد تحريما منه وهو الإثم والظلم.
ثم ثَلَّث بما هو أعظم تحريما منها وهو الشرك به سبحانه.
ثم ربَّع ما هو أشد تحريما من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه.
ومما يدل أيضا على أنه من كبائر الإثم قول الله تعالى: (وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) النحل/116 – 117.
فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه، وقولهم لما لم يحرمه: هذا حرام، ولما لم يحله: هذا حلال، وهذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول هذا حلال وهذا حرام إلا بما علم أن الله سبحانه وتعالى أحله وحرمه ” انتهى.
” إعلام الموقعين ” (1/ 3
ومن ذلك
قال تعالى (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّ ا)
[سورة مريم 31]
تقديم الصلاة على الزكاة دليل على أهميتها بعد الشهادتين ثم تأتي الزكاة في المرتبة الثانية في أركان الإسلام الخمسة
ومنه
قال تعالى:
وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ. كما ذكر ترتيبها في الأصول الثلاثة العلم والعمل به والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه
أذكر آيات أخرى رتب لفظها في الذكر … ؛ وكان لذلك دلالة؟
———‘——–‘
أسباب التقديم والتأخير في القرآن:
قال السيوطي: أما أسباب التقديم والتأخير وأسراره فقد ظهر لي منها في الكتاب العزيز عشرة أنواع:
الأول: التبرك كتقديم اسم الله في الأمور ذوات الشأن. ومنه قوله: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَآئِمَا} [آل عمران: 18].
الثاني: التعظيم، كقوله: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ} [النساء: 69].
الثالث: التشريف، كتقديم الذكر على الأنثى في نحو: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} [الأحزاب: 35] الآية. والحي في قوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ … } [الروم: 19]، والخيل في قوله: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8]، والسمع في قوله: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَاد} [الإسراء: 36].
حكى ابن عطية عن النقاش أنه استدل بها على تفضيل السمع على البصر (3)، ولذا وقع في سمعه تعالى: {سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 61] بتقديم السمع. وتقديم موسى على هارون لاصطفائه بالكلام وتقديم المؤمنين على الكفار في كل موضع، وأصحاب اليمين على أصحاب الشمال، والسماء على الأرض، والشمس على القمر، ومنه تقديم الغيب على الشهادة في قوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة} [المؤمنون: 92] لأن علمه أشرف (4).
الرابع: المناسبة، وهي إما مناسبة المتقدم لسياق الكلام، كقوله: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6] فإن الجمال بالجمال وإن كان ثابتاً حالتي السراح والإراحة إلا أنها حالة إراحتها، وهو مجيئها من المرعى آخر النهار، يكون الجمال فيها أفخر؛ إذ هي فيه بطان (5)، وحالة سراحها للرعي أول النهار يكون الجمال بها دون الأول؛ إذ هي فيه خماص.
الخامس: الحث عليه والحض على القيام به حذراً من التهاون به؛ كتقديم الوصية على الدين في قوله: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْن} [النساء: 11] مع أن الدين مقدم عليها شرعاً.
السادس: السبق، وهو إما في الزمان باعتبار الإيجاد؛ كتقديم الليل على النهار، والظلمات على النور، وآدم على نوح، ونوح على إبراهيم، وإبراهيم على موسى، وهو على عيسى، وداود على سليمان، والملائكة على البشر في قوله: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاس} [الحج: 75].
والأزواج على الذرية في قوله: {قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِك} [الأحزاب: 59].
والسِنة على النوم في قوله: {لاَ تَاخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [البقرة: 255].
أو باعتبار الإنزال، كقوله: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 19]، {وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَان} [آل عمران: 3،4].
أو باعتبار الوجوب والتكليف، نحو: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77].
أو بالذات، نحو: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7].
وأما قوله: {أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} [سبأ: 46] فللحث على الجماعة والاجتماع على الخير.
السابع: السببية؛ كتقديم العزيز على الحكيم؛ لأنه عز فحكم، والعليم عليه؛ لأن الإحكام والإتقان ناشئ عن العلم. ومنه تقديم العبادة على الاستعانة في سورة الفاتحة؛ لأنها سبب حصول الإعانة وكذا قوله: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] لأن التوبة سبب للطهارة.
الثامن: الكثرة، كقوله: {فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِن} [التغابن: 2] لأن الكفار أكثر (6)، قلت فقدمهم على المؤمنين.
قيل: وقدم السارق على السارقة؛ لأن السرقة في الذكور أكثر. والزانية على الزاني فيهن أكثر. ونحو قوله: {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود} [البقرة: 125] فكل طائفة هي أقل من التي بعدها فتدرج من القلة إلى الكثرة. فالطائفون أقل من العاكفين لأن الطواف لا يكون إلا حول الكعبة. والعكوف يكون في المساجد عموماً والعاكفون أقل من الراكعين لأن الركوع أي الصلاة تكون في كل أرض طاهرة أما العكوف فلا يكون إلا في المساجد. والراكعون أقل من الساجدين وذلك لأن لكل ركعة سجدتين ثم إن كل راكع لا بد أن يسجد وقد يكون سجوداً ليس فيه ركوع كسجود التلاوة وسجود الشكر فهو هنا تدرج من القلة إلى الكثرة.
ولهذا التدرج سبب اقتضاه المقام فإن الكلام على بيت الله الحرام. قال تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود} [البقرة: 125]، فالطائفون هم ألصق المذكورين بالبيت لأنهم يطوفون حوله، فبدأ بهم ثم تدرج إلى العاكفين في هذا البيت أو في بيوت الله عموماً ثم الركع السجود الذين يتوجهون إلى هذا البيت في ركوعهم وسجودهم في كل الأرض.
ونحوه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]، فبدأ بالركوع وهو أقل المذكورات ثم السجود وهو أكثر ثم عبادة الرب وهي أعمّ ثم فعل الخير.
وقد يكون الكلام بالعكس فيتدرج من الكثرة إلى القلة وذلك نحو قوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43] فبدأ بالقنوت وهو عموم العبادة ثم السجود وهو أخص وأقل من عموم العبادة التي هي القنوت ثم الركوع وهو أقل وأخص منهما.
التاسع: الترقي من الأدنى إلى الأعلى، كقوله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا … } [الأعراف: 195]، بدأ بالأدنى لغرض الترقي، لأن اليد أشرف من الرجل والعين أشرف من اليد والسمع أشرف من البصر.
العاشر: التدلي من الأعلى إلى الأدنى، كقوله: {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] {لاَ تَاخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْم} [البقرة: 255] (7).
وزاد غيره أسباباً أخر؛ منها كونه أدل على القدرة وأعجب؛ كقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النور: 45].
وقوله: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} [الأنبياء: 79].
قال صاحب الكشاف: قدم الجبال على الطير؛ لأن تسخيرها له وتسبيحها له أعجب، وأدل على القدرة وأدخل في الإعجاز؛ لأنها جماد، والطير حيوان ناطق (8).
وقد يكون التقديم لغرض آخر كالمدح والثناء والتعظيم والتحقير وغير ذلك من الأغراض، إلا أن الأكثر فيه أنه يفيد الاختصاص. ومن التقديم الذي لا يفيد الاختصاص قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ} [الأنعام: 84] فهذا ليس من باب التخصيص إذ ليس معناه أننا ما هدينا إلا نوحاً وإنما هو من باب المدح والثناء.
ونحو قوله: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} [الضحى: 9،10] إذ ليس المقصود به جواز قهر غير اليتيم ونهر غير السائل وإنما هو من باب التوجيه فإن اليتيم ضعيف وكذلك السائل وهما مظنة القهر فقدمهما للاهتمام بشأنهما والتوجيه إلى عدم استضعافهما (9).
استثناء من الاضطراد:
مر بنا أن التقديم والتأخير جاء في القرآن لأسباب قد بيناها وهي تكاد أن تكون قواعد مطردة ولكن قد تشذ تلك القواعد شيئاً بسيطاً عن الاطراد المعهود، سنبينها باختصار مع بيان أسباب ذلك: فقد قدم هارون على موسى في سورة طه رعاية للفاصلة لأن المعهود المطرد تقديم موسى على هارون، وأما تقديم الأنعام في قوله: {تَاكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُم} [السجدة: 27] فلأنه تقدم ذكر الزرع، فناسب تقديم الأنعام، بخلاف آية عبس فإنه تقدم فيها: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس: 24] فناسب تقديم (لكم) (10).
وهكذا لو تقصينا الألفاظ التي تأخرت عن تقديمها المعهود لوجدنا الحكمة في ذلك واضحة جلية وليس المراد في هذا البحث استقصاء كل شاردة وواردة وإنما وضع لمسات بيانية يتضح منها المقصود علماً أنني قد أوردت في ثنايا هذا البحث بعض تلك الاستثناءات تجدها في مضانها والله تعالى أعلم.
———–
وهذا بحث لبعض الباحثين أضفت خلاله بحث أضافي ليتكامل الموضوع: ويحتاج أيضا لمزيد جمع
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلّم تسليماً كثيراً وبعد …
فإن القرآن الكريم أعظم أنيس وخير جليس، لا يُملّ حديثه ولا تنفد عجائبه، وترداده يزداد فيه تجمّلاً، وإنّ من أسرار القرآن العظيم وروعة بيانه أنّك كلّما أبحرت فيه ازددت تعمّقاً وشوقاً وكلما نهلت من فيضه ومعينه الصّافي ازددت به تعلّقاً وتشبثاً، وما يبعد عنه إلّا من جفا قلبه وغلظ كبده.
وهذا كتابه الله – تعالى – الذي شغل العالم منذ نزوله إلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو مصباح الظّلام ومنهل البيان الذي وقف فحول العرب وفصحاؤهم أمامه عاجزين مشدوهين، وهم الذين طالما خاضوا معارك البلاغة والبيان، وتباروا في فنون القول وأسراره حتى أسروا القلوب والأذهان بسحر بيانهم وتبيينهم، وهاهم أولاء يقفون أمام البيان الأعظم مأسورين مشدوهين عاجزين!!
وقد جاء أسلوب القرآن الكريم في الغاية العظمى من البلاغة والفصاحة، وخرج عن جميع وجوه النظم المتعارف عليها في كلام العرب فتوافر العلماء على البحث في أسراره واستخراج درره، فصنّف فيه الزملكاني والفراء وأبو عبيده وابن قتيبة والإمام الرازي وعبد القاهر الجرجاني وغيرهم، (والواقع أن المصنفات الأولى في الإعجاز على اختلاف مذاهب أصحابها، جاءت أشبه بمباحث بلاغية مما قدروا أن إعجاز القرآن يُعرف بها، وإن استوعبت أقوال المتكلمين في وجوه الإعجاز، فرسائل الخطّابي السنى، والرّمّاني المعتزلي، والباقلّاني الأشعري، تأخذ مكانها في المكتبة البلاغيّة وبعد أن استقلّت البلاغة بالتأليف والتصنيف، وُجّهت إلى خدمة الإعجاز البلاغي .. الجرجاني يضع كتابه في النظم والبلاغة ويقدّمه باسم (دلائل الإعجاز)، وأبو هلال العسكريّ يضع علم الفصاحة والبلاغة تالياً لعلم التّوحيد، والزمخشري وهو من المعتزلة يقرّر أنه لابدّ من علم البيان والمعاني لإدراك معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
وجرى المتأخّرون على أن يجمعوا في الإعجاز كل ما قاله السّلف من وجوه، كصنيع الشيخ محمد عبده في الفصل الذي كتبه في تفسيره (تفسير الذكر الحكيم) عن الإعجاز [1]
مشكلة البحث:
تكمن مشكلة البحث في وجود دقائق نفيسة ولطائف بليغة لأسلوب التقديم والتأخير الذي عدّه ابن جني إحدى صور شجاعته العربية وقوّة لغتها … ويتنوّع هذا الأسلوب وتتغير دلالته تبعاً لتغيّر السياق وحاجة المقام، فما كان لكلمة أن تتقدم من مكانها دون غاية معنوية وهدف دلالي تريد أن تبثّه في الجملة … والقرآن الكريم كلام الله المعجز وبيانه المحكم يشتمل على هذه الأساليب التي ينبغي الوقوف مع أسرارها ودلائلها.
هدف البحث ومنهجه:
يهدف البحث إلى الوقوف على أساليب التقديم والتأخير ومعرفة لطائفه، فهو باب كثير الفوائد، جم المحاسن، واسع التصرف، بعيد الغاية، لايزال يفتر لك عن بديعة ويفضي بك إلى لطيفه [2]، ثم يقول: إلا أنّ الشأن في أنّه ينبغي أن يعرف في كل شيء قدّم فيه موضع من الكلام مثل هذا المعنى ويفسّر وجه العناية فيه هذا التفسير. [3]
وقد تمثل منهج البحث في الخطوات الآتية:
· … أولاً: التّقديم لمراعاة السّياق وحسن انتظام الكلام.
· … ثانياً: التقديم للاختصاص.
· … ثالثاً: التّقديم بين الآية والآية، وهذه الوقفة تشمل ما يأتي:
1. … تقديم صيغة على أخرى في بعض آيات السورة الواحدة
2. … تقديم آية على آية في النّزول
3. … تقديم موضوع على آخر في السورة الواحدة
4. … التقديم والتأخير في المتشابه
· … الخاتمة: وتتضمّن أهم نتائج البحث وبعض التّوصيات
· … ثبت المصادر والمراجع.
أوّلاً: التّقديم لمراعاة السّياق وحسن انتظام الكلام:
إنّ الناظر في بستان القرآن الكريم ليجد نفسه في حديقة غنّاء، لا يكاد يخرج من ثمرة إلّا ويجد نفسه قد تعلّقت بأخرى يستنشق عبيرها ويطعم رحيقها في إذكاء روحي منقطع النّظير ..
والناظر في السّياق القرآني يجد هذا الأسلوب هو “مادة الإعجاز في كلام العرب كلّه، ليس من ذلك شيء إلّا وهو معجز، وليس من هذا شيء يمكن أن يكون معجزاً، وهو الذي قطع العرب دون المعارضة [4] ” والسياق القرآني يحمل الكثير من الخصائص التركيبية التي تسمو على لغة البشر قوة وصفاء ونقاء، وكان سياق التقديم والتأخير واحداً من فرائد القرآن وخصائصه، سيق لإبراز مقام الموقف بروحه وعمقه، وسوف نقف بإذن الله وتوفيقه مع بعض هذه السياقات:
التقديم في بعض أسمائه سبحانه:
كتقديم (العزيز) على (الحكيم) لأنّه تعالى عز فحكم كما في قوله تعالى: ((ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم إنّك أنت العزيز الحكيم)) (البقرة 129)
وذلك أن معنى (العزيز) لا يغالب، والقادر الذي لا يمتنع عليه شيء أراد فعله. ومعنى (الحكيم) المدبّر الذي يحكم الصنع ويحسن التدبير، فتكون القدرة متقدّمة على حسن التّدبير [5].
وبالنّظر في الآية الكريمة نجد فيها ترتيباً آخر اقتضى تنظيم الأفعال داخل السياق فجاء الدعاء ببعث الرسول أولاً (وابعث) ثم التلاوة (يتلو) ثم التعليم (ويعلّمهم) ثم التزكية والتطهير (ويزكّيهم) ..
وفي ترتيب هذه الأفعال وتقديم بعضها على بعض أثر عميق في النفس .. إذ يوحي اختيار كلمة البعث في قوله (وابعث) بأنهم كانوا كالموتى في أحوالهم، لا يشعرون بشيء من صالح الحياة، فيكون الرسول فيهم بمثابة من بعثهم من رقادهم الجاهلي وموتهم القلبي .. وقوله (منهم) ليكون أرفق بهم وأعلم بشؤونهم وأحوالهم .. فإذا تحقق هذا جاءت المرحلة الثانية وهي التلاوة بما فيها من خشوع وتدبّر وترقيق للقلب والنفس، ولذلك اقتضاها السياق إيثاراً على (يقرأ) مثلاً، فإذا تحققت التلاوة بسياجها جاء التعليم الذي يشتمل على الكتاب أي القرآن الكريم وبما فيه من حكمة، أي فقه الشريعة وفهم التأويل، و”قيل إن المراد بالآيات: ظاهر الألفاظ، والكتاب: معانيها، والحكمة: الحكم وهو مراد الله بالخطاب، والعزيز: الذي لا يعجزه شيء، قاله ابن كيسان، وقال الكسائي: العزيز: الغالب [6]. ولهذا أكّد الضمير المتصل في (إنك) بالضمير المنفصل (أنت) للدلالة على أنه لا غالب إلا الله تعالى، فهو سبحانه وتعالى غالب على أمره، يمضي أمره ويمكّن لرسله، ولهذا اقتضى السياق في ختام الآية قوله: (العزيز الحكيم) دون: العليم أو الخبير مثلاً، ولأن لكل مقام مقال، فقد جاءت السياقات المشابهة لهذا المعنى بـ (العزيز الحكيم) نحو قوله تعالى: ((فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البيّنات فاعلموا أن الله عزيز حكيم)) (البقرة 209)
فقد جاءت الآية على وجه التهديد والوعيد، أي: من ضلّ عن طريق الهداية وانحرف عن سبيل الحق بعد ما تبيّن له البيّنات والحجج ما تبيّن ((فاعلموا أن الله عزيز حكيم)) وهذا أبلغ في إثبات الروع والمهابة، ولو جاء نوع العذاب محدداً ما بلغ في الحسن مبلغ قوله (عزيز حكيم) أي غالب لا يعجزه الانتقام منكم، … (الحكيم) لا ينتقم إلا بحق، وروى أن قارئاً قرأ غفور رحيم، فسمعه أعرابي فأنكره، ولم يقرأ القرآن، وقال: إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا الحكيم، لا يذكر الغفران عند الزلل، لأنه إغراء عليه [7].
وإذا كان الزلل معناه التنحّي عن طريق الحق والهداية، فإن أصله “الزلل في القدم، ثم استعمل في الاعتقادات والآراء وغير ذلك، يقال: زلّ يزلّ زلا وزللا وزلولا، أي دحضت قدمه، وقرئ: زللتم ” بكسر اللام وهما لغتان” [8].
وقد جاء الفعل (جاءكم) مؤنثاً بتاء التأنيث لأن الفاعل مؤنث (البيّنات) أي: الحجج الواضحة والبراهين الصحيحة، وقد يأتي مذكّراً مع (البيّنات) في موضع آخر حسب اقتضاء المعنى، وذلك كما جاء في قوله تعالى: ((كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البيّنات والله لا يهدي القوم الظالمين)) (آل عمران 86)
فإن المقصود بالبيّنات في هذا الموضع: القرآن الكريم، والله تعالى أعلم، لأنّ ما دلّت عليه الكلمة كان مذكراً، فقد جاء قبلها قوله تعالى: ((ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)) … (آل عمران 85)
وكل من هؤلاء الأنبياء … أُنزل عليه كتاب، والكتاب مذكر، ثم ورد في الآية التالية لها، كلمة (الإسلام) والإسلام مذكر، فما دلت عليه كلمة البيّنات كان … مذكراً سواء أكان الكتاب أم كان الإسلام أم كان الكتاب والإسلام معاً، ولهذا جاء فعلها … مذكراً [9].
وقال تعالى في موضع آخر من نفس السورة الكريمة: ((ولا تكونوا كالّذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيّنات وأولئك لهم عذاب عظيم)) (آل عمران 105)، فقدّم التفرقة على الاختلاف لأن الأولى سبب في الثانية التي جاءت مترتّبة عليها، فالاختلاف ناجم عن التفرقة وتابع لها، وهو ثمرة من ثمارها، وجاء الفعل (جاءهم) في صورة المذكّر، لأن كلمة البيّنات التي وردت في الآية تعني الكتاب – كذلك – تعني التوراة والإنجيل وكل منهما كتاب [10].
وتأتي مواضيع تقديم العزّة على الحكمة في السياقات التي تتحدث عن قدرة الله تعالى ووحدانيّته وذلك نحو قوله تعالى: ((هو الّذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلّا هو العزيز الحكيم)) (آل عمران 6)
وقوله: ((شهد الله أنّه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم)) … (آل عمران 62)
وقوله: ((إن تعذّبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم)) (المائدة 118)
وقوله: ((يا موسى إنّه أنا الله العزيز الحكيم)) (النمل 9)
هذا ويتقدّم ذكر العزيز على الحكيم – أيضاً – في مقام تنزيه الله تعالى وخضوع الكون له – سبحانه – وذلك نحو قوله تعالى: ((وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم)) (الجاثية 37)
وذلك لأن السياق قبل هذه الآية، تحدّث عن عناد الكافرين وإعراضهم عن منهج الحق، فسلّط الله عليهم عذاب النار لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون فناسب ذلك ذكر العزيز الذي لا يغلبه شيء ولا يفوته .. ويفعل ذلك عن حكمة ويقول تعالى:
((وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزواً وغرّتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون)) (الجاثية 34 – 35)
وفي مقام التّنزيه والتسبيح يقول الحق سبحانه:
((سبّح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم)) (الحديد 1)
((سبّح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم)) (الحشر 1)
((هو الله الخالق البارئ المصوّر له الأسماء الحسنى يسبّح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم)) … (الحشر 24)
فناسب هذا المقام ذكر العزيز على غيره من الأسماء والصفات، وناسبه التقديم على (الحكيم) لئلا يتوهّم أحد أن الله تعالى بحاجة إلى من يسبحه أو ينزهه، بل هو منزه بذاته، قدوس بجلاله، عزيز بقوته وجبروته وحكمته .. وقد جاء فعل التسبيح بالماضي (سبح لله) كما في أوّل الحديد والحشر (والصف أيضاً)، وختمت سورة الحشر بالمضارع (يسبح) وافتتحت بها سورة الجمعة: ((يسبّح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدّوس العزيز الحكيم)) (الجمعة1).
لأن هذه الكلمة استأثر الله بها، فبدأ بالمصدر في بني إسرائيل (سورة الإسراء) فقال تعالى: ((سبحان الذي أسرى بعبده .. )) لأنه الأصل، ثم بالماضي لأنه أسبق الزمانين، ثم بالمستقبل، ثم بالأمر في سورة الأعلى ((سبح اسم ربك الأعلى))، استيعاباً لهذه الكلمة من جميع جهاتها وقوله تعالى: ((لله ما في السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير)) (الحديد 2)، لأن التقدير في هذه السور: (سبح لله كل السموات والأرض) وكذلك قال في آخر الحشر بعد قوله: (الخالق البارئ المصوّر): ((هو الله الخالق البارئ المصوّر له الأسماء الحسنى يسبّح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم)) (الحشر 24) أي خلقهما [11].
وتأتي أيضاً مواضع تقديم العزّة على الحكمة في السياقات التي تتحدث عن النصر وذلك نحو قوله تعالى: ((وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئنّ قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم)) (آل عمران 126) وقوله: ((وما جعله الله إلّا بشرى ولتطمئنّ به قلوبكم وما النّصر إلّا من عند الله إنّ الله عزيز حكيم)) … (الأنفال 10)
فقدّم البشرى على الطمأنينة في سياق أسلوب القصر بالنفي والاستثناء الذي تكرّر مرتين، لأنّ الطمأنينة ناتجة عن البرى التي تبعث السرور والراحة في النفس فتنشأ الطمأنينة بالتبعية، وجاء التعبير بلفظة الجلالة (الله) لإثبات مقام العزّة وغلبة أمر الله في دحض المشركين ..
وقد جاءت الآية في آل عمران بإثبات (لكم) وتأخير به وحذف أسلوب (إن الله). وفي آية الأنفال بحذف (لكم) وتقديم (به) وإثبات (إن الله)، لأن البشرى هنا للمخاطبين، فبيّن وقال: (لكم).
وفي الأنفال قد تقدّم (لكم) في قوله تعالى: ((إذ تستغيثون ربّكم فاستجاب لكم أنّي ممدّكم بألف من الملائكة مردفين)) (الأنفال 9) فاكتفى بذلك [12].
وفي مقام الحديث عن نصر الله لنبيّه والتمكين له في الأرض ودحض كلمة الكافرين، تقدّم ذكر العزيز على الحكيم، يقول تعالى: ((إلّا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الّذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيّده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم)) (التوبة 40)
فجاء التعبير بالفعل الماضي الدال على التحقيق واليقين في الحديث عن النصر: فقد نصره الله فأنزل – وأيّده – وجعل … بينما جاء التعبير بالمضارع في تصوير مشهد الغار ((إذ يقول لصاحبه لا تحزن … )) وذلك لاستحضار صور المشهد بملابساته وما أحيط بهما من مخاطر أدّت إلى فزع أبي بكر الصديق رضي الله عنه الذي نال شرف الكناية عنه في قرآن يتلى إلى يوم القيامة، وذلك في قوله تعالى: ((إذ يقول لصاحبه))
وفي مقام الحديث عن كلام الله تعالى والقرآن الكريم وتنزيله من السماء يتقدم – أيضاً – ذكر العزيز على الحكيم كما في قوله تعالى: ((ولو أنّما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم)) (لقمان 27)
فلو جعلت الأشجار التي في الأرض أقلاماً لكتابة كلمات الله، وجعل مدادها البحر المتصل بمدار سبعة أبحر أخرى، فإن تلك الأقلام ومعها المداد تنفد دون أن تنفد كلمات الله.
وجاء التعبير بالشجرة على الإفراد دون الجمع لإرادة (تفصيل الشجر وتقصّيها شجرة شجرة، حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلّا قد بريت أقلاماً، فإن قلت: الكلمات جمع كلمة، والموضع موضع التكثير لا التقليل فهلا قيل: كلم الله؟ قلت: معناه أن كلماته لا تفي بكتابتها البحار، فكيف بكلمه؟ [13]
ومما ورد من تقديم العزيز على الحكيم في مقام ذكر القرآن الكريم وتنزيله، وقوله تعالى: ((حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم)) (الجاثية 1 – 2) وقوله تعالى: ((حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم)) (الأحقاف 1 – 2)
—
هذا وقد يأتي ذكر (العليم) متقدماً على (الحكيم) في مواضع أخرى تبعاً لاقتضاء المقام وحاجة السياق، وهذا كثير في القرآن الكريم ومنه
قوله تعالى: ((ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهنّ ولد فإن كان لهنّ ولد فلكم الربع ممّا تركن من بعد وصيّة يوصيني بها أو دين ولهنّ الربع ممّا تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهنّ الثمن مما تركتم من بعد وصية يوصى بها أو دين وصية من الله والله عليم حليم)) (النساء 12)
فجاء الخبر بـ (عليم) والصفة بـ (حليم) ليناسب سياق الآية قبلها فقد كانت تتحدث عن الميراث والوصية التي تكون أحد أمرين: عدل أو جور .. فجاء التحذير بأن الله تعالى يطالع على ذلك ويعلمه وهو سبحانه (حليم) عن الظالم والجائر، فلا يعجل عليه بالعقاب عساه أن يرجع إلى رشده فإذا ظلم في وصيته، وفي الآية نكتة بلاغية أخرى ألا وهي تقديم تنفيذ الوصية على وفاء الدين، فإن وفاء الدين سابق على الوصية، ولكن قدّم الوصية لأنهم كانوا يتساهلون بتأخيرها بخلاف الدين [14].
وفي مقام آخر يقول تعالى: ((يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم)) (النساء 26)
فهو سبحانه عليم بأمور الخلق وما يناسبهم ويصلحهم، وهو يهديهم إلى الرشاد بعلمه المحكم وحكمته البالغة، ولذلك تغاير السياق هنا، وجاءت الحكمة رديف العلم، وجاء الحلم رديف العلم في سياق الآية السابقة للمعنى المشار إليه آنفاً.
وربما جاءت آيات أخرى حاملة في سياقاتها أسلوباً آخر على خلاف ما سبق، تقدّم فيه (الحكيم) على (العليم) لعلّة يقتضيها السياق، وذلك نحو قوله تعالى: ((وتلك حجّتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم)) (الأنعام 83)
فسبق الحكم هنا العلم، لأن المقام اقتضى ذلك من خلال الحديث عن الحكمة التي لقّنها الله تعالى نبيّه إبراهيم، وأشار إليها بقوله: (وتلك) فاستطاع أن يحتجّ بها على قومه، وكان أن نال من الله الرفعة في الدرجات، وذلك بمقتضى الحكمة الإلهية في تصريف الشؤون والأحوال.
ومثال ذلك قوله تعالى: ((وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم)) (الزخرف 84)
فاقتضى المعنى أن تسبق الحكمة العلم في هذا السياق أيضاً لأن الآية الكريمة تتحدث عن صفة الألوهية، وما يتصف به الله عز وجل من حكمة في تصريف الكون وتشريع الأحكام .. وقد (ضمن اسمه تعالى معنى وصف، فلذلك علق به الظرف في قوله (في السماء) (وفي الأرض)، كما تقول هو حاتم طىّ حاتم في تغلب، على تضمين معنى الجواد الذي شهر به، كأنك قلت هو جواد في طى جواد في تغلب [15].
وقد سبق الحكم العلم أيضاً في موضع آخر في قوله تعالى: ((كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم)) (الذاريات 30). فهذا مقام من مقامات التصريف الإلهي العجيب أيضاً وهو يحمل غرابة الموقف واستحالة حدوثه في العرف البشري وكان أن كان، وولدت العجوز من الشيخ الهرم .. !
—-
وفي موضع لا نظير له في القرآن يتقدّم (عليّ) على (حكيم) وذلك في قوله تعالى ((وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلّا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليّ حكيم)) (الشورى 51)
والمعنى: تعالى عن أن يكلّم أو يكلّم شفاهاً، حكيم في تقسيم وجوه التكليم [16] ولتمام هذا المعنى وإحكامه، صُدّرت الآية بأسلوب القصر المتمثل في النفي والاستثناء ثم توالت النكرات في سياقها لإفادة العموم: لبشر وحياً حجاب / رسولاً / وذلك في ظلال الإيقاع الصوتي الناشئ من قوله: وحياً فيوحى، أو يرسل رسولاً.
وفي سورة المجادلة تبادلت الكلمات المواضع تبعاً للمعنى الوارد في السياق ففي قوله تعالى: ((والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسّا ذلكم توعظون به والله بما تعلمون خبير)) (المجادلة3) وقال أيضاً في نفس السورة: ((يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسّحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل لكم انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير)) (المجادلة 11) وقال جل شأنه في نفس السورة أيضاً: ((أأشفقتم أن تقدّموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون)) (المجادلة13).
فالموضع الأول والثاني يتعلّقان بالعمل، فلا يمسّ الرجل زوجته التي ظاهر منها إلا بعد تحرير رقبة في الموضع الأول، والثاني يتعلق بعمل التفسّح في المجالس والنشوز والارتفاع عنها … أما الموضع الثالث فلا يتعلق بعمل، وإنما يتعلق بالتخفيف الذي نزل إلى المؤمنين ورفع عنهم أمر الله بتقديم الصدقات عند مناجاة النبي لعلمه سبحانه بمشقّة هذا الأمر عليهم، فهو خبير بالنفوس وخفايا القلوب.
——
——
تقديم السمع:
اطّرد تقديم السمع في القرآن الكريم سواء أكان على البصر أو الرؤية أو العلم أو القرب … في شأن الخالق أو شأن المخلوقين … وذلك نحو قوله تعالى: ((قل أرأيتم أن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرّف الآيات ثم هم يصدفون)) (الأنعام 46)
((سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير)) (الإسراء 1)
((قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى)) (طه 46)
وفي مجال تقديم السمع على العلم وما جرى مجراه قد أتى في اثنين وثلاثين موضعاً، هي كل ما جاء فيه [17] وقدّم السمع على القرب في قوله تعالى: ((قل إن ضللت فإنّما أضلّ على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلىّ ربي إنه سميع قريب)) (سبأ 50)
ولا يقف سر هذا التقديم عند تشريف المقدّم على المؤخّر، ولكن المقام يحتمل تفسيراً آخر … فتقديم السمع على البصر لكونه أهم منه، لأن ما يحصل من ضروب المعرفة عن طريق السمع لا يحصل عن البصر، والبصر يتوقف في تحصيله للعم على وسائط لا يتوقف عليها السمع [18].
وقد ورد في القرآن الكريم بعض آيات تقدّم فيها البصر على السمع لعلّة يحملها السياق ومن ذلك قوله تعالى: ((قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السموات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من وليّ ولا يشرك في حكمه أحداً)) … (الكهف 26)
فتقدم البصر على السمع على خلاف المعتاد في آيات الذكر الحكيم، لأن الحديث والله تعالى أعلم يختصّ بجناب الله تعالى وقدرته على العلم بدقائق الأشياء فيستوي عنده كل شيء، يقول صاحب الكشاف: وجاء بما دل على التعجب من إدراكه المسموعات والمبصرات للدلالة على أن أمره في الإدراك خارج عن حدّ ما عليه إدراك السامعين والمبصرين، لأنّه يدرك ألطف الأشياء وأصغرها، كما يدرك أكبرها حجماً وأكثفها جرماً وبدرك البواطن كما يدرك الظواهر [19].
وفي سياق الحديث عن الكافرين خصوصاً في مشهد القيامة وساحة العرض، يتغير أيضاً ترتيب السمع والبصر ليتقدم الأخير، يقول تعالى: ((ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيراً)) (الإسراء 97)
وقوله تعالى: ((ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربّنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنّا موقنون)) (السجدة 12)
فلم يعد هناك وجه انتفاع بسمع يفيد الطاعة والصلاح، بل لعله قدّم البصر في مثل هذه المشاهد لينبئ عن حالهم من الإعراض وعدم الاقتناع اللازم لثبوت اليقين وكأنهم كانوا في ريب من ذلك اليوم، وهاهم أولاء قد رأوه بأعينهم.
وهذا بحث آخر جعلناه كالمتمم … :
السمع قبل البصر:
ورد في القرآن الكريم لفظي السمع و البصر معاً (19) تسعة عشر مرةً، وذكر في (17) سبعة عشر موضعاً لفظة السمع قبل البصر وقد بينا في أسباب التقديم والتأخير أن من بينها (التشريف) أي أن الله سبحانه قدم لفظة السمع على البصر لشرف السمع وأهميته ولا يخفى على أحد ممن تدبر وتأمل في هذه الحاسة العجيبة ولكن لنرى ما يقوله أصحاب الاختصاص:
1 – تبدأ وظيفة السمع بالعمل قبل وظيفة الإبصار. فقد تبين أن الجنين يبدأ بالسمع في نهاية الحمل وقد تأكد العلماء من ذلك بإجراء بعض التجارب حيث أصدروا بعض الأصوات القوية بجانب امرأة حامل في آخر أيام حملها، فتحرك الجنين استجابة لتلك الأصوات، بينما لا تبدأ عملية الإبصار إلا بعد الولادة بأيام (11)، قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان: 2].
2 – ومن الحقائق التي تجعل السمع أكبر أهمية من البصر هي أن تعلّم النطق يتم عن طريق السمع بالدرجة الأولى، وإذا ولد الإنسان وهو أصم، فإنه يصعب عليه الانسجام مع المحيط الخارجي، و يحدث لديه قصور عقلي وتردٍ في مدركاته وذهنه ووعيه. وهناك الكثير من الذين حرموا نعمة البصر وهم صغار أو منذ الولادة ومع ذلك فقد حصلّوا درجة راقية من الإدراك والعلم حتى الإبداع، ولكننا نجد ذلك قليلاً -بل يكاد ينعدم- فيمن ولد وهو أصم، أو فقد سمعه في سنوات عمره الأولى. وذلك لأن التعلم والفهم يتعلقان لدرجة كبيرة بالسمع، والذي يفقد سمعه قبل النطق لا ينطق. ولذلك ربطت الآية القرآنية العلم بالسمع أولاً ثم البصر فقال تعالى: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
3 – العين مسئولة عن وظيفة البصر أما الأذن فمسئولة عن وظيفة السمع والتوازن. و قد تكون العبرة في هذا الترتيب أكثر من ذلك. و الله أعلم بمراده (12).
ويمكن أن يكون تقديم السمع على البصر لسبب آخر عدا الأفضلية وهو أن مدى السمع أقل من مدى الرؤية فقدم ذا المدى الأقل متدرجاً من القصر إلى الطول في المدى ولذا حين قال موسى في فرعون {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى} [طه: 45] قال الله تعالى: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] فقدم السمع لأنه يوحي بالقرب إذ الذي يسمعك يكون في العادة قريباً منك بخلاف الذي يراك فإنه قد يكون بعيداً وإن كان الله لا يند عن سمعه شيء (13).
قلت وكذلك فإن السمع لا يمنعه الحاجز المادي من أداء عمله بخلاف البصر فإنه تمنعه الحواجز من إدراك الأشياء والله أعلم.
السمع قبل العلم:
وقع في القرآن الكريم تقدم السمع على العلم كذلك كقوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137].
وقوله: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61]، وذلك أنه خبر يتضمن التخويف والتهديد، فبدأ بالسمع لتعلقه بالأصوات وهمس الحركات فإن من سمع حسك وخفي صوتك أقرب إليك في العادة ممن يقال لك: إنه يعلم وإن كان علمه تعالى متعلقاً بما ظهر وبطن، ولكن ذكر السميع أوقع في باب التخويف من ذكر العليم فهو أولى بالتقديم. ويمكن أن يقال: إن السمع من وسائل العلم فهو يسبقه. (14)
نماذج من بلاغة القرآن:
1 – نقرأ في وصف المنافقين، وفي وصف الكافرين، هاتين الآيتين من سورة البقرة {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18] {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171] وتقديم الصم، هنا جاء في غاية الإحكام، لأن بداية ضلال أولئك الأقوام حينما أصاخوا بسمعهم عن آيات الله التي تتلى عليهم.
ونقرأ في مشهد من مشاهد يوم القيامة عن أولئك الذين ضلوا سواء السبيل {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّا} [الإسراء: 97] لقد تغيرت الصورة هنا. لذلك تغير معها نسق القول، ذلك لأن السماع لم ينفع أولئك الناس يوم القيامة شيئاً ولا يعود عليهم بخير، ثم إن العمى من أشد الأمور مشقة وأكثرها صعوبة عليهم في ذلك اليوم (15).
2 – تحدث القرآن الكريم في آيات كثيرة عن الجن والإنس، ولكن الذي يلفت الانتباه، ما نجده في النظم القرآني البديع، من تقديم الجن تارة، وتقديم الإنس أخرى، وهذا ما يستدعيه السياق، وتوجيه الحكمة البيانية، ففي سياق التحدي بالقرآن الكريم، يقدم الإنس على الجن، لأن الإنس هم المقصودون بالتحدي أولاً وقبل كل شيء، قال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَاتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَاتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرا} [الإسراء: 88].
أما في سياق التحدي بالنفوذ من أقطار السموات والأرض، فلقد قدم الجن؛ لأنهم أقدر على الحركة من الإنس. قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33] والدليل على أن الجن أقدر من الإنس في مجال الحركة هو قوله تعالى في سورة الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً* وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} [الجن 8 ـ 9].
أما قوله سبحانه {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون} [الذاريات: 56] فلقد قدم الجن على الإنس؛ لأنه قد روعي السبق الزمني، فإن الجن مخلوقون قبل الإنس (16).
قلت: والدليل على أن الجن مخلوقون قبل الإنس قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ*وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ} [الحجر: 26،27].
3 – تقديم لفظ الضرر على النفع وبالعكس: حيث تقدم النفع على الضر فلتقدم ما يتضمن النفع. قال تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّه} [الأعراف: 188] فقدم النفع على الضرر وذلك لأنه تقدمه قوله: {مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 178] فقدم الهداية على الضلال وبعد ذلك قال: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188] فقدم الخير على السوء ولذا قدم النفع على الضرر إذ هو المناسب للسياق.
وقال تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاء اللّه} [يونس: 49] فقدم الضرر على النفع وقد قال قبل هذه الآية: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [يونس: 11] وقال: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يونس: 12] فقدم الضر على النفع في الآيتين. ويأتي بعد هذه الآية قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُون} [يونس: 50] فكان المناسب تقديم الضرر على النفع هاهنا.
وقال: {قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً} [الرعد: 16] فقدّم النفع على الضرر، قالوا: وذلك لتقدم قوله تعالى: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد: 15] فقدم الطوع على الكره. وقال: {فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلَا ضَرّا} [سبأ: 42] فقدم النفع على الضر قالوا: وذلك لتقدم قوله: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِين} [سبأ: 39] فقدم البسط. وغير ذلك من مواضع هاتين اللفظتين.
——
——
—–
الجن والإنس:
الجن والإنس من المخلوقات التي جاء ذكرها في القرآن الكريم كثيراً، وقد جاءت على غير نسق واحد، بل جاءت بعض السياقات قدّم فيها الجن على الإنس، وأخرى قدّم فيها الإنس على الجن، وذلك تبعاً لاقتضاء المقام وتحرير المعنى، فمن السياقات التي ورد فيها ذكر الجن مقدماً، قوله تعالى: ((ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجّلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم)) (الأنعام 128)
فالخطاب هنا واقع في يوم الحشر، وهو موجّه إلى الجن على سبيل التبكيت على ما فعلوه من الاستكثار من الإنس وغوايتهم ولمزيد من التحقير حذف فعل القول أو النداء والتقدير … ويوم يحشرهم جميعاً فينادي عليهم أو فيقال لهم والله تعالى أعلم.
وفي سورة الذاريات حملت الآية جملة خبرية مقتضاها أن خلق الجن والإنس هو من أجل عبادة الله وحده، فقدّم ذكر الجن لسبقه في الخلق، وذلك في قوله تعالى: ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)) (الذاريات 56)
وكذلك الشأن إذا جاء ذكر الإنس مقدماً على الجن (فلابد من سبب في السياق اقتضى ذلك قال تعالى: ((قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً)) (الإسراء 88)
فقدّم الإنس على الجن لأن التحدّي وقع على الناس أولاً حيث أن الرسول مبعوث أصلاً إلى الناس ويعضد التقديم أيضاً ما جاء بعد الآية المذكورة [20]، قال تعالى: ((ولقد صرّفنا للناس في هذا القرآن من كلّ مثل فأبى أكثر الناس إلّا كفوراً وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً)) (الإسراء 89 – 90)
—-
—-
—-
—-
تقديم السماء على الأرض:
عندما تقدّم السماء على الأرض فهذا هو الأصل الوارد في سياقات القرآن وهو لحكمة يقتضيها السياق ويتطلّبها المقام كقوله تعالى: ((إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور)) (فاطر 38)
ولا شك في أن ما غاب في السموات كان أعظم وأكثر وأشمل، فقدّم ذكرها ثم قال في نفس السورة: ((قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات أم آتيناهم كتاباً فهم على بيّنة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضاً إلا غروراً)) (فاطر 40)
فذكرت الأرض أولاً لأنه في سياق تعجيز الشركاء عن الخلق والمشاركة وأمر الأرض في ذلك أيسر من السماء بكثير، فبدأ بالأرض مبالغة في بيان عجزهم، ثم قال سبحانه: ((إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليماً غفوراً)) (فاطر 41) فقدّم السموات تنبيهاً على عظم قدرته سبحانه لأن خلقها أكبر من خلق الأرض [21].
وبالنظر إلى سياق الآيات الساقة نجد أن السموات مقدّمة على الأرض وهذا هو الكثير المعتاد في آيات القرآن الكريم، وقد تقدّم الأرض على السماء خلافاً لهذا الأصل تبعاً لاقتضاء السياق كما في قوله تعالى: ((الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناءً وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون)) … (البقرة 22).
والله تعالى أعلم فلعله بدأ بذكر الأرض لأنها أقرب إلى النظر والتأمل وفيها المستقر والمعاش والفراش وقد وردت هذه الآية في سياق توجيه النظر إلى وجوب عبادة الله وحده وشكره على نعمه، فقال تعالى قبل هذه الآية: ((يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون)) (البقرة 21)
قلت سيف: ومنه في مقام بيان القدرة تذكر السماوات والأرض وإخراج النبات والمشاهدات. أكثر من ذكر العرش مع أنه أعظم.
وقوله: ((وما يعزب عن ربّك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين)) (يونس 61)
لأن الكلام قبل الآية على أهل الأرض [22]، حيث قال تعالى: ((وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه)) (يونس 61)
وقال صاحب الكشاف: فإن قلت لم قدّمت الأرض على السماء بخلاف قوله تعالى في سورة سبأ: ((وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينّكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين)) (سبأ 3) قلت: حق السماء أن تقدّم على الأرض، ولكنه لما ذكر شهادته على شؤون أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم، ووصل بذلك قوله (لا يعزب عنه) لاءم ذلك أن قدّم الأرض على السماء على أن العطف بالواو حكمه حكم التثنية [23].
وقدّم ذكر الأرض على السماء أيضاً في سورة إبراهيم في قوله تعالى: ((ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء)) (إبراهيم 38) فقدّم ذكر الأرض أولاً لأنها خلقت قبل السماء ولأن هذا الداعي في الأرض. وقدّمت الأرض في خمس سور: آل عمران الآية 5 ويونس الآية 61 وإبراهيم الآية 38 وطه الآية 4 والعنكبوت الآية [24] 22. ولم يذكر الكرماني الموضع السادس الوارد في آية 40 من سورة فاطر.
وقد تتقدم الكلمة في القرآن الكريم لاقتضاء المقام وسياق الأسباب التي ينبغي للمتأمل أن يراها ويعلمها كتقديم غض البصر على حفظ الفرج كما في قوله تعالى: ((قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون)) (النور 30)
فالغض من البصر سبيل عفة الفروج وعفتها وحفظها وهي سبب أيضاً في عدم حفظها، ولهذا قدّم الغض من البصر على حفظ الفروج للتنبيه على شدّة أثرها في إثارة النفس ومن ثم فالحث على فضيلة غض البصر من أجل العفة … وقال صاحب الكشاف فإن قلت: لم قدّم غضّ الأبصار على حفظ الفروج، قلت: لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور، والبلوى فيه أشد وأكثر [25].
وقد يكون التقديم لتعظيم المقدّم وتشريفه، بتقديم لفظ الجلالة على الرسول، في قوله تعالى: ((ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً)) (النساء 69)
وفي الآية الكريمة إجمال في قوله: (أنعم الله عليهم) ثم تفصيل: (من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) وفيه إثارة ذهنية وتشويق نفسي للوقوف على تعريفهم، فإذا استشرفت النفس لهذا وتهيّأت له، وقفت على الترتيب من حيث العظمة والتشريف … الأول فالأول (النبيين والصديقين والشهداء والصالحين).
وقد يكون التقديم للفت الانتباه لعظم الرسالة وشرفها على النبوة، كما في قوله تعالى: ((وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنّى ألقى الشيطان في أمنيّته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم … حكيم)) (الحج 52) فقد ظهر من الآية عدم المساواة في القدر والمنزلة بين الرسول والنبي، فالرسول من جمع إلى معجزة الكتاب المنزل عليه، والنبي غير الرسول .. فالنبي من لم ينزل عليه كتاب وإنما أمر أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله [26].
وقد يكون التقديم على عكس ما سبق فيتقدّم ذكر الكلمة من أجل بيان سوء المصير وتحقيره والتنفير منه، وذلك كما في قوله تعالى: ((يوم يأت لا تكلّم نفس إلّا بإذنه فمنهم شقيّ وسعيد (105) فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق (106)) (هود 105 – 106)
فتصدير الآية بكلمة (يوم) مع تنكيرها أبلغ في الروع والفزع، وفي نفي الكلام عن النفس على عمومها – كما أفاد التنكير أيضاً – في سياق أسلوب القصر بالنفي والاستثناء والتعبير بالمضارع (يأت) لاستحضار الصورة مزيد من إضفاء هذا المشهد بجلاله ومهابته … ثم بعد هذا الحشد البلاغي يأتي التقسيم والتفصيل: (فمنهم شقي وسعيد) مع تقديم للشقي للسبب السالف الذكر … وهذا أيضاً فيه إجمال، أتى بعده التفصيل الآخر الذي تناول الشقي بتكرار ذكره وبيان مكانه (ففي النار) لتكون وعاء لهم، يعيشون فيها حياتهم بالزفير والشهيق، وهو ما عرفوه في حياتهم الدنيا ومارسوه، ليستحضروا بذلك المشهد الحياة الحقيقية داخل النار – عياذاً بالله –
وقد تأتي الكلمة مقدمة لبيان الترتيب والسبق:
فمن حيث السبق في الزمان: قوله تعالى: ((إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي)) (آل عمران 68) ومن حيث السبق في الإيجاد: قوله تعالى: ((لا تأخذه سنة ولا نوم)) (البقرة 255) لأن العادة في البشر أن تأخذ العبد السنة قبل النوم، فجاءت العبارة على حسب هذه العادة، ذكره السهيلي وذكر معها وجهاً آخر، وهو أنها وردت في معرض التمدح والثناء وافتقاد السنة أبلغ في التنزيه فبدأ بالأفضل، لأنه إذا استحالت عليه السنة فأحرى أن يستحيل عليه النوم [27].
وقد تتقدم الكلمة من موقعها في السياق بعدما جاءت في صدر الآية على خلاف ذلك، كقوله تعالى: ((وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً)) (البقرة 143)
فقد تأخّر المتعلّق على شبه الفعل في قوله (شهداء على الناس) وتقدّم في قوله (عليكم شهيداً) وذلك لأن الغرض في الأولى إثبات شهادتهم على الأمم وليس فيها معنى الاختصاص، وفي الثانية اختصاصهم يكون الرسول شهيداً عليهم وليس مجرد إثبات شهادته عليهم [28].
ومن ذلك قوله تعالى: ((يوم تبيض وجوه وتسودّ وجوه فأما الذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون)) (آل عمران 106)
فصدر الآية جاء في سياق المقابلة على هيئة الإجمال ثم التفصيل الذي بدأ بالذين اسودّت وجوههم، في حين أن البداية كانت بالذين ابيضّت وجوههم، وفي ذلك تلوين للخطاب لإدخال البشر والتفاؤل أو لا لتعظيم هذه الفئة ثم الانتهاء بذكرهم أيضاً تعظيماً وتشريفاً، ولذلك بدأ التفصيل بما انتهى إليه الإجمال والله تعالى أعلم.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ((الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة)) ثم قال جل شأنه: ((الزاني لا ينكح إلى زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك)) (النور 2 – 3)
قدّم الزانية في السياق الأول لأن الكلام كان عن حد الزنا وهو الجلد، وفيه لفت للنظر وإيحاء للبشر للمحافظة على عفاف المجتمع عن طريق صيانة المرأة، لأنها إذا فسقت كانت سبباً في انتشار تلك الجريمة، أما المقام الثاني فكانت بداية الآية فيه بالرجل (الزاني) وهي مسوقة (لذكر النكاح والرجل أصل فيه، لأنه هو الراغب والخاطب ومنه يبدأ الطلب [29].
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ((وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضّوا إليها وتركوك قائماً قل ما عند الله خيرٌ من اللهو ومن التجارة والله خير الرّازقين)) (الجمعة 11)
تقدمت التجارة على أولاً ثم تأخرت ثانياً … ربما كان الاعتبار هنا في هذا المقام على أنها بمثابة الشيء الواحد، لأن السياق أفاد ذمّ هذا الفعل واستنكاره، وبدليل أنه قال (انفضوا إليها)، ولم يقل انفضوا إليهما، لأن الإنسان إذا ترك خطبة الجمعة وانصرف إلى التجارة فقد فعل اللهو والعبث، فما بالنا إذا كان هذا مع النبي؟! هذا ومن المعلوم أنه لا يجوز أثناء الخطبة مجرد الكلام أو العبث بالثياب ونحوه، فما الأمر إذا كان الخروج للتجارة التي كان يصاحبها الطبل وقتذاك؟! فقدّم اللهو في المرة الثانية للتنبيه على قبح فعلهم وشنيعه ..
ثانياً: التقديم للاختصاص:
قد يتقدم المفعول على فعله أو يتقدم الجار والمجرور أو الظرف والحال ونحو ذلك لأجل فضيلة الاختصاص، وهو “إما بالتعيين في التردد، أو بردّ الخطأ، أي خطأ السامع في تعيين المفعول ونحوه إلى الصواب، وهو المراد من التخصيص، كما في اعتقاد العكس أو الاشتراك كقولك: زيداً عرفت، لمن تردد، إشارة إلى أنه اعتقد أنك عرفت إنساناً، لكن يتردد في تعيين أنك زيداً عرفت أم عمراً، فقولك زيداً عرفت، تعيين وتخصيص، أو لمن أخطأ في اعتقاده، بأن اعتقد أنك عرفت عمراً دون زيد، على عكس عرفانك، فقولك زيداً عرفت، يفيد الاختصاص برد الخطأ [30]، وإذا قلنا الماء شربت لا غيره، فهذا من الاختصاص الذي يشمل قصر القلب والإفراد والتعيين.
تقديم المفعول:
ورد تقديم المفعول على فعله أو فاعله لمزية يقتضيها المعنى المراد بثّه في النفوس ومن ذلك قوله تعالى: ((ساء مثلاً القوم الذين كذّبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون)) (الأعراف 177) فلو جاء السياق مثلاً: كانوا يظلمون أنفسهم لما تحققت مزية تخصيص أنفسهم وحدهم بالظلم، فجأة “تقديم المفعول به للاختصاص كأنه قيل: وخصّوا أنفسهم بالظلم لم يتعدّها إلى غيرها [31] ” وهنا إبراز للنفس التي ظلمت وتخيّل لأثره عليها.
ومن ذلك قوله تعالى: ((سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار)) (إبراهيم 50)
ففي قوله: (وجوههم) مجاز مرسل علاقته الجزئية، حيث ذكر الجزء، وهو الوجوه، ذكر الحاصل هو أن النار تغشى جميع أبدانهم، ولكن في تخصيص ذكر الوجوه وتقديمها لفت للانتباه لما يلحقهم من المهانة والذلة وهم الذين أرادوا الوجاهة والمنزلة في قومهم، ومن قوله: (من قطران) بيانية أي من هذا الجنس.
تقديم الجار والمجرور:
قد يقع الظرف خبراً، أو يتقدّم الجار الأصلي فيكون خبراً، وحينئذ يشترط في الظرف الواقع خبراً وفي الجار الأصلي مع المجرور كذلك – أن يكون تاماً، أي يحصل بالإخبار به فائدة بمجرد ذكره، ويكمل به المعنى المطلوب من غير خفاء ولا لبس [32] ولابد للظرف أو الجار والمجرور من متعلق حتى تتم الفائدة أو المعنى وإلا لم يكن منهما فائدة … وسوف نقف مع بعض النماذج القرآنية لنرى ما أفاء الله به من أسرار بلاغية لهذا التقديم.
يقول تعالى: ((ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأنّ له نار جهنم خالداً فيها ذلك الخزي العظيم)) (التوبة 63)
لقد حملت الآية الكريمة على من يحادد الله ورسوله، فكان الزجر والوعيد الناشئ عن الاستفهام في صدر الآية، وتوكيد الخبر بأنّ واسمية الجملة لأن المنافقين مع علمهم بهذه الحقيقة نزّلوا منزلة من يجهلها وينكرها لعدم جريهم في الاعتقاد والسلوك وفق ما يقتضيه علمهم، وتقديم الخبر (له) على اسم (أن): (نار جهنم) لإفادة القصر، أي له لا لغيره، والإفراد في (له) و (خالداً) مراد به العموم [33].
ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى: ((قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمنّ على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون، وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرنّ على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكّل المتوكّلون)) (إبراهيم 11 – 12)
ففي تقديم الجار والمجرور في لفظة الجلالة (وعلى الله) في الآيتين لإفادة القصر والتخصيص أي: التوكل والاعتماد لا يكون إلا على الله لا على غيره … وجاء لفظ المؤمنون في الآية الأولى لأنه أمر من رسلهم للمؤمنين الذين آمنوا بالتوكل على الله وحده، وهذا من علامة الإيمان الصادق … وجاء لفظ (المتوكلون) في الآية الثانية ليكون معناه، فليثبت المتوكلون على ما استحدثوا من توكلهم وقصدهم إلى أنفسهم على ما تقدّم [34].
ومن ذلك أيضاً ما جاء في نفس السورة قوله تعالى: ((وبرزوا لله جميعاً فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص)) (إبراهيم 21)
جاء تقديم (لكم) على (تبعاً) لإفادة التخصيص التبعية لهم وقصرها عليهم دون غيرهم وحبس حياتهم رهن إشارتهم وفيه إظهار مدى ندامتهم وحسرتهم على تلك التبعية لسادتهم الذين لم يستطيعوا أن يدفعوا عنهم ولا عن أنفسهم شيئاً وقد هلك الجميع.
ومما جاء في تخصيص الملك والحمد بالله وحده دون غيره قوله تعالى: ((يسبّح لله ما في السموات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)) (التغابن 1)
وقد وقف ابن الأثير رحمه الله أمام بعض الآيات الواردة في مثل هذه السياقات السابقة ورفض أن تكون للاختصاص، ونعى على من احتسبها كذلك، كتقديم الظرف في قوله تعالى: ((وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكّلت وإليه أنيب)) (الشورى 10)
((صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور)) (الشورى 53)
((وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة)) (القيامة 22 – 23)
((والتفّت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق)) (القيامة 29 – 30)
فقال ابن الأثير: فإن هذا روعي فيه حسن النظم، لا الاختصاص في تقديم الظرف وفي القرآن مواضع كثيرة من هذا القبيل يقيسها غير العارف بأسرار الفصاحة على مواضع أخرى وردت للاختصاص وليست كذلك [35].
ولا عجب أن يكون التقديم في تلك الآيات للاختصاص مع إفادة الغرض الذي أشار إليه، لأن المعنى يقتضي ذلك ويتطلبه، فكيف لا نقول أن تقديم (عليه) على (توكلت) يفيد قصر التوكل على الله لا على غيره؟! وكذلك الإنابة إليه دون غيره، وهذا من كمال التوحيد ونقاء العقيدة … ولو فرضنا السياق جاء على غير هذا التقديم، وكان مثلاً: توكلت عليه وأنبت إليه، لافتقد السياق مزية حسن النظم، وجلاء المعنى أيضاً فإن الجملة الأخيرة التي تأت على التقديم لتفيد أن التوكل عليه وعلى غيره أو الإنابة إليه ولا يمنع أن تكون إلى غيره! ولكن بالتقديم سدت جميع الأبواب وقصرت التوكّل على الله وحده والإنابة إليه وحده دون غيره.
وفي آية الغاشية التي رفض ابن الأثير جعلها للاختصاص، وقد ناقض نفسه بقوله: أي تنظر إلى ربها دون غيره، فتقديم الظرف هنا ليس للاختصاص [36]!!!
فكيف لا يكون تقديم الظرف للاختصاص، وهو يقول تنظر إلى ربها دون غيره!! ويقول الزمخشري: ألا ترى إلى قوله تعالى: ((إلى ربك يومئذ المستقر)) ((إلى ربك يومئذ المساق)) ((إلى الله تصير الأمور)) ((وإلى الله المصير)) … ((وإليه ترجعون)) ((عليه توكلت وإليه أنيب))، كيف دلّ فيها التقديم على معنى الاختصاص [37].
ومما جاء في التقديم لإفادة التخصيص ورعاية الفاصلة، قوله تعالى: ((بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغياً أن ينزّل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين)) (البقرة 90)
((ومن يعص الله ورسوله ويتعدّ حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين))
ومنه أيضاً قوله تعالى: ((ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم فجاءوهم بالبيّنات فانتقمنا من الّذين أجرموا وكان حقاً علينا نصر المؤمنين)) (الروم 47)
فتقديم التوكيد (حقاً) وتقديم خبر كان (علينا) لإشعار المؤمنين بالنصر المحقق الذي لا مرية فيه وفي هذا ترسيخ للعقيدة وحسن التوكّل على الله والثقة فيه لا في غيره، عندما يشعر المؤمن بأن النصر مختص بالله مقصور عليه سبحانه.
ثالثاً: التقديم بين الآية والآية:
في هذه الوقفة نرى أسراراً أخرى لأسلوب التقديم مغايرة للمواضيع السابقة، والمقصود بهذا التقديم الذي يأتي بين الآية والآية هو ما ننظر إليه من حيث تقديم صيغة على أخرى في بعض آيات السورة الواحدة، أو تقديم آية على آية في النزول، أو تقديم موضع على آخر في السورة الواحدة، أو التقديم والتأخير في المتشابه.
أولاً: تقديم صيغة على أخرى في بعض آيات السورة الواحدة:
وقد ورد ذلك في بعض المواضع من آيات الذكر الحكيم لعلة يقتضيها السياق ويتطلّبها المعنى، وذلك نحو قوله تعالى: ((يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحبّ كلّ كفّار أثيم)) (البقرة 276)
وقوله تعالى: ((وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم)) (البقرة 283)
فقد وردت الصيغتان في الآيتين وهما: أثيم – آثم، وتقدّمت الصيغة الأولى على الثانية للفارق المعنوي بينهما، فـ (أثيم) صفة مشبّهة باسم الفاعل، وهي صيغة مبالغة تفيد الإقامة على فعل ذلك الإثم والإصرار عليه والتمعّن فيه بلامبالاة، وأثيم: من قوم أثماء، والأثيم: الفاجر [38].
فقد وردت صيغة (أثيم) في سياق الحديث عن الربا ومحقه والنفير منه، قال الزمخشري في قوله تعالى: (كل كفار أثيم) تغليظ في أمر الربا وإيذان بأنه من فعل الكفار (قوم أثماء) لا من فعل المسلمين [39].
أما الآية الأخرى فقد وردت في سياق النهي عن كتمان الشهادة ((ولا تكتموا الشهادة)) ثم الوعيد من التهديد عن طريق أسلوب الشرط ((ومن يكتمها فإنه آثم قلبه)) … وكتمان الشهادة أقل جرماً من تعاطي الربا وممارسته الذي يتأذى منه المجتمع كله، بينما تأتي ثمرة كتمان الشهادة المرّة على الأفراد … وقد أسند الإثم إلى القلب لأن كتمان الشهادة (هو أن يضمرها ولا يتكلّم بها، فلما كان إنما مقترفاً بالقلب أسند إليه، لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ، ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد: هذا مما أبصرته عيني، ومما سمعته أذني، ومما عرفه قلبي، ولأن القلب هو رئيس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله، فكأنه قيل: قد تمكّن الإثم في أصل نفسه وملك أشرف مكان فيه [40].
ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى: ((قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرّعاً وخفية لئن أنجانا من هذه لنكوننّ من الشاهدين)) (الأنعام 63)
وقوله: ((قل الله ينجيكم منها ومن كلّ كرب ثم أنتم تشركون)) (الأنعام 64)
وقد وردت صيغتان في الآية الكريمة: ينجيكم – أنجانا، وقدّم الأولى على الثانية لاقتضاء المعنى الذي ينتقي الألفاظ ويحددها، فإن الألفاظ في القرآن نزلت من لدن القدرة الإلهية معبّرة عن معانيها الدقيقة، فإذا وردت مادة بصيغتين أو أكثر، فليس ذلك فراراً من التكرار، وإنما يحدث لأن كل صيغة تعبّر عن معنى لا تعبّر عنه الصيغة الأخرى، مهما تقاربتا [41].
فالصيغة الأولى التي جاءت بالتشديد (ينجيكم) إنما جاءت في جناب الله وحقه، وجاءت في صيغة الاستفهام المجاب عنه في الآية التي تلتها مباشرة (قل الله ينجيكم) فهي نجاة بالغة العظمة والقدرة، وهي تستمر نجاة بعد نجاة … أما الصيغة الثانية فقد كانت دعاء منهم، وكانت (أنجى) دالة على قلّة احتمال حدوث النجاة، فقد سبقها (لئن) تأتي لتقليل حدوث فعل الشرط ولهذا بالغوا في جواب (لئن) عن طريق التوكيد باللام ونون التوكيد الثقيلة: (لنكونن) رغبة في تقوية حدوث فعل الشرط الذي تتوقف على حدوثه حياتهم [42].
ومن ذلك ما جاء أيضاً في سورة غافر في قوله تعالى:
((وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً أن يقول ربّي الله وقد جاءكم بالبيّنات من ربكم وإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذّاب)) (غافر 28)
فقدّمت صيغة اسم الفاعل (كاذباً) على صيغة المبالغة (كذّاب) فالأولى، وقعت في سياق يوحي بانتفاء الكذب من أصله لتقديم قوله: ((وقد جاءكم بالبيّنات من ربكم)) فكيف بمن جاء بالبيّنات من رهب أن يكون متّصفاً ولو أدنى اتصاف بالكذب؟! ولذلك جاءت الصيغة (كاذباً) في سياق (إن) الشرطية مع حذف النون من (يك) فلم يقل يكن وهو الأصل ليشعر بانتفاء ذلك، هذا بالإضافة إلى تنكير (كذبا) في سياق الشرط لإفادة العموم، أي: وإن يك كاذباً ما، يعني إن وُجد ذلك من أصله.
أما صيغة (كذّاب) فهي لإفادة المبالغة كما سبق ذكره، وهي ترسم صورة لهذا الذي يمارس الكذب ويتعاطاه في كل أحوال حياته، حتى استحقّ تعريفه بالمسرف، وعدم الهداية من الله (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذّاب)
ومن ذلك أيضاً ما جاء في سورة التحريم في قوله تعالى: ((وإذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه حديثاً فلمّا نبّأت به وأظهره الله عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض فلمّا نبّأها به قالت من أنبأك هذا قال نبّأني العليم الخبير)) (التحريم 3).
فجاءت صيغة (نبّأها) متقدمة على (أنبأك) ثم أعديت صيغة (نبّأني) مرة أخرى، لأنّ الصيغتين (نبأ) في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وما ينبّئ به فهو حق اليقين لأنه لا ينطق عن الهوى، و (من أنبأك) حكاية عن كلام أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها، وهي لم تبلغ مبلغ يقين الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال الراغب الأصفهاني: نبّأته أبلغ من أنبأته ((فلننبئنّ الذين كفروا – ينبّؤ الإنسان يومئذ بما قدّم وأخّر)) ويدلّ على ذلك قوله تعالى: ((فلما نبّأها به قالت من أنبأك هذا قال نبّأني العليم الخبير)) ولم يقل أنبأني بل عدل إلى نبأ الذي هو أبلغ تنبيهاً على تحقيقها وكونه من قبل الله [43].
ومن ذلك أيضاً ما جاء بصيغة المبني للمجهول سابقاً ومتقدّماً على المبني للمعلوم خلافاً للمعهود وذلك في قوله تعالى: ((ويطاف عليهم بآنية من فضّة وأكواب كانت قواريراً قوارير من فضّة قدّروها تقديراً)) (الإنسان 15 – 16)
وقوله تعالى: ((ويطوف عليهم ولدان مخلّدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً)) (الإنسان 19)
قال الكرماني [44]: إنما ذكر الأول بلفظ المجهول لأن المقصود ما يطاف به لا الطائفون، ولهذا قال: (بآنية من فضة) ثم ذكر الطائفين فقال: (ويطوف عليهم ولدان مخلّدون) فالصيغة الأولى جاءت بالبناء للمجهول لأن الفاعل غير مراد، ولكن المراد تسليط الضوء ولفت الذهن إلى النعم المتعددة في السياق، فإذا انتهى من تعداد ذلك، كان لائقاً التعقيب بذكر هؤلاء الغلمان الذين يقومون بخدمة المؤمنين ويقدّمون لهم ما يقدّم من ألوان هذه النعم التي ذكرت من قبل، وإنه لمن المعقول حقاً أن يتقدّم تعداد النعم على من يقومون بتقديمها [45].
ومن ذلك أيضاً ما جاء مقدّماً بالتضعيف على وزن (فعّل) على الفعل المهموز على وزن أفعل، يقول تعالى: ((فمهّل الكافرين أمهلهم رويداً)) (الطارق 17)
وقد نصّ الكرماني [46] على أن ذلك ليس من التكرار، والتقدير: مهّل، مهل لكنه عدل في الثاني إلى قوله: أمهل كراهة التكرار وخالفة الزمخشري واعتبره من التكرار، فقال: أي إمهالاً يسيراً، وكرّر وخالف بين اللفظين لزيادة التسكين منه والتبصّير [47].
أي: في ذلك إشاعة جو من الطمأنينة والسكينة في قلب النبي وقلب المؤمنين ليثبتوا مع النبي ويصبروا على أذى الكافرين … وهذا وإذا كان ختام السورة بهذا التكرار المؤدى للتوكيد، فإن فيه اتفاق واتساق مع بداية السورة بالقسم المفيد للتوكيد أيضاً ثم بتكرار كلمة الطارق التي أشاعت جرساً قويّ الإيقاع في جو المشهد.
ثانياً: تقديم آية على أخرى في النزول:
من المعلوم أن من الآيات ما نزل لسبب من الأسباب أو لمعالجة موقف من المواقف التي وقعت في حياة المسلمين ومنها ما نزل لإثبات حكم شرعي أراده الله لصالح الحياة والممات .. وكانت هذه الآيات تناسب أحوال الناس وعمر الدعوة الإسلامية فيهم ومدى صلابة العقيدة في ذلك الوقت، فما نزل بمكّة يختلف في الأحكام والشرائع عمّا نزل بالمدينة، فإن من أسرار القرآن أنه يمسك بأحوال النفس الإنسانية كلها، ويجيء إليها بما يناسب كل حال منها في مواجهتها للأحداث وفي تصورها لها وإحساسها بها [48].
وإذا نظرنا إلى أوّل ما نزل من القرآن الكريم فسنجد قوله تعالى: ((اقرأ باسم ربّك الذي خلق، خلق الإنسان من علق)) (العلق 1 – 2)
فجاء الخبر بأن الله خلق الإنسان من علق، والعلقة (الدم الجامد). وإذا جرى فهو الدم المسفوح وقال: (من علق) بجمع علق، لأن المراد بالإنسان الجنس، وإذا كان المراد بقوله: (الذي خلق) كل المخلوقات، فيكون تخصيص الإنسان بالذكر تشريفاً له، وإذا كان المراد بالذي خلق: الذي خلق الإنسان، فيكون الثاني تفسيراً للأول، والنكتة ما في الإبهام ثم التفسير، من التفات الذهن وتطلّعه إلى معرفة ما أبهم أولاً، ثم فسّر ثانياً [49].
وهذه الآية مكّية وقد تقدّمت في النزول على آية سورة المؤمنون وهي مكّية أيضاً وذلك في قوله تعالى: ((ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين)) (المؤمنون 12 – 14)
والعلّة في ذلك والله تعالى أعلم أن آية العلق كانت في بداية ظهور الإسلام وأولى نسائمه ولم تكن النفوس مهيّئة لاستقبال الأمر المفصّل أو الشرح المطوّل بدقائقه، فأجمل لكي يمسّ القلب ويطرقه طرقاً خفيفاً يوقظ الذهن من غفوته وغفلته، ثم جاء بعد ذلك التفصيل ووصف المراحل الدقيقة في سورة المؤمنون بعدها تهيّأت النفوس لذلك واستعدّت لاستقباله وفهمه.
ومن ذلك أيضاً ما جاء من الآيات مقدّماً بعضه على بعض في تحريم شرب الخمر، وذلك مراعاة لمقتضى الحالة التي كان عليها المسلمون من شربها في ذلك الوقت، فلم يكن سهلاً أن ينقلهم الإسلام فجأة من المألوف إلى التحريم، فنزلت الآيات بالتدرّج في مراحل التحريم، فتقدّمت أولاً آية بيان الإثم الأكبر والمنافع الأقل للخمر، فأصبح التنفير واقعاً في النفس، يقول تعالى: ((يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبيّن الله لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون)) (البقرة 219)
ثم نزل في مراحل ثانية قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلّا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوّاً غفوراً)) (النساء 43)
فانتقل المسلمون مع هذه الآية نقلة ثانية تالية للمرحلة الأولى، فصاروا يتجنبون شربها في النهار الجامع لأطراف الصلاة، حتى أصبح الوقت المباح لشربها هو الليل وقليل فاعله، ثم كانت المرحلة الأخيرة التي أتمّ الله تعالى فيها التحريم القاطع إلى يوم الدين، قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون)) (المائدة 90) فهم في هذه المرحلة كانوا على أتم الاستعداد النفسي والجسدي لاستقبال هذا الأمر وتنفيذه من فوره دون معاناة أو تملل.
صورة أخرى متكاملة تحمل أجزاء المشهد الواحد لو ضُم بعضه إلى بعض، ولكنه يبدأ بأخف المراحل فيقدّمها أولاً ثمّ يتدرّج إلى الأشدّ حتى يبلغ الغاية ويفي بها … إن ذاك مع عصا موسى عليه السلام، يقول تعالى: ((قال هي عصاي أتوكّأ عليها وأهشّ بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى قال ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حيّة تسعى)) (طه 18 – 20)، ويقول تعالى: ((وألق عصاك فلما رآها تهتزّ كأنها جانّ ولّى مدبراً ولم يعقب يا موسى لا تخف إنّي لا يخاف لديّ المرسلون)) (النمل 10)
ويقول تعالى: ((وأن ألق عصاك فلما رآها تهتزّ كأنها جانّ ولّى مدبراً ولم يعقّب يا موسى أقبل ولا تخف إنّك من الآمنين)) (القصص 31)
ويقول تعالى: ((فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين)) (الأعراف 107) ويقول تعالى: ((فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين)) (الشعراء 32)
ونفهم من هذا الترتيب أن أول اختبار لموسى مع العصا أنها ظهرت له في صورة (حيّة تسعى) فوقع في نفسه ما وقع من خوف … ثم جاء الاختبار الثاني في سورة النمل وهي متأخرة نزولاً عن سورة طه وفيها تظهر العصا حيّة في ضخامتها وجاناً في انطلاقها واقتضاها ولهذا لم يخف مجرد خوف كما فعل حين واجه الحية ولكنه ولى مدبراً ولم يعقب [50]
أما الصورة الثالثة فهي تحوّل العصا إلى ثعبان مبين، وهذا المشهد قد وصل إلى ذروته لأن مشهد إلقاء العصا يغاير المشهدين السابقين الذين كانا على سبيل الإعداد والتجهيز النفسي .. أما المشهد الثالث فهو مشهد الواقعة والتحدي، فكانت الصورة التي جمعت بين الحية والجان في كيان واحد قد برزت كاملة في قوله تعالى: فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، ثعبان لا كالثعابين … وإنما هو ثعبان عظيم … فيه خفّة الثعبان ونشاطه وعظم الحية وضخامتها … وفي كلا الموضعين تقع الصورة التي تجيء عليها المعجزة على حال واحدة … ولهذا جاء النظم القرآني لهما على سواء [51]
(فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين في سورتي) الأعراف و (فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين في سورتي) الشعراء.
تقديم موضوع على آخر في السورة الواحدة:
اختلف العلماء في ترتيب سور القرآن هل هو توقيفي أو باجتهاد الصحابة، وكان جمهور العلماء على أنه ليس توقيفياً بل هو من اجتهاد الصحابة رضوان الله عليهم أما الآيات فقد كان الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك، وقال عثمان رضي الله عنه كان رسول الله تنزل عليه السورة ذات العدد فكان إذا نزل عليه شيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: (ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا) [52]
ومعظم السور القرآنية قد اشتملت على موضوعات متعددة كالسبع الطوال والمئين والمثاني والمفصل … وهذه الآيات الموضوعية قد تقدّم بعضها على بعض بتوقيف من الله عز وجل وتظهر في ذلك نكتة بلاغية، نتبينها في المثال الآتي، ألا وهو سورة البقرة وهي على طولها ووضوح تفصيلها تتكون مما يأتي [53]:
المقدمة: الآيات (1 – 20)
وهي في التعريف بشأن هذا القرآن (أي في هذه السورة) وبيان أن ما فيه من الهداية قد بلغ حداً من الوضوح لا يتردد فيه ذو قلب سليم.
المقصد الأول: الآيات (21 – 25)
وجاء في دعوة الناس كافة إلى اعتناق الإسلام ثم عود على بدء في أربع عشرة آية من (26 – 39)
المقصد الثاني: الآيات (40 – 126)
في دعوة أهل الكتاب دعوة خاصة إلى ترك باطلهم والدخول في هذا الدين الحق وعلى ذلك مدخل إلى المقصد الثالث في خمس عشرة آية من (163 – 177)
المقصد الثالث: الآيات من (178 – 283)
في عرض شرائع هذا الدين تفصيلاً
المقصد الرابع: في آية واحدة 284
ذكر الوازع والنازع الديني الذي يبعث على ملازمة تلك الشرائع
الخاتمة: في آيتين اثنتين (285 – 286)
وهي في التعريف بالذين استجابوا لهذه الدعوة الشاملة لتلك المقاصد، وبيان ما يرجى لهم إنها كالبناء الشامخ الذي يبدأ فيه بإقامة الأساس من جذوره، ثم إقامة البنيان وتشييده ثم زركشته وتزيينه.
فهذا الترتيب للموضوعات في داخل السورة لهو كالحلقات المتشابكة يشدّ بعضها بعضاً ويؤدي كل موضوع إلى أخيه في تسلم رائق، يمهّد له ويبسط ضوءه رويداً حتى يلقى بدره من الأعماق … ماذا لو جاء موضوع منها قبل الآخر؟! ما نرى إلا اختلال ميزان الفكر وتشتت الوجدان والشعور!!