(8) بيان الوسيلة في آيات القرآن الكريمة
جمع سيف بن دورة الكعبي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف الشيخ د. سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إماراتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
سورة الشعراء:
قال تعالى:
(قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ)
[سورة الشعراء 50 – 51]
فتوسلوا بإيمانهم باليوم الآخر وأنهم منقلبون إليه سبحانه. ومبادراتهم بالإيمان واستعملوا لفظ الطمع بين يدي دعائهم … مع سمو طلبهم وهو مغفرة الذنوب.
قال ابن كثير:
ثُمَّ توعَّدهم فِرْعَوْنُ بِقَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ وَالصَّلْبِ، فَقَالُوا: {لَا ضَيْرَ} أَيْ: لَا حَرَجَ وَلَا يَضُرُّنَا ذَلِكَ وَلَا نُبَالِي بِهِ {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} أَيِ: الْمَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا فَعَلْتَ بِنَا، وَسَيَجْزِينَا عَلَى ذَلِكَ أَتَمَّ الْجَزَاءَ؛ وَلِهَذَا قَالُوا: {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا} أَيْ: مَا قَارَفْنَاهُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ، {أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ: بِسَبَبِ أَنَّا بَادَرْنَا قَوْمَنَا مِنَ الْقِبْطِ إِلَى الْإِيمَانِ. فَقَتَلَهُمْ كُلَّهُمْ.
قال ابن الجوزي:
قَوْلُهُ تَعالى: {لا ضَيْرَ} أيْ: لا ضَرَرَ. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هو مِن ضارَّهُ يَضُورُهُ ويَضِيرُهُ؛ بِمَعْنى: ضَرَّهُ. والمَعْنى: لا ضَرَرَ عَلَيْنا فِيما يَنالَنا في الدُّنْيا، لِأنّا نَنْقَلِبُ إلى رَبِّنا في الآخِرَةِ مُؤَمِّلِينَ غُفْرانَهُ.
قَوْلُهُ تَعالى: {أنْ كُنّا} أيْ: لِأنْ كُنّا {أوَّلَ المُؤْمِنِينَ} بِآياتِ مُوسى في هَذِهِ الحالِ.
قال البقاعي:
{إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ}
وعبروا بالطمع إشارة إلى أن جميع أسباب السعادة منه تعالى؛ فكأنه لا سبب منهم أصلاً. [البقاعي: (14) / (36)]
————-
قال تعالى:
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)
وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ (84)
وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)
وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86)
وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) سورة الشعراء
التوسل إلى الله بإظهار التواضع فلم يقل اجعلني رأس الصالحين إنما طلب الالحاق بهم. وقدم الثناء لربه قبل الدعاء.
قال الطبري:
فربي هذا الذي بيده نفعي وضري، وله القدرة والسلطان، وله الدنيا والآخرة، لا الذي لا يسمع إذا دعي، ولا ينفع ولا يضر. وإنما كان هذا الكلام من إبراهيم احتجاجا على قومه في أنه لا تصلح الألوهة، ولا ينبغي أن تكون العبودة إلا لمن يفعل هذه الأفعال، لا لمن لا يطيق نفعا ولا ضرا. [الطبري: (19) / (363)]
قال ابن كثير:
وهذا سؤال من إبراهيم، عليه السلام، أن يؤتيه ربه حكما.
قال ابن عباس: وهو العلم. وقال عكرمة: هو اللب. وقال مجاهد: هو القرآن. وقال السدي: هو النبوة. وقوله: (وألحقني بالصالحين) أي: اجعلني مع الصالحين في الدنيا والآخرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عند الاحتضار: ” [اللهم الرفيق الأعلى ” قالها ثلاثا. وفي الحديث في الدعاء]: اللهم أحينا مسلمين وأمتنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مبدلين “.
وَقَوْلُهُ: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} أَيْ: وَاجْعَلْ لِي ذِكْرًا جَمِيلًا بَعْدِي أذكرَ بِهِ، وَيُقْتَدَى بِي فِي الْخَيْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ. سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصَّافَّاتِ: (108) – (110)].
قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} يَعْنِي: الثَّنَاءَ الْحَسَنَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [الْعَنْكَبُوتِ: (27)]، وَكَقَوْلِهِ: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [النَّحْلِ: (122)].
قَالَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ: كُلُّ مِلَّةٍ تُحِبُّهُ وَتَتَوَلَّاهُ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ. * * *
وَقَوْلُهُ: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} أَيْ: أَنْعِمْ عَليَّ فِي الدُّنْيَا بِبَقَاءِ الذِّكْرِ الْجَمِيلِ بَعْدِي، وَفِي الْآخِرَةِ بِأَنْ تَجْعَلَنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ. * * *
وَقَوْلُهُ: {وَاغْفِرْ لأبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} كَقَوْلِهِ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [إِبْرَاهِيمَ: (41)]، وَهَذَا مِمَّا رجَعَ عَنْهُ إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ
{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: (114)] …..
وَقَوْلُهُ: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} أَيْ: لَا يَقِي الْمَرْءَ ((23)) مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَالُهُ، وَلَوِ افْتَدَى بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا: {وَلا بَنُونَ} وَلَوِ افْتَدَى بِمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، وَلَا ينفعُ يَوْمئِذٍ إِلَّا الإيمانُ بِاللَّهِ، وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ، وَالتَّبَرِّي مِنَ الشِّرْكِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أَيْ: سَالِمٍ مِنَ الدَّنَسِ وَالشَّرْكِ.
قال الشوكاني:
وإنَّما قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ {والَّذِي أطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} هَضْمًا لِنَفْسِهِ، وقِيلَ: إنَّ الطَّمَعَ هُنا بِمَعْنى اليَقِينِ في حَقِّهِ، وبِمَعْنى الرَّجاءِ في حَقِّ سِواهُ.
ثُمَّ لَمّا فَرَغَ الخَلِيلُ مِنَ الثَّناءِ عَلى رَبِّهِ والِاعْتِرافِ بِنِعَمِهِ عَقَّبَهُ بِالدُّعاءِ لِيَقْتَدِيَ بِهِ غَيْرُهُ في ذَلِكَ.
فَقالَ: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا} والمُرادُ بِالحُكْمِ العِلْمُ والفَهْمُ، وقِيلَ: النُّبُوَّةُ والرِّسالَةُ، وقِيلَ: المَعْرِفَةُ بِحُدُودِ اللَّهِ وأحْكامِهِ إلى آخِرِهِ {وألْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ} يَعْنِي بِالنَّبِيِّينَ مِن قَبْلِي، وقِيلَ: بِأهْلِ الجَنَّةِ.
{واجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ في الآخِرِينَ} أيِ: اجْعَلْ لِي ثَناءً حَسَنًا في الآخِرِينَ الَّذِينَ يَاتُونَ بَعْدِي إلى يَوْمِ القِيامَةِ. انتهى
يقصد بالثناء على ربه: قَالَ أَفَرَءَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وَآبَا ؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُو لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)
قال الآلوسي:
{رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا} لَمّا ذَكَرَ لَهم مِن صِفاتِهِ – عَزَّ وجَلَّ – مِمّا يَدُلُّ عَلى كَمالِ لُطْفِهِ تَعالى بِهِ ما ذَكَرَ حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلى مُناجاتِهِ تَعالى ودُعائِهِ لِرَبْطِ العَتِيدِ وجَلْبِ المَزِيدِ.
والأوْلى عِنْدِي أنْ يُفَسَّرَ الحُكْمُ بِالحِكْمَةِ بِمَعْنى الكَمالِ في العِلْمِ والعَمَلِ، والإلْحاقُ بِالصّالِحِينَ بِجَعْلِ مَنزِلَتِهِ كَمَنزِلَتِهِمْ عِنْدَهُ – عَزَّ وجَلَّ – والمُرادُ بِطَلَبِ ذَلِكَ أنْ يَكُونَ عِلْمُهُ وعَمَلُهُ مَقْبُولِينَ؛ إذْ ما لَمْ يُقْبَلا لا يُلْحَقُ صاحِبُهُما بِالصّالِحِينَ، ولا تُجْعَلُ مَنزِلَتُهُ كَمَنزِلَتِهِمْ، وكَأنَّهُ لِذَلِكَ عَدَلَ عَنْ قَوْلِ: (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وصَلاحًا) أوْ (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا واجْعَلْنِي مِنَ الصّالِحِينَ) إلى ما في النَّظْمِ الكَرِيمِ، فَتَأمَّلْ ولا تَغْفُلْ. انتهى
قال السعدي:
ثم دعا عليه السلام ربه فقال: رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا أي: علما كثيرا, أعرف به الأحكام, والحلال والحرام, وأحكم به بين الأنام، وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ من إخوانه الأنبياء والمرسلين
_____
سورة النمل:
قال تعالى:
رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) سورة النمل
التوسل بالتوفيق لشكر النعمة والعمل الصالح. و بالتواضع بأن يدخل في العباد الصالحين
قال ابن القيم:
قوله تعالى: {رَبِّ أوْزِعْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أنْعَمْتَ عَلَيَّ وعَلى والِدَيَّ وأنْ أعْمَلَ صالِحًا تَرْضاهُ}
قال ابن عباس والمفسرون بعده ألهمني.
قال أبو إسحاق وتأويله في اللغة كُفَّنِي عن الأشياء إلا نفس شكر نعمتك، ولهذا يقال في تفسير الموزع المولع
ومنه الحديث:
“كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – موزعا بالسؤال. أي مولعا به كأنه كف ومنع إلا منه”
وقال في الصحاح وزعته أزعه وزعا كففته فاتزع عنه. أي كف، وأوزعته بالشيء أغريته به فأوزع به فهو موزع به واستوزعت الله شكره فأوزعني أي استلهمته فألهمني.
فقد دار معنى اللفظة على معنى ألهمني ذلك واجعلني مغرى به وكُفَّنِي عما سواه.
وعند القدرية إن هذا غير مقدور للرب بل هو غير مقدور العبد.
قال النسفي:
{وَقالَ رَبِّ أوْزِعْنِي} ألْهِمْنِي وحَقِيقَتُهُ كُفَّنِي عَنِ الأشْياءِ إلّا عَنْ شُكْرِ نِعْمَتِكَ {أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أنْعَمْتَ عَلَيَّ} مِنَ النُبُوَّةِ والمُلْكِ والعِلْمِ {وَعَلى والِدَيَّ}، لِأنَّ الإنْعامَ عَلى الوالِدَيْنِ إنْعامٌ عَلى الوَلَدِ {وَأنْ أعْمَلَ صالِحًا تَرْضاهُ} في بَقِيَّةِ عُمْرِي وأدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ وأدْخِلْنِي الجَنَّةَ بِرَحْمَتِكَ لا بِصالِحِ عَمَلِي إذْ لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ أحَدٌ إلّا بِرَحْمَتِهِ كَما جاءَ في الحَدِيثِ.
قال السعدي:
وقال شاكرا لله الذي أوصله إلى هذه الحال: رَبِّ أَوْزِعْنِي أي: ألهمني ووفقني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ فإن النعمة على الوالدين نعمة على الولد. فسأل ربه التوفيق للقيام بشكر نعمته الدينية والدنيوية عليه وعلى والديه، وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ أي: ووفقني أن أعمل صالحا ترضاه لكونه موافقا لأمرك مخلصا فيه سالما من المفسدات والمنقصات، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ التي منها الجنة فِي جملة عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ فإن الرحمة مجعولة للصالحين على اختلاف درجاتهم ومنازلهم.
——-
سورة القصص:
قال تعالى:
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرا لِّلْمُجْرِمِينَ (17) سورة القصص
التوسل بالاعتراف بالذنب
قال الطبري:
يقول تعالى ذكره مخبرا عن ندم موسى على ما كان من قتله النفس التي قتلها، وتوبته إليه منه ومسألته غفرانه من ذلك {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} بقتل النفس التي لم تأمرني بقتلها، فاعف عن ذنبي ذلك، واستره عليّ، ولا تؤاخذني به فتعاقبني عليه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، قال: عرف المخرج، فقال: {ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ}.
قال القرطبي بعد أن ذكر أثر قتادة؛ عرف المخرج:
ثم لم يزل صلى الله عليه وسلم يعدد ذلك على نفسه، مع علمه بأنه قد غفر له، حتى إنه في القيامة يقول: إني قتلت نفسا لم أومر بقتلها
قال ابن تيمية:
فاعْتَرَفَ بِظُلْمِهِ نَفْسَهُ فِيما كانَ مِن جِنايَةٍ عَلى غَيْرِهِ لَمْ يُؤْمَرْ بِه مجموع الفتاوى 29/ 278
قال القاسمي:
وسَمّاهُ ظُلْمًا واسْتَغْفَرَ مِنهُ بِالنِّسْبَةِ إلى مَقامِهِ
قال القنوجي:
وقيل: هو على سبيل الاتضاع لله تعالى، والاعتراف بالتقصير عن القيام بحقوقه. وإن لم يكن هناك ذنب فهو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين.
قال السعدي:
ثم استغفر ربه {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} خصوصا للمخبتين، المبادرين للإنابة والتوبة، كما جرى من موسى عليه السلام.
قال ابن عثيمين:
وفيها أيضًا: جواز التوسل إلى الله سبحانه وتعالى بحال الداعي؛ يؤخذ من قوله: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي}، فالظالم لنفسه محتاجٌ إلى من يُنقذه، ومنه قوله تعالى عن موسى: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص (24)].
والتوسل إلى الله سبحانه وتعالى يكون بحال الداعي، ويكون بالثناء على الله وأسمائه وصفاته، وكذلك بأفعاله التي يُنعِم بها، وقد اجتمع الجميع في تعليم النبي – صلى الله عليه وسلم – لأبي بكر؛ قال: «علِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي، فقال: «قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
قال الشوكاني:
{قالَ رَبِّ بِما أنْعَمْتَ عَلَيَّ} هَذِهِ الباءُ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ باءَ القَسَمِ والجَوابُ مُقَدَّرٌ أيْ: أُقْسِمُ بِإنْعامِكَ عَلَيَّ لَأتُوبَنَّ وتَكُونُ جُمْلَةُ {فَلَنْ أكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} كالتَّفْسِيرِ لِلْجَوابِ وكَأنَّهُ أقْسَمَ بِما أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ أنْ لا يُظاهِرَ مُجْرِمًا.
ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الباءُ هي باءُ السَّبَبِيَّةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ أيِ: اعْصِمْنِي بِسَبَبِ ما أنْعَمْتَ بِهِ عَلَيَّ، ويَكُونُ قَوْلُهُ {فَلَنْ أكُونَ ظَهِيرًا} مُتَرَتِّبًا عَلَيْهِ، ويَكُونُ في ذَلِكَ اسْتِعْطافٌ لِلَّهِ – تَعالى – وتَوَصُّلٌ إلى إنْعامِهِ بِإنْعامِهِ، وما في قَوْلِهِ {بِما أنْعَمْتَ} إمّا مَوْصُولَةٌ أوْ مَصْدَرِيَّةٌ، والمُرادُ بِما أنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ: هو ما آتاهُ مِنَ الحُكْمِ والعِلْمِ أوْ بِالمَغْفِرَةِ أوْ بِالجَمِيعِ، وأرادَ بِمُظاهَرَةِ المُجْرِمِينَ: إمّا صُحْبَةُ فِرْعَوْنَ والِانْتِظامُ في جُمْلَتِهِ في ظاهِرِ الأمْرِ، أوْ مُظاهَرَتُهُ عَلى ما فِيهِ إثْمٌ.
قالَ الكِسائِيُّ والفَرّاءُ: لَيْسَ قَوْلُهُ: {فَلَنْ أكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} خَبَرًا بَلْ هو دُعاءٌ أيْ: فَلا تَجْعَلُنِي يا رَبِّ ظَهِيرًا لَهم.
قالَ الكِسائِيُّ، وفي قِراءَةِ عَبْدِ اللَّهِ ” فَلا تَجْعَلُنِي يا رَبِّ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ” وقالَ الفَرّاءُ: المَعْنى اللَّهُمَّ فَلَنْ أكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ.
وقالَ النَّحّاسُ: إنَّ جَعْلَهُ مِن بابِ الخَبَرِ أوْفى وأشْبَهُ بِنَسَقِ الكَلامِ. انتهى
______
قال تعالى:
رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) سورة القصص
التوسل بالربوبية والتبرؤ من طريقة الظالمين ومفارقتهم بالهجرة من بلادهم.
قال السعدي:
{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} أن يوقع به القتل، ودعا اللّه، و {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} فإنه قد تاب من ذنبه وفعله غضبا من غير قصد منه للقتل، فَتَوعُّدُهُمْ له ظلم منهم وجراءة.
قال الطبري:
وقوله: (قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يقول تعالى ذكره: قال موسى وهو شاخص عن مدينة فرعون خائفا: ربّ نجني من هؤلاء القوم الكافرين, الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بك
____
قال تعالى
(فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْر فَقِير)
[سورة القصص 24]
قال البقاعي:
{فَقالَ} لِأنَّهُ لَيْسَ في الشَّكْوى إلى المَوْلى العَلِيِّ الغَنِيِّ المُطْلَقِ نَقْصٌ {رَبِّ}
ولَمّا كانَ حالُهُ في عَظِيمِ صَبْرِهِ حالَهُ مَن لا يَطْلُبُ، أكَّدَّ سُؤالَهُ إعْلامًا بِشَدِيدِ تَشَوُّقِهِ لَمّا سَألَ فِيهِ وزِيادَةً في التَّضَرُّعِ والرِّقَّةِ، فَقالَ: {إنِّي} ولْأكَدِ الِافْتِقارِ بِالإلْصاقِ بِاللّامِ دُونَ ”إلى“ فَقالَ: {لِما} أيْ: لِأيِّ شَيْءٍ. ولَمّا كانَ الرِّزْقُ الآتِي إلى الإنْسانِ مُسَبِّبًا عَنِ القَضاءِ الآتِي عَنِ العَلِيِّ الكَبِيرِ، عَبَّرَ بِالإنْزالِ وعَبَّرَ بِالماضِي تَعْمِيمًا لِحالَةِ الِافْتِقارِ، وتَحَقُّقًا لِإنْجازِ الوَعْدِ بِالرِّزْقِ فَقالَ: {أنْزَلْتَ} ولَعَلَّهُ حَذَفَ العائِدَ اخْتِصارًا لِما بِهِ مِنَ الإعْياءِ {إلَيَّ مِن خَيْرٍ} أيْ: ولَوْ قَلَّ {فَقِيرٌ} أيْ: مَضْرُورٌ،
قال القنوجي:
قال ابن عباس لقد قال موسى رب الخ وهو أكرم خلقه عليه، ولقد افتقر إلى شق تمرة، ولقد لصق بطنه بظهره من شدة الجوع. وعنه قال: ما سأل إلا الطعام؛ وعنه قال: سأل فلقاً من الخبز يشد بها صلبه من الجوع، ويحتمل أن يريد أني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إلي من خير الدين وهو النجاة من الظالمين، لأنه كان عند فرعون في ملك وثروة، قال ذلك رضاء بالبدل السني، وفرحاً بالعوض الهني، وشكراً لله الغني.
قال السعدي:
{فَقَالَ} في تلك الحالة، مسترزقا ربه {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} أي: إني مفتقر للخير الذي تسوقه إليَّ وتيسره لي. وهذا سؤال منه بحاله، والسؤال بالحال أبلغ من السؤال بلسان المقال، فلم يزل في هذه الحالة داعيا ربه متملقا.
قال الآلوسي:
والكَلامُ تَعْرِيضٌ لِما يُطْعِمُهُ لِما نالَهُ مِن شِدَّةِ الجُوعِ والتَّعْبِيرُ بِالماضِي بَدَلُ المُضارِعِ في أنْزَلْتَ لِلِاسْتِعْطافِ كالِافْتِتاحِ بِرَبٍّ، وتَاكِيدُ الجُمْلَةِ لِلِاعْتِناءِ
______
سورة ص:
قال تعالى:
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) سورة ص
التوسل بالاعتراف بالذنب وتقديمه قبل السؤال وارجاع المنة لله عزوجل امتنانا منك يا ربنا وكذلك التوسل باسم من أسماءالله:
قال ابن جزي:
{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي} قدم الاستغفار على طلب الملك، لأن أمور الدين كانت عندهم أهم من الدنيا فقدّم الأولى والأهمّ
قال ابن عاشور:
وجُمْلَةُ ”إنَّكَ أنْتَ الوَهّابُ“ عِلَّةٌ لِلسُّؤالِ كُلِّهِ وتَمْهِيدٌ لِلْإجابَةِ، فَقامَتْ إنَّ مَقامَ حَرْفِ التَّفْرِيعِ ودَلَّتْ صِيغَةُ المُبالَغَةِ في ”الوَهّابُ“ عَلى أنَّهُ تَعالى يَهَبُ الكَثِيرَ والعَظِيمَ لِأنَّ المُبالَغَةَ تُفِيدُ شِدَّةَ الكَمِّيَّةِ أوْ شِدَّةَ الكَيْفِيَّةِ أوْ كِلْتَيْهِما بِقَرِينَةِ مَقامِ الدُّعاءِ، فَمَغْفِرَةُ الذَّنْبِ مِنَ المَواهِبِ العَظِيمَةِ لِما يُرَتَّبُ عَلَيْهِ مِن دَرَجاتِ الآخِرَةِ، وإعْطاءُ مِثْلِ هَذا المُلْكِ هو هِبَةٌ عَظِيمَةٌ. وأنْتَ ضَمِيرُ فَصْلٍ، وأفادَ الفَصْلُ بِهِ قَصْرًا فَصارَ المَعْنى: أنْتَ القَوِيُّ المَوْهِبَةِ لا غَيْرَكَ، لِأنَّ اللَّهَ يَهَبُ ما لا يَمْلِكُ غَيْرُهُ أنْ يَهَبَهُ.
قال القاسمي:
{قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِن بَعْدِي} أيْ: غَيْرِي؛ لِفَخامَتِهِ وعَظَمَتِهِ، هِبَةَ فَضْلٍ، وإيثارَ اِمْتِنانٍ: {إنَّكَ أنْتَ الوَهّابُ}
قال الشوكاني:
{قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي} بَدَلًا مِن جُمْلَةِ (أنابَ) وتَفْسِيرًا لَهُ أيِ: اغْفِرْ لِي ما صَدَرَ عَنِّي مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي ابْتَلَيْتَنِي لِأجْلِهِ.
ثُمَّ لَمّا قَدَّمَ التَّوْبَةَ والِاسْتِغْفارَ جَعَلَها وسِيلَةً إلى إجابَةِ طَلْبَتِهِ فَقالَ: {وهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأحَدٍ مِن بَعْدِي} قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنى لا يَنْبَغِي لِأحَدٍ مِن بَعْدِي: لا يَكُونُ لِأحَدٍ مِن بَعْدِي، وقِيلَ: المَعْنى: لا يَنْبَغِي لِأحَدٍ أنْ يَسْلُبَهُ مِنِّي بَعْدَ هَذِهِ السُّلْبَةِ، أوْ لا يَصِحُّ لِأحَدٍ مِن بَعِيدٍ لِعَظَمَتِهِ ولَيْسَ هَذا مِن سُؤالِ نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمانَ – عَلَيْهِ السَّلامُ – لِلدُّنْيا ومُلْكِها والشَّرَفِ بَيْنَ أهْلِها، بَلِ المُرادُ بِسُؤالِهِ المُلْكَ أنْ يَتَمَكَّنَ بِهِ مِن إنْفاذِ أحْكامِ اللَّهِ – سُبْحانَهُ
في التفسير الميسر:
رجع سليمان إلى ربه وتاب، قال: رب اغفر لي ذنبي، وأعطني ملكًا عظيمًا خاصًا لا يكون مثله لأحد من البشر بعدي، إنك- سبحانك- كثير الجود والعطاء. فاستجبنا له، وذللنا الريح تجري بأمره طيِّعة مع قوتها وشدتها حيث أراد.
تنبيه:
وهذه الدعوة مما اختص الله تعالى نبيه سليمان عليه السلام بإجابتها، فلا تكون لأحد من بعده، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد امتنع من ربط الشيطان في سارية المسجد حين تفلت عليه في صلاته لأجل هذه الدعوة من نبي الله سليمان فكيف يسوغ لأحد أن يدعو بها ويسألها لنفسه؟ إن هذا لمن أبين الخطأ.
قال أبو العباس القرطبي في شرح حديث: تفلت الشيطان على النبي صلى الله عليه وسلم: قوله: ولولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقًا يلعب به ولدان أهل المدينة. يدل على أن مُلْكَ الجن والتصرُّفَ فيهم بالقهر مما خصّ به سليمان ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وسبب خصوصيته: دعوته التي استجيبتْ له، حيث قال: {وهب لي مُلكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعدي إنك أنت الوهاب}. ولما تحقق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الخصوصية، امتنع من تعاطي ما هَمَّ به من أخذ الجني وربطه. انتهى.
_____
قال تعالى
(وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْب وَعَذَابٍ)
[سورة ص 41]
التوسل بالنداء والضعف وأن الشفاء من الله عزوجل.
سبق بيان التوسل في قوله تعالى
{* وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}
[سُورَةُ الأَنبِيَاءِ: (83)]
قال ابن كثير:
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْب وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَاذَا مُغْتَسَلٌ بَارِد وَشَرَاب (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَة مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّاب (44)} [ص (41) – (44)]
يَذْكُرُ تَعَالَى عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا كَانَ ابْتَلَاهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الضُّرِّ فِي جَسَدِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَنْ جَسَدِهِ مَغْرز إِبْرَةٍ سَلِيمًا سِوَى قَلْبِهِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَنْ حَالِ الدُّنْيَا شَيْءٌ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَرَضِهِ وَمَا هُوَ فِيهِ غَيْرَ أَنَّ زَوْجَتَهُ حَفِظَتْ وِدَّهُ لِإِيمَانِهَا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ …. فَلَمَّا طَالَ الْمَطَالُ وَاشْتَدَّ الْحَالُ وَانْتَهَى الْقَدَرُ الْمَقْدُورُ وَتَمَّ الْأَجَلُ الْمُقَدَّرُ تَضَرَّعَ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِلَهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: (83)] وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَالَ: رَبِّ إِنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ، قِيلَ: بِنُصْبٍ فِي بَدَنِي وَعَذَابٍ فِي مَالِي وَوَلَدِي. فَعِنْدَ ذَلِكَ اسْتَجَابَ لَهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَقَامِهِ وَأَنْ يَرْكُضَ الْأَرْضَ بِرِجْلِهِ. فَفَعَلَ فَأَنْبَعَ اللَّهُ عَيْنًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ مِنْهَا فَأَذْهَبَ جَمِيعَ مَا كَانَ فِي بَدَنِهِ مِنَ الْأَذَى ثُمَّ أَمَرَهُ فَضَرَبَ الْأَرْضَ فِي مَكَانٍ آخَرَ فَأَنْبَعَ لَهُ عَيْنًا أُخْرَى وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهَا فَأَذْهَبَتْ مَا كَانَ فِي بَاطِنِهِ مِنَ السُّوءِ وَتَكَامَلَتِ الْعَافِيَةُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} ….
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ} قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: أَحْيَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِأَعْيَانِهِمْ وَزَادَهُمْ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ. * * *
وَقَوْلُهُ: {رَحْمَةً مِنَّا} أَيْ: بِهِ عَلَى صَبْرِهِ وَثَبَاتِهِ وَإِنَابَتِهِ وَتَوَاضُعِهِ وَاسْتِكَانَتِهِ {وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ} أَيْ: لِذَوِي الْعُقُولِ لِيَعْلَمُوا أَنَّ عاقبةَ الصَّبْرِ الفرجُ والمخرجُ والراحة.
قال البقاعي:
ولَمّا انْقَضى الخَبَرُ عَنِ المَلِكِ الأوّابِ؛ الَّذِي مَلَكَ الدُّنْيا بِالفِعْلِ قَهْرًا؛ وغَلَبَةً؛ شَرْقًا وغَرْبًا؛ وكانَ أيُّوبُ – عَلَيْهِ السَّلامُ – في ثَرْوَةِ المُلُوكِ؛ وإنْ لَمْ يَكُنْ مَلِكًا بِالفِعْلِ؛ وكانَ تَكْذِيبُ مَن كَذَّبَ بِالنَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – إنَّما هو بِتَسْلِيطِ اللَّهِ الشَّياطِينَ بِوَسْوَسَتِهِ عَلَيْهِمْ؛ وأمْرِهِ – سُبْحانَهُ – بِالصَّبْرِ عَلى ذَلِكَ؛ وقَصَّ عَلَيْهِ مِن أخْبارِ الأوّابِينَ؛ تَعْلِيمًا لِحُسْنِ الأوْبَةِ إنْ وهَنَ الصَّبْرُ؛ أتْبَعَهُ الإخْبارَ عَنِ الصّابِرِ الأوّابِ؛ الَّذِي لَمْ يَتَأوَّهْ إلّا مِن وسْوَسَةِ الشَّيْطانِ لِزَوْجِهِ؛ بِما كانَ يَفْتِنُها؛ لِيَزْدادَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – بِذِكْرِ هَذِهِ الأخْبارِ صَبْرًا؛ ويَتَضاعَفَ إقْبالُهُ عَلى اللَّهِ (تَعالى)؛ وتَضَرُّعُهُ لَهُ؛ اقْتِداءً بِإخْوانِهِ الَّذِينَ لَمْ تَشْغَلْهم عَنْهُ مِنحَةُ السَّرّاءِ؛ ولا مِحْنَةُ الضَّرّاءِ؛ وتَذْكِيرًا لِقُدْرَةِ اللَّهِ عَلى كُلِّ ما يُرِيدُهُ؛ تَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ قادِرٌ عَلى رَدِّ قُرَيْشٍ عَمّا هم فِيهِ؛ ونَصْرِ المُسْتَضْعَفِينَ مِن عِبادِهِ عَلَيْهِمْ؛ بِأيْسَرِ سَعْيٍ؛ فَقالَ: {واذْكُرْ عَبْدَنا}؛ أيْ: الَّذِي هو أهْلٌ لِلْإضافَةِ إلى عَظِيمِ جَنابِنا؛ وبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: {أيُّوبَ}؛ وهو مِنَ الرُّومِ؛ مِن أوْلادِ عِيصَ بْنِ إسْحاقَ – عَلَيْهِمُ السَّلامُ – لِتَتَأسّى بِحالِهِ؛ فَتَصْبِرَ عَلى قَوْمِكَ؛ وإنْ رَأيْتَ ما لا صَبْرَ لَكَ عَلَيْهِ دَعَوْتَ اللَّهَ في إصْلاحِهِ.
ولَمّا أمَرَهُ بِذِكْرِهِ؛ بَيَّنَ أنَّ مُعْظَمَ المُرادِ بَعْضُ أحْوالِهِ الشَّرِيفَةِ؛ لِيَتَأسّى بِهِ؛ فَقالَ – مُبْدِلًا مِنهُ بَدَلَ اشْتِمالٍ -: {إذْ}؛ أيْ: اذْكُرْ حالَهُ الَّذِي كانَ حِينَ {نادى}؛ وصَرَفَ القَوْلَ عَنْ مَظْهَرِ العَظَمَةِ؛ إلى صِفَةِ الإحْسانِ؛ لِأنَّهُ مَوْطِنُهُ؛ لِاقْتِضاءِ حالِهِ ذَلِكَ؛ فَقالَ: {رَبَّهُ} أيُّ المُحْسِنَ إلَيْهِ؛ الَّذِي عَرَفَ إحْسانَهُ إلَيْهِ في تَرْبِيَتِهِ بِبَلائِهِ؛ كَما عَرَفَ امْتِنانَهُ بِظاهِرِ نَعْمائِهِ؛ وآلائِهِ؛ ثُمَّ ذَكَرَ المُنادى بِهِ؛ حاكِيًا لَهُ بِلَفْظِهِ؛ فَقالَ – مُشِيرًا بِالتَّاكِيدِ إلى أنَّهُ – وإنْ كانَ حالُهُ فِيما عَهِدَ مِن شِدَّةِ صَبْرِهِ مُقْتَضِيًا عَدَمَ الشَّكْوى – أتاهُ ما لا صَبْرَ عَلَيْهِ -: {أنِّي}؛ أيْ: رَبِّ أدْعُوكَ بِسَبَبِ أنِّي؛ ولَمّا كانَ هُنا في سِياقِ التَّصْبِيرِ؛ عَظَّمَ الأمْرَ بِإسْنادِ الضُّرِّ إلى أعْدى الأعْداءِ؛ إلْهابًا إلى الإجابَةِ؛ وأدَبًا مَعَ اللَّهِ؛ فَقالَ: {مَسَّنِيَ}؛ أيْ: وأنا مِن أوْلِيائِكَ؛ {الشَّيْطانُ}؛ أيْ: المُحْتَرِقُ بِاللَّعْنَةِ؛ البَعِيدُ مِنَ الرَّحْمَةِ؛ بِتَسْلِيطِكَ لَهُ؛ {بِنُصْبٍ}؛ أيْ: ضُرٍّ؛ ومَشَقَّةٍ؛ وهَمٍّ؛ وداءٍ؛ ووَجَعٍ؛ وبَلاءٍ يُثْقِلُ صاحِبَهُ؛ فَيُتْعِبُهُ؛ ويُعْيِيهِ؛ ويَكِدُّهُ؛ ويُجْهِدُهُ؛ ويَصِلُ بِهِ إلى الغايَةِ مِن كُلِّ ذَلِكَ؛ وقُرِئَ بِضَمِّ الصّادِ أيْضًا؛ وقُرِئَ بِالتَّحْرِيكِ؛ كَـ ”الرُّشْدِ“؛ و”الرَّشَدِ“؛ وكانَ ذَلِكَ إشارَةً إلى أحْوالِ الضُّرِّ في الشِّدَّةِ؛ والخِفَّةِ؛ فالمُسَكَّنُ أدْناهُ؛ والمُحَرَّكُ أوْسَطُهُ؛ والمُثَقَّلُ بِالضَّمِّ أعْلاهُ؛ {وعَذابٍ}؛ أيْ: نَكَدٍ قَوِيٍّ جِدًّا؛ دائِمٍ؛ مانِعٍ مِن كُلِّ ما يَلَذُّ؛ ويُمْكِنُ أنْ يُساغَ؛ ويُسْتَطْعَمَ أجْمَلُهُ؛ ونَكَّرَهُ تَنْكِيرًا؛ لِتَعْظِيمِ
اسْتِغْنائِهِ – عَلى وجازَتِهِ – عَنْ جُمَلٍ طِوالٍ؛ ودُعاءٍ عَرِيضٍ؛ إعْلامًا بِأنَّ السَّيْلَ قَدْ بَلَغَ الزُّبى؛ وأوْهَنَ البَلاءُ القُوى؛ ولَمْ يَذْكُرْهُ بِلَفْظِ إبْلِيسَ؛ الَّذِي هو مِن مَعْنى اليَاسِ وانْقِطاعِ الرَّجاءِ؛ دَلالَةً عَلى أنَّهُ هو راجٍ فَضْلَ اللَّهِ؛ غَيْرَ آيِسٍ مِن رَوْحِهِ؛ وذَلِكَ أنَّ اللَّهَ (تَعالى) سَلَّطَهُ عَلى إهْلاكِ أهْلِهِ؛ ووَلَدِهِ؛ ومالِهِ؛ فَصَبَرَ؛ ثُمَّ سَلَّطَهُ عَلى بَدَنِهِ؛ إلى أنْ سَقَطَ لَحْمُهُ؛ واسْتَمَرَّ عَلى ذَلِكَ مُدَدًا طِوالًا؛ فَلِذَلِكَ تَراءى لِزَوْجَتِهِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْها – في زِيِّ طَبِيبٍ؛ وقالَ لَها: أنا أُداوِيهِ؛ ولا أُرِيدُ إلّا أنْ يَقُولَ لِي؛ إذا عُوفِيَ: أنْتَ شَفَيْتَنِي؛ وقِيلَ: قالَ لَها: لَوْ سَجَدَ لِي سَجْدَةً واحِدَةً شَفَيْتُهُ؛ فَأتَتْهُ؛ وحَدَّثَتْهُ بِذَلِكَ؛ فَأخْبَرَها؛ وعَرَّفَها أنَّهُ الشَّيْطانُ؛ وحَذَّرَها مِنهُ؛ وخافَ غائِلَتَهُ عَلَيْها؛ فَدَعا اللَّهَ بِما تَقَدَّمَ؛ وشَدَّدَ النَّكِيرَ والتَّعْظِيمَ لِما وسْوَسَ لَها بِهِ؛ بِأنْ حَلَفَ لِيَضْرِبَنَّها مِائَةَ ضَرْبَةٍ؛ رَدْعًا لَها عَنِ الإصْغاءِ إلى شَيْءٍ مِن ذَلِكَ؛ وتَهْوِينًا لِما يَلْقاهُ مِن بَلائِهِ في جَنْبِهِ.
قال ابن عاشور:
وخص هذا الحال بالذكر من بين أحواله؛ لأنه مظهر توكّله على الله، واستجابة الله دعاءه بكشف الضر عنه ….
وظاهِرُ إسْنادِ المَسِّ بِالنُّصْبِ والعَذابِ إلى الشَّيْطانِ أنَّ الشَّيْطانَ مَسَّ أيُّوبَ بِهِما، أيْ: أصابَهُ بِهِما حَقِيقَةً مَعَ أنَّ النُّصْبَ والعَذابَ هُما الماسّانِ أيُّوبَ، فَفي سُورَةِ الأنْبِياءِ أنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ؛ فَأسْنَدَ المَسَّ إلى الضُّرِّ، والضُّرُّ هو النُّصْبُ والعَذابُ. وتَرَدَّدَتْ أفْهامُ المُفَسِّرِينَ في مَعْنى إسْنادِ المَسِّ بِالنُّصْبِ والعَذابِ إلى الشَّيْطانِ، فَإنَّ الشَّيْطانَ لا تَاثِيرَ لَهُ في بَنِي آدَمَ بِغَيْرِ الوَسْوَسَةِ كَما هو مُقَرَّرٌ مِن مُكَرَّرِ آياتِ القُرْآنِ ولَيْسَ النُّصْبُ والعَذابُ مِنَ الوَسْوَسَةِ ولا مِن آثارِها.
وتَأوَّلُوا ذَلِكَ عَلى أقْوالٍ تَتَجاوَزُ العَشَرَةَ وفي أكْثَرِها سَماجَةٌ وكُلُّها مَبْنِيٌّ عَلى حَمْلِهِمُ الباءَ في قَوْلِهِ بِنُصْبٍ عَلى أنَّها باءُ التَّعْدِيَةِ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ مَسَّنِيَ، أوْ باءُ الآلَةِ مِثْلُ: ضَرَبَهُ بِالعَصا، أوْ يُئَوَّلُ النُّصْبُ والعَذابُ إلى مَعْنى المَفْعُولِ الثّانِي مِن بابِ أعْطى.
والوَجْهُ عِنْدِي: أنْ تُحْمَلَ الباءُ عَلى مَعْنى السَّبَبِيَّةِ بِجَعْلِ النُّصْبِ والعَذابِ مُسَبِّبَيْنِ لِمَسِّ الشَّيْطانِ إيّاهُ، أيْ: مَسَّنِي بِوَسْواسٍ سَبَبُهُ نُصْبٌ وعَذابٌ، فَجَعَلَ الشَّيْطانُ يُوَسْوِسُ إلى أيُّوبَ بِتَعْظِيمِ النُّصْبِ والعَذابِ عِنْدَهُ ويُلْقِي إلَيْهِ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِذَلِكَ العَذابِ لِيُلْقِيَ في نَفْسِ أيُّوبَ سُوءَ الظَّنِّ بِاللَّهِ أوِ السُّخْطَ مِن ذَلِكَ.
أوْ تُحْمَلُ الباءُ عَلى المُصاحَبَةِ، أيْ: مَسَّنِي بِوَسْوَسَةٍ مُصاحِبَةٍ لِضُرٍّ وعَذابٍ، فَفي قَوْلِ أيُّوبَ أنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وعَذابٍ كِنايَةٌ لَطِيفَةٌ عَنْ طَلَبِ لُطْفِ اللَّهِ بِهِ ورُفِعَ النُّصْبُ والعَذابُ عَنْهُ بِأنَّهُما صارا مَدْخَلًا لِلِشَّيْطانِ إلى نَفْسِهِ فَطَلَبُ العِصْمَةِ مِن ذَلِكَ عَلى نَحْوِ قَوْلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ: {وإلّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أصْبُ إلَيْهِنَّ وأكُنْ مِنَ الجاهِلِينَ} [يوسف: (33)].
وتَنْوِينُ نُصْبٍ وعَذابٍ لِلِتَّعْظِيمِ أوْ لِلِنَّوْعِيَّةِ، وعَدَلَ عَنْ تَعْرِيفِهِما لِأنَّهُما مَعلُومانِ لِلَّهِ.
قال ابومسعود وذكر معاني لإسناد ذلك للشيطان ومما ذكر:
لِأنَّ المُرادَ بِالنَّصْبِ ما كانَ يُوَسْوَسُ بِهِ إلَيْهِ في مَرَضِهِ مِن تَعْظِيمِ ما نَزَلَ بِهِ مِنَ البَلاءِ، والقُنُوطُ مِنَ الرَّحْمَةِ، ويُغْرِيهِ عَلى الكَراهَةِ والجَزَعِ فالتَجَأ إلى اللَّهِ تَعالى في أنْ يَكْفِيَهُ ذَلِكَ بِكَشْفِ البَلاءِ، أوْ بِالتَّوْفِيقِ لِدَفْعِهِ ورَدِّهِ بِالصَّبْرِ الجَمِيلِ ولَيْسَ هَذا تَمامَ دُعائِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بَلْ مِن جُمْلَتِهِ قَوْلُهُ: {وَأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ} فاكْتَفى هَهُنا عَنْ ذِكْرِهِ بِما في سُورَةِ الأنْبِياءِ، كَما تَرَكَ هُناكَ ذِكْرَ الشَّيْطانِ ثِقَةً بِما ذُكِرَ هَهُنا
قال السعدى: {وَاذْكُرْ} في هذا الكتاب ذي الذكر {عَبْدَنَا أَيُّوبَ} بأحسن الذكر، وأثن عليه بأحسن الثناء، حين أصابه الضر، فصبر على ضره، فلم يشتك لغير ربه، ولا لجأ إلا إليه
(نَادَى رَبَّهُ} داعيا، وإليه لا إلى غيره شاكيا، فقال: رب {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} أي: بأمر مشق متعب معذب، انتهى
======
قال تعالى
(قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)
[سورة الزمر 46]
قال ابن كثير:
يقول تعالى بعد ما ذكر عن المشركين ما ذكر من المذمة، لهم في حبهم الشرك، ونفرتهم عن التوحيد (قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة) أي: ادع أنت الله وحده لا شريك له، الذي خلق السماوات والأرض وفطرها، أي: جعلها على غير مثال سبق، (عالم الغيب والشهادة) أي: السر والعلانية، (أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون) أي: في دنياهم، ستفصل بينهم يوم معادهم ونشورهم، وقيامهم من قبورهم
قال القرطبي:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} نَصْبٌ لِأَنَّهُ نِدَاءٌ مُضَافٌ وَكَذَا “عالِمَ الْغَيْبِ” وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا. “أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي مَا كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ” وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: سألت عائشة رضي الله عنها بأي شي كَانَ النَّبِيُّ – صلىى الله عليه وسلم – يَسْتَفْتِحُ صَلَاتَهُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ؟ قَالَتْ: كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ “اللَّهُمَّ رب جبريل وميكائيل” وإسرافيل “فاطر السموات وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عبادك فيما كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ” اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ “وَلَمَّا بَلَغَ الرَّبِيعَ بْنَ خَيْثَمٍ قَتْلُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَرَأَ” قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فيما كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ”. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنِّي لَأَعْرِفُ آيَةً مَا قَرَأَهَا أَحَدٌ قَطُّ فَسَأَلَ اللَّهُ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي مَا كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
قال الماوردي:
{عالِمَ الغَيْبِ والشَّهادَةِ} يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: السِّرُّ والعَلانِيَةُ.
الثّانِي: الدُّنْيا والآخِرَةُ.
{أنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ في ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} مِنَ الهُدى والضَّلالَةِ.
وَيَحْتَمِلُ ثانِيًا: مِنَ التَّحاكُمِ إلَيْهِ في الحُقُوقِ والمَظالِمِ.
قال الثعالبي:
وقوله/ تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ … الآية، أَمْرٌ لنبيهِ- عليه السلام- بالدعاءِ إليه وَرَدِّ الحُكْم إلى عَدْلِهِ، ومعنى هذا الأَمْرِ تَضمُّنُ الإجابةِ.
قال أبوالسعود:
{قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ والأرْضِ عالِمَ الغَيْبِ والشَّهادَةِ} أيِ: التَجِئْ إلَيْهِ تَعالى بِالدُّعاءِ لِما تَحَيَّرْتَ في أمْرِ الدَّعْوَةِ، وضَجِرْتَ مِن شِدَّةِ شَكِيمَتِهِمْ في المُكابَرَةِ والعِنادِ، فَإنَّهُ القادِرُ عَلى الأشْياءِ بِجُمْلَتِها، والعالِمُ بِالأحْوالِ بِرُمَّتِها.
{أنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ في ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أيْ: حُكْمًا يُسَلِّمُهُ كُلُّ مُكابِرٍ مُعانِدٍ، ويَخْضَعُ لَهُ كُلُّ عاتٍ مارِدٍ، وهو العَذابُ الدُّنْيَوِيُّ، أوِ الأُخْرَوِيُّ
قال القاسمي:
أيِ: التَجِئْ إلى اللَّهِ بِالدُّعاءِ بِأسْمائِهِ الحُسْنى، وقُلْ: أنْتَ وحْدَكَ تَقْدِرُ عَلى الحُكْمِ بَيْنِي وبَيْنَهم. والمَقْصُودُ بَيانُ حالِهِمْ، ووَعِيدِهِمْ، وتَسْلِيَةُ حَبِيبِهِ الأكْرَمِ، وأنَّ جِدَّهُ وسَعْيَهُ مَعْلُومٌ مَشْكُورٌ عِنْدَهُ تَعالى، وتَعْلِيمُ العِبادِ الِالتِجاءَ إلى اللَّهِ تَعالى، والدُّعاءِ بِأسْمائِهِ الحُسْنى، والِاسْتِعانَةِ بِالتَّضَرُّعِ، والِابْتِهالِ عَلى دَفْعِ كَيْدِ العَدُوِّ.
قال الآلوسي:
وتَقْدِيمُ المُسْنَدِ إلَيْهِ في {أنْتَ تَحْكُمُ} لِلْحَصْرِ أيْ أنْتَ تَحْكُمُ وحْدَكَ بَيْنَ العِبادِ فِيما اسْتَمَرَّ اخْتِلافُهم فِيهِ حُكْمًا يُسَلِّمُهُ كُلُّ مُكابِرٍ مُعانِدٍ ويَخْضَعُ لَهُ كُلُّ عاتٍ مارِدٍ وهو العَذابُ الدُّنْيَوِيُّ أوِ الأُخْرَوِيُّ، والمَقْصُودُ مِنَ الحُكْمِ بَيْنَ العِبادِ الحُكْمُ بَيْنَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وبَيْنَ هَؤُلاءِ الكَفَرَةِ.
قال ابن عاشور:
{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر (46)]
لَمّا كانَ أكْثَرُ ما تَقَدَّمَ مِنَ السُّورَةِ مُشْعِرًا بِالِاخْتِلافِ بَيْنَ المُشْرِكِينَ والمُؤْمِنِينَ، وبِأنَّ المُشْرِكِينَ مُصَمِّمُونَ عَلى باطِلِهِمْ عَلى ما غَمَرَهم مِن حُجَجِ الحَقِّ دُونَ إغْناءِ الآياتِ والتَّدَبُّرِ عَنْهم أُمِرَ الرَّسُولُ – صلى الله عليه وسلم – عَقِبَ ذَلِكَ بِأنْ يَقُولَ هَذا القَوْلَ تَنْفِيسًا عَنْهُ مِن كَدْرِ الأسى عَلى قَوْمِهِ، وإعْذارًا لَهم بِالنِّذارَةِ، وإشْعارًا لَهم بِأنَّ الحَقَّ في جانِبِهِمْ مُضاعٌ وأنَّ الأجْدَرَ بِالرَّسُولِ – صلى الله عليه وسلم – مُتارِكَتُهم وأنْ يُفَوِّضَ الحُكْمَ في خِلافِهِمْ إلى اللَّهِ.
وفِي هَذا التَّفْوِيضِ إشارَةٌ إلى أنَّ الَّذِي فَوَّضَ أمْرَهُ إلى اللَّهِ هو الواثِقُ بِحَقِيَّةِ دِينِهِ المُطْمَئِنُّ بِأنَّ التَّحْكِيمَ يُظْهِرُ حَقَّهُ وباطِلَ خَصْمِهِ.
وابْتُدِئَ خِطابُ الرَّسُولِ – صلى الله عليه وسلم – رَبَّهُ بِالنِّداءِ لِأنَّ المَقامَ مَقامُ تَوْجِيهٍ وتَحاكُمٍ.
وإجْراءُ الوَصْفَيْنِ عَلى اسْمِ الجَلالَةِ لِما فِيهِما مِنَ المُناسَبَةِ بِخُضُوعِ الخَلْقِ كُلِّهِمْ لِحُكْمِهِ وشُمُولِ عِلْمِهِ لِدَخائِلِهِمْ مِن مُحِقٍّ ومُبْطِلٍ.
والفاطِرُ: الخالِقُ، وفاطِرُ السَّماواتِ والأرْضِ: فاطِرٌ لِما تَحْتَوِي عَلَيْهِ.
ووَصْفُ فاطِرِ السَّماواتِ والأرْضِ مُشْعِرٌ بِصِفَةِ القُدْرَةِ، وتَقْدِيمُهُ قَبْلَ وصْفِ العِلْمِ لِأنَّ شُعُورَ النّاسِ بِقُدْرَتِهِ سابِقٌ عَلى شُعُورِهِمْ بِعِلْمِهِ، ولِأنَّ القُدْرَةَ أشَدُّ مُناسَبَةً لِطَلَبِ الحُكْمِ لِأنَّ الحُكْمَ إلْزامٌ وقَهْرٌ فَهو مِن آثارِ القُدْرَةِ مُباشَرَةً.
والغَيْبُ: ما خَفِيَ وغابَ عَنْ عِلْمِ النّاسِ، والشَّهادَةُ: ما يَعْلَمُهُ النّاسُ مِمّا يَدْخُلُ تَحْتَ الإحْساسِ الَّذِي هو أصْلُ العُلُومِ.
والعُدُولُ عَنِ الإضْمارِ إلى الِاسْمِ الظّاهِرِ في قَوْلِهِ ({بَيْنَ عِبادِكَ}) دُونَ أنْ يَقُولَ: بَيْنَنا، لِما في (عِبادِكَ) مِنَ العُمُومِ لِأنَّهُ جَمْعٌ مُضافٌ فَيَشْمَلُ الحُكْمَ بَيْنَهم في قَضِيَّتِهِمْ هَذِهِ والحُكْمَ بَيْنَ كُلِّ مُخْتَلِفِينَ لِأنَّ التَّعْمِيمَ أنْسَبُ بِالدُّعاءِ والمُباهَلَةِ.
وجُمْلَةُ ({أنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ}) خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ في الدُّعاءِ. والمَعْنى: احْكم بَيْنَنا. وفي تَلْقِينِ هَذا الدُّعاءِ لِلنَّبِيءِ – صلى الله عليه وسلم – إيماءٌ إلى أنَّهُ الفاعِلُ الحَقُّ.
وتَقْدِيمُ المُسْنَدِ إلَيْهِ عَلى الخَبَرِ الفِعْلِيِّ في قَوْلِهِ ({أنْتَ تَحْكُمُ}) لِإفادَةِ الِاخْتِصاصِ، أيْ أنْتَ لا غَيْرُكَ.
وإذْ لَمْ يَكُنْ في الفَرِيقَيْنِ مَن يَعْتَقِدُ أنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَ النّاسِ في مِثْلِ هَذا الِاخْتِلافِ فَيَكُونُ الرَّدُّ عَلَيْهِ بِمُفادِ القَصْرِ، تَعَيَّنَ أنَّ القَصْرَ مُسْتَعْمَلٌ كِنايَةً تَلْوِيحِيَّةً عَنْ شِدَّةِ شَكِيمَتِهِمْ في العِنادِ وعَدَمِ الإنْصافِ والِانْصِياعِ إلى قَواطِعِ الحُجَجِ، بِحَيْثُ إنَّ مَن يَتَطَلَّبُ حاكِمًا فِيهِمْ لا يَجِدُ حاكِمًا فِيهِمْ إلّا اللَّهَ تَعالى. وهَذا أيْضًا يُومِئُ إلى العُذْرِ لِلرَّسُولِ – صلى الله عليه وسلم – في قِيامِهِ بِأقْصى ما كُلِّفَ بِهِ لِأنَّ هَذا القَوْلَ إنَّما يَصْدُرُ عَمَّنْ بَذَلَ وُسْعَهُ فِيما وجَبَ عَلَيْهِ، فَلَمّا لَقَّنَهُ رَبُّهُ أنْ يَقُولَهُ كانَ ذَلِكَ في مَعْنى: أنَّكَ أبْلَغْتَ وأدَّيْتَ الرِّسالَةَ فَلَمْ يَبْقَ إلّا ما يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى الَّتِي لا يُعْجِزُها الألِدّاءُ أمْثالُ قَوْمِكَ، وفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ – صلى الله عليه وسلم – وفِيهِ وعِيدٌ لِلْمُعانِدِينَ.
والحُكْمُ يَصْدُقُ بِحُكْمِ الآخِرَةِ وهو المُحَقَّقُ الَّذِي لا يُخْلَفُ، ويَشْمَلُ حُكْمَ الدُّنْيا بِنَصْرِ المُحِقِّ عَلى المُبْطِلِ إذا شاءَ اللَّهُ أنْ يُعَجِّلَ بَعْضَ حُكْمِهِ بِأنْ يُعَجِّلَ لَهُمُ العَذابَ في الدُّنْيا.
والإتْيانُ بِفِعْلِ الكَوْنِ صِلَةٌ لِ (ما) المَوْصُولَةِ لِيَدُلَّ عَلى تَحَقُّقِ الِاخْتِلافِ، وكَوْنُ خَبَرِ (كانَ) مُضارِعًا تَعْرِيضٌ بِأنَّهُ اخْتِلافٌ مُتَجَدِّدٌ إذْ لا طَماعِيَةَ في ارْعِواءِ المُشْرِكِينَ عَنْ باطِلِهِمْ.
وتَقْدِيمُ (فِيهِ) عَلى (يَخْتَلِفُونَ) لِلرِّعايَةِ عَلى الفاصِلَةِ مَعَ الِاهْتِمامِ بِالأمْرِ المُخْتَلَفِ فِيهِ.
قال السعدي:
{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر (46)]
ولهذا قال {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: خالقهما ومدبرهما.
{عَالِمَ الْغَيْبِ} الذي غاب عن أبصارنا وعلمنا {وَالشَّهَادَةِ} الذي نشاهده.
{أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} وإن من أعظم الاختلاف اختلاف الموحدين المخلصين القائلين: إن ما هم عليه هو الحق، وإن لهم الحسنى في الآخرة دون غيرهم، والمشركين الذين اتخذوا من دونك الأنداد والأوثان، وسووا فيك من لا يسوى شيئا، وتنقصوك غاية التنقص، واستبشروا عند ذكر آلهتهم، واشمأزوا عند ذكرك، وزعموا مع هذا أنهم على الحق وغيرهم على الباطل، وأن لهم الحسنى.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}
وقد أخبرنا بالفصل بينهم بعدها بقوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} إلى أن قال: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}
وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَاوَاهُ النَّارُ} ففي هذه الآية، بيان عموم خلقه تعالى وعموم علمه، وعموم حكمه بين عباده، فقدرته التي نشأت عنها المخلوقات، وعلمه المحيط بكل شيء، دال على حكمه بين عباده وبعثهم، وعلمه بأعمالهم، خيرها وشرها، وبمقادير جزائها، وخلقه دال على علمه {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ}
——
قال تعالى
{وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ ((20)) وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ((21)) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَاؤُلَاءِ قَوْم مُّجْرِمُونَ ((22))}
[سُورَةُ الدُّخَانِ: (20) – (22)]
قال الماوردي:
فِيهِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: لَجَاتُ إلى رَبِّي ورَبِّكم.
الثّانِي: اسْتَغَثْتُ.
والفَرْقُ بَيْنَهُما أنَّ المُلْتَجِئَ مُسْتَدْفِعٌ والمُسْتَغِيثَ مُسْتَنْصِرٌ.
قَوْلُهُ {بِرَبِّي ورَبِّكُمْ} أيْ رَبِّي الَّذِي هو رَبُّكم.
{أنْ تَرْجُمُونِ} فِيهِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ:
أحَدُها: بِالحِجارَةِ، قالَهُ قَتادَةُ.
الثّانِي: أنْ تَقْتُلُونِي، قالَهُ السُّدِّيُّ.
الثّالِثُ: أنْ تَشْتِمُونِي بِأنْ تَقُولُوا ساحِرٌ أوْ كاهِنٌ أوْ شاعِرٌ، قالَهُ أبُو صالِحٍ.
{وَإنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فاعْتَزِلُونِ} أيْ إنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِي وتُصَدِّقُوا قَوْلِي فَخَلُّوا سَبِيلِي وكُفُّوا عَنْ أذايَ.
قال البقاعي:
ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ ولا لِأجْلِهِ ولَمْ يَعْتَزِلُوهُ، بَلْ بَغَوْا لَهُ الغَوائِلَ ورامُوا أنْ يُواقِعُوا بِهِ الدَّواهِيَ والقَواصِمَ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلى ذَلِكَ وآذَوْا قَوْمَهُ وطالَ البَلاءُ، سَبَّبَ عَنْهُ قَوْلَهُ: {فَدَعا رَبَّهُ} الَّذِي أحْسَنَ إلَيْهِ وضَمِنَ لَهُ سِياسَتَهُ وسِياسَةَ قَوْمِهِ، ثُمَّ فَسَّرَ ما دَعا بِهِ بِقَوْلِهِ: {أنَّ هَؤُلاءِ} [أيِ] الحَقِيرُونَ الأراذِلُ الذَّلِيلُونَ {قَوْمٌ} أيْ: لَهم قُوَّةٌ عَلى القِيامِ بِما يُحاوِلُونَهُ {مُجْرِمُونَ} أيْ: عَرِيقُونَ في قَطْعِ ما أمَرْتُ بِهِ أنْ يُوصَلَ، وذَلِكَ مُتَضَمِّنٌ وصْلَ ما أمَرْتُ بِهِ أنْ يُقْطَعَ، فَكانَ المَعْنى: فَدَعا بِهَذا المَعْنى، ولِذَلِكَ أتى ”بِأنَّ“ الدّالَّةِ عَلى المَصْدَرِيَّةِ.
قال الآلوسي:
{فَدَعا رَبَّهُ} بَعْدَ أنْ أصَرُّوا عَلى تَكْذِيبِهِ عَلَيْهِ اَلسَّلامُ {أنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} أيْ بِأنَّ هَؤُلاءِ إلَخْ فَهو بِتَقْدِيرِ اَلْباءِ صِلَةَ اَلدُّعاءِ كَما يُقالُ دَعا بِهَذا اَلدُّعاءِ، وفِيهِ اِخْتِصارٌ كَأنَّهُ قِيلَ: أنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ تَناهى أمْرُهم في اَلْكُفْرِ وأنْتَ أعْلَمُ بِهِمْ فافْعَلْ بِهِمْ ما يَسْتَحِقُّونَهُ قِيلَ كانَ دُعاؤُهُ عَلَيْهِ اَلسَّلامُ اَللَّهُمَّ عَجِّلْ لَهم ما يَسْتَحِقُّونَ بِإجْرامِهِمْ، وقِيلَ: قَوْلُهُ {رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظّالِمِينَ} إلى قَوْلِهِ {فَلا يُؤْمِنُوا حَتّى يَرَوُا العَذابَ الألِيمَ} وإنَّما ذَكَرَ اَللَّهُ سُبْحانَهُ اَلسَّبَبَ اَلَّذِي اِسْتَوْجَبُوا بِهِ اَلْهَلاكَ لِيُعْلَمَ مِنهُ دُعاؤُهُ والإجابَةُ مَعًا وأنَّ دُعاءَهُ كانَ عَلى يَاسٍ مِن إيمانِهِمْ وهَذا مِن بَلِيغِ اِخْتِصاراتِ اَلْكِتابِ اَلْمُعْجِزِ.
قال السعدي: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} أي: قد أجرموا جرما يوجب تعجيل العقوبة.
فأخبر عليه السلام بحالهم وهذا دعاء بالحال التي هي أبلغ من المقال، كما قال عن نفسه عليه السلام {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}
——-
قال تعالى:
(رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَة لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
[سورة الممتحنة 4 – 5]
التوسل بالتوكل عليه سبحانه والاعتراف بالتقصير.
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَة فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاؤُا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْء رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة (4)]
قال ابن كثير:
وَقَوْلُهُ: {إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} أَيْ: لَكُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ تَتَأَسَّوْنَ بِهَا، إِلَّا فِي اسْتِغْفَارِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ عَنْ مَوعِدة وَعَدَهَا إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ، حِينَ فَارَقُوا قَوْمَهُمْ وَتَبَرَّءُوا مِنْهُمْ، فَلَجَئُوا إِلَى اللَّهِ وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} أَيْ: تَوَكَّلْنَا عَلَيْكَ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وسَلَّمنا أمورَنا إِلَيْكَ، وَفَوَّضْنَاهَا إِلَيْكَ {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} أَيِ: الْمَعَادُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.
{رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} قَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ: لَا تُعَذِّبْنَا بِأَيْدِيهِمْ، وَلَا بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِكَ، فَيَقُولُوا: لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ عَلَى حَقٍّ مَا أَصَابَهُمْ هَذَا. وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ لَا تُظْهِرهم عَلَيْنَا فَيَفْتَتِنُوا بِذَلِكَ، يَرَوْنَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا ظَهَرُوا عَلَيْنَا لِحَقٍّ هُمْ عَلَيْهِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا تُسَلِّطْهُمْ عَلَيْنَا فَيَفْتِنُونَا. * * *
وَقَوْلُهُ: {وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أَيْ: وَاسْتُرْ ذُنُوبَنَا عَنْ غَيْرِكَ، وَاعْفُ عَنْهَا فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أَيِ: الَّذِي لَا يُضَام مَنْ لَاذَ بِجَنَاحِكَ {الْحَكِيم} فِي أَقْوَالِكَ وَأَفْعَالِكَ وَشَرْعِكَ وَقَدَرِكَ.
قال القرطبي:
(رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا) هَذَا مِنْ دُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَصْحَابُهُ. وَقِيلَ: عَلَّمَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا هَذَا أَيْ تَبَرَّءُوا مِنَ الْكُفَّارِ وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ وَقُولُوا: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا أَيِ اعْتَمَدْنَا
قال السعدي: {وَاغْفِرْ لَنَا} ما اقترفنا من الذنوب والسيئات، وما قصرنا به من المأمورات، {رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ} القاهر لكل شيء، {الْحَكِيمُ} الذي يضع الأشياء مواضعها، فبعزتك وحكمتك انصرنا على أعدائنا، واغفر لنا ذنوبنا، وأصلح عيوبنا.
—-
قال تعالى
{قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَالِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)} [القلم (29) – (33)]
قال ابن كثير:
هَذَا مَثَل ضَرَبه اللَّهُ تَعَالَى لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ فِيمَا أَهْدَى إِلَيْهِمْ مِنَ الرَّحْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَأَعْطَاهُمْ مِنَ النِّعَمِ الْجَسِيمَةِ، وَهُوَ بَعْثُهُ مُحَمَّدًا – صلى الله عليه وسلم – إِلَيْهِمْ، فَقَابَلُوهُ بِالتَّكْذِيبِ وَالرَّدِّ وَالْمُحَارَبَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} أَيِ: اخْتَبَرْنَاهُمْ، {كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} وَهِيَ الْبُسْتَانُ الْمُشْتَمِلُ على أنواع الثمار وَالْفَوَاكِهِ {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} أَيْ: حَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ لَيجُذَّنَ ثَمرها لَيْلًا لِئَلَّا يَعْلَمَ بِهِمْ فَقِيرٌ وَلَا سَائِلٌ، لِيَتَوَفَّرَ ثَمَرُهَا عَلَيْهِمْ وَلَا يَتَصَدَّقُوا مِنْهُ بِشَيْءٍ، {وَلا يَسْتَثْنُونَ} أَيْ: فِيمَا حَلَفُوا بِهِ. وَلِهَذَا حَنَّثَهُمُ اللَّهُ فِي أَيْمَانِهِمْ، فَقَالَ: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} أَيْ: أَصَابَتْهَا آفَةٌ سَمَاوِيَّةٌ، {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ كَاللَّيْلِ الْأَسْوَدِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالسُّدِّيُّ: مِثْلَ الزَّرْعِ إِذَا حُصِد، أَيْ هَشِيمًا يَبَسًا.
{قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أَتَوْا بِالطَّاعَةِ حَيْثُ لَا تَنْفَعُ، وَنَدِمُوا وَاعْتَرَفُوا حَيْثُ لَا يَنْجَعُ؛ وَلِهَذَا قَالُوا: {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ} أَيْ: يَلُومُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى مَا كَانُوا أَصَرُّوا عَلَيْهِ مِنْ مَنْعِ الْمَسَاكِينِ مِنْ حَقِّ الْجُذَاذِ، فَمَا كَانَ جَوَابُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ إِلَّا الِاعْتِرَافَ بِالْخَطِيئَةِ وَالذَّنْبِ، {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} أَيِ: اعْتَدَيْنَا وبَغَينا وَطَغَيْنَا وَجَاوَزْنَا الْحَدَّ حَتَّى أَصَابَنَا مَا أَصَابَنَا، {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} قِيلَ: رَغِبُوا فِي بَذْلِهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: احْتَسَبُوا ثَوَابَهَا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قال السعدي:
فقالوا {سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي: استدركوا بعد ذلك، ولكن بعد ما وقع العذاب على جنتهم، الذي لا يرفع، ولكن لعل تسبيحهم هذا، وإقرارهم على أنفسهم بالظلم، ينفعهم في تخفيف الإثم ويكون توبة، ولهذا ندموا ندامة عظيمة.