986 التعليق على الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين
مجموعة خميس العميمي ومحمد بنياد وسامي وعلي بن رحمة
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
——–
الصحيح المسند 986
قال الإمام أحمد في [مسنده برقم (205)]: حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا حيوة، أخبرني بكر بن عمرو، أنه سمع عبد الله بن هبيرة، يقول: إنه سمع أبا تميم الجيشاني، يقول:
سمع عمر بن الخطاب يقول: إنه سمع نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا)).
—–
ذكر الحديث الإمام أحمد أيضاً في موضعين في مسنده (372)، (375).
الإسناد.
قال محققو المسند: إسناده قوي، رجاله ثقات رجال الشيخين غير عبد الله بن هبيرة، فمن رجال مسلم. أبو عبد الرحمن: هو عبد الله بن يزيد المقرئ، حيوة: هو ابن شريح المصري، وبكر بن عمرو: هو المعافري المصري، وأبو تميم الجيشاني: هو عبد الله بن مالك بن أبي الأسحم.
وأخرجه عبد بن حميد (10)، وأبو يعلى (247)، وابن حبان (730)، والحاكم 4/ 318، وأبو نعيم في الحلية 10/ 69 من طريق عبد الله بن يزيد المقرئ، بهذا الإسناد. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وسكت عنه الذهبي في تلخيص المستدرك.
وأخرجه ابن المبارك في الزهد (559) عن حيوة بن شريح، به.
ومن طريق ابن المبارك أخرجه الطيالسي (51) و (139)، والترمذي (2344)، وأبو نعيم 10/ 69، والقضاعي في مسند الشهاب (1444)، والبغوي في شرح السنة (4108). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وانقلب أسناد هذا الحديث على البزار أو شيخه فيه – فقال: حدينا بشر بن آدم، قال:
حدينا عبد الله بن يزيد، قال: حدثنا حيوة، عن ابن هبيرة، عن بكر بن عمرو، عن أبي تميم الجيشاني، به، ثم قال: هذا الحديث لا نعلم رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمر بن الخطاب بهذا الإسناد، وأحسب أن بكر بن عمرو لم يسمع من أبي تميم! انتهى كلامهم.
– والحديث بوب عليه الترمذي في (الجامع): باب في التوكل على الله.
وابن ماجة في (السنن): باب التوكل واليقين. وكلاهما جعلاه في كتاب الزهد.
النقطة الثالثة: التوكل ومسائله.
حقيقة التوكل هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة. ومعنى الحديث أن الناس لو حققوا التوكل على الله بقلوبهم واعتمدوا عليه اعتمادًا كليًّا في جلب ما ينفعهم ودفع ما يضرهم وأخذوا بالأسباب المفيدة لساق إليهم أرزاقهم مع أدنى سبب، كما يسوق إلى الطير أرزاقها بمجرد الغدو والرواح، وهو نوع من الطلب ولكنه سعي يسير، وتحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدر الله سبحانه وتعالى المقدرات بها وجرت سننه في خلقه بذلك فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة والتوكل بالقلب عليه إيمان به، قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فجعل التوكل مع التقوى التي هي القيام بالأسباب المأمور بها والتوكل بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجز محض وإن كان مشوبًا بنوع من التوكل، فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزًا ولا عجزه توكلاً، بل يجعل توكله من جملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلاَّ بها كلها.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإِفتاء
—–
قَالَ الإِمَامُ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبَ الحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ جَامِعِ العُلُوْمِ وَالحِكَمِ: هَذَا الحَدِيْثُ أَصْلٌ فِي التَّوَكُّلِ؛ إِذْ هُوَ مِنَ الأُمُوْرِ الَّتِيْ يُسْتَجْلَبُ بِهَا الرِّزْقُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} ((3) الطَّلَاقِ).
رَوَى الإِمَامُ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيْرِهِ (جَامِعُ البَيَانِ عَنْ تَاوِيْلِ آيِ القُرْآنِ) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ أَكْبَرَ آيَةٍ فِي القُرْآنِ تَفْوِيْضاً: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه}. وَمِنْ هُنَا يُسْتَشَفُّ مَعْنَى التَّوَكُّلِ وَتُعْرَفُ حَقِيْقَتُهُ.
قلت سيف أخرج أثر ابن مسعود أبوعبيد في فضائل القرآن 446 وجعلناه على شرط المتمم على الذيل
فَمَعْنَاهُ صِدْقُ الِاعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِتَفْوِيْضِ الأَمْرِ إِلَيْهِ؛ فَهُوَ مُدَبِّرُ الأَمْرِ، وَلَهُ الخَلْقُ، وَهُوَ العَلِيْمُ: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (المُلْكِ:14).
وَقَالَ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيْرِهِ: التَّوَكُّلُ الِاعْتِمَادُ عَلَى اللَّهِ مَعَ إِظْهَارِ العَجْزِ. انْتَهَى.
فَالعَبْدُ مَهْمَا أُوْتِيَ مِنْ قُوَّةٍ فَإِنَّهُ مُفْتَقِرٌ وَمُحْتَاجٌ إِلَى الغَنِيِّ الحَمِيْدِ الَّذِيْ خَلَقَهُ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (فَاِطر:15}.
فهَذِهِ غَايَةُ التَّسْلِيْمِ المُطْلَقِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَهَذَا مِنَ الإِيْمَانِ بِهِ، وَالعَبْدُ بِهَذَا يَجْلِبُ لِنَفْسِهِ مَحَبَّةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159) آلَ عِمْرَانَ. وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ المُؤْمِنِيْنَ: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} ((122) آلَ عِمْرَانَ).
وَلِبَيَانِ مَكَانَةِ هَذِهِ العِبَادَةِ العَظِيْمَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَهَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيْرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ المَجِيْدِ، فَهِيَ حَالُ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَهَذَا نُوْحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ} (71) يُوْنُسَ.
قَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: وَإِنَّمَا خَصَّ نُوْحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا المَقَامَ بِالتَّوَكُّلِ مَعَ أَنَّهُ مُتَوَكِّلٌ فِي جَمِيْعِ أَحْوَالِهِ لِيُبَيِّنَ لِقَوْمِهِ أَنَّ اللَّهَ كَافِيْهِ أَمْرَهُمْ، فَهُمْ لَوِ اجْتَمَعُوا هُمْ وَشُرَكَاؤُهُمْ عَلَى أَذَاهُ فَلَنْ يُمْكِنَهُمْ ذَلِكَ؛ فَاللَّهُ حَامِيْهِ.
وَهَذَا مُوْسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَامُرُ قَوْمَهُ بِالتَّوَكُّلِ، وَقَدْ نَالُوا مَا نَالُوا مِنَ الأَذَى مِنْ فِرْعَوْنَ وَجُنُوْدِهِ: {وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِين. فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِين} (سورة يُوْنُسَ).
وَهَذَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ المُتَوَكِّلِيْنَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: {ا لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (آلَ عِمْرَانَ: (174)). رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيْحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيْلُ. قَالَهَا إِبْرَاهِيْمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِيْنَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِيْنَ قَالُوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيْمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيْلُ}.
—
ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في السبعين ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب
وذكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب مطولا في كتاب التوحيد.
وأخرجه البخاري وبوب 21 – باب {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}
قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ مِنْ كُلِّ مَا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ
6472 – عن حُصَيْنَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ كُنْتُ قَاعِدًا عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ “عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: “يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ هُمْ الَّذِينَ لاَ يَسْتَرْقُونَ وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ”
وقلنا في شرحنا لكتاب التوحيد:
قال ابن حجر:
– قوله: “باب ومن يتوكل على الله فهو حسبه” استعمل لفظ الآية ترجمة لتضمنها الترغيب في التوكل، وكأنه أشار إلى تقييد ما أطلق في حديث الباب قبله، وأن كلا من الاستغناء والتصبر والتعفف إذا كان مقرونا بالتوكل على الله فهو الذي ينفع وينجع.
– وأصل التوكل الوكول، يقال وكلت أمري إلى فلان أي ألجأته إليه واعتمدت فيه عليه، ووكل فلان فلانا استكفاه أمره ثقة بكفايته.
والمراد بالتوكل اعتقاد ما دلت عليه هذه الآية {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} وليس المراد به ترك التسبب والاعتماد على ما يأتي من المخلوقين، لأن ذلك قد يجر إلى ضد ما يراه من التوكل. وقد سئل أحمد عن رجل جلس في بيته أو في المسجد وقال لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي فقال: هذا رجل جهل العلم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي” وقال: “لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا” فذكر أنها تغدو وتروح في طلب الرزق قال: وكان الصحابة يتجرون ويعملون في نخيلهم، والقدوة بهم. انتهى.
فتح الباري
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإن التوكل على الله واجب من أعظم الواجبات؛ كما أن الإخلاص لله واجب، وقد أمر الله بالتوكل في غير آية، أعظم مما أمر بالوضوء، وغسل الجنابة، ونهى عن التوكل على غيره. وهو سبب موصل إلى تحقيق كل الغايات، بل إن التوكل على الله نصف الدين؛ كما قال ابن القيم رحمه الله: التوكل نصف الدين، والنصف الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة. وهو جامع لمقامات عديدة من الدين، قال ابن القيم رحمه الله: والتوكل جامع لمقام التفويض، والاستعانة، والرضا، فلا يتصور وجودٌ بدونها. وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله عند شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: ((وعلى ربهم يتوكلون)) ذكر الأصل الجامع الذي تفرعت عنه هذه الأفعال هو التوكل على الله، وصدق الالتجاء إليه، والاعتماد بالقلب عليه، الذي هو خلاصة التفريد، ونهاية تحقيق التوحيد الذي يثمر كل مقام شريف من المحبة، والخوف، والرجاء، والرضا به رباً وإلهاً، والرضا بقضائه، بل ربما أوصل التوكل بالعبد إلى التلذذ بالبلاء، وعدّه من النعماء، فسبحان من يتفضل على من يشاء بما يشاء، والله ذو الفضل العظيم. بل إن التوكل أحد مباني توحيد الإلهية؛ كما يدل على ذلك قوله الحق تبارك وتعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين}. ولشرفه وأهميته، وعلو مكانته ومنزلته فإنه لا يقوم به على وجه الكمال إلا خواص المؤمنين؛ كما في صفة السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب
– من منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة التوكل
قال الله تعالى: (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) المائده: 23 وقال: (وعلى الله فليتوكل المؤمنون إبراهيم): 11 وقال: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) الطلاق: 3 وقال عن أوليائه: (ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير) الممتحنة: 4 وقال لرسوله: (قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا الملك): 29 وقال لرسوله: (فتوكل على الله إنك على الحق المبين) النمل: 79
وقال عن أنبيائه ورسله: (وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا إبراهيم): 12 وقال عن أصحاب نبيه (الذين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل) آل عمران: 173
والقرآن مملوء من ذلك
وقد عُني القرآن الكريم بالتوكُّل لبيان آثاره؛ فقد أمر -سبحانه وتعالى- رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالتوكُّل في تسْع آيات في كتابه الكريم، منها:
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان: 58].
{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب: 3].
{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل: 9].
وذلك من أوائل ما نَزل من القرآن الكريم؛ حتى يستعين -صلى الله عليه وسلم- بالتوكُّل على الله في حمل الرسالة الثقيلة التي ألْقاها الله عليه.
الأمر بالتوكُّل للمؤمنين عامة:
قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، فالتوكُّل هنا شرط لثبوت الإيمان.
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]، فقد جعل الله -عز وجل- التوكُّل من الصفات الأساسية للمؤمنين.
التوكُّل خُلُق الرسل جميعًا:
فقد جاء على لسان الرسل جميعًا في قوله تعالى: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 12].
قال تعالى على لسان سيدنا إبراهيم والذين معه: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4].
الوكيل من أسماء الله -عز وجل-:
الوكيل هو الذي يتولَّى بإحسانه شؤون عباده كلها، فلا يضيعها؛ لكن يأخذ بأيديهم فيما فيه مصلحتهم، فأحيانًا تحدث مشاكل في الحياة؛ كنقْص في الرِّزق، وفشل في الدراسة، وأولاد بعيدين عن الله، وأشخاص تعاني في حياتها الزوجية، أثناء ذلك تحتاج للوكيل وتلجأ إليه.
والله عندما يسدُّ طريقًا عن الإنسان، يفتح طُرُقًا عديدة، إذا أظلمت الدُّنيا أمامك في لحظةٍ، فاعلمْ أن الوكيل سيفتح لك طرقًا أخرى تسعدك، فما منعك إلا ليعطيك، وما ابتلاك إلا ليعافيك.
مكانة التوكل في السنة:
سبق نقلنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين: حسبنا الله ونعم الوكيل. حين اجتمع الأحزاب لحربهم.
وفي الصحيحين: أن رسول الله كان يقول: اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت: أن تضلني أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون
وفي الترمذي عن عمر رضي الله عنه مرفوعا: لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا
وفي السنن عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من قال يعني إذا خرج من بيته بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله يقال له: هديت ووقيت وكفيت فيقول الشيطان لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي
حديث صححه الألباني تحت حديث 2554 من الضعيفة. والارنؤوط في تحقيق سنن ابن ماجه 5095
قلت سيف: قال البخاري لا أعرف لابن جريج عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة غير هذا الحديث ولا أعرف له سماعا منه. العلل الكبير 673.
وقال الدارقطني في العلل 2346: والصحيح أن ابن جريج لم يسمعه من أحد.
وذكر التعليل الشيخ مقبل أحاديث معلة ونقل كلام البخاري والدارقطني ثم ذكر أن له شاهدا مرسلا عن عون بن عبد الله بن عتبة
وفي تخريجنا لنضرة النعيم: ذكرنا أن له شاهدا مرسلا لكن رجح باحث أنه من قول ابن مسعود أرجح قال بعد أن ذكر مرسل عون بن عبد الله. وروايته عن ابن مسعود أصح ولم يسمع منه.
لكن قول ابن مسعود له حكم الرفع ولفظه أن رجلا أتى ابن مسعود فقال: إني أريد سفرا فأوصني فقال: إذا توجهت فقل: بسم الله حسبي الله وتوكلت على الله فإنك إذا قلت: بسم الله. قال الملك: هديت وإذا قلت: حسبي الله، قال الملك: حفظت، وإذا قلت: توكلت على الله، قال الملك: كفيت. انتهى من تخريجنا للنضرة
ونضيف هنا:
لكن الباحث ذكر أن الموقوف فيه انقطاع بين عون بن عبد الله وابن مسعود
لكن لعله يتقوى بحديث أنس الذي حكم عليه الأئمة بالانقطاع
لكن يشكل أن ابن جريج أحيانا يدلس الكذابين
لكن في باب الذكر لعلنا نتساهل ونقبل أثر ابن مسعود ويكون إسناد ابن جريج شاهد له.
خاصة أنني أطلعت على كذا بحث يقولون بأن تدليس ابن جريج يحتمل يكون في الشواهد والمتابعات. فليس ضعيف جدا.
وأكثر الأئمة ذكر تدليسه عن شديدي الضعف فقط في بعض الرواة وإنما اطلق واحد من الأئمة.
قال صاحبنا ابوصالح: وذكر بعضهم أن حديث أم سلمة المرفوع ” أعوذ بك أن أضل أو أضل” كذلك شاهد لمعناه
فطريق ابن جريج تتقوى بالموقوف أو المرسل.
والحديث أورده الشيخ مقبل في أحاديث معلة برقم (517) ونقل قول ابن المديني لم يلق الشعبي أبا سعيد الخدري ولا أم سلمة
ثم ذكر علة أخرى وهي كون الحديث روي عن الشعبي مرسلا.
قلت رجح الدارقطني في العلل طريق الشعبي عن أم سلمة
ويبقى علينا النظر في قول ابن المديني
ملاحظة قال الحاكم في المستدرك عند حديث الباب وقد أخرجه (1959) قال ربما توهم متوهم أن الشعبي لم يسمع من أم سلمة، وليس كذلك فإنه دخل على عائشة وأم سلمة جميعا، ثم أكثر الرواية عنهما جميعا
قول بعضهم “لم يدركها” فيه نظر ولا أدري ما مصدره فالشعبي أدركها إدراكا بينا
وأما السماع فأثبته أبو دَاوُد ولا تطوله يدي الآن إضافة إلى الحاكم فالمثبت مقدم على النافي
قال مغلطاي كما في إكمال تهذيب الكمال:
” قال الآجري سمعت أبا داود يقول مات الشعبي فجأة وهو راكب ثم خَر فصاحوا عليه، قلت مات وهو قاض. قال: هو كان اعتزل القضاء وسمع من أم سلمة وعائشة ”
انتهى فلا أدري قوله قال لأبي داود أم لغيره
ونزيد هذا النقل:
قال الحافظ معلقا على الحديث رقم (1552) وقد رواه البخاري من طريق ابن جريج قال أخبرني صالح بن كيسان عن نافع عن ابن عمر …
قال:
“قد سمع ابن جريج من نافع كثيرا وروى هذا عنه بواسطة وهو دال على قلة تدليسه والله أعلم”
انتهى كلام صاحبنا أبي صالح
قلت سيف: فلعل القول الوسط فيه أنه يحمل قول من قال أنه يدلس عن الكذابين على من نص الأئمة أنه دلس عنهم عن فلان وفلان من الكذابين والضعفاء.
حيث رأيت بعض الأئمة نص على تدليسه عن بعض الرواة.
– ليس في التوكل الأمر بترك الأسباب:
موسى عليه السلام حين قيل له: (إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إنى لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجنى من القوم الظالمين)
قال الإمام البيهقي -رحمه الله-: هو أن الإنسان يبذل السبب، فهذه الطيور لا تبقى في أوكارها تنتظر رزق الله -تبارك وتعالى- فتمتلئ بطونها منه، وإنما هي تخرج
فالمقصود هو أن الإنسان يتوكل على الله، ويربط قلبه بالله، لكن يعلم أن ذلك ليس بمهارته ولا بذكائه، ثم لا يتهافت على الدنيا، فيتوجه قلبه إليها ويتعلق بها، ويركن إلى هذا الحطام الزائل، وإنما يعلم أن الأمور بيد الله -جل جلاله-، وأن ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وهذا يريح قلبه كثيراً، فلا يتأسف على ما فاته منها، وما خسر من حطامها، أو ما لم يحصله من هذا المتاع الزائل، فإن الله -تبارك وتعالى- هو الذي يرزق عباده وفق علمه، وحكمته وبصره التام النافذ، والإنسان لا يدري أين الخير له، فما عليه إلا أن يبذل السبب والله -عز وجل- يرزق من شاء ما شاء.
وها نحن نرى الناس، منهم مَن بعملٍ بسيط يحصّل الملايين الطائلة بلحظات، ومنهم من يجلس طول العمر يشتغل ولا يحصل شيئاً يذكر،
والناس منقسمون في هذا الأمر الجليل إلى طرفين ووسط؛ فأحد الطرفين عطَّل الأسباب محافظةً على التوكل، والطرف الثاني عطَّل التوكل محافظةً على الأسباب، والوسط علِم أن حقيقة التوكل لا تتم إلا بالقيام بالأسباب فتوكل على الله في نفس السبب.
وقد جُمع بين هذين الأصلين في نصوص كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ)) رواه مسلم؛ ففي قوله ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ)) أمرٌ بكل سببٍ ديني ودنيوي، بل أمرٌ بالجدِّ والاجتهاد فيه والحرص عليه نيةً وهمةً وفعلاً وتدبيرا، وفي قوله ((وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ)) إيمان بالقضاء والقدر وأمرٌ بالتوكل على الله الذي الاعتماد التام على حوله وقوته في جلب المصالح ودفع المضار مع الثقة التامة به في نجاح ذلك؛ فالمتبع للرسول صلى الله عليه وسلم يلزمه أن يتوكل على الله في أمر دينه ودنياه وأن يقوم بكل سببٍ نافع بحسب قدرته وعلمه ومعرفته.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ قَالَ: ((اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ)). فأرشده صلى الله عليه وسلم إلى الجمع بين الأمرين: فعل السبب، والاعتماد على الله.
قلت سيف حديث اعقلها وتوكل: ورد من حديث أنس. قال القطان: هذا عندي منكر كما في علل الترمذي. وحديث عمرو بن أمية أخرجه ابن حبان والحاكم وفيه يعقوب بن عمرو وهو مجهول. راجع جامع العلوم والحكم ط ابن الجوزي الحديث التاسع والأربعون. ط
وروى ابن أبي الدنيا عن معاوية ابن قرة قال: لقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه ناساً من أهل اليمن فقال من أنتم؟ قالوا نحن المتوكِّلون، قال: ” بل أنتم المتواكلون؛ إنما المتوكل الذي يلقي حبَّه في الأرض ويتوكل على الله عز وجل “.
قلت سيف: قال محقق دراسات نقدية في الآثار الواردة في شخصية عمر: الأثر منقطع بين معاوية بن قرة وعمر.
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزول قوله تعالى {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] قال: ((كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ وَلَا يَتَزَوَّدُونَ وَيَقُولُونَ: نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ، فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى})) [4]. أخرجه البخاري
– تعقيب:
استدلال بعض أهل العلم بحديث السبعين ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب وحديث: «إذا أخذت حبيبتيه فصبر عوضته الجنة» بأن ترك التداوي أفضل من التداوي فيه نظر، فالحديث الأول إنما ذكر أن الأولى في هذه الأمور الخاصة عدم طلبها، لأن في طلب الإسترقاء والكي يضعف تعلق المسلم بربه ويتعلق بالرقاة وبالكي، فيقول شفائي سيكون إذا رقاني فلان، وشفائي بالكي لا غير، أضف إلى ما في الكي من الألم الشديد وقد يندفع المرض بدواء أخف وقد قال عمران نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الكي فاكتوينا فما أنحجنا ولا أفلحنا.
أما حديث الصبر على فقد البصر، فليس فيه دليل على ترك التداوي، إنما يأخذ بالأسباب ويتعالج ومع الأخذ بالأسباب مطلوب منه الصبر فقد لا تنجح العمليات، وكم من المبصرين خدموا الأمة الإسلامية بالعلم والجهاد، وهذا ليس تفضيل للمبصرين مطلقاً، لكن أريد أن أبين أن الحديث ليس فيه دليل على ترك العلاج. وقد فصلنا أكثر في الفوائد المنتقاه على صحيح مسلم.
ثم لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لا يتداوون بل قال (لا يكتوون ولا يسترقون) اللهم إلا أن يعلق الإنسان قلبه بالطبيب ويكون رجاؤه وخوفه من المرض متعلقا بالطبيب فهذا ينقص توكله على الله عز وجل
*الكتاب: فتاوى نور على الدرب
العثيمين (المتوفى: 1421هـ)
قال الشيخ صالح آل الشيخ: والأظهر عندي أن قوله في هذا الحديث «لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون» أنه مخصوص بهذه الثلاثة.
الكتاب: التمهيد لشرح كتاب التوحيد.
– تنبيه: أما ما جاء في بعض الروايات أنهم «الذين لا يرقون» فهذا غلط؛ وهو لفظ شاذ، لأن الراقي محسن إلى غيره.
– قوله «وعلى ربهم يتوكلون»: وهي جامعة للصفات السابقة.
وراجع للتوسع في معرفة معنى التوكل والآيات الواردة فيه والأحاديث كتاب نضرة النعيم