86. فتح الأحد الصمد شرح الصحيح المسند
مشاركة ابراهيم البلوشي وأبي عيسى البلوشي وعبدالله المشجري … وعبدالله الديني واحمد بن علي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
الصحيح المسند
86 – قال الإمام أحمد رحمه الله (ج 3 ص 210): حدثنا سليمان حدثنا شعبة حدثنا قتادة عن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال «يقول الله عز وجل أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني».
قال الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله: هذا حديث صحيحٌ. وسليمان شيخ الإمام أحمد هو سليمان بن داود أبو داود الطيالسي كما ذكره بكنيته (ج 2 ص 277)، وهو من الأحاديث الكثيرة في “المسند” التي تكررت سندًا ومتنًا.
والحديث أخرجه أبو يعلى (ج 6 ص 12) فقال رحمه الله: حدثنا أحمد، حدثنا أبو داود، [ص: 82] حدثنا شعبة، عن قتادة، سمع أنسًا يحدث … فذكره، وشيخ أبي يعلى هو أحمد بن يعقوب الدورقي.
——–
دراسة الحديث رواية:
1 – الحكم على حديث الباب:
* قال الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة تحت حديث رقم 2012: ” أخرجه أحمد (3/ 210، 277) بسند صحيح على شرط مسلم”.
* قال محققو مسند أحمد (20/ 418): ” إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير سليمان -وهو الطيالسي- فمن رجال مسلم. وسيتكرر برقم (13939).
وأخرجه أبو يعلى (3232) من طريق أبي داود الطيالسي، بهذا الإسناد.
وأخرجه الطبراني في “الدعاء” (17) من طريق عمرو بن مرزوق، عن شعبة، به”.
* صححه محقق مسند أبي يعلى 3232.
2 – أحاديث في الباب:
* أخرج البخاري في صحيحه 7405 ومسلم في صحيحه 2675 عن أبي هريرة رضي الله عنه في الحديث القدسي: ” يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً ”
– وجاء في مسلم 2675 بمثل لفظ حديث أنس الذي في الباب لكنه من روايات حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن الله يقول: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني”.
* جاءت رواية في صحيح ابن حبان 639 من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله جل وعلا يقول: أنا عند ظن عبدي بي إن ظن خيرا فله وإن ظن شرا فله) [الصحيحة” (1663) وقال الأرناؤوط في تخريج صحيح ابن حبان: إسناده صحيح على شرط مسلم].
* أورد ابن الأثير في جامع الأصول (9/ 555) روايات حديث أبي هريرة 7301 – (خ م) أبو هريرة – رضي الله عنه – أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «قال الله عز وجل: إذا تقرَّب عبدي مني شِبرا، تقرَّبْتُ منه ذِراعا، وإذا تقرَّب مني ذِراعا، تقرَّبتُ منه باعا – أو بُوعا – وإذا أتاني يمشي أتيته هَرْوَلَة».
وفي رواية قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسِه ذَكَرْتُه في نفسي، وإن ذكرني في مَلإ، ذَكَرْتُه في ملإ هم خير منهم، وإن تقرَّب إليَّ [ص:556] شبرا، تقرَّبتُ إليه ذراعا، وإن تقرَّب إليَّ ذراعا تقرَّبت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيتُه هَرْوَلَة».
وفي رواية للبخاري – مختصرا – أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «أنا عندَ ظنِّ عبدي بي» لم يزد، وأخرجها مسلم، وزاد «وأنا معه إذا دعاني».
ولمسلم أيضا: أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «قال الله عز وجل: أنا عند ظَنِّ عبدي بي، وأنا معه حيث يَذْكُرُني، واللهِ لَلَّهُ أفرحُ بتوبةِ عبدِهِ من أحدِكم يجدُ ضالَّته بالفلاة، ومن تقرَّب إليَّ شِبْرا تقرَّبتُ إليه ذِراعا، ومن تقرَّب إليَّ ذراعا تقرَّبتُ إليه باعا، وإذا أقبل إليَّ يمشي، أقبلتُ إليه أُهَرْوِلُ».
وفي أخرى له قال: «إن الله قال: إذا تلقَّاني عبدي بشبْر، تَلقَّيتُهُ بِذِراع، وإذا تلَقَّانِي بذراع تلقَّيتُه بباع، وإذا تَلقَّاني بباع أتيتُهُ بأسرعَ».
ومن أحاديث الرجاء:
* عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قبلَ مَوْتِه بثَلاثَةِ أيّام، يقولُ: ((لاَ يَمُوتَنّ أحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بالله – عز وجل -)) رواه مسلم 2877.
* وعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: ” دخل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على شاب وهو في الموت , فقال: كيف تجدك؟ ” , قال: والله يا رسول الله إني أرجو الله، وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ” لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن، إلا أعطاه الله ما يرجو، وآمنه مما يخاف ” [صحيح الترغيب والترهيب: 3383]
* عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (” يخرج من النار أربعة , فيعرضون على الله – عز وجل -) (فيامر بهم إلى النار) (فيلتفت أحدهم فيقول: أي رب) (قد كنت أرجو إن أخرجتني منها أن لا تعيدني فيها، فيقول: فلا نعيدك فيها ”
وفي رواية: ” فينجيه الله منها ” [ينظر صحيح مسلم 192 ومسند أحمد 13337 – 14073].
دراسة الحديث دراية:
1 – تبويبات الأئمة على حديث الباب وما في معناه:
* بوب البخاري في صحيحه على حديث أبي هريرة المتقدم باب قول الله تعالى {ويحذركم الله نفسه} وأورد تحته من الأحاديث:
عن شقيق عن عبد الله: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما من أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش وما أحد أحب إليه المدح من الله).
· … عن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لما خلق الله الخلق كتب في كتابه وهو يكتب على نفسه وهو وضع عنده على العرش إن رحمتي تغلب غضبي).
* بوب ابن حبان في صحيحه على حديث واثلة بن الأسقع سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن الله جل وعلا قال: (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء) [صححه الأرناؤوط في صحيح ابن حبان 635]، باب ذكر الإخبار عما يجب على المرء من الثقة بالله جل وعلا بحسن الظن في أحواله به.
* وبوب ابن حبان كذلك ذِكْرُ الْبَيَانِ بِأَنَّ مَنْ أَحْسَنَ بِالْمَعْبُودِ كَانَ لَهُ عِنْدَ ظَنِّهِ وَمَنْ أَسَاءَ بِهِ الظَّنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ وأورد تحته حديث واثلة بن الأسقع عَنْ حَيَّانَ أَبِي النَّضْرِ قَالَ خَرَجْتُ عَائِدًا لِيَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ فَلَقِيتُ وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ وَهُوَ يُرِيدُ عِيَادَتَهُ فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَلَمَّا رَأَى وَاثِلَةَ بَسَطَ يَدَهُ وَجَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْهِ فَأَقْبَلَ وَاثِلَةُ حَتَّى جَلَسَ فَأَخَذَ يَزِيدُ بِكَفَّيْ وَاثِلَةَ فَجَعَلَهُمَا عَلَى وَجْهِهِ فقَالَ لَهُ وَاثِلَةُ كَيْفَ ظَنُّكَ بِاللَّهِ قَالَ ظَنِّي بِاللَّهِ وَاللَّهِ حَسَنٌ قَالَ فَأَبْشِرْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا “أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي إِنْ ظَنَّ خَيْرًا وإن ظن شرا” [وهو في الصحيح المسند 1197 وصحح إسناده الأرناؤوط في تحقيق ابن حبان 641].
* بوب النووي في رياض الصالحين باب فضل الرجاء وأورد تحته حديث أبي هريرة وحديث جابر المتقدمين ثم ختم الباب من حديث أنس قَالَ: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، يقول: ((قَالَ الله تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ، إنَّكَ ما دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلاَ أُبَالِي. يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغت ذُنُوبُك عَنَانَ السماءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِي. يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ أتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايا، ثُمَّ لَقَيْتَنِي لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئاً، لأَتَيْتُكَ بقُرَابِها مَغْفِرَةً)) رواه الترمذي، وقال: ((حديث حسن)).
2 – شرح الحديث:
* قال الشيخ فيصل آل مبارك في تطريز رياض الصالحين (ص: 299)
” قوله عزَّ وجل: «أنا عند ظن عبدي بي»، أي في الرجاء، وأمل العفو، «وأنا معه»، أي: بالرحمة، والتوفيق، والإِعانة، والنصر، «حيث ذكرني في نفسه أو في الملأ» “.
* قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله شرح رياض الصالحين (3/ 335)
” ((أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني)). أنا عند ظن عبدي بي: يعني أن الله عند ظن عبده به؛ إن ظن به خيراً فله، وإن ظن به سوى ذلك فله، ولكن متى يحسن الظن بالله عز وجل؟
يحسن الظن بالله إذا فعل ما يوجب فضل الله ورجاءه، فيعمل الصالحات ويحسن الظن بأن الله تعالى يقبله، أما أن يحسن الظن وهو لا يعمل؛ فهذا من باب التمني على الله، ومن أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني فهو عاجز.
حسن الظن بأن يوجد من الإنسان عمل يقتضي حسن الظن بالله عز وجل، فمثلاً إذا صليت أحسن الظن بالله بأن الله يقبلها منك، إذا صمت فكذلك، إذا تصدقت فكذلك، إذا عملت عملاً صالحاً أحسن الظن بأن الله تعالى يقبل منك، أما أن تحسن الظن بالله مع مبارزتك له بالعصيان فهذا دأب العاجزين الذين ليس عندهم رأس مالٍ يرجعون إليه.
ثم ذكر أن الله سبحانه وتعالى أكرم من عبده، فإذا تقرب الإنسان إلى الله شبراً؛ تقرب الله منه ذراعاً، وإن تقرب منه ذراعا ً، تقرب منه باعاً، وإن أتاه يمشي أتاه يهرول عز وجل، فهو أكثر كرما وأسرع إجابة من عبده.
وهذه الأحاديث وأمثالها مما يؤمن به أهل السنة والجماعة على أنه حق حقيقة لله عز وجل، لكننا لا ندري كيف تكون هذه الهرولة، وكيف يكون هذا التقرب، فهو أمر ترجع كيفيته إلى الله، وليس لنا أن نتكلم فيه، لكن نؤمن بمعناه ونفوض كيفيته، إلى الله عز وجل.
* قال الشيخ صالح آل الشيخ في شرح الأربعين النووية (ص: 298)
” والعبد إذا دعا الله -جل وعلا – مستغفرا لذنبه يدعو مستغفرا ومستحضرا أن فضل الله عظيم، وأنه يرجو الله أن يغفر، وأن الله سيغفر له.
فإذا عظم الرجاء بالله، وأيقن أن الله -جل وعلا – سيغفر له، وعظم ذلك في قلبه، حصل له مطلوبه؛ لأن في ذلك إحسان الظن بالله، وإعظام الرغبة بالله -جل وعلا – وهناك عبادات قلبية كثيرة تجتمع على العبد المذنب حين طلبه الاستغفار وقبول التوبة، حين طلبه المغفرة وقبول التوبة، تجتمع عليه عبادات قلبية كثيرة توجب مغفرة الذنوب فضلا من الله -جل وعلا – وتكرما”.
في طرح التثريب للحافظ العراقي وابنه رحمهما الله:
[حديث أنا عند ظن عبدي بي]
الحديث الثاني وعنه قال قال رسول الله: – صلى الله عليه وسلم – «أنا عند ظن عبدي بي» (فيه) فوائد:
(الأولى) أخرجه الأئمة الستة خلا أبا داود من طريق الأعمش عن أبي صالح وأخرجه مسلم والترمذي أيضًا من طريق يزيد بن الأصم كلاهما عن أبي هريرة.
(الثانية) قوله «أنا عند ظن عبدي بي» قال القاضي عياض قيل معناه بالغفران له إذا استغفرني والقبول إذا تاب والإجابة إذا دعاني والكفاية إذا استكفاني لأن هذه الصفات لا تظهر من العبد إلا إذا حسن ظنه بالله وقوي يقينه قال القابسي ويحتمل أن يكون تحذيرًا مما يجري في نفس العبد مثل قوله تعالى {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} [البقرة: 284] وقال الخطابي في قوله «لا يموتن أحدكم إلا، وهو يحسن الظن بالله تعالى» يعني في حسن عمله فمن حسن عمله حسن ظنه ومن ساء عمله ساء ظنه.
وقد يكون من الرجاء وتأميل العفو واقتصر النووي في نقله عن القاضي عياض على القول الذي حكاه أولًا والذي حكاه آخرًا وعبر عنه بقوله وقيل المراد به الرجاء وتأميل العفو. ثم قال وهذا أصح.
وقال أبو العباس القرطبي قيل معناه ظن الإجابة عند الدعاء وظن القبول عند التوبة وظن المغفرة عند الاستغفار وظن قبول الأعمال عند فعلها على شروطها تمسكًا بصادق وعده وجزيل فضله قال ويؤيده قوله – عليه الصلاة والسلام – «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة» وكذلك ينبغي للتائب والمستغفر وللعامل أن يجتهد في القيام بما عليه من ذلك موقنًا أن الله تعالى يقبل عمله ويغفر ذنبه فإن الله تعالى قد وعد بقبول التوبة الصادقة والأعمال الصالحة فأما لو عمل هذه الأعمال، وهو يعتقد، أو يظن أن الله لا يقبلها وأنها لا تنفعه فذلك هو القنوط من رحمة الله واليأس من روح الله، وهو من أعظم الكبائر ومن مات على ذلك وصل إلى ما ظن منه كما قد جاء في بعض ألفاظ هذا الحديث «أنا عند ظن عبدي بي فليظن عبدي بي ما شاء».
فأما ظن الرحمة والمغفرة مع الإصرار على المعصية فذلك محض الجهل والغرة، وهو يجره إلى مذهب المرجئة، وقد قال – عليه الصلاة والسلام – «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله».
والظن تغليب أحد المجوزين بسبب يقتضي التغليب فلو خلا عن السبب المغلب لم يكن ظنًا بل غرةً وتمنيًا انتهى.
(الثالثة) فيه ترجيح جانب الرجاء وأن الإنسان إذا أمل عفو الله وصفحه أعطاه الله أمله وعفا عنه.
وأما قوله تعالى {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} [الزمر: 47] فذلك في حق الكفار وكذلك قوله – عليه الصلاة والسلام – «والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله» أي طلب المغفرة من غير تحفظ ولا توبة ولا تعاطي سبب والمؤمل عفو الله لا يكون أمله إلا عن سبب من توبة واستغفار وتقرب بحسنات تمحو سيئاته فيرجو لحوق الرحمة له ومحو سيئاته.
وقد كان السلف يستحبون استحضار ما يقتضي الرجاء قرب الموت ليحصل معه ظن المغفرة فيدخل في هذا الحديث ونحوه بخلاف زمن الصحة ينبغي فيه استحضار ما يقتضي الخوف ليكون أعون على العمل، وأما حالة الموت فإنه لا عمل فيها فإذا لم يرج أيس وإذا رجا انبسط وحمله ذلك على التوبة والتقرب في تلك الحالة بما أمكنه والله أعلم.
________________
3 – المسائل الأخرى:
* سئل الشيخ ابن باز رحمه الله كما في موقعه الرسمي: السؤال: فيما معنى الحديث سماحة الشيخ: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى يقول: ما معنى حسن الظن بالله، وجهونا في ضوء ذلك؟
فأجاب رحمه الله:
هذا حديث صحيح، رواه مسلم في الصحيح: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن ظنه بالله، والله يقول: أنا عند ظن عبدي بي، والمعنى: أنه يحسن ظنه بالله: أن ربه جواد، وأنه كريم، وأنه غفور رحيم سبحانه، وأنه يتوب على عباده إذا تابوا إليه، وأن فضله عظيم، يحسن ظنه بربه، مع الجد في العمل الصالح مع التوبة.
لا يحسن الظن بالرب، ويقيم على المعاصي لا، يحسن ظنه بربه مع العمل الصالح .. مع التوبة .. مع الجد في الخير، أما إحسان الظن بالله مع الإقدام على المعاصي، والإصرار عليها؛ فهذا غرور لا يجوز، لكن يحسن ظنه بربه أنه يقبل توبته، وأنه يعفو عنه، ويجتهد في أسباب العفو من الصدقة، والرحمة للفقراء، وكثرة الاستغفار .. التوبة، والندم، والإقلاع .. كثرة الأعمال الصالحات مع حسن الظن بالله، يحسن ظنه أن الله يقبلها، وأنه لا يردها سبحانه وتعالى.
* يستفاد من حديث أبي هريرة إثبات صفة القرب لله تعالى.
وينظر في هذا الباب شرح الصحيح المسند 1015 عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ، يَقُولُ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ العَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ»: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ
– ومما جاء فيه:
من موسوعة الألباني في العقيدة:
897] باب إثبات صفة القرب لله عزوجل
وإثبات قيام الأفعال الاختيارية بذاته تعالى
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ص قال: «قال الله عز وجل أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني, والله لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة, ومن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً, ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً, وإذا أقبل إلي يمشي أقبلت إليه أهرول». (صحيح لغيره).قال الإمام الألباني:
فيه دلالة ظاهرة على أن لله قربا يقوم به انظر مجموع الفتاوى 5/ 240 ومنه دنوه عشية عرفة وكل ذلك خاص بالمؤمنين فراجع كلامه فإنه هام جدا. التعليق على الترغيب والترهيب 3/ 1144
……. …………..
وقال ابن عثيمين رحمه الله عن معنى القرب الصحيح ان القرب لا ينقسم و انه خاص بمن يعبد الله تعالى او يدعوه فقط فليس الله تعالى قريبا من الكافر لان القرب وصف اخص من المعية ويدل على عناية تامة وهذا لم يرد القرب موصوفا به الله عز وجل الا في حالة الدعاء قال تعالى: (واذا سألك عبادي عني فأني قريب اجيب دعوة الداعي اذا دعان) وفي حال العبادة ايضا كقول الرسول صلى الله عليه وسلم (اقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) رواه مسلم من حديث ابي هريرة فان قال قائل: اليس الله يقول (ولقد خلقنا الانسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن اقرب اليه من حبل الوريد اذ يتلقى المتلقيان) والانسان هنا يشمل الكافر والمؤمن والداعي وغير الداعي والعابد وغير العابد
فالاجابة قال الشيخ
قلنا ان شيخ الاسلام بن تيميه رحمه الله يقول نحن اقرب اليه بملائكتنا لأنه قيد القرب بقوله تعالى (يتلقى المتلقيان) ولكن يرد على هذا أن يقال كيف يضيف الله عزو جل القرب اليه والمراد قرب ملائكته؟ قلنا لا غرابة كما أضاف الله تعالى إليه القراءة وهي قراءة الملائكة فقال تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فإذا قرأنه فاتبع قرآنه}.
من الذي قرأ جبريل والله تعالى يضيف الشئ لنفسه ومراده ملائكته عزوجل لان ملائكتة يفعلون بأمره فأضيف فعلهم إليه لأن الآمر لهم الله تبارك وتعالى والحاصل كما قال شيخ الاسلام بن تيميه رحمه الله تعالى خاص ولا يكون عاما
من شرح عقيدة اهل السنة والجماعة في باب الايمان بصفتي العلو والمعية.
* ينظر بحث حول الرجاء في القرآن والسنة ومن أقوال السلف وما علامات صحة الرجاء في لطائف التفسير (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)
[سورة آل عمران 30]
لطيفة: الرجاء في هذه الآية أعظم فقدم ذكر الحسنات وختمت بالرأفة العامة للعباد ينالها من قدم الخير وأخر الشر، فرجحت حسناته على سيئاته. ومن غلبت سيئاته ولم يأت بالشرك الأكبر فهو تحت المشيئة.
ثم السوء والتحذير من غضب الله محاط بالحسنات والرأفة. فقدم الحسنات ولو ارتكبت المعاصي أختم بطلب الرأفة يزول ما بينهما من السيئات والغضب.
ولا تحتاج الحسنات لاحضارها بطلب منك بل تجدها حاضرة.
أما السيئات فجعل الله لك فرصة أن تكون بعيدة عنك أمدا بعيدا فلعل الله أن يبعدها
والآية فيها الجمع بين الرجاء والخوف.
* من البحوث المتعلقة بالرجاء في مجموعة السلام:
تعريف الرجاء: هو تعلق القلب بحصول شيء محبوب في المستقبل.
وقيل: هو الاستبشار بجود الله وفضله، والطمع في إحسانه وعطائه، مع بذل الجهد وحسن التوكل.
الفرق بين الرجاء والتمنِّي:
• الرجاء: يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل.
• التمني: يكون مع الكسل وترك العمل.
فمَن بذل الأسباب بفعل الطاعات وترك المحرَّمات، منتظرًا لرحمة الله تعالى وجوده وكرمه وإحسانه، فهذا هو الراجي، أما مَن انتظر شيئًا بدون بذل الأسباب، فلا يسمى راجيًا بل متمنيًا.
قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123].
فليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل؛ قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
قال صلى الله عليه وسلم: ((الكيِّس مَن دان نفسه وعمِل لما بعد الموت، والعاجز مَن أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني))؛ حديث حسن، (سنن الترمذي 249).
قال ابن القيم رحمه الله: “أجمع العارفون على أن الرجاء لا يصلح إلا مع العمل”؛ (مدارج السالكين).
منزلة الرجاء:
الرجاء عبادةٌ قلبية من أعظم العبادات، وعليه وعلى الحب والخوف مدارُ السَّير إلى الله تعالى؛ {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57]، فابتغاء الوسيلة إليه: طلب القرب منه بالعبودية والمحبة، فذكر مقامات الإيمان الثلاثة التي عليها بناؤه: الحب، والخوف، والرجاء.
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول – قبل موته بثلاث -: ((لا يموتنَّ أحدُكم إلا وهو يُحسِن الظنَّ بربه)).
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، فليظنَّ بي ما شاء)).
الدليل على أن الرجاء عبادة:
أن الله مدح أهله وجعله صفة لعباده المؤمنين، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218]، وقال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
فمَن كان يرجو ثواب الله ولقاءه، ورؤيته في الجنة والنظر إلى وجهه، فليعمل عملًا صالحًا، وهو ما كان موافقًا للشرع ومقصودًا به وجه الله، إذا امتدح مَن قام بالرجاء فترتب عليه العمل الصالح، وهذا العمل الصالح ثمرته الجنة، فدلَّ على أن هذا الرجاء ممدوحٌ، فهو مرضيٌّ، فيصدق عليه حينئذٍ حد العبادة، وسبق أن الله جل وعلا إذا امتدح الفعل أو امتدح الشخص الذي اتصف بوصفٍ ما، حينئذٍ دل على أنه مرضي وأنه محبوب، إذًا فهو عبادة، فالعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
والدليل على أن صرفه لغير الله يكون شركًا الآياتُ العامة في النهي عن صرف العبادة لغير الله؛ مثل قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]، وقوله تعالى: {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]؛ أي: ولا يجعل لله تعالى شريكًا في عبادته، بما في ذلك عبادة الرجاء؛ لأن العبادة لا تصلح إلا لله جل وعلا.
وكل مسلم محتاج إلى الرجاء: لأن المسلم يدور بين ذنب يرجو غفرانه، وعيبٍ يرجو إصلاحه، وعملٍ صالح يرجو قبوله، واستقامةٍ يرجو حصولها وثباتها، وقربٍ من الله يرجو الوصول إليه.
لذلك كان الرجاء من أهم الأسباب التي تعين المرء على السير إلى ربه، والثبات على دينه.
رجاء طبيعي
هو رجاء المخلوق فيما يقدر عليه؛ مثل قولك لإنسان: أرجوك أن تفعل كذا، أو ترجوه أن يعطيك مالًا، أو يعينك على القيام بعمل معين.
حكمه: هذا النوع ليس داخلًا في العبادة، فهو جائز.
بشرط ألا يعلق قلبه بهذا المخلوق، فإذا رجا المخلوق فيما يقدر عليه، مع اعتماده بقلبه على هذا المخلوق، فهذا (شرك أصغر).
رجاء العبادة
هو رجاء ما لا يقدر عليه إلا اللهُ عز وجل؛ مثل أن يطمَع في شفائه مِن مرض، أو يرجو ألا يصاب بمصيبة، أو يرجو الولد أو الرزق الواسع، أو أن يدخل الجنة.
فهذا النوع لا يمكن أن يرجى إلا من الله، وهذا هو رجاء العبادة.
حكمه: لا يجوز صرفه لغير الله.
فمن رجا غير الله فيما لا يقدر عليه إلا اللهُ، فهذا (شرك أكبر)؛ لأن الله هو الذي بيده كل شيء، فيجب أن يخلص هذا الرجاء لله وحده.
التفريق بين رجاء العبادة والرجاء الجائز من المخلوقين
فرجاء العبادة لا يجوز صرفه لغير الله جل وعلا، ومن صرفه لغير الله تعالى فهو مشرك
ورجاء العبادة له لوازم ومقتضيات اعتقادية وتعبدية لا تشتبه بالرجاء الجائز من المخلوقين
فرجاء العبادة يستلزم اعتقاد أن المرجو مستقل بالنفع والضر ويتضمن تفويض الأمر إليه وتعلق القلب به والتقرب إليه لتحقيق ما يرجوه العبد فهذا الرجاء من صرفه لغير الله فهو مشرك كافر.
وأما رجاء المخلوقين فهو على ثلاثة أقسام:
· … القسم الأول: رجاء جائز، كأن يرجو نفع من أقدره الله عز وجل على نفعه في أمر من الأمور المباحة التي جرت سنة الله تعالى بإقدار بعض عباده عليها
كأن يرجو المحتاج من الموسر مالاً يقضي به شؤونه فهذا الرجاء ونحوه جائز إذا لم يعتقد أنه مستقل بالنفع والضر ولم يتعلق قلب الراجي بالمرجو
· … القسم الثاني: رجاء محرم وهو شرك أكبر، كرجاء المشركين في آلهتهم التي يعبدونها من دون الله أنها تشفع لهم عند الله أو أنها تقربهم إلى الله زلفى، وكرجاء بعض عباد الأولياء بأنهم ينجونهم من الكربات ويدفعون عنهم البلاء ويجلبون لهم النفع ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله
· … القسم الثالث: رجاء محرم أيضاً ولكنه شرك أصغر، وهو تعلق القلب بمن يرجوهم من المخلوقين فيما أقدرهم الله عز وجل عليه، فهذا من شرك الأسباب كتعلق بعض المرضى بالرقاة والأطباء تعلقاً قلبياً يغفلون معه عن أن الشفاء بيد الله عز وجل
* يراجع: بحث منشور في مجلة جامعة أم القرى بعنوان: “الآثار المروية في صفة المعية”
إشكال وجوابه:
قَوْلُهُ تَعالى: {والَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وقُلُوبُهُمْ وجِلَةٌ أنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ} أيْ يُعْطُونَ العَطاءَ وهم خائفون وجلون إنَّ لا يُتَقَبَّلَ مِنهُمْ
ظاهره يعارض
وجوب حسن الظن بالله الذي سبق الكلام عليه؟
الجواب
قال ابن كثير في بيان معنى الآية:
وقَوْلُهُ: {والَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وقُلُوبُهُمْ وجِلَةٌ أنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ} أيْ يُعْطُونَ العَطاءَ وهم خائفون وجلون إنَّ لا يُتَقَبَّلَ مِنهُمْ، لِخَوْفِهِمْ أنْ يَكُونُوا قَدْ قَصَّرُوا فِي القِيامِ بِشُرُوطِ الإعَطاءِ، وهَذا مِن بابِ الإشفاق والاحتياط، كما قال الإمام أحمد عَنْ عائِشَةَ أنَّها قالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وقُلُوبُهُمْ وجِلَةٌ هُوَ الَّذِي يَسْرِقُ ويَزْنِي ويَشْرَبُ الخَمْرَ وهُوَ يَخافُ اللَّهَ عز وجل؟ قال: «لا بِنْتَ أبِي بَكْرٍ، يا بِنْتَ الصِّدِّيقِ! ولَكِنَّهُ الَّذِي يُصَلِّي ويَصُومُ ويَتَصَدَّقُ وهُوَ يَخافُ اللَّهَ عز وجل (ورواه الترمذي وابن أبي حاتم بنحوه وقال: لا يا ابنة الصِّدِّيقِ ولَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ ويَصُومُونَ ويَتَصَدَّقُونَ وهُمْ يخافون ألا يتقبل منهم). {أولئك يُسارِعُونَ فِي الخيرات}»، وقَدْ قَرَأ آخَرُونَ هَذِهِ الآيَةَ {والَّذِينَ يَاتُونَ ما أتَوْا وقُلُوبُهُمْ وجِلَةٌ}: أيْ يَفْعَلُونَ ما يفعلون وهو خائِفُونَ، ورُوِيَ هَذا مَرْفُوعًا إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قرأها كذلك، والمَعْنى عَلى القِراءَةِ الأُولى وهِيَ قِراءَةُ الجُمْهُورِ السَّبْعَةِ وغَيْرِهِمْ أظْهَرُ، لِأنَّهُ قالَ: {أُولَئِكَ يُسارِعُونَ فِي الخَيْراتِ وهُمْ لَها سابِقُونَ} فَجَعَلَهُمْ مِنَ السّابِقِينَ، ولَوْ كانَ المَعْنى عَلى القِراءَةِ الأُخْرى لأوشك أن لا يَكُونُوا مِنَ السّابِقِينَ بَلْ مِنَ المُقْتَصِدِينَ أوِ المقصرين، والله أعلم.
الخشية هذه من رد العمل مهمة، والمؤمن يجب أن يعيش بين الخوف والرجاء، مهما كثرت العبادة يخشى على نفسه لربما وقع في عجب أذهب أجره، أو وقع في شيء من الرياء أو الاغترار، ثم إنه مهما عبد فلا يكافئ نعمة البصر، فأي شيء يظن في نفسه؟ ومن صفات المؤمنين: احتقار النفس أمام الواجب من حق الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد: (لو أن رجلًا يُجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرمًا في مرضاة الله لحقره يوم القيامة) كله عبادة متواصلة لا نوم ولا أكل ولا شرب، كله عبادات متواصلة في مرضاة الله عز وجل لحقره يوم القيامة، يعني: بجانب ما يرى من الواجب عليه في النعم وحق الله يرى أن ما عمله طيلة حياته من يوم ولد إلى يوم يموت يراه لا شيء بجانب حق الله، ولذلك لا يمكن أن يكون المسلم مغترًا بالعبادة مهما كثرت عبادته؛ لأن من عرف الله وعرف النفس، يتبين له أن ما معه من البضاعة لا يكفيه ولو جاء بعمل الثقلين، وإنما يقبله الله بكرمه وجوده وتفضله، ويثيب عليه بكرمه وجوده وتفضله.
ومن اللفتات الجليلة ما كان يقوله أبو الدرداء: [لئن أستيقن أن الله قد تقبل مني صلاة واحدة أحب إلي من الدنيا وما فيها إن الله يقول: «إنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ» [المائدة: (27)]] لو علمت أن الله تقبل صلاة واحدة، لكان عندي شيئًا عظيمًا، ولشعرت بطمأنينة.
اما الذنوب والاصرار عليها فان بني اسرائيل منهم من ذمهم الله في اصرارهم على المعاصي:
«فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ورِثُوا الكِتابَ يَاخُذُونَ عَرَضَ هَذا الأدْنى ويَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وإنْ يَاتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَاخُذُوهُ ألَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الكِتابِ أنْ لا يَقُولُوا عَلى اللَّهِ إلّا الحَقَّ ودَرَسُوا ما فِيهِ والدّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أفَلا تَعْقِلُونَ»
لان العبد ان أذنب وتاب فانه بين رجائه عز وجل بالتوبة عليه وخوفه من ان لا يتقبل منه. ولا يرجوا من ربه الا الخير، وكذا حاله اذا أطاع الله عز وجل. فانه يرجوا ربه قبول عمله.
كذلك لعله يقال أن حسن الظن بالله عز وجل لا يعني أن العبد يجزم بدخوله الجنة بعمله، وإنما يكون عمله سبباً ويرجو القبول ورحمة الله.
أي أن حسن الظن يزيد رجاء العبد فيجعل عنده يقيناً بعظم رحمة الله وأنه يحب المحسنين، وهو سبحانه يتقرب لعباده كما جاء في الحديث القدسي،
وفي نفس الوقت يكون وجلاً لأنه قد يعتري عمله أمور من الرياء أو العُجب ما يجعل هذه الأعمال عرضة للحبوط وعدم القبول. وكذلك يكون وجلاً من أهوال يوم القيامة.
والعبد يكون مخلصا في عمله ب:
(1). الدعاء بالاخلاص والاستقامة والثبات وقبول العمل:
(2) – إخفاء العمل
(3) – النظر إلى أعمال الصالحين ممن هم فوقك
(4) – احتقار العمل:
يقول سعيد بن جبير: «دخل رجل الجنة بمعصية، دخل رجل النار بحسنة، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: عمل رجل معصية فما زال خائفًا من عقاب الله من تلك الخطيئة فلقي الله فغفر له من خوفه منه تعالى، وعمل رجل حسنة فما زال معجبًا بها ولقي الله بها فأدخله النار».
(5) – الخوف من عدم قبول العمل:
ولقد كان من دعاء السلف: «اللهم إنا نسألك العمل الصالح وحفظه»
فعن وهيب بن الورد أنه قرأ: {وإذْ يَرْفَعُ إبْراهِيمُ القَواعِدَ مِنَ البَيْتِ وإسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا}، ثم يبكي ويقول: يا خليل الرحمن، ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مشفق أن لا يتقبل منك؟)) تفسير ابن كثير
((ولمّا كان العبد مهما كان، لابدّ أن يعتريه التقصير ويحتاج إلى التوبة قالا: {وتُبْ عَلَيْنا}، قالاه هضمًا لأنفسهما، وتعليمًا للذرّية بعدهما أن يلازموا هذا الطلب، والمقصد الجليل)) تفسير السعدي
وذكر الألوسي: أن التوبة تختلف باختلاف التائبين: فتوبة سائر المسلمين: الندم والعزم على ألا يعود، ورد المظالم إن أمكن ونية الرد إذا لم يمكن. وتوبة الخواص: الرجوع عن المكروهات من خواطر السوء والفتور في الأعمال، والإتيان بالعبادة على غير وجه الكمال. وتوبة خواص الخواص: لرفع الدرجات، والترقي في المقامات، فتوبة إبراهيم وإسماعيل من القسم الأخير. روح المعاني للألوسي ج (1) / (386).
وذكر القرطبي: أن المراد بالتوبة هنا هو طلب التثببت والدوام وهذا وجه حسن، وأحسن منه: أنهما لما عرفا المناسك وبنيا البيت، أرادا أن يُبيّنا للناس ويعرفاهم، أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة. أحكامه ج (2) / (127)، (130).
وعلى العبد ملازمة سؤال اللَّه قبول أعماله بعد أدائه لها، ومنها الدعاء، فقد كان هذا من هدي المصطفى – صلى الله عليه وسلم -: فإنه كان يستغفر ثلاثًا بعد الصلاة، وكان يقول بعد صلاة الصبح: «اللهمَّ إنّي أسألك علمًا نافعًا، ورزقًا طيبًا، وعملًا مُتقبّلًا»، وكان يقول
– صلى الله عليه وسلم -: «ربّ تقبّل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي»، وكان – صلى الله عليه وسلم – يستعيذ من عمل لا يُرفع: «اللهمّ إنّي أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن عمل لا يُرفع»، وغير ذلك.
(6) – عدم التأثر بكلام الناس:
يقول ابن الجوزي: «ترك النظر إلى الخلق ومحو الجاه من قلوبهم بالعمل وإخلاص القصد وستر الحال هو الذي رفع من رفع».
(7) – استصحاب أن الناس لا يملكون جنة ولا نارًا:
قال ابن رجب: «من صام وصلى وذكر الله، ويقصد بذلك عرض الدنيا، فإنه لا خير له فيه بالكلية، لأنه لا نفع في ذلك لصاحبه، لما يترتب عليه من الإثم فيه ولا لغيره».
(8) – تذكر أنك في القبر بمفردك:
يقول ابن القيم: «صدق التأهب للقاء الله من أنفع ما للعبد وأبلغه في حصول استقامته، فإن من استعد للقاء الله انقطع قلبه عن الدنيا وما فيها ومطالبها».
نقولات لأهل العلم حول ما سبق فيها زيادة بيان وتذكير:
قال ابن القيم:
باب قول الله تعالى: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [آل عمران:154]
وقوله: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ [الفتح:6].
قال ابن القيم في الآية الأولى: فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته. ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله، وأن يظهره الله على الدين كله. وهذا هو ظن السوء الذي ظن المنافقون والمشركون في سورة الفتح، وإنما كان هذا الظن السوء لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه، وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق.
فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة، فذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار.
وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته، وموجب حكمته وحمده.
فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله، وليستغفره من ظنه بربه ظن السوء. ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتا على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا؛ فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك، هل أنت سالم؟
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجيا.
فَلْيَعْتَنِ اللَّبِيبُ النّاصِحُ لِنَفْسِهِ بِهَذا المَوْضِعِ، ولْيَتُبْ إلى اللَّهِ تَعالى، ولِيَسْتَغْفِرْهُ كُلَّ وقْتٍ مِن ظَنِّهِ بِرَبِّهِ ظَنَّ السَّوْءِ، ولْيَظُنَّ السَّوءَ بِنَفْسِهِ الَّتِي هِي مَاوى كُلَّ سُوءٍ، ومَنبَعُ كُلَّ شَرٍّ المُرَكَّبَةِ عَلى الجَهْلِ والظُّلْمِ، فَهِيَ أوْلى بِظَنِّ السَّوءِ مِن أحْكَمِ الحاكِمِينَ وأعْدَلِ العادِلِينَ وأرْحَمِ الرّاحِمِينَ، الغَنِيِّ الحَمِيدِ الَّذِي لَهُ الغِنى التّامُّ والحَمْدُ التّامُّ والحِكْمَةُ التّامُّةُ، المُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ سَوْءٍ فِي ذاتِهِ وصِفاتِهِ وأفْعالِهِ وأسْمائِهِ، فَذاتُهُ لَها الكَمالُ المُطْلَقُ مِن كُلِّ وجْهٍ، وصِفاتُهُ كَذَلِكَ، وأفْعالُهُ كَذَلِكَ، كُلُّها حِكْمَةٌ ومَصْلَحَةٌ ورَحْمَةٌ وعَدْلٌ، وأسْماؤُهُ كُلُّها حُسْنى.
فَلا تَظُنَّنَّ بِرَبِّكَ ظَنَّ سَوْءٍ … فَإنَّ اللَّهَ أوْلى بِالجَمِيلِ
ولا تظنن بنفسك قط خيرا… وكيف بظالم جان جهول
وقل يا نفس مأوى كل سوء… أيرجى الخير من ميت بخيل
وظن بنفسك السوأى تجدهـا… كذاك وخيرهـا كالمستحيل
وما بك من تقى فيها وخير… فتلك مواهـب الرب الجليل
وليس بها ولا منها ولكن…من الرحمن فاشكر للدليل.
زاد المعاد في هدي خير العباد (3) / (211) —
قال ابن القيم:
فَصْلٌ سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ]
فَصْلٌ
سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ
إِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَهَاهُنَا أَصْلٌ عَظِيمٌ يَكْشِفُ سِرَّ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنَّ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ إِسَاءَةُ الظَّنِّ بِهِ، فَإِنَّ الْمُسِيءَ بِهِ الظَّنَّ قَدْ ظَنَّ بِهِ خِلَافَ كَمَالِهِ الْمُقَدَّسِ، وَظَنَّ بِهِ مَا يُنَاقِضُ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ، وَلِهَذَا تَوَعَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الظَّانِّينَ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ بِمَا لَمْ يَتَوَعَّدْ بِهِ غَيْرَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [سُورَةُ الْفَتْحِ: (6)].
وَقَالَ تَعَالَى لِمَنْ أَنْكَرَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سُورَةُ فُصِّلَتْ: (23)].
قَالَ تَعَالَى عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: {مَاذَا تَعْبُدُونَ – أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ – فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصَّافَّاتِ: (85) – (87)].
أَيْ فَمَا ظَنُّكُمْ أَنْ يُجَازِيَكُمْ بِهِ إِذَا لَقِيتُمُوهُ وَقَدْ عَبَدْتُمْ غَيْرَهُ؟ وَمَا ظَنَنْتُمْ بِهِ حِينَ عَبَدْتُمْ مَعَهُ غَيْرَهُ؟
وَمَا ظَنَنْتُمْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ مِنَ النَّقْصِ حَتَّى أَحْوَجَكُمْ ذَلِكَ إِلَى عُبُودِيَّةِ غَيْرِهِ؟ فَلَوْ ظَنَنْتُمْ بِهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ مِنْ أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ عَلَى خَلْقِهِ، وَأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَالْعَالِمُ بِتَفَاصِيلِ الْأُمُورِ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَالْكَافِي لَهُمْ وَحْدَهُ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مُعِينٍ، وَالرَّحْمَنُ بِذَاتِهِ، فَلَا يَحْتَاجُ فِي رَحْمَتِهِ إِلَى مَنْ يَسْتَعْطِفُهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الرُّؤَسَاءِ، فَإِنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إِلَى مَنْ يُعَرِّفُهُمْ أَحْوَالَ الرَّعِيَّةِ وَحَوَائِجَهُمْ، وَيُعِينُهُمْ إِلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ، وَإِلَى مَنْ يَسْتَرْحِمُهُمْ وَيَسْتَعْطِفُهُمْ بِالشَّفَاعَةِ، فَاحْتَاجُوا إِلَى الْوَسَائِطِ ضَرُورَةً، لِحَاجَتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ وَعَجْزِهِمْ وَقُصُورِ عِلْمِهِمْ.
فَأَمَّا الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الَّذِي وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، فَإِدْخَالُ الْوَسَائِطِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ نَقْصٌ بِحَقِّ رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَظَنٌّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ، وَهَذَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَشْرَعَهُ لِعِبَادِهِ، وَيَمْتَنِعُ فِي الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ جَوَازُهُ، وَقُبْحُهُ مُسْتَقِرٌّ فِي الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ فَوْقَ كُلِّ قَبِيحٍ.
يُوَضِّحُ هَذَا: أَنَّ الْعَابِدَ مُعَظِّمٌ لِمَعْبُودِهِ، مُتَأَلِّهٌ خَاضِعٌ ذَلِيلٌ لَهُ، وَالرَّبُّ تَعَالَى وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ كَمَالَ التَّعْظِيمِ وَالْجَلَالِ وَالتَّأَلُّهِ وَالْخُضُوعِ وَالذُّلِّ، وَهَذَا خَالِصُ حَقِّهِ، فَمِنْ أَقْبَحِ الظُّلْمِ أَنْ يُعْطِيَ حَقَّهُ لِغَيْرِهِ، أَوْ يُشْرِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِيهِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الَّذِي جُعِلَ شَرِيكَهُ فِي حَقِّهِ هُوَ عَبْدُهُ وَمَمْلُوكُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [سُورَةُ الرُّومِ: (28)].
أَيْ: إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يَانَفُ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكُهُ شَرِيكَهُ فِي رِزْقِهِ، فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ لِي مِنْ عَبِيدِي شُرَكَاءَ فِيمَا أَنَا بِهِ مُنْفَرِدٌ؟ وَهُوَ الْإِلَهِيَّةُ الَّتِي لَا تَنْبَغِي لِغَيْرِي، وَلَا تَصِحُّ لِسِوَايَ.
فَمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ فَمَا قَدَرَنِي حَقَّ قَدْرِي، وَلَا عَظَّمَنِي حَقَّ تَعْظِيمِي، وَلَا أَفْرَدَنِي بِمَا أَنَا مُفْرَدٌ بِهِ وَحْدِي دُونَ خَلْقِي، فَمَا قَدَرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ عَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ – مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [سُورَةُ الْحَجِّ: (73) – (74)].
فَمَا قَدَرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ عَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ، مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ أَضْعَفِ حَيَوَانٍ وَأَصْغَرِهِ، وَإِنْ سَلَبَهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا مِمَّا عَلَيْهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِنْقَاذِهِ مِنْهُ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سُورَةُ الزُّمَرِ: (67)] فَمَا قَدَرَ مَنْ هَذَا شَانُهُ وَعَظَمَتُهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ أَشْرَكَ مَعَهُ فِي عِبَادَتِهِ مَنْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، بَلْ هُوَ أَعْجَزُ شَيْءٍ وَأَضْعَفُهُ، فَمَا قَدَرَ الْقَوِيَّ الْعَزِيزَ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ أَشْرَكَ مَعَهُ الضَّعِيفَ الذَّلِيلَ.
وَكَذَلِكَ مَا قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ إِلَى خَلْقِهِ رَسُولًا، وَلَا أَنْزَلَ كِتَابًا، بَلْ نَسَبَهُ إِلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ وَلَا يَحْسُنُ مِنْهُ، مِنْ إِهْمَالِ خَلْقِهِ وَتَضْيِيعِهِمْ وَتَرْكِهِمْ سُدًى، وَخَلْقِهِمْ بَاطِلًا وَعَبَثًا، وَلَا قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ نَفَى حَقَائِقَ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَا، فَنَفَى سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَإِرَادَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ وَعُلُوَّهُ فَوْقَ خَلْقِهِ، وَكَلَامَهُ وَتَكْلِيمَهُ لِمَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ بِمَا يُرِيدُهُ، أَوْ نَفَى عُمُومَ قُدْرَتِهِ وَتَعَلُّقَهَا بِأَفْعَالِ عِبَادِهِ مِنْ طَاعَتِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ، فَأَخْرَجَهَا عَنْ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ، وَجَعَلَهُمْ يَخْلُقُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مَا يَشَاءُونَ بِدُونِ مَشِيئَةِ الرَّبِّ، فَيَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يَشَاءُ، وَيَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ. تَعَالَى عَنْ قَوْلِ أَشْبَاهِ الْمَجُوسِ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَكَذَلِكَ مَا قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يُعَاقِبُ عَبْدَهُ عَلَى مَا لَا يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ، وَلَا لَهُ عَلَيْهِ قُدْرَةٌ، وَلَا تَاثِيرٌ لَهُ فِيهِ أَلْبَتَّةَ، بَلْ هُوَ نَفْسُ فِعْلِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ، فَيُعَاقِبُ عَبْدَهُ عَلَى فِعْلِهِ هُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي جَبَرَ الْعَبْدَ عَلَيْهِ. وَجَبْرُهُ عَلَى الْفِعْلِ أَعْظَمُ مِنْ إِكْرَاهِ الْمَخْلُوقِ لِلْمَخْلُوقِ، وَإِذَا كَانَ مِنَ الْمُسْتَقِرِّ فِي الْفِطَرِ وَالْعُقُولِ أَنَّ السَّيِّدَ لَوْ أَكْرَهَ عَبَدَهُ عَلَى فِعْلٍ، أَوْ أَلْجَأَهُ إِلَيْهِ ثُمَّ عَاقَبَهُ عَلَيْهِ لَكَانَ قَبِيحًا، فَأَعْدَلُ الْعَادِلِينَ وَأَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ كَيْفَ يَجْبُرُ الْعَبْدَ عَلَى فِعْلٍ لَا يَكُونُ لِلْعَبْدِ فِيهِ صُنْعٌ وَلَا تَاثِيرٌ، وَلَا هُوَ وَاقِعٌ بِإِرَادَتِهِ، بَلْ وَلَا هُوَ فِعْلُهُ أَلْبَتَّةَ، ثُمَّ يُعَاقِبُ عَلَيْهِ عُقُوبَةَ الْأَبَدِ؟ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ أَقْوَالِ الْمَجُوسِ. وَالطَّائِفَتَانِ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.
وَكَذَلِكَ مَا قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ لَمْ يَصُنْهُ عَنْ نَتَنٍ وَلَا حُشٍّ، وَلَا مَكَانٍ يُرْغَبُ عَنْ ذِكْرِهِ بَلْ جَعَلَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، صَانَهُ عَنْ عَرْشِهِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [سُورَةُ فَاطِرٍ: (10)].
وَتَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ، وَتَنْزِلُ مِنْ عِنْدِهِ: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [سُورَةُ السَّجْدَةِ: (5)].
فَصَانَهُ عَنِ اسْتِوَائِهِ عَلَى سَرِيرِ الْمُلْكِ، ثُمَّ جَعَلَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ يَانَفُ الْإِنْسَانُ، بَلْ غَيْرُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ.
وَمَا قَدَرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ نَفَى حَقِيقَةَ مَحَبَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَرَافَتِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَمَقْتِهِ، وَلَا مَنْ نَفَى حَقِيقَةَ حِكْمَتِهِ الَّتِي هِيَ الْغَايَاتُ الْمَحْمُودَةُ الْمَقْصُودَةُ بِفِعْلِهِ، وَلَا مَنْ نَفَى حَقِيقَةَفِعْلِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا يَقُومُ بِهِ، بَلْ أَفْعَالُهُ مَفْعُولَاتٌ مُنْفَصِلَةٌ عَنْهُ، فَنَفَى حَقِيقَةَ مَجِيئِهِ وَإِتْيَانِهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ، وَتَكْلِيمِهِ مُوسَى مِنْ جَانِبِ الطُّورِ، وَمَجِيئِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ بِنَفْسِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِهِ وَأَوْصَافِ كَمَالِهِ، الَّتِي نَفَوْهَا وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ بِنَفْيِهَا قَدَرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ.
وَكَذَلِكَ لَمْ يَقْدِرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ جَعَلَ لَهُ صَاحِبَةً وَوَلَدًا، أَوْ جَعَلَهَ سُبْحَانَهُ يَحِلُّ فِي جَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ، أَوْ جَعَلَهُ عَيْنَ هَذَا الْوُجُودِ.
وَكَذَلِكَ لَمْ يَقْدِرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ رَفَعَ أَعْدَاءَ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَأَعْلَى ذِكْرَهُمْ، وَجَعَلَ فِيهِمُ الْمُلْكَ وَالْخِلَافَةَ وَالْعِزَّ، وَوَضَعَ أَوْلِيَاءَ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَأَهَانَهُمْ وَأَذَلَّهُمْ وَضَرَبَ عَلَيْهِمُ الذُّلَّ أَيْنَمَا ثُقِفُوا، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ غَايَةَ الْقَدْحِ فِي جَنَابِ الرَّبِّ. تَعَالَى عَنْ قَوْلِ الرَّافِضَةِ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَهَذَا الْقَوْلُ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنَّهُ أَرْسَلَ مَلِكًا ظَالِمًا، فَادَّعَى النُّبُوَّةَ لِنَفْسِهِ، وَكَذَبَ عَلَى اللَّهِ، وَمَكَثَ زَمَانًا طَوِيلًا يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ كُلَّ وَقْتٍ، وَيَقُولُ: قَالَ اللَّهُ كَذَا، وَأَمَرَ بِكَذَا، وَنَهَى عَنْ كَذَا، يَنْسَخُ شَرَائِعَ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَيَسْتَبِيحُ دِمَاءَ أَتْبَاعِهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَحَرِيمَهُمْ، وَيَقُولُ: اللَّهُ أَبَاحَ لِي ذَلِكَ، وَالرَّبُّ تَعَالَى يُظْهِرُهُ وَيُؤَيِّدُهُ، وَيُعْلِيهِ، وَيُعِزُّهُ، وَيُجِيبُ دَعَوَاتِهِ، وَيُمَكِّنُهُ مِمَّنْ خَالَفَهُ، وَيُقِيمُ الْأَدِلَّةَ عَلَى صِدْقِهِ، وَلَا يُعَادِيهِ أَحَدٌ إِلَّا ظَفِرَ بِهِ، فَيَصْدُقُهُ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَتَقْرِيرِهِ، وَيُحْدِثُ أَدِلَّةَ تَصْدِيقِهِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا يَتَضَمَّنُ أَعْظَمَ الْقَدْحِ وَالطَّعْنِ فِي الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَعِلْمِهِ، وَحِكْمَتِهِ، وَرَحْمَتِهِ، وَرُبُوبِيَّتِهِ. تَعَالَى عَنْ قَوْلِ الْجَاحِدِينَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
فَوَازِنْ بَيْنَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ، وَقَوْلِ إِخْوَانِهِمْ مِنَ الرَّافِضَةِ، تَجِدِ الْقَوْلَيْنِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
رَضِيعَيْ لِبَانِ ثَدْيِ أُمٍّ تَقَاسَمَا … بِأَسْحَمَ دَاجٍ عَوْضُ لَا تَتَفَرَّقُ
وَكَذَلِكَ لَمْ يَقْدِرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ قَالَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعَذِّبَ أَوْلِيَاءَهُ، وَمَنْ لَمْ يَعْصِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَيُدْخِلَهُمْ دَارَ الْجَحِيمِ، وَيُنَعِّمَ أَعْدَاءَهُ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَيُدْخِلَهُمْ دَارَ النَّعِيمِ، وَأَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا الْخَبَرُ الْمَحْضُ جَاءَ عَنْهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَمَعْنَاهُ لِلْخَبَرِ لَا لِمُخَالَفَةِ حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ.
وَقَدْ أَنْكَرَ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى مَنْ جَوَّزَ عَلَيْهِ ذَلِكَ غَايَةَ الْإِنْكَارِ، وَجَعَلَ الْحُكْمَ بِهِ مِنْ أَسْوَأِ الْأَحْكَامِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ – أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [سُورَةُ ص: (27) – (28)].
وَقَالَ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ – وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [سُورَةُ الْجَاثِيَةِ: (21) – (22)].
وَقَالَ: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ – مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [سُورَةُ الْقَلَمِ: (35) – (36)] وَكَذَلِكَ لَمْ يَقْدِرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يُحْيِي الْمَوْتَى، وَلَا يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَلَا يَجْمَعُ خَلْقَهُ لِيَوْمٍ يُجَازِي فِيهِ الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ، وَيَاخُذُ لِلْمَظْلُومِ حَقَّهُ مِنْ ظَالِمِهِ، وَيُكْرِمُ الْمُتَحَمِّلِينَ الْمَشَاقَّ فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ أَجْلِهِ وَفِي مَرْضَاتِهِ بِأَفْضَلِ كَرَامَتِهِ، وَيُبَيِّنُ لِخَلْقِهِ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَيَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ.
وَكَذَلِكَ لَمْ يَقْدِرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ هَانَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ فَعَصَاهُ، وَنَهْيُهُ فَارْتَكَبَهُ، وَحَقُّهُ فَضَيَّعَهُ، وَذِكْرُهُ فَأَهْمَلَهُ، وَغَفَلَ قَلْبُهُ عَنْهُ، وَكَانَ هَوَاهُ آثَرَ عِنْدَهُ مِنْ طَلَبِ رِضَاهُ، وَطَاعَةُ الْمَخْلُوقِ أَهَمَّ مِنْ طَاعَتِهِ، فَلِلَّهِ الْفَضْلَةُ مِنْ قَلْبِهِ وَقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ، هَوَاهُ الْمُقَدَّمُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ الْمُهِمُّ عِنْدَهُ، يَسْتَخِفُّ بِنَظَرِ اللَّهِ إِلَيْهِ، وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِ بِكُلِّ قَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ، وَيَسْتَحِي مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ، وَيَخْشَى النَّاسَ وَلَا يَخْشَى اللَّهَ، وَيُعَامِلُ الْخَلْقَ بِأَفْضَلِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَامَلَ اللَّهَ عَامَلَهُ بِأَهْوَنِ مَا عِنْدَهُ وَأَحْقَرِهِ، وَإِنْ قَامَ فِي خِدْمَةِ مَنْ يُحِبُّهُ مِنَ الْبَشَرِ قَامَ بِالْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ وَبَذْلِ النَّصِيحَةِ، وَقَدْ أَفْرَغَ لَهُ قَلْبَهُ وَجَوَارِحَهُ، وَقَدَّمَهُ عَلَى الْكَثِيرِ مِنْ مَصَالِحِهِ، حَتَّى إِذَا قَامَ فِي حَقِّ رَبِّهِ – إِنْ سَاعَدَ الْقَدَرُ – قَامَ قِيَامًا لَا يَرْضَاهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ، وَبَذَلَ لَهُ مِنْ مَالِهِ مَا يَسْتَحِي أَنْ يُوَاجِهَ بِهِ مَخْلُوقًا مِثْلَهُ، فَهَلْ قَدَرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ هَذَا وَصْفُهُ؟
وَهَلْ قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ شَارَكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ فِي مَحْضِ حَقِّهِ مِنَ الْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ وَالطَّاعَةِ وَالذُّلِّ وَالْخُضُوعِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ؟ فَلَوْ جَعَلَ لَهُ مِنْ أَقْرَبِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ شَرِيكًا فِي ذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ جَرَاءَةً وَتَوَثُّبًا عَلَى مَحْضِ حَقِّهِ وَاسْتِهَانَةً بِهِ وَتَشْرِيكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَلَا يَنْبَغِي وَلَا يَصْلُحُ إِلَّا لَهُ سُبْحَانَهُ، فَكَيْفَ وَإِنَّمَا شَرَكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَبْغَضَ الْخَلْقِ إِلَيْهِ، وَأَهْوَنَهُمْ عَلَيْهِ، وَأَمْقَتَهُمْ عِنْدَهُ، وَهُوَ عَدُوُّهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ؟ فَإِنَّهُ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَّا الشَّيْطَانُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ – وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [سُورَةُ يس: (60) – (61)].
وَلَمَّا عَبَدَ الْمُشْرِكُونَ الْمَلَائِكَةَ بِزَعْمِهِمْ وَقَعَتْ عِبَادَتُهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِلشَّيَاطِينِ، وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ – قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سُورَةُ سَبَأٍ: (40) – (41)].
فَالشَّيْطَانُ يَدْعُو الْمُشْرِكَ إِلَى عِبَادَتِهِ، وَيُوهِمُهُمْ أَنَّهُ مَلَكٌ، وَكَذَلِكَ عُبَّادُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ، وَهِيَ الَّتِي تُخَاطِبُهُمْ، وَتَقْضِي لَهُمُ الْحَوَائِجَ، وَلِهَذَا إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَارَنَهَا الشَّيْطَانُ، فَيَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ، فَيَقَعُ سُجُودُهُمْ لَهُ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ غُرُوبِهَا، وَكَذَلِكَ مَنْ عَبَدَ الْمَسِيحَ وَأُمَّهُ لَمْ يَعْبُدْهُمَا وَإِنَّمَا عَبَدَ الشَّيْطَانَ.
فَإِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَعْبُدُ مَنْ أَمَرَهُ بِعِبَادَتِهِ وَعِبَادَةِ أُمِّهِ، وَرَضِيَهَا لَهُمْ وَأَمَرَهُمْ بِهَا، وَهَذَا هُوَ الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ، لَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَنَزَلَ هَذَا كُلُّهُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ – وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}.
فَمَا عَبَدَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ غَيْرَ اللَّهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ إِلَّا وَقَعَتْ عِبَادَتُهُ لِلشَّيْطَانِ، فَيَسْتَمْتِعُ الْعَابِدُ بِالْمَعْبُودِ فِي حُصُولِ غَرَضِهِ، وَيَسْتَمْتِعُ الْمَعْبُودُ بِالْعَابِدِ فِي تَعْظِيمِهِ لَهُ، وَإِشْرَاكِهِ مَعَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ غَايَةُ رِضَا الشَّيْطَانِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ} أَيْ: مِنْ إِغْوَائِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: (128)].
فَهَذِهِ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إِلَى السِّرِّ الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَ الشِّرْكُ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا يَغْفِرُهُ بِغَيْرِ التَّوْبَةِ مِنْهُ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْخُلُودَ فِي الْعَذَابِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ تَحْرِيمُهُ وَقُبْحُهُ بِمُجَرَّدِ النَّهْيِ عَنْهُ، بَلْ يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَشْرَعَ لِعِبَادِهِ عِبَادَةَ إِلَهٍ غَيْرِهِ، كَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ مَا يُنَاقِضُ أَوْصَافَ كَمَالِهِ، وَنُعُوتَ جَلَالِهِ، وَكَيْفَ يُظَنُّ بِالْمُنْفَرِدِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ وَالْعَظْمَةِ وَالْإِجْلَالِ أَنْ يَاذَنَ فِي مُشَارَكَتِهِ فِي ذَلِكَ، أَوْ يَرْضَى بِهِ؟ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
«الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي = الداء والدواء» (ص143)
قال ابن الجوزي:
وأعظم الخلق اغترارًا من أتى ما يكرهه الله، وطلب منه ما يحبه هو، كما روي في الحديث: “والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني”
«صيد الخاطر» (ص38)
وسر المسألة: أن الرجاء وحسن الظن إنما يكون مع الإتيان بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله في شرعه وقدره وثوابه وكرامته، فيأتي العبد بها ثم يحسن ظنه بربه، ويرجوه أن لا يكله إليها، وأن يجعلها موصلة إلى ما ينفعه، ويصرف ما يعارضها ويبطل أثرهـا.
الداء والدواء (فصل الرجاء والأماني) ص39