76 . فتح الأحد الصمد شرح الصحيح المسند
مشاركة ابراهيم البلوشي وأبي عيسى البلوشي وعبدالله المشجري وإبراهيم المشجري
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
الصحيح المسند
76 – قال الترمذي رحمه الله (ج 3 ص 512): حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، أخبرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ يُرِيدُ سَفَرًا وَقَدْ رُحِّلَتْ لَهُ رَاحِلَتُهُ وَلَبِسَ ثِيَابَ السَّفَرِ، فَدَعَا بِطَعَامٍ فَأَكَلَ، فَقُلْتُ لَهُ: سُنَّةٌ؟ فَقَالَ: سُنَّةٌ. ثُمَّ رَكِبَ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أخبرَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أخبرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: أَتَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فِي رَمَضَانَ … فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
قال أبو عيسى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ مَدِينِيٌّ ثِقَةٌ، وَهُوَ أَخُو إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ هُوَ ابْنُ نَجِيحٍ وَالِدُ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، وَكَانَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ يُضَعِّفُهُ.
قال أبو عبد الرحمن: الحديث من طريق محمد بن جعفر صحيحٌ، ورجاله رجال الصحيح.
————————–
أولاً: دراسة الحديث رواية:
* سئل أبو حاتم في العلل 699: عن حديث رواه عبدالعزيز الدراوردي، عن زيد بن أسلم، عن محمد بن المنكدر، عن محمد بن كعب: أنه أتى أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفرا، فوجده قد رحلت راحلته، ولبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل، فقلنا: أسنة؟ قال: ليس بسنة.
ورواه محمد بن عبد الرحمن بن مجبر، عن ابن المنكدر، عن محمد بن كعب: أنه أتى أنس بن مالك … فذكر الحديث؛ قال: فقلت: سنة؟ فقال: نعم، سنة.
قال أبي: حديث الدراوردي أصح.
* الحديث أخرجه المقدسي في المختارة 2602.
* قال ابن حجر في إتحاف المهرة (2/288) برقم 1742: ” قط فِي الصِّيَامِ: ثنا أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ، ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ سَهْلٍ بِمِصْرَ، ثنا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، أَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْهُ، بِهِ. وَقَالَ: كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ.
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: عَنِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، وَقَالَ: حَسَنٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: إِنَّهُ صَحِيحٌ “.
* صححه الشيخ الألباني في سنن الترمذي 799، وينظر رسالة الشيخ الألباني رحمه الله: تصحيح حديث إفطار الصائم قبل سفره بعد الفجر.
* قال محققو سنن الترمذي 810 عن السند الأول: حديث حسن، وهذا إسناد ضعيف لضعف عبدالله بن جعفر، ولكن له طريق آخر بعد هذا يقويه”.
ثم قالوا عن السند الآخر: ” حسن كما قال المصنف، وأخرجه الدارقطني والبيهقي من طريق محمد بن جعفر بهذا الإسناد، وفي الباب عن دحية الكلبيي، أخرجه أبو داود 2413 وابن خزيمة 2041 … وهو في المسند 27231 وإسناده ضعيف.
وعن أبي بصرة الغفاري أخرجه أبو داود 2412 … وهو في المسند 27232 وإسناده ضعيف أيضًا “.
– يعنون بحديث دحية الكلبي الذي في سنن أبي داود 2413: أن دِحْيَةَ بنَ خليفه خَرَجَ مِنْ قريه من دمشقَ مرةً إلى قَدْرِ قريةِ عَقَبة من الفُسطاط، وذلك ثلاثةُ أميال، في رمضان، ثم إنه أفْطَرَ وأفْطَرَ معه ناس، وكرهَ آخرون أن يُفطِروا، فلما رَجَعَ إلى قريتِه قال: والله لَقَدْ رأيتُ اليومَ أمراً ما كنتُ أظن أني أراه، إن قَوْماً رَغِبُوا عن هَدْي رسولِ الله -صلَّى الله عليه وسلم- وأصحابه، يقولُ ذلك لِلذين صاموا، ثم قال عند ذلك: اللهمَّ اقبضْني إليك.
قال محققو سنن أبي داود (4/84): ” حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف لجهالة منصور الكلبي -وهو ابن سعيد بن الأصبغ- أبو الخير: هو مرثد بن عبد الله اليزَني. ”
– وأما حديث أبي بصرة الغفاري الذي في سنن أبي داود 2412 : قال جعفر بن جبر قال:كنتُ مع أبي بَصْرَةَ الغفاريِّ صاحبِ النبيَّ -صلَّى الله عليه وسلم- في سفينةٍ مِن الفُسْطاطِ في رمضانَ، فرفع، ثم قَرَّبَ غداءه -قال جعفر في حديثه: فلم يُجاوز البيوتَ حتى دعا بالسُّفرة- قال: اقتربْ، قلتُ: ألستَ ترى البيوتَ؟ قال أبو بصرةَ: أتَرْغَبُ عن سُنةِ رسولِ الله -صلَّى الله عليه وسلم-؟ قال جعفر في حديثه: فأَكَلَ .
قال محققو سنن أبي داود (4/83): ” حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف لجهالة كليب بن ذهل. عُبَيد بن جَبْر -وهو الغِفاري- وثقه العجلي وذكره يعقوب بن سفيان في الثقات. سعيد بن أبي أيوب: هو ابن مقلاص الخزاعي، والليث: هو ابن سعد. ”
ثانياً: دراسة الحديث درايةً:
1- تبويبات الأئمة على الحديث:
* بوب الترمذي في جامعه على حديث أنس بن مالك باب من أكل ثم خرج يريد سفرا.
* بوب أبو داود في سننه باب متى يفطر المسافر إذا خرج؟ وأورد تحته حديث أبي بصرة المتقدم.
ثم بوب في الباب الذي يليه باب مسيرة ما يفطر فيه وأورد تحته حديث دحية الكلبي المتقدم.
وأثرًا لابن عمر أنه كان يَخرُجُ إلى الغابَةِ فلا يُفطِرُ ولا يَقْصُرُ. [صحح إسناده محققو سنن أبي داود وقالوا: والغابة: موضع مِن عوالي المدينة من ناحية الشام على بَريدٍ منها.]
* بوب البيهقي في السنن الكبرى (4/414): باب من قال: يفطر وإن خرج بعد طلوع الفجر، ومما أورده حديث أبي بصرة وحديث أنس بن مالك:
وأورد أثرا عن عمرو بن شرحبيل، أنه كان يسافر وهو صائم فيفطر من يومه.
2- شرح الحديث:
* قال ابن القيم في تهذيب السنن (1/463): ” وَفِيهِ حُجَّة لِمَنْ جَوَّزَ لِلْمُسَافِرِ الْفِطْر فِي يَوْمٍ سَافَرَ فِي أَثْنَائِهِ . وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْإِمَام أَحْمَد , وَقَوْل عَمْرو بْن شُرَحْبِيل وَالشَّعْبِيّ وَإِسْحَاق . وَحَكَاهُ عَنْ أَنَس , وَهُوَ قَوْل دَاوُدَ وَابْن الْمُنْذِر . وَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة : لَا يُفْطِر . وَهُوَ قَوْل الزُّهْرِيّ وَالْأَوْزاَعِيّ وَمَكْحُول . وَفِي الْمَسْأَلَة قَوْل شَاذٌّ جِدًّا لَا يُلْتَفَت إِلَيْهِ وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ دَخَلَ عَلَيْهِ الشَّهْر وَهُوَ مُقِيمٌ , ثُمَّ سَافَرَ فِي أَثْنَائِهِ , لَمْ يَجُزْ لَهُ الْفِطْر . وَلَا يُفْطِر حَتَّى يَدْخُل عَلَيْهِ رَمَضَان مُسَافِرًا . وَهَذَا قَوْل عُبَيْدَة السَّلْمَانِيّ وَأَبِي مِجْلِز وَسُوِيد بْن غَفَلَة . وَقَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ” خَرَجَ إِلَى الْفَتْح فِي رَمَضَان . فَصَامَ , وَأَفْطَرَ ” . ”
* قال البغوي في شرح السنة (6/311) في باب من أصبح صائما في السفر ثم أفطر: تعليقا على حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس معه، فقيل له: يا رسول الله، إن الناس قد شق عليهم الصيام، فدعا بقدح من ماء بعد العصر، فشرب، والناس ينظرون، فأفطر بعض الناس، وصام بعض، فبلغه أن ناسا صاموا، فقال: «أولئك العصاة».
قال: ” وفيه دليل على أن من أصبح صائما في السفر، جاز له أن يفطر، فلو لم يفطر حتى دخل بلد إقامته، لزمه إتمام الصوم، ولو أصبح في السفر، وعلم أنه يدخل البلد في أول يومه، كان عمر بن الخطاب يدخل وهو صائم، وقال مالك: يدخل وهو صائم، وقال قوم: له أن يفطر قبل أن يدخل البلد.
ولا فرق في جواز الفطر بعذر السفر بين من ينشئ السفر في شهر رمضان، وبين ما يدخل عليه شهر رمضان وهو مسافر عند عامة أهل العلم، وزعم بعض أهل العلم أنه إذا أنشأ السفر في شهر رمضان لا يجوز له الفطر، وهو قول عبيدة السلماني، لقوله سبحانه وتعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة: 185]، والحديث حجة على هذا القائل، ومعنى الآية: شهد الشهر كله، فأما من شهد بعضه، فلم يشهد الشهر.
أما المقيم إذا أصبح صائما، ثم خرج إلى السفر، فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه لا يجوز له أن يفطر، وهو قول النخعي، ومكحول، وبه قال الزهري، وإليه ذهب مالك، والأوزاعي، والشافعي، وأصحاب الرأي.
وذهب قوم إلى أنه يجوز له الفطر، وهو قول الشعبي، وإليه ذهب أحمد، وروي فيه عن أبي بصرة الغفاري، وشبهوه بمن أصبح صائما، ثم مرض، جاز له أن يفطر، والأول أحوط، وليس كالمرض؛ لأنه أمر يحدث لا باختياره، والسفر أمر ينشئه باختياره، وبدليل أنه إذا مرض في خلال الصلاة يصلي قاعدا، ولو شرع في الصلاة مقيما، ثم صار مسافرا، بأن جرت السفينة وهو فيها لم يجز له أن يقصر.
وقال الحسن: إذا أصبح المقيم على نية السفر في يومه، جاز له أن يفطر في بيته، وبه قال إسحاق، ويروى ذلك عن أنس بن مالك أنه كان يريد سفرا، وقد رحلت له راحلته، ولبس ثياب السفر، فدعا بطعام، فأكل، فقيل له: سنة؟ قال: سنة، ثم ركب.
وأكثر أهل العلم على أنه إذا طلع الفجر قبل أن يخرج، فعليه أن يصوم ذلك اليوم، وأجمعوا على أنه لا يجوز له القصر ما لم يخرج عن البلد. “.
* ينظر شرح الصحيح المسند برقم 1091 عن أم الدرداء عن كعب بن عاصم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليس من البر الصيام في السفر)).
ومما جاء فيه:
(8) ـ ((21) -[لا خلافَ بين العلماء في إباحة الفطر لمَنْ يدخل عليه شهرُ رمضانَ في السفر، أو يُفارِقُ عمرانَ بلدِه قبل الفجر، [انظر: «المغني» لابن قدامة ((3) / (100))، «المجموع» للنووي ((6) / (261))].])
استُدِلَّ بالحديث على جواز إفطار المسافر نهارًا مطلقًا بعد أَنْ نوى الصيامَ مِنَ الليل وهو أحَدُ قولَيِ الشافعيِّ وأحمد؛ خلافًا للحنفية والمالكية الذين يُوجِبون عليه الصومَ، بل يذهب المالكيةُ إلى وقوع الكفَّارة عليه إِنْ أفطر وحملوا حديثَ الباب على جوازِ ذلك في حقِّ مَنْ كان بالليل مُسافِرًا: إِنْ نوى الصومَ جاز له أَنْ يُفطِر في النهار، أمَّا لو نوى الصومَ ـ وهو مُقيمٌ ـ ثمَّ سافر في أوَّلِ النهارِ أو أثناءَه، ثمَّ بَدَا له أَنْ يفطر فليس له ذلك؛ مُستدِلِّين بقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: (185)]، وقد شَهِد الشهرَ بعد أَنْ طَلَع عليه الفجرُ، ولم يُفارِقِ العمرانَ، ولا يُوصَفُ بكونه مسافرًا حتَّى يخرج مِنْ بلده؛ لذلك كان معدودًا في حكم الحاضرين، فتَنطبِقُ عليه أحكامُهم، ولقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ} [البقرة: (187)]؛ فالآيةُ ظاهرةٌ في وجوبِ صومِ مَنْ طَلَع عليه الفجرُ، وهي شاملةٌ للمُقيمِ إذا سافر فلا يُفطِرُ حتَّى يُتِمَّ الصيامَ إلى الليل؛ ولأنَّه بيَّت الصومَ ليلةَ سفرِه فلم يَجُزْ له أَنْ يُبْطِل صومَه؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)} [محمَّد]، ولأنَّ الصوم عبادةٌ تختلف بالسفر والحَضَر؛ فإذا اجتمعا فيها غُلِّب حكمُ الحَضَر كالصلاة ((23) -[انظر: «معالم السنن» للخطَّابي ((2) / (800))، «المغني» لابن قدامة ((3) / (100))، «الفتح الربَّاني» للبنَّا ((10) / (116)).]).
أمَّا حديثُ الباب فلا حجَّةَ فيه على هذه المسألة؛ لكون النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في موضعٍ يبعد عن المدينة عدَّةَ أيَّامٍ؛ فهو محمولٌ على حالة الاتِّفاق المتقدِّمة.
والصحيح المذهبُ الأوَّل؛ لشمولِ قوله تعالى: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: (184)، (185)]
المتأهِّبَ للسفر ولمَّا يخرج؛ إذ المتأهِّبُ آخِذٌ بأسباب الحركة، مسافرٌ مِنْ حيث إنَّه يَستصحِبُ النيَّةَ المقرونة بالعمل والنهوض؛ بخلاف المُقيم، فلا يحتاج إلى عملٍ، ويشهد لذلك حديثُ الباب ـ وإِنْ لم تقم به حجَّةٌ ظاهرةٌ على إفطارِ مَنْ أصبح في الحَضَر مسافرًا ـ إلَّا أنَّ حديثَ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما يقوِّي هذه الحجَّةَ، قال: «خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ إِلَى حُنَيْنٍ وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ: فَصَائِمٌ وَمُفْطِرٌ، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ أَوْ مَاءٍ فَوَضَعَهُ عَلَى رَاحَتِهِ ـ أَوْ: عَلَى رَاحِلَتِهِ ـ ثُمَّ نَظَرَ إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ المُفْطِرُونَ لِلصُّوَّامِ: «أَفْطِرُوا»» ((24) -[أخرجه البخاريُّ في «المغازي» ((8) / (3)) بابُ غزوةِ الفتح في رمضان، مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما.])؛ كما يدلُّ عليه ما أخرجه الترمذيُّ مِنْ حديثِ محمَّد بنِ كعبٍ، قال: «أَتَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ يُرِيدُ سَفَرًا، وَقَدْ رُحِلَتْ لَهُ رَاحِلَتُهُ وَلَبِسَ ثِيَابَ السَّفَرِ، فَدَعَا بِطَعَامٍ فَأَكَلَ، فَقُلْتُ لَهُ: «سُنَّةٌ؟» قَالَ: «سُنَّةٌ»، ثُمَّ رَكِبَ» ((25) -[أخرجه الترمذيُّ في «الصوم» ((3) / (163)) بابُ مَنْ أَكَل ثمَّ خَرَج يريد سفرًا. والحديث حسَّنه الترمذيُّ، والأرناؤوط في «جامع الأصول» ((6) / (411) ـ (412))، وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح سنن الترمذي» ((1) / (240)).
…
قلت سيف بن دورة :
وهذه المسألة قد اختلف العلماء فيها على أقوال:
أحدها: وهو قول أكثر أهل العلم أن من أصبح صائما ثم سافر فليس له أن يفطر ذلك اليوم البتة لا قبل الشروع في السفر ولا بعده، وهو قول إبراهيم النخعي والزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري والأوزاعي وأبي حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي وأبي ثور.
والثاني: أنه له الفطر إذا خرج وبرز عن البيوت، وهو قول أحمد بن حنبل وروى عن عبد الله بن عمر والشعبي.
واحتج بعضهم على جواز الفطر بالحديث الصحيح في خروجه صلى الله عليه وسلم في رمضان إلى مكة وأنه صام حتى بلغ الكديد ثم أفطر، وفي رواية حتى بلغ كراع الغميم فتوهم من استدل بهذا أن الكديد والكراع بقرب المدينة وأن النبي صلى الله عليه وسلم أصبح بالمدينة صائما ثم بلغهما في بقية يومه فأفطر، فالاستدلال بهذا الحديث على ذلك باطل.
والثالث: إن له الفطر إذا وضع رجله في الرحل، وبه قال داود وحكاه ابن عبد البر عن إسحق وهو مخالف لما حكاه الترمذي عنه من أن له الفطر في بيته قبل أن يخرج إلا أن يحمل على أنه وضع رجله في الرحل وهو في بيته ثم أكل قبل أن يخرج، وحديث أنس مخالف له في أنه دعا بطعامه فأكل ثم ركب والله أعلم.
والرابع: أن له الفطر في بيته يوم يريد أن يخرج، وهو قول أنس والحسن البصري.
والأدلة على القول الرابع -وهو الراجح-:
1 – من القرآن هو قول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فإن قوله: {عَلَى سَفَرٍ} يشمل من تأهب للسفر ولما يخرج.
2 – ما ثبت عن الصحابي دحية بن خليفة رضي الله عنه أنه خرج من قريته إلى قريب من قرية عقبة في رمضان ثم إنه أفطر وأفطر معه ناس وكره آخرون أن يفطروا قال: فلما رجع إلى قريته قال: والله لقد رأيت اليوم أمرا ما كنت أظن أن أراه إن قوما رغبوا عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقول ذلك للذين صاموا ثم قال عند ذلك: “اللهم اقبضني إليك”.
هذه خلاصة لـ: رسالة الألباني (تصحيح إفطار الصائم قبل سفره).
تنبيه: حديث أنس أنه السنة أعله ابوحاتم ورجح أن أنس قال: ليس سنه.
وحديث أبي بصره يحمل إن صح لم يجاوز البيوت على معنى لم يجاوزها بمسافة كثيرة وإن كان خرج منها
وقال ابن خزيمة: باب إباحة الفطر في اليوم الذي يخرج المرء فيه مسافرا من بلده إن ثبت الخبر. ثم قال: لست أعرف كليب بن ذهل ولا عبيد بن جبر ولا أقبل دين من لا أعرفه بعدالة.
وقال ابن قدامة: وهذا يعني أنه لا يباح له الفطر حتى يخلف البيوت وراء ظهره يعني يجاوزها ويخرج من بين بنيانها
اما حديث ابن عباس كما ذكروا ورد في رواية: فلما بلغ الكديد قال ابن حجر بين المدينة وكديد عدة أيام
وفي مسلم قيل له إن الناس قد شق عليهم. …
فلفظة شق عليهم يدل أنهم سافروا.
* ينظر في هذه المسألة “المغني” لابن قدامة 4/345-348، و”زاد المعاد” لابن القيم 2/55-57، و”فتح الباري” 4/180-182.
المسائل الأخرى:
* من الآثار التي أوردها الشيخ الألباني رحمه الله في رسالته تصحيح حديث إفطار الصائم قبل سفرة بعد الفجر:
1 – عن اللجلاج قالوا “كذا الأصل ولعله: اللجلاج وغيره قالوا”: كنا نسافر مع عمر رضي الله عنه ثلاثة أميال فيتجوز في الصلاة ويفطر رواه ابن أبي شيبة في “المصنف”. “2/151/2” بإسناد حسن أو قريب منه.
2 – عن أنس بن مالك قال: قال لي أبو موسى: ألم أنبأ أنك إذا خرجت خرجت صائما وإذا دخلت دخلت صائما؟ فإذا خرجت فاخرج مفطرا. وإذا دخلت فادخل مفطرا.
رواه الدارقطني “ص 241” والبيهقي “4/247” بإسناد صحيح على شرط الستة.
3 – عن نافع عن ابن عمر أنه خرج في رمضان فأفطر.
رواه ابن أبي شيبة “2/151/1” بإسناد رجاله ثقات.
4 – عن ابن عباس قال: إن شاء صام وإن شاء أفطر.
رواه ابن أبي شيبة في “باب ما قالوا في الرجل يدركه رمضان فيصوم ثم يسافر” “2/151/1” وإسناده صحيح.
5 – عن مغيرة قال: خرج أبو ميسرة1 في رمضان مسافرا. فمر بالفرات وهو صائم فأخذ منه حسوة فشربه وأفطر.
رواه ابن أبي شيبة “2/151/1” بإسناد صحيح ثم روى هو “2/151/2” والبيهقي “4/247” بسند آخر عنه مختصرا وهو صحيح أيضا.
6 – و 7 – عن سعيد المسيب والحسن البصري قالا: يفطر إن شاء.
رواه ابن أبي شيبة عقب الأثر الذي قبله وسنده صحيح.
وفي رواية عن الحسن البصري “يفطر إن شاء في بيته يوم يريد أن يخرج” ذكرها القرطبي في تفسيره “2/279”.
* يوجد بحث منشور في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية (27/149) بعنوان: “رخصة الفطر في سفر رمضان وما يترتب عليها من الآثار”: ” بداية سريان الرخصة:
يبدأ سريان الرخصة من اللحظة التي يتحقق فيها وصف السفر على الشخص سواء من حيث الزمان أو المكان، ونوضح ذلك فيما يلي:
بدء سريان الرخصة من حيث الزمان:
من عزم على السفر، لا يخلو أمره عن الأحوال الآتية:
أ- أن يبدأ سفره من قبل طلع الفجر، وهذا لا خلاف- نعلمه- بين أهل العلم، أن الرخصة تحققت بشأنه. وله العمل بمقتضاها، من حيث إباحة الفطر له منذ بداية سفره [1] .
ب- أن يبدأ السفر بعد طلوع الفجر- بحيث لم يفارق عمران البلد إلا بعده- والحال أنه كان قد بيت نية الصيام من الليل. فيرى أكثر أهل العلم هنا، أنه يجب عليه الاستمرار في الصوم ولا تتحقق الرخصة لديه. تغليباً لجانب الإقامة على جانب السفر فإن أفطر وجب عليه قضاء يوم بدل ذلك اليوم ولم يوجبوا عليه الكفارة لتأوله. ولم يخرج عن هذا الفريق في عدم وجوب الكفارة إلا المغيرة وابن كنانة، فإنهما أوجبا عليه الكفارة.
وقد قال بهذا الرأي: مالك والشافعي والأوزاعي وأبو حنيفة ومكحول والزهري ويحيى الأنصاري وإحدى الروايتين عن أحمد.
وقال أحمد- في الرواية الثانية عنه- وإسحاق وداود وابن المنذر وابن حبيب- إن من بدأ سفره بعد الفجر. له الفطر منذ بدء السفر لإطلاق اسم المسافر عليه منذ هذه اللحظة.
واختلف النقل عن المزني- من أصحاب الشافعي- فنقل الشوكاني عنه: أنه أختار رأي أحمد وإسحاق. وقال بعض الشافعية: إن المزني رجع عن رأيه هذا.
وقال ابن حزم: إنه يبطل صومه منذ بدء سفره وعليه قضاؤه [3] .
مستند الفريق الأول:
لم أجد مستنداً من السنة يشهد لقول هذا الفريق بعدم جواز الفطر لمن بدأ سفره بعد طلوع الفجر.
وقد وجدت أثراً عن الحسن البصري، رواه عبد الرزاق عن معمر عمن سمع الحسن يقول: إذا أصبح الرجل صائما في شهر رمضان ثم خرج مسافراً نهاراً. فلا يفطر ذلك اليوم إلا أن يخاف العطش على نفسه فإن تخوفه أفطر والقضاء عليه، فإن شاء بعد أفطر وإن شاء صام [4] .
واضح من سند هذا الأثر: أن هناك راويا مجهولاً بين معمر وبين الحسن. ثم فيه تعليق استمرار الصيام على عدم الخوف من العطش.
كما استدل بعض العلماء لهذا الرأي، بأن الصوم: عبادة تختلف بالسفر والحضر فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر قياساً على الصلاة، فلو صلى مسافر خلف مقيم وجب عليه الإتمام [5] .
وقد قيل في الرد عليه: إن الصوم يختلف عن الصلاة، فإن الصلاة يلزم إتمامها بالنية بخلاف الصوم [6] .
أما أدلة الفريق الثاني فأهمها ما يلي:
1- ما رواه أبو داود بسنده إلى عبيد بن جبير، قال: كنت راكباً مع أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفينة من الفسطاط في رمضان، فرفع أبو بصرة، ثم قرب غذاؤه (غداء) . قال جعفر في حديثه: فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة. قال: اقترب؟ قلت: ألست ترى البيوت؟ قال: أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال جعفر في حديثه: فأكل .
قال الشوكاني: سكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ، في التلخيص ورجاله ثقات .
فهذا تصريح من أبي بصرة بأن الإفطار للمسافر في اليوم الذي خرج فيه من السنة وعبارة الخطابي في الاستدلال منه: (فيه حجة لمن رأى للمقيم ذي الصيام إذا سافر من يومه أن يفطر) .
2- ما رواه البيهقي عن محمد بن كعب قال: أتيت أنس بن مالك في رمضان، وهو يريد السفر، وقد رحلت له دابته ولبس ثياب السفر، وقد تقارب غروب الشمس فدعا بطعام فأكل منه، ثم ركب فقلت له سنة، قال: نعم. قال الترمذي: بعد أن ذكره: هذا حديث حسن .
قال الشوكاني عن هذا الحديث: سكت عنه الحافظ، وفي إسناده عبد الله بن جعفر والد علي بن المديني، وهو ضعيف، ولكن صاحب التحفة قال: لا بأس يكون عبد الله في الطريق الأولى فإنه لم يتفرد به بل تابعه محمد بن جعفر في الطريق الثانية، وهو ثقة .
2- ما رواه البيهقي أيضا بسنده إلى إسحاق عن عمرو بن شرحبيل أنه كان يسافر وهو صائم فيفطر من يومه .
والمختار: هو قول من يرى إباحة الفطر لمن سافر من بعد طلوع الفجر للأمور التالية:
أولا: لصحة إطلاق اسم المسافر عليه حقيقة. وقد قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فقد علق سبحانه الرخصة على وجود السفر. وقد تحقق بمجرد حركته على الطريق، فينبغي أن تتعلق به أحكامه التي من بينها إباحة الفطر.
ثانيا: القول بإباحة الفطر، فيه تيسير على المسافر، والتيسير هو مناط الرخصة قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} .
ثالثا: أن القول بإباحة الفطر هو أقرب القولين إلى السنة، فقد نسب كل من أبي بصرة وأنس بن مالك فطره في نفس اليوم الذي سافر فيه إلى فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ … } الآية.
====
قال بعض أهل الفتوى في جواب سؤال ؛ من عزم على السفر من الليل ونوى الفطر ولم يسافر إلا بعد طلوع الفجر
جـ- من عزم على السفر من الليل ونوى الفطر ولم يسافر إلا بعد طلوع الفجر: يرى فقهاء المالكية والشافعية والحنفية، أن الشخص المقيم إذا عزم على السفر من الليل وبيت نية الفطر حتى طلع عليه الفجر ولم يبدأ سفره إلا بعد طلوع الفجر، فإنه يعتبر مخالفاً لأحكام الصيام في السفر، إذ كان يجب عليه أن يبيت الصيام مادام لن يبدأ سفره إلا بعد طلوع الفجر.
والأثر المترتب على ذلك: القضاء فقط مع إمساك بقية اليوم. أما المالكية فيوجبون عليه القضاء والكفارة.
وجهة الفريق الأول:
يرى هذا الفريق: أن فاعل ذلك وإن كان مخطئاً لكنه متأول نظراً لوجود نية السفر لديه، فوجود هذه النية أورثه شبهة الإباحة، وهذه الشبهة تنفي عنه الكفارة.
وجهة الفريق الثاني:
يرى هذا الفريق أن هذا الشخص يعتبر مقيماً صحيحاً قد عزم على ترك الصوم واستمر على الترك حتى انتهى وقت النية وهو طلوع الفجر، وعدم معرفته بالحكم لا يؤثر في وجوب الكفارة عليه، فيكفيه العلم بوجوب الصيام على الحاضر، وبما أنه شهد بدء الصيام وهو حاضر فيترتب عليه الجزاء الذي رتبه الشارع على من ترك هذا الواجب .
المختار: أرى أن مثل هذا الفعل خطأ من فاعله، لأن الأمر في الرخصة منوط – كما قلنا سابقاً- بالسفر، ولا يعطى الشخص صفة السفر حقيقة إلا إذا تحرك فعلاً في طريقه، وكونه عازماً على السفر لا يصح أن يكون مبرراً للفطر لجواز أن يعدل عن السفر بعد الفجر لسبب من الأسباب، كتحقق الغرض الذي كان سيسافر من أجله، أو وجد مانع منه، كانقطاع الطريق، أو عدم وجود ما يسافر عليه، والأسباب المانعة كثيرة، لذلك كان يجب عليه أن يبيت نية الصوم فإذا ما بدأ سفره كان له حينئذ الأخذ بالرخصة.
أما الجزاء على هذا الخطأ: فأرى- والله أعلم- أن الرأي الذي يقول بوجوب إمساك بقية اليوم- إن لم يسافر- ثم قضاء هذا اليوم بعد ذلك هو الأنسب لمثل هذا الفعل لأنه متأول فهو معذور لوجود العزم على السفر عنده.
بدء سريان الرخصة من حيث المكان:
نقل عن الحسن البصري وعطاء، أن من عزم على السفر فإن له أن يفطر في بيته قبل أن يخرج إلى طريقه، وقد حكي هذا عن أنس رضى الله عنه، فقد روى عن محمد بن كعب أنه قال: أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد السفر وقد رحلت له راحلته، ولبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل، فقلت له: سنة؟ فقال: سنة. ثم ركب، قال الترمذي هذا حديث حسن (وقد تقدم هذا الحديث قريباً وتقدم ما قيل فيه) .
وقد قال ابن عبد البر- تعليقاً على هذا القول- قول الحسن قول شاذ وليس الفطر لأحد في الحضر، في نظر ولا أثر [16] .
ولكن ابن العربي صحح هذا الرأي ونسبه إلى الإمام أحمد بن حنبل [17] .
إلا أن الثابت في المغني أن المذهب الحنبلي، يرى مع أكثر الفقهاء، ضرورة مجاوزة البيوت حتى يباح الفطر [18] .
وسنعرف ما هو الحق إن شاء الله بعد عرض الرأي الثاني وأدلته فيما يلي: يرى أكثر الفقهاء: أن الفطر لمريد السفر لا يجوز إلا إذا فارق بنيان البلدة التي يقيم فيها، وذلك لما يأتي:
أ- أن الآية {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} : علقت رخصة الفطر على حصول السفر ولا يطلق على الشخص وصف مسافر إلا بعد خروجه من مباني البلدة التي يقيم فيها، فلا يقال لشخص متحرك داخل بلده- راجلاً أو راكباً- مسافر. بل يطلق عليه هذا الوصف بعد خروجه من البلدة.
ويقوي هذا القول، ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم في قصر الصلاة- والقصر والفطر صنوان في الرخصة- فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يبدأ القصر من ذي الحليفة … فقد تقدم في حديث أنس (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعا وصليت معه العصر بذي الحليفة ركعتين) [19] .
وهناك رأي ثالث لإسحاق بن راهويه: وهو: أن المسافر له الفطر متى تحرك في بدء سفره، قال إسحاق: إذا وضع رجله في الرحل، فله أن يفطر وحكاه عن أنس بن مالك. وقد تقدم حديث أنس المفيد لذلك قريبا.
ويمكن أن يستدل له بحديث أبي البصرة الغفاري أيضاً حيث طلب غذاءه فأكل بعد أن تحركت به السفينة وهو لا يزال بمرأى من مباني بيوت البلدة. وقد تقدم قريباً وتقدم بيان ما قيل فيه.
المختار: كل من الآراء الثلاثة له مستند قوي من السنة: فحديث بدء قصره صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة يؤيد رأي الجمهور في أن الفطر يكون بعد مجاوزة البيوت، والحديث وإن لم يكن نصا في الموضوع إلا أن القصر والفطر يشتركان في أكثر الأحكام. وحديث أنس يقوي وجهة من قال بجواز الفطر قبل الخروج من البيت وهو وإن لم يصرح فيه بذلك، إلا أنه مفهوم من السياق، لأنه مادام قد أكل بعد أن رحلت له دابته، فليس من الجائز أن يكون قد أكل في الطريق وليس في هذا الحديث دليل لإسحاق، لأن أنس قد أكل قبل أن يركب، لكن ما يشهد لإسحاق هو حديث أبى بصرة، لأن فيه: أنه قد أكل بعد أن تحركت به سفينته، وهو على مرأى من البيوت وإذا قيل: بأنه قد أكل بعيد مجاوزة البيوت أي بعد أن جاوزها بقليل- فهذا القول ليس ببعيد- لأن قول الراوي له: ألست ترى البيوت، يفهم منه، أن الأكل قد حدث قبل مجاوزة البيوت أو بعدها بقليل بحيث لم تغب البيوت عن نظرهما.
وعلى ذلك فليس هناك ما يمنع من حدوث الفطر في البيت لمريد السفر بشرط أن يكون ذلك بعد أن ينتهي من الاستعداد له وإن كان الأحوط أن يكون ذلك بعد مجاوزة البيوت. والله أعلم.