980 التعليق على الصحيح المسند
مجموعة فيصل الشامسي وفيصل البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1،2،3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
———-
الصحيح المسند
980 قال الإمام عبد الله بن أحمد في زوائد المسند 832 ثنا أبو محمد سعيد بن محمد الجرمي قدم علينا من الكوفة ثنا يحيى بن سعيد الأموي عن الأعمش عن عاصم عن زر بن حبيش ح قال عبد الله وحدثني سعيد بن يحيى بن سعيد ثنا أبي حدثنا الأعمش عن عاصم عن زر بن حبيش قال قال عبد الله بن مسعود: تمارينا في سورة من القرآن فقلنا خمس وثلاثون آية ست وثلاثون آية قال فانطلقنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فوجدنا عليا رضي الله عنه يناجيه فقلنا انا اختلفنا في القراءة فاحمر وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال علي رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمركم ان تقرؤوا كما علمتم
—-
قال محققو المسند: إسناده حسن
(مسند الإمام أحمد – رحمه الله – 1/ 105 (832)
ورواه من حديث عبد الله بن عمرو: الامام أحمد في المسند (ج 2 حديث رقم 6815) ومسلم في صحيحه، كتاب العلم، حديث رقم 2
……………………………….
في كتاب فضائل القرآن المذكور في أول تفسير ابن كثير وذكر الحديث الذي أخرجه البخاري عن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا) فقال ابن كثير:
ومعنى الحديث أنه، عليه السلام، أرشد وحض أمته على تلاوة القرآن إذا كانت القلوب مجتمعة على تلاوته، متفكرة فيه، متدبرة له، لا في حال شغلها وملالها، فإنه لا يحصل المقصود من التلاوة.
وروى البخاري: عن عبد الله – هو ابن مسعود – أنه سمع رجلا يقرأ آية سمع النبي صلى الله عليه وسلم خلافها، فأخذت بيده فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كلاكما محسن فاقرآ أكبر علمي قال: فإن من كان قبلكم اختلفوا فأهلكهم الله عز وجل.
وهذا في معنى الحديث الذي تقدمه، وأنه ينهى عن الاختلاف في القراءة والمنازعة في ذلك والمراء فيه كما تقدم النهي عن ذلك، والله أعلم. انتهى باختصار
قلت سيف: تتمات:
سبق وذكر معاني المماراة والمجادلة ومضار الجدال بالباطل. والجائز من الجدال والممنوع تحت حديث 1318:
قال أبو داود رحمه الله: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يزيد يعني ابن هارون أخبرنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال المراء في القرآن كفر.
الحديث أخرجه الإمام أحمد (ج14 ص245) فقال: حدثنا حماد بن أسامة حدثني محمد بن عمرو الليثي حدثنا أبو سلمة … به
الْمِرَاءُ فِي اللُّغَةِ الْجِدَالُ يُقَال: مَارَى يُمَارِي مُمَارَاةً وَمِرَاءً، أَيْ: جَادَلَ.
وَتَفْسِيرُ الْمِرَاءِ فِي اللُّغَةِ اسْتِخْرَاجُ غَضَبِ الْمُجَادِلِ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَرَيْتُ الشَّاةَ إذَا اسْتَخْرَجْتُ لَبَنَهَا.
” الآداب الشرعية ” لابن مفلح.
الجدال اصطلاحا:
الجدل: دفع المرء خصمه عن إفساد قوله بحجة أو شبهة، أو يقصد به تصحيح كلامه وهـو الخصومة في الحقيقة، والجدال: عبارة عن مراء يتعلق بإظهار المذاهـب وتقريرهـا.
وقال المناوي: هـو مراء يتعلق بإظهار المذاهـب وتقريرهـا.
وقيل: هـو التخاصم بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب.
وقال الكفوي: هـو عبارة عن دفع المرء خصمه عن فساد قوله بحجة أو شبهة وهـو لا يكون إلا بمنازعة غيره.
والمجادلة: هـي المنازعة في المسألة العلمية لالزام الخصم سواء كان كلامه فاسدا أو لا.
(نضرة النعيم)
في الصحيحة (1522): عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص قال: ” سمع عمرو بن العاص رجلا يقرأ
آية من القرآن، فقال: من أقرأكها؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال
: فقد أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير هذا! فذهبا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهما: يا رسول الله آية كذا و كذا، ثم
قرأها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت، فقال الأخر: يا رسول
الله فقرأها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أليس هكذا يا رسول الله
؟ قال: هكذا أنزلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم … فذكره.
وفي الصحيحة (2419): ((لا تجادلوا في القرآن، فإن جدالا فيه كفر)).
بوب أبو دواد: باب الجدال في القرآن، قال العباد: أي: بالباطل، وأما البحث عما جاء في القرآن من المعاني والحكم والأسرار، وفهم معانيه على مقتضى اللغة، وعلى ما جاء عن الصحابة والتابعين، فهذا أمر مطلوب، وأما الجدال الذي يكون بالباطل، والذي يكون بغير حق، والذي يترتب عليه ضرر وفتن، والذي يترتب عليه ضلال وتنافر بين الناس فهو منهي عنه.
قال صاحب العون:
وقال الإمام ابن الأثير في النهاية: المراء الجدال والتماري، والمماراة المجادلة على مذهب الشك والريبة ويقال للمناظرة مماراة لأن كل واحد منهما يستخرج ما عند صاحبه ويمتريه كما يمتري الحالب اللبن من الضرع.
قال أبو عبيد: ليس وجه الحديث عندنا على الاختلاف في التأويل ولكنه على الاختلاف في اللفظ وهو أن يقول الرجل على حرف، فيقول الآخر ليس هو هكذا ولكنه على خلافه وكلاهما منزل مقروء به، فإذا جحد كل واحد منهما قراءة صاحبه لم يؤمن أن يكون ذلك يخرجه إلى الكفر لأنه نفى حرفا أنزله الله على نبيه. وقيل إنما جاء هذا في الجدال والمراء في الآيات التي فيها ذكر القدر ونحوه من المعاني على مذهب أهل الكلام وأصحاب الأهواء والآراء دون ما تضمنته من الأحكام وأبواب الحلال والحرام، فإن ذلك قد جرى بين الصحابة فمن بعدهم من العلماء وذلك فيما يكون الغرض منه والباعث عليه ظهور الحق ليتبع دون الغلبة والتعجيز انتهى كلامه.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ينقسم الخصام والجدال في الدين إلى قسمين:
الأول: أن يكون الغرض من ذلك إثبات الحق وإبطال الباطل وهذا مأمور به إما وجوبا، أو استحبابا بحسب الحال لقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
الثاني: أن يكون الغرض منه التعنيت، أو الانتصار للنفس، أو للباطل فهذا قبيح منهي عنه لقوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا}. وقوله: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}. ” التعليق على لمعة الاعتقاد “.
قال الامام الذهبي رحمه الله إن كان الجدال للوقوف على الحق وتقريره كان محمودا، وإن كان الجدال في مدافعة الحق، أو كان بغير علم كان مذموما.
” نقلا من كتاب نضرة النعيم ”
….
ملخص الآيات والأحاديث والآثار الواردة في ذم الجدل , وذكر مضار الجدل من كتاب نضرة النعيم والأحاديث كثيرة فلتراجع في نضرة النعيم أو تحت حديث 1318 حيث تم اختيار الأحاديث الصحيحة المتعلقة بالموضوع.
وورد كذلك عن أبي بن كعب في مسلم أنه اختلف مع صحابي آخر في قراءة فبين له النبي صلى الله عليه وسلم – أن القرآن أنزل على سبعة أحرف.
تنبيه علَّلَ ابوحاتم في العلل لفظ: لا تماروا في القرآن فإن مراء فيه كفر. العلل 1782 لكن عندنا حديث أبي هريرة الذي في الصحيح المسند خالي من العلة.
تنبيه: نقل محققو العلل كلام ابي عبيد وابن الاثير السابق.
وكذلك نقل كلامهما أحمد شاكر في تحقيقه لمسند أحمد.
وقال المناوي في التيسير (ولا تماره) أي تلو عليه وتخالفه أو تجادله ولا تغالبه فإن ذلك يورث غلا ووحشة بل استعمل معه الرفق والحلم فإن النفوس تظهر في المتمارين والكامل كلما رأى نفس صاحبه ثائره قابلها بالقلب وإذا قوبلت النفس بالقلب ذهبت الوحشة وخمدت الفتنة.
تحريم المراء في القرآن الكريم
وهذا بحث لبعض الأخوة حول الجدال والمراء:
قال ابن عبدالبر في كتابه جامع بيان العلم وفضله: (باب: ما تكره فيه المناظرة والجدال والمراء: قال أبو عمر: الآثار كلها في هذا الباب المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم إنَّما وردت في النهي عن الجدال والمراء في القرآن.
وروى سعيد بن المسيب وأبو سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: {المراء في القرآن كفر} … والمعنى: أن يتمارى اثنان في آية، يجحدها أحدهما ويدفعها ويصير فيها إلى الشك، فذلك هو المراء الذي هو كفر.
وأمَّا التنازع في أحكام القرآن ومعانيه فقد تنازع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من ذلك، وهذا يبيّن لك أن المراء الذي هو الكفر هو الجحود والشك كما قال الله عزوجل: {وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} [الحج: 55].
والمراء والملاحاة غير جائز شيء منهما، وهما مذمومان بكل لسان، ونهى السلف – رضي الله عنهم – عن الجدال في الله جل ثناؤه وفي صفاته وأسمائه … .
عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما ضلّ قوم بعد هدى إلاَّ لُقِّنُوا الجدل}، ثُمَّ قرأ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]).
المراء والامتراء والمماراة: المحاجّة فيما فيه مرية.
والمرية: التردد في الأمر والشك فيه، قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُ ا؟ لَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} [الحج: 55]، وقال تعالى: {فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاَءِ} [هود: 109]، وقال سبحانه: {فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ} [السجدة: 23]، وقال جل وعلا: {أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ} [فصلت: 54].
ومن ذلك قوله تعالى: {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَأَىءً ظَاهِرًا} [الكهف: 18] أي: لاتجادل وتحاجج.
وقوله سبحانه: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم: 53] أي: أفتجادلونه مجادلة الشاكين المتحيِّرين لا الكائنين على بصيرةٍ فيما تخاصمون فيه.
وقرئ: {أفَتَمْرُونَه} وفُسِّرَت بالجحود، أي: أفتجحدونه؟).
وقد اختلف العلماء في تأويل حديث: {المراء في القرآن كفر} على أقوال:
القول الأول: أن معنى المراء في القرآن: الشك فيه والجحود، وهذا ما عبّر عنه ابن عبدالبر بقوله: (والمعنى أن يتمارى اثنان في آية يجحدها أحدهما ويدفعها ويصير فيها إلى الشك، فذلك المراء الذي هو الكفر … وهذا يبين لك أن المراء الذي هو الكفر هو الجحود والشك كما قال عز وجل: {وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} [الحج: 55]) ا هـ.
ويدخل في هذا الجدال المشكِّك؛ وذلك أنه إذا جادل في القرآن أدّاه إلى أن يرتاب في الآي المتشابهة منه، فيؤديه ذلك إلى الجحود، فسمّاه كفراً باسم ما يُخشى من عاقبته إلاَّ من عصمه الله.
القول الثاني: أن المراد المراءُ في قراءته دون تأويله ومعانيه، مثل أن يقول قائل: هذا قرآن أنزله الله تبارك وتعالى، ويقول الآخر: لم ينزله الله هكذا، فيكفر به من أنكره، وقد أنزل الله سبحانه كتابه على سبعة أحرف كلها شافٍ وكافٍ، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن إنكار القراءة التي يسمع بعضهم بعضاً يقرؤها، وتوعدهم بالكفر عليها لينتهوا عن المراء فيه والتكذيب به؛ إذ كان القرآن منزلاً على سبعة أحرف، وكلها قرآن منزل يجوز قراءته ويجب علينا الإيمان به.
ويؤيد هذا القول سبب ورود الحديث وهو ما رواه الإمام أحمد عن أبي جهيم الأنصاري أن رجلين اختلفا في آية من القرآن؛ قال هذا: تقليتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال هذا تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألا النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
{القرآن يقرأ على سبعة أحرف، فلاتماروا في القرآن فإن مراءً في القرآن كفر}.
وهذا ما اختاره الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام حيث قال: (وجه الحديث عندنا ليس على الاختلاف في التأويل ولكنه عندنا على الاختلاف في اللفظ، على أن يقرأ الرجل القراءة على حرف، فيقول له الآخر: ليس هكذا ولكنه كذا على خلافه.
وقد أنزلهما الله جميعاً … فإذا جحد هذان الرجلان كل واحد منهما ما قرأ صاحبه لم يؤمن – أو قال: يَقْمَن – أن يكون ذلك قد أخرجه إلى الكفر لهذا المعنى).
ثُمَّ ذكر بسنده عن أبي العالية الرياحي أنه كان إذا قرأ عنده إنسان لم يقل: ليس هو كذا، ولكن يقول: أمَّا أنا فاقرأ هكذا؛ فلما ذُكر ذلك لإبراهيم، قال: أراه قد سمع أنه من كفر يحرف فقد كفر به كله.
القول الثالث: أن المراد الجدالُ بالقرآن في الآي التي فيها ذكر القدر والوعيد، وما كان في معناهما على مذهب أهل الكلام والجدل، وما يجري بينهم من الخوض في تلك المسائل التي مبناها على الاعتقاد والتسليم.
وأمَّا آيات الأحكام والحلال والحرام فلاتدخل في معنى الحديث؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تنازعوها فيما بينهم، وتحاجُّوا بها عند اختلافهم في الأحكام، ولم يتحرجوا عن التناظر بها وفيها، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}، فعُلم أن النهي منصرف إلى غير هذا الوجه، والله أعلم.
قال ابن عبدالبر – رحمه الله -: (وأمَّا التنازع في أحكام القرآن ومعانيه فقد تنازع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من ذلك).
وقال: (وأمَّا الفقه فأجمعوا على الجدال فيه والتناظر؛ لأنه علم يُحتاج فيه إلى رد الفروع على الأصول للحاجة إلى ذلك، وليس الاعتقادات كذلك؛ لأن الله عز وجل لا يوصف عند الجماعة أهل السنة إلاَّ بما وصف به نفسه أو وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أجمعت الأمة عليه، وليس كمثله شيء فيدرك بقياس أو بإمعان نظر).
وقال – رحمه الله -: (وقد أجمع أهل العلم بالسنن والفقه – وهم أهل السنة – على الكف عن الجدال والمناظرة فيما سبيله الاعتقاد مِمَّا ليس تحته عمل، وعلى الإيمان بمتشابه القرآن والتسليم له، ولما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث الصفات كلها وما كان في معناها، وإنَّما يبيحون المناظرة في الحلال والحرام ومسائل الأحكام).
ومِمَّا سبق يعلم أن آيات العقائد – كآيات القدر والوعيد والأسماء والصفات – لايجوز المراء والجدال فيها لأمرين:
أحدهما: أن هذه الآيات سبيلها التسليم والاعتقاد.
الثاني: أن الجدال والمراء فيها يؤدي إلى الانسلاخ من الدين، بسبب الدخول في مباحث لا يدركها العقل، والخوض في ذات الله ووصفه بما لا يليق به تعالى.
قال ابن عبدالبر – رحمه الله -: (قال أبو عمر: وتناظر القوم وتجادلوا في الفقه ونهوا عن الجدال في الاعتقاد؛ لأنه يؤول إلى الانسلاخ من الدين، بسبب الدخول في مباحث لا يدركها العقل، والخوض في ذات الله ووصفه بما لا يليق به تعالى.
قال ابن عبد البر – رحمه الله -: (قال أبو عمر: وتناظر القوم وتجادلوا في الفقه ونهوا عن الجدال في الاعتقاد، لأنه يؤول إلى الانسلاخ من الدين، ألا ترى مناظرة بشر في قول الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] قال: هو بذاته في كل مكان، فقال له خصمه: فهو في قلنسوتك وفي حشك وفي جوف حمارك – تعالى الله عما يقول – حكى ذلك وكيع، وأنا – والله – أكره أن أحكي كلامهم قبحهم الله، فعن هذا وشبهه نهى العلماء، وأمَّا الفقه فلا يوصل إليه ولا ينال أبداً دون مناظرة فيه وتفهم له).
أخرج الإمام أحمد في مسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: لقد جلست أنا وأخي مجلساً ما أحب أنّ لي به حُمْرَ النَّعَم، أقبلت أنا وأخي، وإذا مَشْيَخَةٌ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوسٌ عند باب من أبوابه، فكرهنا أن نفرق بينهم، فجلسنا حَجْرَةً، إذ ذكروا آية من القرآن، فتماروا فيها، حتى ارتفعت أصواتهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مُغْضَباً، قد احمرّ وجهه، يرميهم بالتراب، ويقول: {مهلاً يا قوم، بهذا أهلكت الأمم من قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربِهم الكتب بعضها ببعض، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضاً، بل يُصَدِّق بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه}.
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر، هذا يَنْزِعُ آية وهذا ينزعُ آية، ثُمَّ ذكر معنى الحديث.
وهناك قول رابع في معنى الحديث، وهو: أن المرادَ المراءُ والجدال في القرآن: هل هو خالق أو مخلوق؟.
فالخوض في هذه المسألة والمراء والجدال فيها من البدع المحدثة التي لم تكن موجودة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، حتى ظهرت البدع وانتشرت وكثُر أهل الكلام والجدال الذين لا همّ لهم إلاَّ الخوض في مثل هذه المسائل التي تشبه السؤال والبحث في مسألة الاسم والمسمى هل هما شيء واحد؟ أو أن الإسم غير المسمى؟!.
ذكر ابن عبد البر بسنده عن الشافعي أنه قال: إذا سمعت الرجل يقول: الإسم غير المسمى أو الاسم المسمّى فاشهد عليه أنه من أهل الكلام ولا دين له.
وذكر بسنده أيضاً عن سليم بن منصور بن عمّار قال: كتب بشر المريسي إلى أبي – رحمه الله -: أخبرني عن القرآن أخالق أم مخلوق؟ فكتب إليه أبي: بسم الله الرحمن الرحيم: عافانا الله وإياك من كل فتنة، وجعلنا وإياك من أهل السنة، وممن لايرغب بدينه عن الجماعة، فإنه إن يفعل فأولى بها نعمة، وإلاَّ يفعل فهي الهلكة، وليس لأحد على الله بعد المرسلين حجة.
ونحن نرى أن الكلام في القرآن بدعة تشارك فيها السائل والمجيب، تعاطى السائل ما ليس له، وتكلّف المجيب ما ليس عليه، ولا أعلم خالقاً إلاَّ الله، والقرآن كلام الله، فانْتَهِ أنت والمختلفون فيه إلى ما سماه الله به تكن من المهتدين، ولاتسم القرآن باسم من عندك، فتكون من الهالكين، جعلنا الله وإياك من الذين يخشونه بالغيب، وهم من الساعة مشفقون. ا هـ.
قال الإمام الطحاوي – رحمه الله -: (ولا نجادل في القرآن، ونشهد أنه كلام رب العالمين، نزل به الروح الأمين، فعلّمه سيد المرسلين محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو كلام الله تعالى لا يساويه شيء من كلام المخلوقين ولا نقول بخلقه، ولا نخالف جماعة المسلمين) ا هـ.
قال ابن عبد البر: (قال أبو عمر: ماجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من نقل الثقات وجاء عن الصحابة وصحّ عنهم فهو علم يدان به، وما أُحدث بعدهم ولم يكن له أصل فيما جاء عنهم فبدعة وضلالة، وما جاء في أسماء الله وصفاته عنهم سُلِّمَ له ولم يُناظر فيه كما لم يناظروا.
قال أبو عمر: رواها السلف وسكتوا عنها وهم كانوا أعمق الناس علماً وأوسعهم فهماً وأقلهم تكلفاً، ولم يكن سكوتهم عن عيّ، فمن لم يسعه ما وسعهم فقد خاب وخسر) ا هـ.
فهذا مجموع ما وجدته من أقوال للعلماء في معنى حديث {المراء في القرآن كفر} وهي كلها صحيحة، ولفظ الحديث يحتملها جميعاً، ولا تعارض بينها، بل هي أقوال متفقة غير مختلفة، فالمراء في القرآن كفرٌ على كل قول من الأقوال السابقة.
ومن المراء في القرآن الذي هو كفرٌ أيضاً المراءُ في تنزيله، وذلك بأن يمتري أحدٌ ويشك في كون القرآن منزلاً من الله رب العالمين، فهذا كفرٌ أيضاً؛ لأنه شكٌّ فيما أخبر الله به كما قال سبحانه: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة: 2].
ومن المراء المحرم في القرآن أن يحمل الآية على معنى ضعيف يخالف الحق، ويناظر على ذلك مع ظهورها له في خلاف ما يقول.
قال النووي في التبيان: (يحرم المراء في القرآن والجدالُ فيه بغير حق؛ ومن ذلك أن تظهر له دلالة الآية على شيء يخالف مذهبه، ويحتمل احتمالاً ضعيفاً موافقة مذهبه، فيحملها على مذهبه، ويناظر على ذلك مع ظهورها له في خلاف ما يقول، وأمَّا من لا يظهر له ذلك فهو معذور، وقد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {المراء في القرآن كفر}) ا هـ.
وقال باحث آخر:
وذكر محمد بن الحسين الآجري في كتابه الشريعة باباً في النهي عن المراء في القرآن، ومما قاله فيه:
(قال محمد بن الحسين: فإن قال قائل: عرفنا هذا المراء الذي هو كفر، ما هو؟
قيل له: نزل هذا القران على رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبعة أحرف، ومعناها: على سبع لغات، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقن كل قبيلة من العرب على حسب ما يحتمل من لغتهم، تخفيفاً من الله عز وجل ورحمة بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فكانوا ربما إذا التقوا، يقول بعضهم لبعض: ليس هكذا القرآن، وليس هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعيب بعضهم قراءة بعض، فنهوا عن هذا، وقيل لهم: اقرؤوا كما علمتم، ولا يجحد بعضكم قراءة بعض، واحذروا الجدال والمراء فيما قد تعلمتم.
والحجة فيما قلنا:
حدثنا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد قال: حدثنا أبو هشام محمد بن يزيد الرفاعي قال: حدثنا أبو بكر بن عياش قال: حدئنا عاصم عن زر، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قلت لرجل: أقرئني من الأحقاف ثلاثين آية، فأقرأني خلاف ما أقرأني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقلت لآخر أقرئني ثلاثين آية من الأحقاف فأقرأني خلاف ما أقرأني الأول، فأتيت بهما النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب، و علي بن أبي طالب رضي الله عنه جالس عنده، فقال علي رضي الله عنه: قال عليه الصلاة والسلام لكم: اقرؤوا كما علمتم.
و حدثنا أيضاً أبو محمد يحيي بن صاعد قال: حدثنا أحمد بن شعبان القطان قال: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا شريك، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة، فدخلت المسجد فقلت: أفيكم من قرأ؟ فقال رجل من القوم: أنا، فقرأ السورة التي أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يقرأ بخلاف ما أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والرجل، وإذا عنده علي رضي الله عنه، فقلنا: يا رسول الله، اختلفنا في قراءتنا، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال علي رضي الله عنه: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما هلك من كان قبلكم بالأختلاف، فليقرأ كل رجل منكم ما أقراء.
و حدثنا إبراهيم بن موسى الجوزقي قال: حدثنا إبراهيم بن يعقوب الدورقي قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: أخبرنا مالك بن أنس، عن الزهري، عن عروة، عن عبد الرحمن عبد القاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت هشام بن حكيم رضي الله عنه يقرأ سورة الفرقان في الصلاة على خلاف ما أقرؤها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها، فأخذت بثوبه، فذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يارسول الله، إني سمعت هذا يقرأ الفرقان على غير ما أقرأتنيها، فقال عليه الصلاة والسلام: اقرأ، فقرأ القراءة التي سمعتها منه، فقال صلوات الله وسلامه عليه: هكذا أنزلت، إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه.
قال محمد بن الحسين: فصار المراء في القرآن كفراً بهذا المعنى، يقول هذا: قراءتي أفضل من قراءتك، ويقول الآخر: بل قراءتي أفضل من قراءتك، ويكذب بعضهم بعضاً، فقيل لهم: ليقرأ كل إنسان كما علم، ولا يعب بعضكم قراءة غيره، واتقوا الله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، واعتبروا بأمثاله، واحلوا حلاله، وحرموا حرامه.
وقد ذكرت في تأليف كتاب المصحف: مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه، الذي اجتمعت علبه الأمة، والصحابة رضي الله عنهم، ومن بعدهم من التابعين، وأئمة المسلمين رحمة الله تعالى عليهم في كل بلد، وقول السبعة الأئمة في القرآن ما فيه كفاية، ولم أحب ترداده هاهنا، وإنما مرادي ههنا ترك الجدال والمراء في القرآن، فإنا قد نهينا عنه، ولا يقول إنسان في القران برأيه، ولا يفسر القرآن إلا بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن أحد من صحابته رضي الله عنهم، أو عن أحد من التابعين رحمة الله تعالى عليهم، أو عن إمام من أئمة المسلمين، ولا يماري ولا يجادل.
فإن قال قائل: فإنا قد نرى الفقهاء يتناظرون في الفقه، فيقول أحدهم: قال الله عز وجل كذا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فهل يكون هذا من المراء؟
قيل: معاذ الله، ليس هذا مراء، ولكن الفقيه ربما ناظره الرجل في مسألة، فيقول له، على جهة البيان والنصيحة: حجتنا فيه: قال الله عز وجل كذا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم كذا، على جهة النصيحة والبيان، لا على جهة المماراة، فمن كان هكذا، ولم يرد المغالبة، ولا أن يخطاء خصمه ويستظهر عليه سلم، وقبل إن شاء الله تعالى كما ذكرنا في هذا الباب والذي قبله.
قال الحسن: المؤمن لا يداري ولا يماري، ينشر حكمة الله عز وجل، فإن قبلت حمد الله عز وجل وإن ردت حمد الله عز وجل وعلا.
وبعد هذا فأكره الجدال والمراء ورفع الصوت في المناظرة في الفقه إلا على الوقار والسكينة الحسنة.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: تعلموا العلم، وتعلموا للعلم السكينة والحلم، وتواضعوا لمن تتعلمون منه، وليتواضع لكم من تعلمونه، ولا تكونوا جبابرة العلماء، فلا يقوم علمكم بجهلكم.)
ومما له صلة بهذا الموضوع: ما أورده ابن بطة في كتابه الإبانة الكبرى في باب: النهي عن المراء في القرآن؛ فقد ذكر روايات حديث الباب، ثم قال:
(قَالَ الشَّيْخُ: فَالْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ الْمَكْرُوهُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَيَتَخَوَّفُ عَلَى صَاحِبِهِ الْكُفْرَ وَالْمُرُوقَ عَنِ الدِّينِ يَنْصَرِفُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَدْ كَانَ , وَزَالَ وَكَفَى الْمُؤْمِنِينَ مَئُونَتَهُ , وَذَلِكَ بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ , ثُمَّ بِجَمْعِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ بِاللُّغَاتِ الْمَشْهُورَةِ الْمَعْرُوفَةِ , وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ لَهُ: ” أَقْرِئْ أُمَّتَكَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ , وَكُلُّهَا سِيَّانِ , يَعْنِي عَلَى سَبْعِ لُغَاتِ الْعَرَبِ , كُلُّهَا صَحِيحَةٌ وَفَصِيحَةٌ , إِنِ اخْتَلَفَ لَفْظُهَا اتَّفَقَتْ مَعَانِيهَا , فَكَانَ يُقْرِئُ كُلَّ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ بِحَرْفٍ يُوَافِقُ لُغَتَهُ , وَبِلِسَانِ قَوْمِهِ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ , فَكَانَ إِذَا الْتَقَى الرَّجُلَانِ فَسَمِعَ أَحَدُهُمَا يَقْرَأُ بِحَرْفٍ لَا يَعْرِفُهُ , وَقَدْ قَرَأَ هُوَ ذَلِكَ الْحَرْفَ بِغَيْرِ تِلْكِ اللُّغَةِ أَنْكَرَ عَلَى صَاحِبِهِ , وَرُبَّمَا قَالَ لَهُ: حَرْفِي خَيْرٌ مِنْ حَرْفِكَ , وَلُغَتِي أَفْصَحُ مِنْ لُغَتِكَ , وَقِرَاءَتِي خَيْرٌ مِنْ قِرَاءَتِكَ , فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَقِيلَ لَهُمْ: لِيَقْرَا كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ كَمَا عَلِمَ , وَلَا تَمَارَوْا فِي الْقُرْآنِ , فَيَقُولُ بَعْضُكُمْ: حَرْفِي خَيْرٌ مِنْ حَرْفِكَ , وَلَا قِرَاءَتِي صَوَابٌ وَقِرَاءَتُكَ خَطَأٌ , فَإِنَّ كُلًّا صَوَابٌ , وَكَلَامُ اللَّهِ فَلَا تُنْكِرُوهُ , وَلَا يَرُدُّ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ , فَيُكَذِّبُ بِالْحَقِّ , وَيَرُدُّ
الصَّوَابَ الَّذِي جَاءَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , فَإِنَّ رَدَّ كِتَابِ اللَّهِ وَالتَّكْذِيبَ بِحَرْفٍ مِنْهُ كُفْرٌ , فَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ مِنَ الْمِرَاءِ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ قَدِ ارْتَفَعَ ذَلِكَ , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَجَمَعَ اللَّهُ الْكَرِيمُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْإِمَامِ الَّذِي جَمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى صِحَّتِهِ وَفَصَاحَةِ لُغَاتِهِ , وَهُوَ الْمُصْحَفُ الَّذِي جَمَعَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ , وَتَرَكَ مَا خَالَفَهُ , وَذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ , وَأَهْلُ بَدْرٍ وَالْحُدَيْبِيَةِ الَّذِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ , وَرَضُوا عَنْهُ , وَسَأَذْكُرُ الْحُجَّةَ فِيمَا قُلْتُ , وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ) ثم ذكر بعضاً من روايات حديث نزول القرآن على الأحرف السبعة، والتي فيها النهي عن المراء في القرآن.
ثم قال: (قَالَ الشَّيْخُ: فَهَذَا بَيَانُ الْمِرَاءِ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي يُخَافُ عَلَى صَاحِبِهِ الْكُفْرُ , وَقَدْ كُفِيَ الْمُسْلِمُونَ بِحَمْدِ اللَّهِ الْمِرَاءَ فِي هَذَا الْوَجْهِ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى الْمُصْحَفِ الَّذِي مَنْ خَالَفَهُ نَدَّ وَشَرَدَ وَشَذَّ , فَلَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ , وَلَمْ يَعْبَأِ اللَّهُ بِشُذُوذِهِ , وَقَدْ بَقِيَ الْمِرَاءُ الَّذِي يَحْذَرُهُ الْمُؤْمِنُونَ , وَيَتَوَقَّاهُ الْعَاقِلُونَ , وَهُوَ الْمِرَاءُ الَّذِي بَيْنَ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ وَأَهْلِ الْمَذَاهِبِ , وَالْبِدَعِ , وَهُمُ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ , وَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ , وَابْتِغَاءَ تَاوِيلِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ , يَتَأَوَّلُونَهُ بِأَهْوَائِهِمْ , وَيُفَسِّرُونَهُ بِأَهْوَائِهِمْ , وَيَحْمِلُونَهُ عَلَى مَا تَحْمِلُهُ عُقُولُهُمْ فَيَضِلُّونَ بِذَلِكَ , وَيُضِلُّونَ مَنِ اتَّبَعَهُمْ عَلَيْهِمْ *
قال بعض شوخنا المعاصرين: المراء كفر أكبر إذا كان على وجه الشك، ومحرم إذا كان على وجه التنازع والاختلاف.
تنبيه: قد يستعمل المراء ويقصد به الجدال الممدودح:
فمن التماري للتوصل للحق ما ورد أن الحر بن قيس وابن عباس تماريا في الخضر
فيبعد عليهما أنهما أرادا المراء المذموم وهما من هما في المنزلة والعلم. أو أن الراوي توسع في لفظ المراء.
ورد في فتوى لأحد المشايخ في جامعة محمد بن سعود:
العنوان الفرق بين المراء والجدال
السؤال
ما معنى حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: “أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا ….. ” وما هو الفرق بين المراء والجدال؟ وكيف نعرف بأن الشخص يماري أو يجادل؟.
الجواب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
روى أبو داود عن أبي أمامة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال
“أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسَّن خُلُقَه ” رواه أبو داود، في كتاب: الأدب، باب: في حسن الخلق، رقم الحديث: (4800).
هذا الحديث من جوامع الكلم الذي أوتيه النبي -صلى الله عليه وسلم -، وقد اشتمل هذا الحديث – على إيجازه واختصاره – على أصول الأدب، وجوامع حسن الخلق، وكيفية التعامل مع الناس، وقرن فيه النبي صلى الله عليه وسلم الجزاء والأجر لمن عمل بما جاء فيه، حيث تكفّل نبينا -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث بثلاثة بيوت في الجنة:
البيت الأول: في ربض الجنة، أي: أسفل الجنة، لمن ترك المراء وإن كان على حق.
البيت الثاني: في وسط الجنة، لمن ترك الكذب في كل موضع لا يجوز فيه، وإن كان مازحاً، وهذا الأمر مما يخالف فيه كثيرٌ من الناس حيث يسمحون لأنفسهم بالكذب، ويعللون ذلك بأنهم مازحون.
البيت الثالث: في أعلى الجنة، لمن حسَّن خُلُقَه، أي سعى في تحسين أخلاقه، وابتعد عن كل ما يدنسها ويفسدها، وترك جميع ما يخالف فطرة الله التي فطر الناس عليها.
ومكان الشاهد في هذا الحديث ما يتعلق بالمراء، فقد رغّب النبي -صلى الله عليه وسلم- في تركه ورتب على ذلك الأجر العظيم، كما نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في أحاديث أخرى، ومنها:
ما رواه أحمد (8630) من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:”لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب في المزاح، ويترك المراء وإن كان صادقا”.
وما رواه الترمذي (1995) عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:”لا تمار أخاك “.
وفي هذه الأحاديث ونحوها يحذر النبي صلى الله عليه وسلم من جميع الأمور التي لا تناسب المسلم ولا يصلح أن تكون من أخلاقه، ومن تلك الأخلاق غير المرضية: المراء، والمقصود به في اللغة: استخراج غضب المجادل، من قولهم: مريت الشاة، إذا استخرجت لبنها، وحقيقة المراء المنهي عنه: طعن الإنسان في كلام غيره؛ لإظهار خلله واضطرابه، لغير غرض سوى تحقير قائله وإظهار مزيته عليه. وإن كان المماري على حق، فإنه لا يجوز له أن يسلك هذا السبيل؛ لأنه لا يقصد من ورائه إلا تحقير غيره والانتصار عليه.
أما الجدال فهو من الجدل، والجدل في اللغة: اللدد في الخصومة والقدرة عليها، وحقيقة الجدل في الاصطلاح الشرعي: فتل الخصم ورده بالكلام عن قصده الباطل. وهو مأمور به على وجه الإنصاف وإظهار الحق، قال ابن الجوزي في كتابه الإيضاح:
اعلم – وفقنا الله وإياك – أن معرفة هذا العلم لا يستغني عنها ناظر، ولا يتمشى بدونها كلام مناظر؛ لأن به تتبين صحة الدليل من فساده، تحريراً وتقريراً، ولو ترك هذا العلم لأدى إلى الخبط وعدم الضبط.
وقد تكلم العلماء عن الجدل والمجادلة كثيراً، وألفوا فيها المؤلفات، وبينوا أهدافها ومقاصدها، ورسموا آدابها وأخلاقها، ومن ذلك ما قاله ابن الجوزي في كتابه الإيضاح: أول ما تجب البداءة به: (حسن القصد في إظهار الحق طلبا لما عند الله تعالى، فإن آنس من نفسه الحيد عن الغرض الصحيح فليكفّها بجهده، فإن ملكها، وإلا فليترك المناظرة في ذلك المجلس، وليتق السباب والمنافرة فإنهما يضعان القدر، ويكسبان الوزر، وإن زل خصمه فليوقفه على زلله، غير مخجل له بالتشنيع عليه، فإن أصر أمسك، إلا أن يكون ذلك الزلل مما يحاذر استقراره عند السامعين، فينبههم على الصواب فيه بألطف الوجوه جمعا بين المصلحتين) أ. هـ.
وهذا النوع من المجادلة مأمور به، ومن الأدلة عليه قوله تعالى:” وجادلهم بالتي هي أحسن” [النحل: 125]، وقوله: “ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن” [العنكبوت: 46]، وقوله:”قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين” [البقرة: 111]، وقد فعله الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كابن عباس – رضي الله عنهما- لما جادل الخوارج والحرورية، ورجع منهم خلق كثير، وفعله السلف أيضا كعمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، فإنه جادل الخوارج أيضاً.
وأما الجدال الذي يكون على وجه الغلبة والخصومة والانتصار للنفس ونحو ذلك فهو منهي عنه، وعليه تحمل الأدلة التي تنهى عن الجدال، كقوله -صلى الله عليه وسلم – الذي رواه أحمد والترمذي وابن ماجة:” ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أُوتوا الجدل”، ثم تلا قوله تعالى”ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون” أخرجه الترمذي (3253)، وابن ماجة (48) من حديث أبي أمامة –رضي الله عنه-.
وهذا النوع من الجدال هو الجدال بالباطل فيكون كالمراء، وكلاهما محرم وبهذا يتضح الفرق بين المراء والجدال، وأن المراء منهي عنه ومذموم على كل حال؛ لأنه لا يقصد منه تبيين الحق، وإنما يقصد به الانتصار على الآخرين وتحقيرهم وإذلالهم.
أما الجدال فله حالتان: الأولى: الجدال المحمود، وهو الذي يكون لتبيين الحق وإظهاره، ودحض الباطل وإسقاطه، وهو الذي أمرت به الأدلة الشرعية، وفعله العلماء قديماً وحديثاً.
الثانية: الجدال المذموم، وهو الذي يقصد به الغلبة
والانتصار للنفس ونحو ذلك وهو الذي تحمل عليه الأدلة الشرعية الناهية عن الجدال، ويكون الجدال هنا كالمراء، وكلاهما محرم.
ويمكن للإنسان أن يعرف أن الشخص يماري أو يجادل من خلال طريقته في الكلام، وموقفه مما يُعرض عليه من الأدلة والحجج.
فالذي يجادل من أجل بيان الحق يقبل الأدلة الصحيحة ويعمل بمقتضاها إلا إذا كان عنده ما يعارضها مما هو أقوى منها، ولذلك فإنك تجد كثيراً ممن يجادلون بالحق يرجعون عن أقوالهم إذا تبين لهم خطؤها ويأخذون بقول الآخرين؛ لأن هدفهم الوصول إلى الحق لا الانتصار للنفس.
أما الذي يماري فتجده يصر على رأيه من غير دليل، ولا يقبل من الأدلة إلا ما يوافق رأيه، ولذا فإنه يتكلف في رد الأدلة وتأويلها وصرفها عن دلالاتها ونحو ذلك مما يدل على أنه لا يريد الحق، وإنما يقصد الانتصار لنفسه وتحقير غيره.
والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.