74 – رياح المسك العطرة بمشاركات الأصحاب المباركة على صحيح البخاري
مجموعة أبي صالح حازم وأحمد بن علي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
مراجعة سيف بن غدير النعيمي
وعبدالله البلوشي أبي عيسى
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال البخاري في كتاب العلم من صحيحه:
باب ما ذكر في ذهاب موسى صلى الله عليه في البحر إلى الخضر وقوله تعالى {هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا}
74 – حدثني محمد بن غرير الزهري قال حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثني أبي عن صالح عن ابن شهاب حدثه أن عبيد الله بن عبد الله أخبره عن ابن عباس أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى قال ابن عباس هو خضر فمر بهما أبي بن كعب فدعاه ابن عباس فقال إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل موسى السبيل إلى لقيه هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه قال نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بينما موسى في ملإ من بني إسرائيل جاءه رجل فقال هل تعلم أحدا أعلم منك قال موسى لا فأوحى الله عز وجل إلى موسى بلى عبدنا خضر فسأل موسى السبيل إليه فجعل الله له الحوت آية وقيل له إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه وكان يتبع أثر الحوت في البحر فقال لموسى فتاه {أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} {قال ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصا} فوجدا خضرا فكان من شأنهما الذي قص الله عز وجل في كتابه.
—–
فوائد الباب:
1 – (قوله تعالى (هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا)) قال موسى للخضر عليهما السلام (أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا قال {إنك لن تستطيع معي صبرا} يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه) متفق عليه.
2 – حديث عبيد الله بن عبد الله عن عبد الله بن عباس أخرجه البخاري ومسلم والنسائي في السنن الكبرى وعلقه الترمذي في سننه ووصله من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب.
3 – باب الخروج في طلب العلم ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد قاله البخاري
4 – النقاش بين ابن عباس والحر وكلاهما صحابي في صاحب موسى عليهما السلام وكان في حياة أبي بن كعب رضي الله عنه وورد من طريق سعيد بن جبير أن الخلاف كان مع نوف البكالي؛ فذكر له سعيد بن جبير قول نوفل في شأن موسى عليه السلام فقال ابن عباس: كذب عدو الله، وظاهره بعد وفاة أبي بن كعب.
5 – من الفقه السفر والرحلة في طلب العلم في البر والبحر. قاله ابن بطال في شرح صحيح البخاري.
6 – هذا الباب معقود للترغيب في احتمال المشقة في طلب العلم لأن ما يغتبط به تحتمل المشقة فيه ولأن موسى عليه الصلاة والسلام لم يمنعه بلوغه من السيادة المحل الأعلى من طلب العلم وركوب البر والبحر لأجله فظهر بهذا مناسبة هذا الباب لما قبله قاله الحافظ ابن حجر في الفتح.
7 – فيه ما يستحب للعالم إذا سئل أي الناس أعلم فيكل العلم إلى الله قاله البخاري في صحيحه.
8 – فيه “أن العالم عليه ترك التصلف بعلمه ولزوم الافتقار إلى الله جل وعلا في كل حاله” قاله ابن حبان في صحيحه.
9 – فيه جواز التماري في العلم إذا كان كل واحد يطلب الحقيقة ولم يكن متعنتا. قاله ابن بطال في شرح صحيح البخاري.
10 – وفيه الرجوع إلى قول أهل العلم عند التنازع. قاله ابن بطال في شرح صحيح البخاري.
11 – وفيه أنه يجب على العالم الرغبة في التزيد من العلم، والحرص عليه، ولا يقنع بما عنده، كما فعل موسى ولم يكتف بعلمه. قاله ابن بطال في شرح صحيح البخاري.
12 – وفيه أنه يجب على حامل العلم لزوم التواضع في علمه، وجميع أحواله، لأن الله تعالى عتب على موسى حين لم يرد العلم إليه، وأراه من هو أعلم منه. قاله ابن بطال في شرح صحيح البخاري.
13 – وفيه حمل الزاد وإعداده في السفر بخلاف قول الصوفية. قاله ابن بطال في شرح صحيح البخاري.
14 – فيه من فضائل الخضر عليه السلام.
15 – ” إن قلتَ أما دلّت حاجته إلى التعلم من آخر في عهده أنه كما قيل موسي بن منشأ لا موسي بن عمران لأن النبي يجب أن يكون أعلم أهل زمانه. قلتُ لا غضاضة أي لا نقض بالنبي في أخذ العلم من نبي مثله قاله الكرماني في الكواكب الدراري.
16 – عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما سمي الخضر أنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء”. رواه البخاري 3402 والترمذي 3151
17 – الخضر بفتح الخاء وكسر الضاد ويجوز إسكان الضاد مع كسر الخاء وفتحها قاله الكرماني في الكواكب الدراري.
18 – “واختلفوا فيه فقيل إنه نبي على قولين مرسل وغير مرسل، وقيل إنه ولي، وقيل إنه من الملائكة واحتج من قال بنبوته بقوله تعالى «وما فعلته عن أمري» وبكونه أعلم من موسي والولي لا يكون أعلم من النبي وأجيب بأنه يجوز أن يكون قد أوحى الله إلي نبى ذلك العصر أن يأمر الخضر بذلك” قاله الكرماني قلت ظاهر النصوص تدل على نبوته وأما أنه ولي يأتمر بأمر نبي أو ملك من الملائكة بعيد فيقال لم لم يلتق بالنبي؟ أو ما دليلكم في أنه ملك من الملائكة؟ فهذا التجويز العقلي المحض يحتاج إلى نص للذهاب إليه ولا يقال في مثل ذلك إنه أعلم من موسى.
19 – ومن قال بأنه لا زال حيا حتى الآن فلم يذكر حجة والأصل أنه يموت كما يموت الناس.
20 – إذا اسْتَاجَرَ أجِيرًا، عَلى أنْ يُقِيمَ حائِطًا، يُرِيدُ أنْ يَنْقَضَّ جازَ قاله البخاري.
21 – فيه جواز ” الشروط مع الناس بالقول” قاله البخاري في صحيحه.
22 – وترجم عليه البخاري أيضا فقال باب إذا حنث ناسيا في الأيمان وقول الله تعالى {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به} وقال {لا تؤاخذني بما نسيت}
23 – بوب البخاري باب في المشيئة والإرادة {وما تشاءون إلا أن يشاء الله} وقول الله تعالى {تؤتي الملك من تشاء} {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله} {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} قال سعيد بن المسيب عن أبيه نزلت في أبي طالب {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}
ثم ذكر أحاديث كثيرة من ضمنها حديث الباب
24 – فيه صفة إبليس وجنوده قاله البخاري لقوله تعالى (وما أنسانيه إلا الشيطان)
25 – قال الراجحي في «شرح تفسير ابن كثير – الراجحي» (61/ 6 بترقيم الشاملة آليا):
في قصة موسى والخضر دليل على أن الأنبياء -وإن كانوا أنبياء- قد يعتب الله عليهم، كما عتب الله على موسى لما سأله رجل: هل هناك أحد أعلم منك؟ فقال: لا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأخبره الله أن هناك عبداً أعلم منه في مجمع البحرين، وقيل: إن الأنبياء قد يفعل أحدهم خلاف الأولى.
وكذلك عاتب الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم فقال: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:1 – 4]، وذلك لما جاء عبد الله بن أم مكتوم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم مشغولاً بصناديد قريش يرجو إسلامهم.
لكن الأنبياء معصومون عن الشرك، وعن الكبائر، وعن الخطأ فيما يبلغون به عن الله،
وكذلك في قصة زينب وزوجها زيد قبل أن يتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم قال الله له: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37].
وقد أخبر الله أنه غفر للأنبياء وهذا يعني أن لهم ذنوباً، فقال تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} [الفتح:2]، وقال سبحانه: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]، وقال حكاية عن موسى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:16]، وعن داود {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص:24] وعن سليمان {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} [ص:25]، وقال حكاية عن ذي النون: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]. اهـ
26 – جاء في «مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة» (42/ 363 بترقيم الشاملة آليا):
لقد كان السؤال في هذه القصة من أهم طرق التعلم ووسائله، وقد حقق السؤال الكثير من الفوائد والإيجابيات، نبين بعضها في هذا الجزء من البحث، ونبين البعض الآخر في مكانها المناسب من البحث.
وقد تكرر استعمال السؤال مرات عديدة في هذه القصة، وكان استعماله فيها جميعها استعمالاً راشداً وموفقاً
– فقد استخدم نبي الله موسى عليه السلام السؤال ليعرف مكان الخضر عليه السلام ويتعلم منه
– كما استخدم عليه السلام السؤال في اتباعه الخضر والتعلم منه
– إن طلب الخضر من نبي الله موسى أن لا يسأله عن شيء حتى يبينه له، يدل على أن السؤال من الوسائل الأولية والهامة لمعرفة أسباب القيام ببعض الأمور التي لا يرى لها حكماً ظاهرة، فيكون السؤال من أهم أسباب اجتلاء كنهها، ومعرفة أسرارها وخفاياها.
– إن السؤال هو الوسيلة الوحيدة التي استخدمها نبي الله موسى عليه السلام للتعبير عن إنكاره لما جرى أمام عينيه من تعدٍّ وظلم، كما كان ظاهر ما حدث
– إن أسئلة نبي الله موسى المتكررة هي التي جعلت الخضر عليه السلام لا يجد مناصاً من تبيين حكمة ما فعل لموسى عليه السلام، وهذا يدل على فاعلية السؤال وقوة تأثيره في القصة، إذ أثمر معرفةً وفهماً وتفسيراً لأمور كانت أسبابها غير معروفة وغير ظاهرة للعيان.
– إن التزام المتعلم بعدم سؤال المعلم فيما لا يجب أن يسأل فيه من الأسباب المؤدية إلى استمرار العلاقة بين المعلم والمتعلم وقوتها، فالاستخدام الحكيم للسؤال يدل على أهمية السؤال في تحقيق الهدف المتقدم وغيره من الأهداف التعليمية والتربوية الإيجابية.
وقد قام موسى عليه الصلاة والسلام بتحمل عناء السؤال، وحرص على الاستفادة، وتلطف أيضا لأخذ العلم النافع بالاعتذار لمَّا رأى أنه استعجل في السؤال، وكان يذكر في سؤاله حجته، ولم يسأل عن الحقائق استهزاءا. … فهذه آداب السؤال للمتعلمين يمكن أن يستعملونها في تلقيهم للعلم
====
27 – فهذه ثلاثون فائدة عجيبة استنبطها الإمام محمد بن عبد الوهاب من قصة موسى والخضر الواردة في سياق القرآن وسياق حديث ابن عباس في البخاري وغيره.
وأصل هذه الفوائد سبعة أنواع تتضمن خمسا وثمانين فائدة:
النوع الأول: ما يتعلق بجلال الله وعظمته:
1) الأدب مع الله لقوله (فعتب الله عليه).
2) الأدب معه تعالى بمعرفة أن له أسرارًا في خلقه تخفى على الأنبياء، فلا ينبغي الغفلة عن هذه المهمة.
النوع الثاني: ما يتعلق بأحوال الأنبياء، وفيه مسائل:
3) أن النبي يجوز عليه الخطأ.
4) أن النبي يجوز عليه االنسيان.
5) أنه لا ينكر إصابة الشيطان للأنبياء بما لا يقدح في النبوة لقوله (نسيا حوتهما) وقوله (وما أنسانيه إلا الشيطان).
النوع الثالث: مسائل الأصول:
6) إثبات كرامات الأولياء على القول بعدم نبوة الخضر.
7) أنه قد يكون عند غير النبي صلى الله عليه وسلم من العلم ما ليس عند النبي.
8) إذا احتمل اللفظ معاني فأظهرها أولاها كما قال الشافعي.
النوع الرابع: ما فيها من تفسير:
9) أنه لا يجوز تفسير القرآن بالإسرائيليات، وإن وقع فيه من وقع.
10) أن الوعد على العمل الصالح ليس مختصًا بالآخرة، بل يدخل فيه أمور الدنيا حتى في الذرية بعد موت العامل.
النوع الخامس: أدب العالم مع المتعلم:
11) تسمية التلميذ الخادم فتى.
12) التعلم بعد الرياسة.
13) ركوب البحر لطلب العلم.
14) قبول نصيحة الشيخ لعلمه منك ما لا تعلمه من نفسك، وإن كنت أفضل منه.
15) إعفاء المتعلم مما يكره.
النوع السادس: منها مسائل الفقه:
16) عمل الإنسان في مال الغير بغير إذنه إذا خاف عليه الهلاك.
17) ليس من شرط الجواز خوف الهلاك، بل قد يجوز للإصلاح، لقصة الجدار.
18) أنه لا بأس بالسؤال في بعض الأحوال لقوله تعالى (استطعما أهلها).
19) الإتعاظ بهذه القضية، وكم ممن هان على الناس وهو جليل عند الله، وقد قيل:
فإن رددتَّ فما في الرد منقصةٌ *** عليك، قد ردَّ موسى قبل والخضر
20) أن الإجارة تجوز بغير الشروط التي شرطها بعض الفقهاء.
21) أنه يجوز أخذ الأجرة على العمل الذي لا يكلف، خلاف ما توهمه بعضهم.
22) الترحم على الأنبياء وأنه لا ينقص من قدرهم خلاف ما توهمه بعضهم.
23) خطأ من قال: تخلو الأرض من مجتهد.
24) قوله (لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا) لا تعد من الشكوى.
25) سفر الاثنين من غير ثالث للحاجة.
النوع السابع: المنثور الجامع:
26) أن الشيطان يتسلط تسلطًا لا يعرف لكونه تسلط على يوشع بالنسيان العجيب.
27) الرد على منكري الأسباب لأنه سبحانه قادر على إنجاء السفينة وتثبيت ابوي الغلام وإخراج الكنز له بدون ما جرى.
28) الحكم بالظاهر لقوله عليه السلام (نفسًا زكية).
29) تسمية المدينة قرية.
30) أن المال قد يكون رحمة وإن كان مكنوزًا.
===
28 – فوائد السعدي:
في هذه القصة العجيبة الجليلة، من الفوائد والأحكام والقواعد شيء كثير، ننبه على بعضه بعون الله.
فمنها فضيلة العلم، والرحلة في طلبه، وأنه أهم الأمور، فإن موسى عليه السلام رحل مسافة طويلة، ولقي النصب في طلبه، وترك القعود عند بني إسرائيل، لتعليمهم وإرشادهم، واختار السفر لزيادة العلم على ذلك.
ومنها: البداءة بالأهم فالأهم، فإن زيادة العلم وعلم الإنسان أهم من ترك ذلك، والاشتغال بالتعليم من دون تزود من العلم، والجمع بين الأمرين أكمل.
ومنها: جواز أخذ الخادم في الحضر والسفر لكفاية المؤن، وطلب الراحة، كما فعل موسى.
ومنها: أن المسافر لطلب علم أو جهاد أو نحوه، إذا اقتضت المصلحة الإخبار بمطلبه، وأين يريده، فإنه أكمل من كتمه، فإن في إظهاره فوائد من الاستعداد له عدته، وإتيان الأمر على بصيرة، وإظهارًا لشرف هذه العبادة الجليلة، كما قال موسى: {{لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} ْ} وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه حين غزا تبوك بوجهه، مع أن عادته التورية، وذلك تبع للمصلحة.
ومنها: إضافة الشر وأسبابه إلى الشيطان، على وجه التسويل والتزيين، وإن كان الكل بقضاء الله وقدره، لقول فتى موسى: {{وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} ْ}
ومنها: جواز إخبار الإنسان عما هو من مقتضى طبيعة النفس، من نصب أو جوع، أو عطش، إذا لم يكن على وجه التسخط وكان صدقا، لقول موسى: {{لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} ْ}
ومنها: استحباب كون خادم الإنسان، ذكيا فطنا كيسا، ليتم له أمره الذي يريده.
ومنها: استحباب إطعام الإنسان خادمه من مأكله، وأكلهما جميعا، لأن ظاهر قوله: {{آتِنَا غَدَاءَنَا} ْ} إضافة إلى الجميع، أنه أكل هو وهو جميعا.
ومنها: أن المعونة تنزل على العبد على حسب قيامه بالمأمور به، وأن الموافق لأمر الله، يعان ما لا يعان غيره لقوله: {{لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} ْ} والإشارة إلى السفر المجاوز، لمجمع البحرين، وأما الأول، فلم يشتك منه التعب، مع طوله، لأنه هو السفرعلى الحقيقة.
وأما الأخير، فالظاهر أنه بعض يوم، لأنهم فقدوا الحوت حين أووا إلى الصخرة، فالظاهر أنهم باتوا عندها، ثم ساروا من الغد، حتى إذا جاء وقت الغداء قال موسى لفتاه {{آتِنَا غَدَاءَنَا} ْ} فحينئذ تذكر أنه نسيه في الموضع الذي إليه منتهى قصده.
ومنها: أن ذلك العبد الذي لقياه، ليس نبيا، بل عبدا صالحا، لأنه وصفه بالعبودية، وذكر منة الله عليه بالرحمة والعلم، ولم يذكر رسالته ولا نبوته، ولو كان نبيا، لذكر ذلك كما ذكره غيره. وأما قوله في آخر القصة: {{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} ْ} فإنه لا يدل على أنه نبي وإنما يدل على الإلهام والتحديث، كما يكون لغير الأنبياء، كما قال تعالى {{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} ْ} {{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} ْ}
ومنها: التأدب مع المعلم، وخطاب المتعلم إياه ألطف خطاب، لقول موسى عليه السلام: {{هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} ْ} فأخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة، وأنك هل تأذن لي في ذلك أم لا، وإقراره بأنه يتعلم منه، بخلاف ما عليه أهل الجفاء أو الكبر، الذي لا يظهر للمعلم افتقارهم إلى علمه، بل يدعي أنه يتعاون هم وإياه، بل ربما ظن أنه يعلم معلمه، وهو جاهل جدا، فالذل للمعلم، وإظهار الحاجة إلى تعليمه، من أنفع شيء للمتعلم.
ومنها تواضع الفاضل للتعلم ممن دونه، فإن موسى -بلا شك- أفضل من الخضر. ومنها: تعلم العالم الفاضل للعلم الذي لم يتمهر فيه، ممن مهر فيه، وإن كان دونه في العلم بدرجات كثيرة. فإن موسى عليه السلام من أولي العزم من المرسلين، الذين منحهم الله وأعطاهم من العلم ما لم يعط سواهم، ولكن في هذا العلم الخاص كان عند الخضر، ما ليس عنده، فلهذا حرص على التعلم منه. فعلى هذا، لا ينبغي للفقيه المحدث، إذا كان قاصرا في علم النحو، أو الصرف، أو نحوه من العلوم، أن لا يتعلمه ممن مهر فيه، وإن لم يكن محدثا ولا فقيها.
ومنها: إضافة العلم وغيره من الفضائل لله تعالى، والإقرار بذلك، وشكر الله عليها لقوله: {{تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ} ْ} أي: مما علمك الله تعالى.
ومنها: أن العلم النافع، هو العلم المرشد إلى الخير، فكل علم يكون فيه رشد وهداية لطرق الخير، وتحذير عن طريق الشر، أو وسيلة لذلك، فإنه من العلم النافع، وما سوى ذلك، فإما أن يكون ضارا، أو ليس فيه فائدة لقوله: {{أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} ْ}
ومنها: أن من ليس له قوة الصبر على صحبة العالم والعلم، وحسن الثبات على ذلك، أنه يفوته بحسب عدم صبره كثير من العلم فمن لا صبر له لا يدرك العلم، ومن استعمل الصبر ولازمه، أدرك به كل أمر سعى فيه، لقول الخضر -يعتذر من موسى بذكر المانع لموسى في الأخذ عنه- إنه لا يصبر معه.
ومنها: أن السبب الكبير لحصول الصبر، إحاطة الإنسان علما وخبرة، بذلك الأمر، الذي أمر بالصبر عليه، وإلا فالذي لا يدريه، أو لا يدري غايته ولا نتيجته، ولا فائدته وثمرته ليس عنده سبب الصبر لقوله: {{وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} ْ} فجعل الموجب لعدم صبره، عدم إحاطته خبرا بالأمر.
ومنها: الأمر بالتأني والتثبت، وعدم المبادرة إلى الحكم على الشيء، حتى يعرف ما يراد منه وما هو المقصود.
ومنها: تعليق الأمور المستقبلية التي من أفعال العباد بالمشيئة، وأن لا يقول الإنسان للشيء: إني فاعل ذلك في المستقبل، إلا أن يقول {{إِنْ شَاءَ اللَّهُ} ْ}
ومنها: أن العزم على فعل الشيء، ليس بمنزلة فعله، فإن موسى قال: {{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} ْ} فوطن نفسه على الصبر ولم يفعل.
ومنها: أن المعلم إذا رأى المصلحة في إيزاعه للمتعلم أن يترك الابتداء في السؤال عن بعض الأشياء، حتى يكون المعلم هو الذي يوقفه عليها، فإن المصلحة تتبع، كما إذا كان فهمه قاصرا، أو نهاه عن الدقيق في سؤال الأشياء التي غيرها أهم منها، أو لا يدركها ذهنه، أو يسأل سؤالا، لا يتعلق في موضع البحث.
ومنها: جواز ركوب البحر، في غير الحالة التي يخاف منها. ومنها: أن الناسي غير مؤاخذ بنسيانه لا في حق الله، ولا في حقوق العباد لقوله: {{لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} ْ}
ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يأخذ من أخلاق الناس ومعاملاتهم، العفو منها، وما سمحت به أنفسهم، ولا ينبغي له أن يكلفهم ما لا يطيقون، أو يشق عليهم ويرهقهم، فإن هذا مدعاة إلى النفور منه والسآمة، بل يأخذ المتيسر ليتيسر له الأمر.
ومنها: أن الأمور تجري أحكامها على ظاهرها، وتعلق بها الأحكام الدنيوية، في الأموال، والدماء وغيرها، فإن موسى عليه السلام، أنكر على الخضر خرقه السفينة، وقتل الغلام، وأن هذه الأمور ظاهرها، أنها من المنكر، وموسى عليه السلام لا يسعه السكوت عنها، في غير هذه الحال، التي صحب عليها الخضر، فاستعجل عليه السلام، وبادر إلى الحكم في حالتها العامة، ولم يلتفت إلى هذا العارض، الذي يوجب عليه الصبر، وعدم المبادرة إلى الإنكار.
ومنها: القاعدة الكبيرة الجليلة وهو أنه ” يدفع الشر الكبير بارتكاب الشر الصغير ” ويراعي أكبر المصلحتين، بتفويت أدناهما، فإن قتل الغلام شر، ولكن بقاءه حتى يفتن أبويه عن دينهما، أعظم شرا منه، وبقاء الغلام من دون قتل وعصمته، وإن كان يظن أنه خير، فالخير ببقاء دين أبويه، وإيمانهما خير من ذلك، فلذلك قتله الخضر، وتحت هذه القاعدة من الفروع والفوائد، ما لا يدخل تحت الحصر، فتزاحم المصالح والمفاسد كلها، داخل في هذا.
ومنها: القاعدة الكبيرة أيضا وهي أن ” عمل الإنسان في مال غيره، إذا كان على وجه المصلحة وإزالة المفسدة، أنه يجوز، ولو بلا إذن حتى ولو ترتب على عمله إتلاف بعض مال الغير ” كما خرق الخضر السفينة لتعيب، فتسلم من غصب الملك الظالم. فعلى هذا لو وقع حرق، أو غرق، أو نحوهما، في دار إنسان أو ماله، وكان إتلاف بعض المال، أو هدم بعض الدار، فيه سلامة للباقي، جاز للإنسان بل شرع له ذلك، حفظا لمال الغير، وكذلك لو أراد ظالم أخذ مال الغير، ودفع إليه إنسان بعض المال افتداء للباقي جاز، ولو من غير إذن.
ومنها: أن العمل يجوز في البحر، كما يجوز في البر لقوله: {{يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} ْ} ولم ينكر عليهم عملهم.
ومنها: أن المسكين قد يكون له مال لا يبلغ كفايته، ولا يخرج بذلك عن اسم المسكنة، لأن الله أخبر أن هؤلاء المساكين، لهم سفينة.
ومنها: أن القتل من أكبر الذنوب لقوله في قتل الغلام {{لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} ْ} ومنها: أن القتل قصاصا غير منكر لقوله {{بِغَيْرِ نَفْسٍ} ْ}
ومنها: أن العبد الصالح يحفظه الله في نفسه، وفي ذريته.
ومنها: أن خدمة الصالحين، أو من يتعلق بهم، أفضل من غيرها، لأنه علل استخراج كنزهما، وإقامة جدارهما، أن أباهما صالح.
ومنها: استعمال الأدب مع الله تعالى في الألفاظ، فإن الخضر أضاف عيب السفينة إلى نفسه بقوله {{فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} ْ} وأما الخير، فأضافه إلى الله تعالى لقوله: {{فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} ْ} كما قال إبراهيم عليه السلام {{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} ْ} وقالت الجن: {{وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} ْ} مع أن الكل بقضاء الله وقدره.
ومنها: أنه ينبغي للصاحب أن لا يفارق صاحبه في حالة من الأحوال، ويترك صحبته، حتى يعتبه، ويعذر منه، كما فعل الخضر مع موسى.
ومنها: أن موافقة الصاحب لصاحبه، في غير الأمور المحذورة، مدعاة وسبب لبقاء الصحبة وتأكدها، كما أن عدم الموافقة سبب لقطع المرافقة.
ومنها: أن هذه القضايا التي أجراها الخضر هي قدر محض أجراها الله وجعلها على يد هذا العبد الصالح، ليستدل العباد بذلك على ألطافه في أقضيته، وأنه يقدر على العبد أمورا يكرهها جدا، وهي صلاح دينه، كما في قضية الغلام، أو وهي صلاح دنياه كما في قضية السفينة، فأراهم نموذجا من لطفه وكرمه، ليعرفوا ويرضوا غاية الرضا بأقداره المكروهة.
تفسير ابن سعدي رحمه الله
29 – قوله (حدثني محمد بن غرير الزهري) تابعه عمرو بن محمد كما عند البخاري 3400
30 – قوله (عن صالح) هو ابن كيسان تابعه يونس بن يزيد كما عند مسلم 2380 وأبو عوانة في مستخرجه 10477 وابن حبان في صحيحه 102، تابعه الأوزاعي كما عند البخاري78 و7478 والنسائي في السنن الكبرى 11246 وأبو عوانة في مستخرجه 10476 والشاشي في مسنده 1410