83 – فتح رب البرية بينابيع الحكمة من أقوال الأئمة
جمع أحمد بن خالد وآخرين
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف الشيخ د. سيف بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
(2668): .*قصة عجيبة يذكرها الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:*
*قال رحمه الله :* ( *حدثني من أثق به أن رجلا كان يمنع زوجته أن تتصدق على أي مسكين يطرق الباب !*
*فطرق الباب مسكين ذات يوم ، وقال : إنه عارٍ ليس عليه ثياب تقيه من البرد*
*فرقّت الزوجة لحاله وأعطته كساء وثلاث تمرات*
*وكان زوجها نائما في المسجد ،فرأى الزوج في المنام أن القيامة قد قامت ، وأن الناس في موج عظيم ، وحر شديد ، وشمس محرقة ، وإذا بكساء يعلو رأسه ، وفيه ثلاثة خروق ، فرأى ثلاث تمرات جاءت وسدت هذه الخروق ، فتعجب وانتبه من نومه مذعورا ! ، وقص على زوجته هذه الرؤيا ،ففهمت الزوجة أن هذه الرؤيا سبب الكساء الذي تصدقت به والتمرات*
*فقالت له : حدث كذا وكذا*
*فقال لها : لا تردي مسكينا بعد اليوم*
*فهذا الرجل نبهه الله عز وجل ، وهذا مصداق لحديث النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ *:” *كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَ النَّاسِ* “)
المرجع: شرح كتاب الرقائق من صحيح البخاري وشرح عقيدة أهل السنة والجماعة ” للشيخ ابن عثيمين (صـ: 6)
______________
(2669): قَالَ العَلاّمَةُ الوَادِعِيّ -رَحِمَهُ اللهُ-:
وَالجَليسُ لَهُ تَأثِيرٌ عَلَى جَلِيسِهِ؛ فَكَيفَ بِالزّوْجَيْنِ!
المُخرجُ مِنَ الفِتنَةِ (صـ ١٩٠)!
______________
(2670): قـــال لقـمـان لابـنـه: “يـا بنــي” :-
〘 لا تـؤخـر التـوبــة فـإن المـــوت يـأتــي بـغـتـة! 〙
قصـر الأمـل لابـن أبـي الدنـيا (١٧٨)
______________
(2671): قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
- من رأى أنه لا ينشرح صدره.
- ولا يحصل له حلاوة الإيمان.
- ونور الهداية.
فليُكثر التوبة والاستغفار.
[الفتاوى الكبرى 5/62]
______________
(2672): قال ابن تيمية -رحمه الله-:
وَكلما قوي طمع العَبْد فِي فضل الله وَرَحمته ورجائه لقَضَاء حَاجته وَدفع ضَرُورَته قويت عبوديته لَهُ وحريته مِمَّا سواهُ فَكَمَا أَن طمعه فِي الْمَخْلُوق يُوجب عبوديته لَهُ فيأسه مِنْهُ يُوجب غنى قلبه.
العبودية ١/٨٦
______________
(2673): قال الإمامُ ابنُ القيّم:
“لا بُدَّ أنْ يُنشرَ لكلِّ حركةٍ وكلمةٍ منه-أي المَرء-ديوانان:
ديوانٌ: لِمَنْ فعلتَه؟
وديوانٌ: كيفَ فعلتَه؟
فالأوّلُ: سؤالٌ عن الإخلاصِ. والثّاني: سؤالٌ عن المُتَابعةِ،
قال تعالى{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أجْمَعينَ؛ *عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}…
وقال تعالى{لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ}.
فإذا سُئلَ الصّادقُون وحُوسِبُوا على صِدْقِهم، فمَا الظُّنُّ بالكاذِبِين؟”
(إغاثة اللهفان)(١/ ١٤١)
______________
(2674): قال رسول الله ﷺ :
لا تصحب الملائكة ركباً معهم جلجل .
السلسلة الصحيحة ١٨٧٣
جلجل :
جرس صغير يعلق برقبة الدابة .
فكيف بمن يحمل في سيارته العدد الجم من أشرطة الغناء والمعازف .
______________
(2675): قال أبو الدرداء رضي الله عنه :
إني لأمركم بالأمر وما أفعله، ولكن لعلَّ الله يأجُرني فِيه .
|[ سير أعلام النبلاء (١٩/٤) ]|
______________
(2676): قالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ هِيَ مَتَاعٌ، هِيَ مَتَاعٌ، مَتْرُوكَةٌ، أَوْشَكَتْ -وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ-أَنْ تَضْمَحِلَّ عَنْ أَهْلِهَا، فَخُذُوا مِنْ هَذَا الْمَتَاعِ طَاعَةَ اللَّهِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
تفسير ابن كثير – ت السلامة ٢/١٧٩ — ابن كثير (ت ٧٧٤)
______________
(2678): قال ابن القيم -رحمه الله-:
فإنَّ العاقلَ لو نظر إلى طعامه حال مخالطته ريقَه وعَجْنِه به لنفرت نفسُه منه، ولو سقطت تلك اللقمةُ مِنْ فِيه لنفَر طبعُه من إعادتها إليه.
ثمَّ إنَّ لذَّته به إنما تحصُل في مجرى نحو الأربع الأصابع، فإذا فُصِل عن ذلك المجرى زال تلذُّذُه به، فإذا استقرَّ في مَعِدته وخالطه الشرابُ وما في المعدة من الأجزاء الفَضْلِيَّة، فإنه حينئذٍ يصيرُ في غاية الخِسَّة ، فإن زاد على مقدار الحاجة أورثَ الأدواءَ المختلفة على تنوُّعها، ولولا أنَّ بقاءه موقوفٌ على تناول الغذاء لكان تركُه ــ والحالةُ هذه ــ أليقَ به.
مفتاح دار السعادة (379-1/378)
______________
(2679): قالَ العلّامةُ الفقيه ابنُ عثيمين رحمه اللهُ:
” الصلح ، ثقيل على النفوس
لكن المؤمن يهون عليه الثقل ،
إذا كان يؤمن بأن الصلح خير ” .
[ تفسير سورة النساء (٢/٢٩٣) ] .
______________
(2680): قال ابن تيمية: ما يعلمه الإنسان من حق وباطل، فإنه يقوم بقلبه ويحل بروحه المنفوخة فيه المتصلة بالقلب الذي هو المضغة الصنوبرية الشكل، وقد قيل: إنه يقوم بجميع الجسد، وليس لبعض ذلك مكان من الجسد يتميز به عن مكان آخر باتفاق الناس، وإنما الروح هي التي يعبر عن محلها الأول بالقلب تارة، وتسميها الفلاسفة النفس الناطقة، وهي الحاملة لجميع الاعتقادات فتنور قلوب المؤمنين وأرواحهم بالمعارف الإلهية، وتظلم قلوب الكافرين بالعقائد الفاسدة، كما ضرب الله مثل المؤمن والكافر في سورة النور .اهـ
المستدرك على مجموع الفتاوى ١/١٩٠
وقال ابن القيم: ويطلق القلب على معنيين: أحدهما: أمر حسي وهو العضو اللحمي الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر وفي باطنه تجويف وفي التجويف دم أسود وهو منبع الروح. والثاني: أمر معنوي وهو لطيفة ربانية رحمانية روحانية لها بهذا العضو تعلق واختصاص، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسانية. اهـ.
التبيان في أيمان القرآن – ط عطاءات العلم ١/٦٢٦
______________
(2681): قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى
أعطي أحمد بن حنبل من الصبر واليقين ما يستحق به الإمامة في الدين …
ولهذا قال بعض شيوخ الشام: لم يظهر أحد ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كما أظهره أحمد بن حنبل
الفتاوى (12/ 439)
______________
(2682): قال ابن القيم رحمه الله:
” *لذَّةُ العلم لذَّةٌ عقليَّةٌ روحانيَّةٌ من جنس لذَّة الملائكة،*
*ولذَّةُ شهوات الأكل والشراب والنكاح لذَّةٌ حيوانيَّةٌ يشاركُ الإنسانَ فيها الحيوان،*
*ولذَّةُ الشرِّ والظلم والفساد والعلوِّ في الأرض شيطانيَّةٌ يشاركُ صاحبَها فيها إبليسُ وجنودُه.*
*وسائرُ اللذَّات تبطلُ بمفارقة الروح البدن، إلا لذَّةُ العلم والإيمان، فإنها تَكْمُلُ بعد المفارقة؛ لأنَّ البدنَ وشواغلَه كان يَنْقُصها ويقلِّلها ويحجُبها، فإذا انطوت الروحُ عن البدن التذَّت لذَّةً كاملةً بما حصَّلته من العلم النافع والعمل الصالح؛ فمن طلب اللذَّةَ العظمى، وآثر النعيمَ المقيم، فهو في العلم والإيمان اللذَين بهما كمالُ سعادة الإنسان “.*
مفتاح دار السعادة ص: 400
______________
(2683): عَنْ عَامِرِ بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: كَانَ ابْنُ مُنَبِّهٍ يَقُولُ: «
- الْمُؤْمِنُ يُخَالِطُ لِيَعْلَمَ،
- وَيَسْكُتُ لِيَسْلَمَ،
- وَيَتَكَلَّمُ لِيَفْهَمَ،
- وَيَخْلُو لِيَنْعَمِ»
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء – ط السعادة ٤/٦٨ — أبو نعيم الأصبهاني (ت ٤٣٠)
______________
(2684): قال ابنُ العربيِّ المالكيُّ -رحمه الله-:
لا يَكونُ القَلبُ سَلِيمًا إذا كان حَقودًا حَسُودًا مُعجَـبًا مُتَكَبِّرًا، وقد شَرَطَ النَّبِيُّ ﷺ في الإيمانِ أَن يُحِبَّ لِأَخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفسِه
[أحكام القرآن ٣ / ٤٥٩ ]
______________
(2685): قال ابن الجوزي رحمه الله:
للهِ دَرُّ أقْوَامٍ بَادُروا الأعْمَالَ وَاسْتَدْرَكُوهَا، وَجَاهَدُوا النُّفُوسَ حَتَّى مَلَكُوهَا، وَتَأهَّبُوا لِسَبِيْلِ التَّوْبَةِ ثُمَّ سَلَكُوهَا، وَعَرَفُوا عُيُوبَ العَاجِلَةِ فَتَرَكُوهَا.
التبصرة (١٦/٢).
______________
(2686): قال ابن القيم -رحمه الله-:
وفضل العلم على المال يعلم من وجوه:
أحدها: أن العلم ميراث الأنبياء، والمال ميراث الملوك والأغنياء.
الثاني: أن العلم يحرس صاحبه، وصاحب المال يحرس ماله.
الثالث: أن المال تذهبه النفقات، والعلم يزكو على النفقة.
الرابع: أن صاحب المال إذا مات فارقه ماله، والعلم يدخل معه قبره.
الخامس: أن العلم حاكم على المال، والمال لا يحكم على العلم.
السادس: أن المال يحصل للمؤمن والكافر والبر والفاجر، والعلم النافع لا يحصل إلا للمؤمن.
السابع: أن العالم يحتاج إليه الملوك فمن دونهم، وصاحب المال إنما يحتاج إليه أهل العدم والفاقة.
الثامن: أن النفس تشرف وتزكو بجمع العلم وتحصيله، وذلك من كمالها وشرفها، والمال لا يزكيها ولا يكملها ولا يزيدها صفة كمال.
التاسع: أن المال يدعوها إلى الطغيان والفخر والخيلاء، والعلم يدعوها إلى التواضع والقيام بالعبودية؛ فالمال يدعوها إلى صفات الملوك والعلم يدعوها إلى صفات العبيد.
العاشر: أن العلم حاجب موصل لها إلى سعادتها التي خلقت لها والمال حجاب عنها وبينها .
الحادي عشر: أن غنى العلم أجل من غنى المال؛ فإن غنى المال غنى بأمر خارجي عن حقيقة الإنسان، لو ذهب في ليلة أصبح فقيرا معدما، وغنى العلم لا يخشى عليه الفقر، بل هو في زيادة أبدا، فهو الغنى العالي حقيقة؛ كما قيل:
غنيت بلا مال عن الناس كلهم … وإن الغنى العالي عن الشيء لا به.
الثاني عشر: أن المال يستعبد محبه وصاحبه، فيجعله عبدا له، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «تعس عبد الدينار والدرهم … » الحديث ، والعلم يستعبده لربه وخالقه، فهو لا يدعوه إلا إلى عبودية الله وحده.
الثالث عشر: أن حب العلم وطلبه أصل كل طاعة، وحب الدنيا و المال وطلبه أصل كل سيئة .
الرابع عشر: أن قيمة الغني ماله، وقيمة العالم علمه، فهذا متقوم بماله، فإذا عدم ماله عدمت قيمته فبقي بلا قيمة، والعالم لا تزول قيمته، بل هي في تضاعف وزيادة دائما.
الخامس عشر: أن جوهر المال من جنس جوهر البدن، وجوهر العلم من جنس جوهر الروح، كما قال يونس بن حبيب: «علمك من روحك،ومالك من بدنك» ، والفرق بين الأمرين كالفرق بين الروح والبدن.
السادس عشر: أن العالم لو عرض عليه بحظه من العلم الدنيا بما فيها لم يرضها عوضا من علمه، والغني العاقل إذا رأى شرف العالم وفضله وابتهاجه بالعلم وكماله به يود لو أن له علمه بغناه أجمع.
السابع عشر: أن ما أطاع الله أحد قط إلا بالعلم، وعامة من يعصيه إنما يعصيه ب المال .
الثامن عشر: أن العالم يدعو الناس إلى الله بعلمه وحاله، وجامع المال يدعوهم إلى الدنيا بحاله وماله.
التاسع عشر: أن غنى المال قد يكون سبب هلاك صاحبه كثيرا؛ فإنه معشوق النفوس، فإذا رأت من يستأثر بمعشوقها عليها سعت في هلاكه، كما هو الواقع. وأما غنى العلم فسبب حياة الرجل وحياة غيره به، والناس إذا رأوا من يستأثر عليهم به ويطلبه أحبوه وخدموه وأكرموه.
العشرون: أن اللذة الحاصلة من غنى المال إما لذة وهمية وإما لذة بهيمية. فإن صاحبه إن التذ بنفس جمعه وتحصيله فتلك لذة وهمية خيالية وإن التذ بإنفاقه في شهواته فهي لذة بهيمية. وأما لذة العلم فلذة عقلية روحانية، وهي تشبه لذة الملائكة وبهجتها.
الحادي والعشرون: أن عقلاء الأمم مطبقون على ذم الشره في جمع المال الحريص عليه، وتنقصه والإزراء به، ومطبقون على تعظيم الشره في جمع العلم وتحصيله، ومدحه ومحبته ورؤيته بعين الكمال.
الثاني والعشرون: أنهم مطبقون على تعظيم الزاهد في المال ، المعرض عن جمعه، الذي لا يلتفت إليه ولا يجعل قلبه عبدا له، ومطبقون على ذم الزاهد في العلم، الذي لا يلتفت إليه ولا يحرص عليه.
الثالث والعشرون: أن المال إنما يمدح صاحبه بتخليه منه وإخراجه، والعلم إنما يمدح بتحليه به واتصافه به.
الرابع والعشرون: أن غنى المال مقرون بالخوف والحزن، فهو حزين قبل حصوله، خائف بعد حصوله، وكلما كان أكثر كان الخوف أقوى، وغنى العلم مقرون بالأمن والفرح والسرور.
الخامس والعشرون: أن الغني بماله لا بد أن يفارقه غناه، فيتعذب ويتألم بمفارقته، والغنى بالعلم لا يزول، فلا يتعذب صاحبه ولا يتألم؛ فلذة الغنى بالمال لذة زائلة منقطعة يعقبها الألم، ولذة الغنى بالعلم لذة باقية مستمرة لا يلحقها ألم.
السادس والعشرون: أن استلذاذ النفس وكمالها بالغنى استكمال بعارية مؤداة، فتجملها بالمال تجمل بثوب مستعار لا بد أن يرجع إلى مالكه يوما ما، وأما تجملها بالعلم وكمالها به فتجمل بصفة ثابتة لها راسخة فيها لا تفارقها
السابع والعشرون: أن الغنى ب المال هو عين فقر النفس، والغنى بالعلم هو غناها الحقيقي؛ فغناها بعلمها هو الغنى، وغناها بمالها هو الفقر.
الثامن والعشرون: أن من قدم وأكرم لماله إذا زال ماله ذهب تقديمه وإكرامه، ومن قدم وأكرم لعلمه فإنه لا يزداد إلا تقديما وإكراما.
التاسع والعشرون: أن تقديم الرجل لماله هو عين ذمه؛ فإنه نداء عليه بنقصه، وأنه لولا ماله لكان مستحقا للتأخير والإهانة وأما تقديمه وإكرامه لعلمه فإنه عين كماله؛ إذ هو تقديم له بنفسه وبصفته القائمة به، لا بأمر خارج عن ذاته.
الوجه الثلاثون: أن طالب الكمال بغنى المال كالجامع بين الضدين؛ فهو طالب ما لا سبيل له إليه.
وبيان ذلك: أن القدرة صفة كمال، وصفة الكمال محبوبة بالذات، والاستغناء عن الغير ــ أيضا ــ صفة كمال محبوبة بالذات، فإذا مال الرجل بطبعه إلى السخاوة والجود وفعل المكرمات، فهذا كمال مطلوب للعقلاء، محبوب للنفوس، وإذا التفت إلى أن ذلك يقتضي خروج المال من يده، وذلك يوجب نقصه واحتياجه إلى غيره وزوال قدرته= نفرت نفسه عن السخاء والكرم والجود واصطناع المعروف، وظن أن كماله في إمساك المال .
وهذه البلية أمر ثابت لعامة الخلق، لا ينفكون عنها فلأجل ميل الطبع إلى حصول المدح والثناء والتعظيم يحب الجود والسخاء والمكارم، ولأجل فوت القدرة الحاصلة بسبب إخراجه والحاجة المنافية لكمال الغنى يحب إبقاء ماله، ويكره السخاء والكرم والجود.
الحادي والثلاثون: أن اللذة الحاصلة من المال والغنى إنما هي حال تجدده فقط، وأما حال دوامه: فإما أن تذهب تلك اللذة، وإما أن تنقص.
ويدل عليه أن الطبع يبقى طالبا لغنى آخر، حريصا عليه، فهو يحاول تحصيل الزيادة دائما، فهو في فقر مستمر غير منقض ، ولو ملك خزائن الأرض ففقره وطلبه وحرصه باق عليه؛ فإنه أحد المنهومين اللذين لا يشبعان ، فهو لا يفارقه ألم الحرص والطلب.
وهذا بخلاف غني العلم والإيمان؛ فإن لذته في حال بقائه مثلها في حال تجدده، بل أزيد، وصاحبها وإن كان لا يزال طالبا للمزيد حريصا عليه، فطلبه وحرصه مستصحب للذة الحاصل، ولذة المرجو المطلوب، ولذة فمع صاحب العلم من أسباب اللذة ما هو أعظم وأقوى وأدوم من لذة الغني، وتعبه في تحصيله وجمعه وضبطه أقل من تعب جامع المال بجمعه ، وألمه دون ألمه.
الثاني والثلاثون: أن غنى المال يستدعي الإنعام على الناس والإحسان إليهم؛ فصاحبه إما أن يسد على نفسه هذا الباب، وإما أن يفتحه عليه.
فإن سده على نفسه اشتهر عند الناس بالبعد من الخير والنفع؛ فأبغضوه وذموه واحتقروه، وكل من كان بغيضا عند الناس حقيرا لديهم كان وصول الآفات والمضرات إليه أسرع من النار في الحطب اليابس، ومن السيل في منحدره، وإذا عرف من الخلق أنهم يمقتونه ويبغضونه ولا يقيمون له وزنا تألم قلبه غاية التألم، وأحضر الهموم والغموم والأحزان.
وإن فتح باب الإحسان والعطاء فإنه لا يمكنه إيصال الخير والإحسان إلى كل أحد، فلا بد من إيصاله إلى البعض وإمساكه عن البعض، وهذا يفتح عليه باب العداوة والمذمة من المحروم والمرحوم.
أما المحروم فيقول: كيف جاد على غيري وبخل علي؟!
وأما المرحوم فإنه يلتذ ويفرح بما حصل له من الخير والنفع، فيبقى طامعا مستشرفا لنظيره على الدوام، وهذا قد يتعذر غالبا؛ فيفضي ذلك إلى العداوة الشديدة والمذمة، ولهذا قيل: «اتق شر من أحسنت إليه» .
وهذه الآفات لا تعرض في غنى العلم؛ فإن صاحبه يمكنه بذله للعالم واشتراكهم فيه ، والقدر المبذول منه باق لآخذه لا يزول، بل يتجر به، فهو كالغني إذا أعطى الفقير رأس مال يتجر به حتى يصير غنيا مثله.
الوجه الثالث والثلاثون: أن جمع المال مقرون بثلاثة أنواع من الآفات والمحن: نوع قبله، ونوع عند حصوله، ونوع بعد مفارقته.
* فأما النوع الأول: فهو المشاق والأنكاد والآلام التي لا يحصل إلا بها.
* وأما النوع الثاني: فمشقة حفظه وحراسته وتعلق القلب به، فلا يصبح إلا مهموما، ولا يمسي إلا مغموما.
فهو بمنزلة عاشق مفرط المحبة قد ظفر بمعشوقه، والعيون من كل جانب ترمقه، والألسن والقلوب ترشقه، فأي عيش وأي لذة لمن هذه حاله؟! وقد علم أن أعداءه وحساده لا يفترون عن سعيهم في التفريق بينه وبين معشوقه وإن لم يظفروا هم به، ولكن مقصودهم أن يزيلوا اختصاصه به دونهم، فإن فازوا به وإلا استووا في الحرمان، فزال الاختصاص المؤلم للنفوس.
ولو قدروا على مثل ذلك مع العالم لفعلوه، ولكنهم لما علموا أنه لا سبيل إلى سلبه علمه عمدوا إلى جحده وإنكاره؛ ليزيلوا من القلوب محبته وتقديمه والثناء عليه، فإن بهر علمه وامتنع عن مكابرة الجحود والإنكار رموه بالعظائم، ونسبوه إلى كل قبيح؛ ليزيلوا من القلوب محبته ويسكنوا موضعها النفرة عنه وبغضه. وهذا شغل السحرة بعينه؛ فهؤلاء سحرة بألسنتهم.
فإن عجزوا له عن شيء من القبائح الظاهرة بعينه رموه بالتلبيس والتدليس، والزوكرة والرياء، وحب الترفع وطلب الجاه.
وهذا القدر من معاداة أهل الجهل والظلم للعلماء مثل الحر والبرد لا بد منه، فلا ينبغي لمن له مسكة عقل أن يتأذى به؛ إذ لا سبيل له إلى دفعه بحال، فليوطن نفسه عليه كما يوطنها على برد الشتاء وحر الصيف.
* والنوع الثالث من آفات الغنى: ما يحصل للعبد بعد مفارقته من تعلق قلبه به، وكونه قد حيل بينه وبينه، والمطالبة بحقوقه، والمحاسبة على مقبوضه ومصروفه: من أين اكتسبه وفي ماذا أنفقه؟
وغنى العلم والإيمان مع سلامته من هذه الآفات فهو كفيل بكل لذة وفرحة وسرور، ولكن لا ينال إلا على جسر من التعب والصبر والمشقة.
الرابع والثلاثون: أن لذة الغني بالمال مقرونة بخلطة الناس، ولو لم يكن إلا خدمه وأزواجه وسراريه وأتباعه؛ إذ لو انفرد الغني بماله وحده من غير أن يتعلق بخادم أو زوجة أو أحد من الناس لم يكمل انتفاعه بماله، ولا التذاذه به.
وإذا كان كمال لذته بغناه موقوفا على اتصاله بالغير، فذلك الاتصال منشأ الآفات والآلام وأنواع النكد، ولو لم يكن إلا اختلاف أخلاق الناس وطبائعهم وإراداتهم؛ فقبيح هذا حسن ذاك، ومصلحة ذاك مفسدة هذا، ومنفعة هذا مضرة الآخر، وبالعكس؛ فهو مبتلى بهم، فلا بد من وقوع النفرة والتباغض والتعادي بينهم وبينه؛ فإن إرضاءهم كلهم محال، وهو جمع بين الضدين، وإرضاء بعضهم وإسخاط غيره سبب الشر والمعاداة.
وكلما طالت المخالطة ازدادت أسباب الشر والعداوة وقويت؛ وبهذا السبب كان الشر الحاصل من الأقارب والعشراء أضعاف الشر الحاصل من الأجانب والبعداء.
وهذه المخالطة إنما حصلت من جانب الغنى ب المال ، أما إذا لم يكن فيه فضيلة لهم فإنهم يتجنبون مخالطته ومعاشرته، فيستريح من أذى الخلطة والعشرة.
وهذه الآفات معدومة في الغنى بالعلم.
الخامس والثلاثون: أن المال لا يراد لذاته وعينه؛ فإنه لا يحصل بذاته شيء من المنافع أصلا؛ فإنه لا يشبع ولا يروي، ولا يدفاء ولا يمتع، وإنما يراد لهذه الأشياء؛ فإنه لما كان طريقا إليها أريد إرادة الوسائل، ومعلوم أن الغايات أشرف من الوسائل؛ فهذه الغايات إذا أشرف منه، وهي مع شرفها بالنسبة إليه ناقصة دنية. وقد ذهب كثير من العقلاء إلى أنها لا حقيقة لها، وإنما هي دفع آلام فقط ؛ فإن لبس الثياب ــ مثلا ــ إنما فائدته دفع التألم بالحر والبرد والريح، وليس فيها لذة زائدة على ذلك، وكذلك الأكل إنما فائدته دفع ألم الجوع، ولهذا لو لم يجد ألم الجوع لم يستطب الأكل، وكذلك الشرب مع العطش، والراحة مع التعب. ومعلوم أن في مزاولة ذلك وتحصيله ألم وضرر ، ولكن ضرره وألمه أقل من ضرر ما يدفع به وألمه، فيحتمل الإنسان أخف الضررين دفعا لأعظمهما.
وحكي عن بعض العقلاء أنه قيل له ــ وقد تناول قدحا كريها جدا من الدواء ــ: كيف حالك معه؟ قال:
أصبحت في دار بليات … أدفع آفات بآفات.
ومنها: أن الأراذل من الناس وسقطهم يشاركون فيها كبراءهم وعقلاءهم، بل يزيدون عليهم فيها أعظم زيادة وأفحشها، فنسبتهم فيها إلى الأفاضل كنسبة الحيوانات البهيمية إليهم، فمشاركة الأراذل وأهل الخسة والدناءة فيها وزيادتهم على العقلاء فيها مما يوجب النفرة والإعراض عنها، وكثير من الناس حصل له الزهد في المحبوب والمعشوق منها بهذه الطريق.
وهذا كثير في أشعار الناس ونثرهم، كما قيل:
سأترك حبها من غير بغض … ولكن كثرة الشركاء فيه
إذا وقع الذباب على طعام … رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماء … إذا كان الكلاب يلغن فيه .
وقيل لزاهد: ما الذي زهدك في الدنيا؟ فقال: «خسة شركائها، وقلة وفائها، وكثرة جفائها».
وقيل لآخر في ذلك؛ فقال: «ما مددت يدي إلى شيء منها إلا وجدت غيري قد سبقني إليه، فأتركه له».
السادس والثلاثون: أن غني المال يبغض الموت ولقاء الله؛ فإنه لحبه ماله يكره مفارقته ويحب بقاءه ليتمتع به، كما يشهد به الواقع.
وأما العلم، فإنه يحبب للعبد لقاء ربه، ويزهده في هذه الحياة النكدة الفانية.
السابع والثلاثون: أن الأغنياء يموت ذكرهم بموتهم، والعلماء يموتون ويحيا ذكرهم؛ كما قال أمير المؤمنين في هذا الحديث: «مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر»؛ فخزان الأموال أحياء كأموات، والعلماء بعد موتهم أموات كأحياء.
الثامن والثلاثون: أن نسبة العلم إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن؛ فالروح ميتة حياتها بالعلم، كما أن الجسد ميت حياته بالروح، فالغنى ب المال غايته أن يزيد في حياة البدن، وأما العلم فهو حياة القلوب والأرواح، كما تقدم تقريره.
التاسع والثلاثون: أن القلب ملك البدن، والعلم زينته وعدته وماله، وبه قوام ملكه، والملك لا بد له من عدد وعدة ومال وزينة؛ فالعلم هو مركبه وعدته وجماله.
وأما المال فغايته أن يكون زينة وجمالا للبدن إذا أنفقه في ذلك، فإذا خزنه ولم ينفقه لم يكن زينة ولا جمالا، بل نقصا ووبالا.
ومن المعلوم أن زينة الملك وما به قوام ملكه أجل وأفضل من زينة رعيته وجمالهم، فقوام القلب بالعلم، كما أن قوام الجسم بالغذاء.
الوجه الأربعون: أن القدر المقصود من المال هو ما يكفي العبد ويقيمه ويدفع ضرورته حتى يتمكن من قضاء جهازه ، ومن التزود لسفره إلى ربه عز وجل، فإذا زاد على ذلك شغله وقطعه عن السفر إلى ربه وعن قضاء جهازه وتعبية زاده؛ فكان ضرره عليه أكثر من مصلحته، وكلما ازداد غناه به ازداد تثبطا وتخلفا عن التجهز لما أمامه.
وأما العلم النافع، فكلما ازداد منه ازداد في تعبية الزاد، وقضاء الجهاز، وإعداد عدة المسير، والله الموفق وبه الاستعانة، ولا حول ولا قوة إلا به.
مفتاح دار السعادة لابن القيم رحمه الله ط: عطاءات العلم (1\364-384)بتصرف يسير
______________
(2687): قال الشيخ سيف الكعبي -حفظه الله-: (القلب عندما ينتكس لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أُشرب من هواه)
من محاضرة (كلمة: قد أفلح من زكاها)
______________
(2688): قال الحسن البصري رحمه الله:
( كَمْ مِنْ مُسْتَدْرِجٍ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ وَكَمْ مِنْ مَفْتُونٍ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَكَمْ مِنْ مَغْرُورٍ بِالسَّتْرِ عَلَيْهِ )
الزهد لأحمد بن حنبل ١/٢١٧
______________
(2689): قال بعض السلف رضي اللّه عنهم:
” يَومُكَ مثلَ جَملِكَ إنْ أمْسَكْتَ أولهُ تَبِعَكَ آخرِهُ ”
تذكرة المؤتسي شرح عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي ١/١٨١