(7) بيان الوسيلة في آيات القرآن الكريمة
جمع سيف بن دورة الكعبي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف الشيخ د. سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إماراتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
سورة المؤمنين:
قال تعالى
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) سورة المؤمنين
وفي الوسيط:
(وَقُل) – أيضاً – يا نوح (رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً) أى: أنزلنى إنزالاً، أو مكان إنزال مباركاً – أى مليئاً بالخيرات والبركات، خالياً مما حل بالظالمين من إغراق وإهلاك. (وَأَنتَ) يا إلهى (خَيْرُ المنزلين) بفضلك وكرمك فى المكان الطيب المبارك
قال الطبري:
يقول تعالى ذكره لنبيه نوح عليه السلام: وقل إذا سلمك الله، وأخرجك من الفلك، فنزلت عنها: (رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلا) من الأرض (مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ) من أنزل عباده المنازل.
======
قال تعالى
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) سورة المؤمنين
قاله نوح عليه الصلاة والسلام
فتوسل نوح عليه الصلاة والسلام بأسماء الله وكذلك كان دعاؤه من أجل إقامة الدين. وهو قد قام بالدعوة غير متهاون بل استعان بربه وبذل جهده. وتوسل بأنه وحيد أمام أهل التكذيب فما آمن معه إلا قليل. ولما كانوا مستضعفين استعمل صيغة الإفراد فهي أظهر في الافتقار.
قال ابن جرير:
وقوله: {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ}
يقول: فتلبثوا به، وتنظروا به حتى حين، يقول: إلى وقت مَّا، ولم يَعْنُوا بذلك وقتا معلوما، إنما هو كقول القائل: دعه إلى يوم مَّا، أو إلى وقت مَّا، وقوله: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} يقول: قال نوح داعيا ربه، مستنصرا به على قومه؛ لما طال أمره وأمرهم، وتمادوا في غيهم: {رَبِّ انْصُرْنِي} على قومي {بِمَا كَذَّبُونِ} يعني بتكذيبهم إياي، فيما بلَّغتُهم من رسالتك، ودعوتهم إليه من توحيدك. انتهى
قال ابن كثير:
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ دَعَا رَبَّهُ يَسْتَنْصِرُهُ عَلَى قَوْمِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا [عَنْهُ] ((1)) فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [الْقَمَرِ: (10)]، وَقَالَ هَاهُنَا: {[قَالَ] ((2)) رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِصَنْعَةِ السَّفِينَةِ وَإِحْكَامِهَا وَإِتْقَانِهَا، وَأَنْ يَحْمِلَ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، أَيْ: ذَكَرًا وَأُنْثَى مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْحَيَوَاناتِ وَالنَّبَاتَاتِ وَالثِّمَارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنْ يَحْمِلَ فِيهَا أَهْلَهُ {إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} أَيْ: سَبَقَ فِيهِ الْقَوْلُ مِنَ اللَّهِ بِالْهَلَاكِ، وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ مِنْ أَهْلِهِ، كَابْنِهِ وَزَوْجَتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قال البقاعي:
{قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} [المؤمنون (26)]
فَكَأنَّهُ قِيلَ: فَما قالَ؟ فَقِيلَ: {قالَ} عِنْدَما أيِسَ مِن فَلاحِهِمْ: {رَبِّ انْصُرْنِي} أيْ أعِنِّي عَلَيْهِمْ {بِما كَذَّبُونِ} أيْ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ لِي، فَإنَّ تَكْذِيبَ الرَّسُولِ اسْتِخْفافٌ بِالمُرْسَلِ
قال السعدي:
{قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} [المؤمنون (26)]
فلما رأى نوح أنه لا يفيدهم دعاؤه إلا فرارا {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} فاستنصر ربه عليهم، غضبا لله، حيث ضيعوا أمره، وكذبوا رسوله وقال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} قال تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ}
وتوسل أيضا بصدق وعده سبحانه في إنجاز تعذيبهم
قال البيضاوي:
{قالَ} بَعْدَ ما أيِسَ مِن إيمانِهِمْ. {رَبِّ انْصُرْنِي} بِإهْلاكِهِمْ أوْ بِإنْجازِ ما وعَدْتَهم مِنَ العَذابِ. {بِما كَذَّبُونِ} بَدَلَ تَكْذِيبِهِمْ إيّايَ أوْ بِسَبَبِهِ.
========
قال تعالى
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) سورة المؤمنين
قال ابن عطية:
وهَذا الدُعاءُ فِيهِ اسْتِصْحابُ الخَشْيَةِ والتَحْذِيرِ مِنَ الأمْرِ المُعَذَّبِ مِن أجْلِهِ، ثُمْ نَظِيرُهُ لِسائِرِ الأُمَّةِ دُعاءٌ في جَوْدَةِ الخاتِمَةِ. وفي هَذِهِ الآيَةِ بِجُمْلَتِها إعْلامٌ بِقُرْبِ العَذابِ مِنهم كَما كانَ في يَوْمِ بَدْرٍ. وقَوْلُهُ ثانِيًا: “رَبِّ” اعْتِراضٌ بَيْنَ الشَرْطِ وجَوابِهِ.
قال النسفي:
{رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي في القَوْمِ الظالِمِينَ} أيْ: فَلا تَجْعَلْنِي قَرِينًا لَهم ولا تُعَذِّبْنِي بِعَذابِهِمْ، عَنِ الحَسَنِ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – أخْبَرَهُ اللهُ أنَّ لَهُ في أُمَّتِهِ نِقْمَةً ولَمْ يُخْبِرْهُ مَتى وقَتُها فَأمَرَ أنْ يَدْعُوَ هَذا الدُعاءَ ويَجُوزُ أنْ يَسْألَ النَبِيُّ المَعْصُومُ – صلى الله عليه وسلم – رَبَّهُ ما عَلِمَ أنَّهُ يَفْعَلُهُ وأنْ يَسْتَعِيذَ بِهِ مِمّا عَلِمَ أنَّهُ لا يَفْعَلُهُ إظْهارًا لِلْعُبُودِيَّةِ وتَواضُعًا لِرَبِّهِ واسْتِغْفارُهُ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ إذْ قامَ مِن مَجْلِسِهِ سَبْعِينَ مَرَّةً لِذَلِكَ والفاءُ في فَلا لِجَوابِ الشَرْطِ و”رَبِّ” اعْتِراضٌ بَيْنَهُما لِلتَّاكِيدِ.
قال ابن كثير:
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا [نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا – صلى الله عليه وسلم -] أَنَّ يَدْعُوَ هَذَا الدُّعَاءَ عِنْدَ حُلُولِ النِّقَمِ: {رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} أَيْ: إِنْ عَاقَبْتَهُمْ -وَإِنِّي شاهدُ ذَلِكَ-فَلَا تَجْعَلُنِي فِيهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ-: “وَإِذَا أَرَدْتَ بِقَوْمٍ فِتْنَةً فَتَوَفَّنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ”. انتهى
قال الشوكاني:
{قُلْ رَبِّ إمّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ} أيْ إنْ كانَ ولا بُدَّ أنْ تُرِيَنِّي ما يُوعِدُونَ مِنَ العَذابِ المُسْتَاصَلِ لَهم.
{رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي في القَوْمِ الظّالِمِينَ} أيْ قُلْ يا رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي.
قالَ الزَّجّاجُ أيْ: إنْ أنْزَلْتَ بِهِمُ النِّقْمَةَ يا رَبِّ فاجْعَلْنِي خارِجًا عَنْهم، ومَعْنى كَلامِهِ هَذا أنَّ النِّداءَ مُعْتَرِضٌ، وما في إمّا زائِدَةٌ أيْ: قُلْ رَبِّ إنْ تُرِيَنِّي، والجَوابُ فَلا تَجْعَلْنِي، وذِكْرُ الرَّبَّ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً قَبْلَ الشَّرْطِ: ومَرَّةً بَعْدَهُ مُبالَغَةٌ في التَّضَرُّعِ.
وأمَرَهُ اللَّهُ أنْ يَسْألَهُ أنْ لا يَجْعَلَهُ في القَوْمِ الظّالِمِينَ مَعَ أنَّ الأنْبِياءَ لا يَكُونُونَ مَعَ القَوْمِ الظّالِمِينَ أبَدًا؛ تَعْلِيمًا لَهُ – صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ – مِن رَبِّهِ كَيْفَ يَتَواضَعُ؟ وقِيلَ: يَهْضِمُ نَفْسَهُ، أوْ لِكَوْنِ شُؤْمِ الكُفْرِ قَدْ يَلْحَقُ مَن لَمْ يَكُنْ مِن أهْلِهِ كَقَوْلِهِ: {واتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكم خاصَّةً}.
ثُمَّ لَمّا كانَ المُشْرِكُونَ يُنْكِرُونَ العَذابَ ويَسْخَرُونَ مِنَ النَّبِيِّ – صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ – إذا ذَكَرَ لَهم ذَلِكَ أكَّدَ سُبْحانَهُ وُقُوعَهُ بِقَوْلِهِ: {وإنّا عَلى أنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهم لَقادِرُونَ} أيْ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ قادِرٌ عَلى أنْ يُرِيَ رَسُولَهُ عَذابَهم، ولَكِنَّهُ يُؤَخِّرُهُ لِعِلْمِهِ بِأنَّ بَعْضَهم سَيُؤْمِنُ، أوْ لِكَوْنِ اللَّهِ سُبْحانَهُ لا يُعَذِّبُهم والرَّسُولُ فِيهِمْ، وقِيلَ: قَدْ أراهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ ويَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ.
قال البقاعي:
{رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون (94)]
ثُمَّ نَبَّهَهُ عَلى الزِّيادَةِ في الضَّراعَةِ بِتَكْرِيرِ النِّداءِ بِصِفَةِ الإحْسانِ تَعَبُّدًا وتَخَشُّعًا، وتَذَلُّلًا وتَخَضُّعًا، إشارَةً إلى أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ لَهُ أنْ يَفْعَلَ ما يَشاءُ، فَيَنْبَغِي لِأقْرَبِ خَلْقِهِ إلَيْهِ أنْ يَكُونَ عَلى غايَةِ الحَذِرِ مِنهُ فَقالَ: {رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي} بِإحْسانِكَ إلَيَّ وفَضْلِكَ عَلَيَّ فِيهِمْ، هَكَذا كانَ الأصْلُ ولَكِنَّهُ أظْهَرَ الوَصْفَ تَعْمِيمًا لِلدَّعْوَةِ وتَعْلِيقًا لِلْحُكْمِ بِالوَصْفِ فَقالَ: {فِي القَوْمِ الظّالِمِينَ} أيِ الَّذِينَ أعْمالُهم أعْمالُ مَن يَمْشِي في الظَّلامِ، فَهي في غَيْرِ مَواضِعِها، فَضْلًا عَنْ أنْ أكُونَ مِنهم فَإنَّهُ يُوشِكُ أنْ يَخُصَّهُمُ العَذابُ ويَعُمَّ مَن جاوَرَهم لِوَخامَةِ الظُّلْمِ وسُوءِ عاقِبَتِهِ
قال الآلوسي:
{رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي في القَوْمِ الظّالِمِينَ} أيْ قَرِينًا لَهم فِيما هم فِيهِ مِنَ العَذابِ، ووُضِعَ الظّاهِرُ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِلْإشارَةِ إلى اسْتِحْقاقِهِمْ لِلْعَذابِ، وجاءَ الدُّعاءُ قَبْلَ الشَّرْطِ وقَبْلَ الجَزاءِ مُبالَغَةً في الِابْتِهالِ والتَّضَرُّعِ، واخْتِيرَ لَفْظُ الرَّبِّ لِما فِيهِ مِنَ الإيذانِ بِأنَّهُ سُبْحانَهُ المالِكُ النّاظِرُ في مَصالِحِ العَبْدِ، وفي أمَرِهِ – صلى الله عليه وسلم – أنْ يَدْعُوَ بِذَلِكَ مَعَ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في حِرْزٍ عَظِيمٍ مِن أنْ يُجْعَلَ قَرِينًا لَهم إيذانٌ بِكَمالِ فَظاعَةِ العَذابِ المَوْعُودِ وكَوْنِهِ بِحَيْثُ يَجِبُ أنْ يَسْتَعِيذَ مِنهُ مَن لا يَكادُ يُمْكِنُ أنْ يَحِيقَ بِهِ. وهو مُتَضَمِّنٌ رَدَّ إنْكارَهُمُ العَذابِ واسْتِعْجالَهم بِهِ عَلى طَرِيقَةِ الِاسْتِهْزاءِ.
وقِيلَ أمَرَ – صلى الله عليه وسلم – بِذَلِكَ هَضْمًا لِنَفْسِهِ وإظْهارًا لِكَمالِ العُبُودِيَّةِ، وقِيلَ لِأنَّ شُؤْمَ الكَفَرَةِ قَدْ يَحِيقُ بِمَن سِواهم كَقَوْلِهِ تَعالى {واتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكم خاصَّةً} [الأنْفالُ: 25]
قال ابن عاشور:
وذُكِرَ في هَذا الدُّعاءِ لَفْظُ (رَبِّ) مُكَرَّرًا تَمْهِيدًا لِلْإجابَةِ؛ لِأنَّ وصْفَ الرُّبُوبِيَّةِ يَقْتَضِي الرَّافَةَ بِالمَرْبُوبِ. وأُدْخِلَ بَعْدَ حَرْفِ الشَّرْطِ (ما) الزّائِدَةُ لِلتَّوْكِيدِ فاقْتَرَنَ فِعْلُ الشَّرْطِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ لِزِيادَةِ تَحْقِيقِ رَبْطِ الجَزاءِ بِالشَّرْطِ. ونَظِيرُهُ في تَكْرِيرِ المُؤَكَّداتِ بَيْنَ الشَّرْطِ وجَوابِهِ قَوْلُ الأعْشى:
إمّا تَرَيْنا حُفاةً لا نِعالَ لَنا إنّا كَذَلِكَ ما نَحْفى ونَنْتَعِلُ
أيْ: فاعْلَمِي حَقًّا أنّا نَحْفى تارَةً ونَنْتَعِلُ أُخْرى لِأجْلِ ذَلِكَ، أيْ: لِأجْلِ إخْفاءِ الخُطى لا لِأجْلِ وِجْدانِ نَعْلٍ مَرَّةً وفُقْدانِها أُخْرى كَحالِ أهْلِ الخَصاصَةِ.
وقَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: {وإمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ} [الأعراف: (200)] في آخِرِ الأعْرافِ. والمَعْنى: إذا كانَ ما يُوعَدُونَ حاصِلًا في حَياتِي فَأنا أدْعُوكم أنْ لا تَجْعَلُونِي فِيهِمْ حِينَئِذٍ.
واسْتِعْمالُ حَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ مِن قَوْلِهِ: {فِي القَوْمِ الظّالِمِينَ} يُشِيرُ إلى أنَّهُ أُمِرَ أنْ يَسْألَ الكَوْنَ في مَوْضِعٍ غَيْرِ مَوْضِعِ المُشْرِكِينَ، وقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ بِالهِجْرَةِ إلى المَدِينَةِ فالظَّرْفِيَّةُ هُنا حَقِيقِيَّةٌ، أيْ: بَيْنَهم.
قال السعدي:
لما أقام تعالى على المكذبين أدلته العظيمة، فلم يلتفتوا لها، ولم يذعنوا لها، حق عليهم العذاب، ووعدوا بنزوله، وأرشد الله رسوله أن يقول: {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} أي: أي وقت أريتني عذابهم، وأحضرتني ذلك {رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي: اعصمني وارحمني، مما ابتليتهم به من الذنوب الموجبة للنقم، واحمني أيضا من العذاب الذي ينزل بهم، لأن العقوبة العامة تعم -عند نزولها- العاصي وغيره
——–
قال تعالى:
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97)
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98).سورة المؤمنين
قال ابن القيم:
فهمزات الشياطين: دفعهم الوساوس والإغواء إلى القلب، قال ابن عباس والحسن: “همزات الشياطين: نزغاتهم ووساوسهم” وفسرت همزاتهم بنفخهم ونفثهم، وهذا قول مجاهد، وفسرت بخنقهم وهو المؤتة التي تشبه الجنون.
وظاهر الحديث أن الهمز نوع غير النفخ والنفث، وقد يقال- وهو الأظهر- إن همزات الشياطين إذا أفردت دخل فيها جميع إصاباتهم لابن آدم، وإذا قرنت بالنفخ والنفث كانت نوعا خاصا، كنظائر ذلك.
ثم قال: {وَأعُوذُ بِكَ رَبِّ أنْ يَحْضُرُونِ}.
قال ابن زيد: في أموري.
وقال الكلبي: عند تلاوة القرآن.
وقال عكرمة: عند النزع والسياق، فأمره أن يستعيذ من نوعي شر إصابتهم له بالهمز وقربهم ودنوهم منه.
فتضمنت الاستعاذة أن لا يمسوه ولا يقربوه، وذكر ذلك سبحانه عقيب قوله: {ادْفَعْ بِالتِي هي أحْسَنُ السَّيَئةَ نَحْنُ أعْلَمُ بما يصِفُونَ} [المؤمنون: (96)].
فأمره أن يحترز من شر شياطين الإنس بدفع إساءتهم إليه بالتي هي أحسن، وأن يدفع شر شياطين الجن بالاستعاذة منهم. انتهى
تنبيه: أردت بنقل تفسير ابن القيم وإن لم يذكر معنى الوسيلة المذكورة في الآية بيان المعنى للآية لأنه بين معناها أحسن بيان.
وبين السعدي في تفسيره معنى الوسيلة
قال السعدي:
{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ} أي اعتصم بحولك وقوتك متبرئا من حولي وقوتي {مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} انتهى
وهمز شياطين الجن ظاهر، وأما همز شياطين الإنس فقد كان من أذى المشركين النبي صلى الله عليه وسلم لمزه والتغامز عليه والكيد له.
——-
قال تعالى
رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) سورة المؤمنين
قال ابن تيمية:
وأمّا الرُّسُلُ فَقَدْ تَبَيَّنَ أنَّهُمْ هُمْ الوَسائِطُ بَيْنَنا وبَيْنَ اللَّهِ فِي أمْرِهِ ونَهْيِهِ ووَعْدِهِ ووَعِيدِهِ وخَبَرِهِ فَعَلَيْنا أنْ نُصَدِّقَهُمْ فِي كُلِّ ما أخْبَرُوا بِهِ ونُطِيعَهُمْ فِيما أوْجَبُوا وأمَرُوا وعَلَيْنا أنْ نُصَدِّقَ بِجَمِيعِ أنْبِياءِ اللَّهِ؛ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنهُمْ ومَن سَبَّ واحِدًا مِنهُمْ كانَ كافِرًا مُرْتَدًّا مُباحَ الدَّمِ. وإذا تَكَلَّمْنا فِيما يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالى مِن التَّوْحِيدِ بَيَّنا أنَّ الأنْبِياءَ وغَيْرَهُمْ مِن المَخْلُوقِينَ لا يَسْتَحِقُّونَ ما يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالى مِن خَصائِصَ: فَلا يُشْرَكُ بِهِمْ ولا يُتَوَكَّلُ عَلَيْهِمْ ولا يُسْتَغاثُ بِهِمْ كَما يُسْتَغاثُ بِاَللَّهِ ولا يُقْسَمُ عَلى اللَّهِ بِهِمْ ولا يُتَوَسَّلُ بِذَواتِهِمْ وإنَّما يُتَوَسَّلُ بِالإيمانِ بِهِمْ وبِمَحَبَّتِهِمْ وطاعَتِهِمْ ومُوالاتِهِمْ وتَعْزِيرِهِمْ وتَوْقِيرِهِمْ ومُعاداةِ مَن عاداهُمْ وطاعَتِهِمْ فِيما أمَرُوا وتَصْدِيقِهِمْ فِيما أخْبَرُوا وتَحْلِيلِ ما حَلَّلُوهُ وتَحْرِيمِ ما حَرَّمُوهُ.
والتَّوَسُّلُ بِذَلِكَ عَلى وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنْ يَتَوَسَّلَ بِذَلِكَ إلى إجابَةِ الدُّعاءِ وإعْطاءِ السُّؤالِ كَحَدِيثِ الثَّلاثَةِ الَّذِينَ أوَوْا إلى الغارِ فَإنَّهُمْ تَوَسَّلُوا بِأعْمالِهِمْ الصّالِحَةِ لِيُجِيبَ دُعاءَهُمْ ويُفَرِّجَ كَرْبَتَهُمْ وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ ذَلِكَ.
والثّانِي: التَّوَسُّلُ بِذَلِكَ إلى حُصُولِ ثَوابِ اللَّهِ وجَنَّتِهِ ورِضْوانِهِ فَإنَّ الأعْمالَ الصّالِحَةَ الَّتِي أمَرَ بِها الرَّسُولُ – صلى الله عليه وسلم – هِيَ الوَسِيلَةُ التّامَّةُ إلى سَعادَةِ الدُّنْيا والآخِرَةِ ومِثْلُ هَذا كَقَوْلِ المُؤْمِنِينَ: {رَبَّنا إنّنا سَمِعْنا مُنادِيًا يُنادِي لِلْإيمانِ أنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنّا رَبَّنا فاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وكَفِّرْ عَنّا سَيِّئاتِنا وتَوَفَّنا مَعَ الأبْرارِ} فَإنَّهُمْ قَدَّمُوا ذِكْرَ الإيمانِ قَبْلَ الدُّعاءِ ومِثْلُ ذَلِكَ ما حَكاهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ عَنْ المُؤْمِنِينَ فِي قَوْله تَعالى {إنّهُ كانَ فَرِيقٌ مِن عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنّا فاغْفِرْ لَنا وارْحَمْنا وأنْتَ خَيْرُ الرّاحِمِينَ} وأمْثالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.
مجموع الفتاوى 1/ 309
قال البقاعي:
ولَمّا كانَتِ الشَّماتَةُ أسَرَّ السُّرُورِ لِلشّامِتِ وأخْزى الخِزْيِ لِلْمَشْمُوتِ بِهِ، عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {إنَّهُ كانَ} أيْ كَوْنًا ثابِتًا {فَرِيقٌ} أيْ ناسٌ اسْتَضْعَفْتُمُوهم فَهانَ عَلَيْكم فِراقُهم لَكم وفِراقُكم لَهم وظَنَنْتُمْ أنَّكم تُفَرِّقُونَ شَمْلَهم {مِن عِبادِي} أيِ الَّذِينَ هم أهْلٌ لِلْإضافَةِ إلى جَنابَيْ لِخُلُوصِهِمْ عَنِ الأهْواءِ {يَقُولُونَ} مَعَ الِاسْتِمْرارِ: {رَبَّنا} أيُّها المُحْسِنُ إلَيْنا بِالخَلْقِ والرِّزْقِ {آمَنّا} أيْ أوْقَعْنا الإيمانَ بِجَمِيعِ ما جاءَتْنا بِهِ الرُّسُلُ لِوُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْنا لِأمْرِكَ لَنا بِهِ.
ولَمّا كانَ عِظَمُ المَقامِ مُوجِبًا لِتَقْصِيرِ العابِدِ، وكانَ الِاعْتِرافُ بِالتَّقْصِيرِ جابِرًا لَهُ قالُوا: {فاغْفِرْ لَنا} أيِ اسْتُرْ بِسَبَبِ إيمانِنا عُيُوبَنا الَّتِي كانَ تَقْصِيرُنا بِها
ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فَأنْتَ خَيْرُ الغافِرِينَ، فَإنَّكَ إذا سَتَرْتَ ذَنْبًا أنْسَيْتَهُ لِكُلِّ أحَدٍ حَتّى لِلْحَفَظَةِ، عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: {وأنْتَ خَيْرُ الرّاحِمِينَ} لِأنَّكَ تُخَلِّصُ مَن رَحِمْتَهُ مِن كُلِّ شَقاءٍ وهَوانٍ، بِإخْلاصِ الإيمانِ، والخَلاصِ مَن كُلِّ كُفْرانٍ
قال السعدي:
فجمعوا بين الإيمان المقتضي لأعماله الصالحة، والدعاء لربهم بالمغفرة والرحمة، والتوسل إليه بربوبيته، ومنته عليهم بالإيمان، والإخبار بسعة رحمته، وعموم إحسانه، وفي ضمنه، ما يدل على خضوعهم وخشوعهم، وانكسارهم لربهم، وخوفهم ورجائهم
—-
قال تعالى:
وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) سورة المؤمنين
قال الطبري:
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ((118))}
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد – صلى الله عليه وسلم -: وقل يا محمد: ربّ استر عليّ ذنوبي بعفوك عنها، وارحمني بقبول توبتك، وتركك عقابي على ما اجترمت {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} يقول: وقل: أنت يا ربّ خير من رحم ذا ذنب، فقبل توبته، ولم يعاقبه على ذنبه.
آخر تفسير سورة المؤمنون
قال ابن كثير:
وَقَوْلُهُ: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} هَذَا إِرْشَادٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى هَذَا الدُّعَاءِ، فالغَفْرُ -إِذَا أطلِق-مَعْنَاهُ مَحْوُ الذَّنْبِ وَسَتْرُهُ عَنِ النَّاسِ، وَالرَّحْمَةُ مَعْنَاهَا: أَنْ يُسَدِّدَهُ وَيُوَفِّقَهُ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.
قال القاسمي:
ثُمَّ أمَرَ تَعالى نَبِيَّهُ بِالِابْتِهالِ إلَيْهِ واسْتِغْفارِهِ والثَّناءِ عَلَيْهِ، بِقَوْلِهِ: {وقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وارْحَمْ وأنْتَ خَيْرُ الرّاحِمِينَ} [المؤمنون: (118)] أيْ: خَيْرُ مَن رَحِمِ ذا ذَنْبٍ، فَقَبِلَ تَوْبَتَهُ.
قال الآلوسي:
وفي تَخْصِيصِ هَذا الدُّعاءِ بِالذِّكْرِ ما يَدُلُّ عَلى أهَمِّيَّةِ ما فِيهِ، وقَدْ عَلَّمَ – صلى الله عليه وسلم – أبا بَكْرٍ الصَّدِيقَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنْ يَقُولَ نَحْوَهُ في صِلاتِهِ.
فَقَدْ أخْرَجَ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ والتِّرْمِذِيُّ وابْنُ ماجَّةَ وابْنُ حِبّانَ وجَماعَةٌ «عَنْ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي دُعاءً أدْعُو بِهِ في صَلاتِي قالَ: قُلِ اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وأنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلّا أنْتَ فاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِن عِنْدِكَ وارْحَمْنِي إنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ».
قال الشنقيطي:
فِيهِ الدَّلِيلُ عَلى أنَّ ذَلِكَ الفَرِيقَ، الَّذِينَ كانُوا يَقُولُونَ: {رَبَّنا آمَنّا فاغْفِرْ لَنا وارْحَمْنا وأنْتَ خَيْرُ الرّاحِمِينَ}. مُوَفَّقُونَ في دُعائِهِمْ ذَلِكَ ولِذا أثْنى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ، وأمَرَ بِهِ نَبِيَّهُ – صلى الله عليه وسلم – لِتَقْتَدِيَ بِهِ أُمَّتُهُ في ذَلِكَ، ومَعْمُولُ اغْفِرْ وارْحَمْ حُذِفَ هُنا، لِدَلالَةِ ما تَقَدَّمَ عَلَيْهِ في قَوْلِهِ: {فاغْفِرْ لَنا وارْحَمْنا} [الأعراف: (155)] والمَغْفِرَةُ: سَتْرُ الذُّنُوبِ بِعَفْوِ اللَّهِ وحِلْمِهِ حَتّى لا يَظْهَرَ لَها أثَرٌ يَتَضَرَّرُ بِهِ صاحِبُها، والرَّحْمَةُ صِفَةُ اللَّهِ الَّتِي اشْتَقَّ لِنَفْسِهِ مِنها اسْمَهُ الرَّحْمَنَ، واسْمَهُ الرَّحِيمَ، وهي صِفَةٌ تَظْهَرُ آثارُها في خَلْقِهِ الَّذِينَ يَرْحَمُهم، وصِيغَةُ التَّفْضِيلِ في قَوْلِهِ: {وَأنْتَ خَيْرُ الرّاحِمِينَ}؛ لِأنَّ المَخْلُوقِينَ قَدْ يَرْحَمُ بَعْضُهم بَعْضًا، ولا شَكَّ أنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ تُخالِفُ رَحْمَةَ خَلْقِهِ، كَمُخالَفَةِ ذاتِهِ وسائِرِ صِفاتِهِ لِذَواتِهِمْ، وصِفاتِهِمْ كَما أوْضَحْناهُ في سُورَةِ الأعْرافِ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: {ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ} [الأعراف: (54)] والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
قال السعدي:
{وَقُلْ} داعيا لربك مخلصا له الدين {رَبِّ اغْفِرْ} لنا حتى تنجينا من المكروه، وارحمنا، لتوصلنا برحمتك إلى كل خير {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} فكل راحم للعبد، فالله خير له منه، أرحم بعبده من الوالدة بولدها، وأرحم به من نفسه.
————-
سورة الفرقان:
قال تعالى
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) سورة الفرقان
التوسل بالاعتراف بالتقصير:
مع الصفات التي اتصفوا بها فقد جاءت هذه الآية مع آيات أخرى في صفات عباد الله المؤمنين
وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاما (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدا وَقِيَاما (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَا ءَتْ مُسْتَقَرّا وَمُقَاما (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَالِكَ قَوَاما (67)} [الفرقان (63) – (67)]
قال القرطبي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ} أَيْ هُمْ مَعَ طَاعَتِهِمْ مُشْفِقُونَ خَائِفُونَ وَجِلُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. ابْنُ عَبَّاسٍ: يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي سُجُودِهِمْ وَقِيَامِهِمْ.
(إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) أَيْ لَازِمًا دَائِمًا غَيْرَ مُفَارِقٍ. وَمِنْهُ سُمِّيَ الْغَرِيمُ لِمُلَازَمَتِهِ. وَيُقَالُ: فُلَانٌ مُغْرَمٌ بِكَذَا أَيْ لَازِمٌ لَهُ مُولَعٌ بِهِ
وَهَذَا مَعْنَاهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَابْنُ عَرَفَةَ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ الْأَعْشَى:
إِنْ يُعَاقِبْ يَكُنْ غَرَامًا وَإِنْ … يُعْطِ جَزِيلًا فَإِنَّهُ لَا يُبَالِي
وَقَالَ الْحَسَنُ: قَدْ عَلِمُوا أَنَّ كُلَّ غَرِيمٍ يُفَارِقُ غَرِيمَهُ إِلَّا غَرِيمَ جَهَنَّمَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْغَرَامُ أَشَدُّ الْعَذَابِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْغَرَامُ الشَّرُّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْهَلَاكُ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: طَالَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِثَمَنِ النَّعِيمِ فِي الدُّنْيَا فَلَمْ يَاتُوا بِهِ، فَأَغْرَمَهُمْ ثَمَنَهَا بِإِدْخَالِهِمُ النَّارَ.
(إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أَيْ بِئْسَ الْمُسْتَقَرُّ وَبِئْسَ الْمُقَامُ أَيْ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ عَنْ عِلْمٍ، وَإِذَا قَالُوهُ عَنْ عِلْمٍ كَانُوا أَعْرَفَ بِعِظَمِ قَدْرِ مَا يَطْلُبُونَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَقْرَبَ إلى النجح.
قال البقاعي:
ولَمّا ذَكَرَ تَهْذِيبَهم لِأنْفُسِهِمْ لِلْخَلْقِ والخالِقِ، أشارَ إلى أنَّهُ لا إعْجابَ عِنْدَهُمْ، بَلْ هم وجِلُونَ، وأنَّ الحامِلَ لَهم عَلى ذَلِكَ الإيمانُ بِالآخِرَةِ الَّتِي كَذَّبَ بِها الجاهِلُونَ {يُؤْتُونَ ما آتَوْا وقُلُوبُهم وجِلَةٌ أنَّهم إلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ} [المؤمنون: (60)] وقَدَّمُوا الدُّعاءَ بِالنَّجاةِ اهْتِمامًا بِدَرْءِ المَفْسَدَةِ، وإشْعارًا بِأنَّهم مُسْتَحِقُّونَ لِذَلِكَ وإنِ اجْتَهَدُوا، لِتَقْصِيرِهِمْ عَنْ أنْ يُقَدِّرُوهُ سُبْحانَهُ حَقَّ قَدْرِهِ
قال القاسمي:
{والَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا اصْرِفْ عَنّا عَذابَ جَهَنَّمَ إنَّ عَذابَها كانَ غَرامًا} أيْ: هَلاكًا دائِمًا. والمُرادُ مِن قَوْلِهِمْ ذَلِكَ، فَزَعُهم مِنها، ووَجَلُهُمُ الشَّدِيدُ المُسْتَتْبِعُ لِتَمَسُّكِهِمْ بِالتَّقْوى، واعْتِصامُهم بِالسَّبَبِ الأقْوى. لا مُجَرَّدَ قَلْقَلَةِ اللِّسانِ، بِلا تَأثُّرٍ مِنَ الجِنانِ. فَإنَّهم لَمْ يَبْتَهِلُوا إلى المَوْلى، ويَتَعَوَّذُوا بِهِ مِن سَعِيرِها، إلّا لِعِلْمِهِمْ بِسُوءِ حالِها. ومُقْتَضى العِلْمِ بِالشَّيْءِ إيفاؤُهُ حَقَّهُ والعَمَلُ بِمُوجِبِهِ. ولِذا قالَ تَعالى: {إنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا ومُقامًا} [الفرقان: (66)] أيْ: مَوْضِعَ اسْتِقْرارٍ وإقامَةٍ.
قال الآلوسي وذكر قريبا مما ذكره البقاعي، ثم قال:
، والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: {إنَّ عَذابَها} إلَخْ، مِن كَلامِ الدّاعِينَ، وهو تَعْلِيلٌ لِاسْتِدْعائِهِمُ المَذْكُورِ بِسُوءِ حالِ عَذابِها. انتهى
وبعض أهل التفسير قال إنه من قول الله تعالى
قال السعدي:
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} أي: ادفعه عنا بالعصمة من أسبابه ومغفرة ما وقع منا مما هو مقتض للعذاب. {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} أي: ملازما لأهلها بمنزلة ملازمة الغريم لغريمه
جاء في التفسير الوسيط:
وكأنهم على كمال صفاتهم غارقون في المعاصي والآثام، ولا يخفى أهمية الاستعاذة من النار، حيث صدَّروا استعاذتهم بها، لأنها أشد شراً توعد الله به، وفي هذه الدعوات بيان أن الداعي يحسن له أن يذكر سبب ما يدعوه. وأهمية هذا الدعاء أن الله ذكره لناس أثنى عليهم، وأضافهم إلى نفسه في كتاب يُتلى إلى يوم القيامة، وجاء بصيغة الفعل المضارع، الذي يدل على كثرة سؤالهم به، ومداومتهم عليه، وينبغي للداعي أن يجمع في دعائه بين الخوف والرجاء، وأن ذلك أرجى في القبول.
————-
قال تعالى:
رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) سورة الفرقان
توسلوا لله بما يحب وبما يحبونه
قال ابن عطية:
قالَ إبْراهِيمُ النَخَعِيُّ: لَمْ يَطْلُبُوا الرِياسَةَ، بَلْ أنْ يَكُونُوا قُدْوَةً في الدِينِ، وهَذا حَسَنٌ أنْ يُطْلَبَ ويُسْعى لَهُ.
قال ابن كثير:
وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} يَعْنِي: الَّذِينَ يَسْأَلُونَ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ مَنْ يُطِيعُهُ وَيَعْبُدُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنُونَ مَنْ يَعْمَلُ بِالطَّاعَةِ، فتقرُّ بِهِ أَعْيُنُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ صَبَاحَةً وَلَا جَمَالًا وَلَكِنْ أَرَادُوا أَنْ يَكُونُوا مُطِيعِينَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -وَسُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ -فَقَالَ: أَنْ يُري اللَّهُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ مِنْ زَوجَتِهِ، وَمِنْ أَخِيهِ، وَمِنْ حَمِيمِهِ طَاعَةَ اللَّهِ. لَا وَاللَّهِ مَا شَيْءٌ أَقَرَّ لِعَيْنِ الْمُسْلِمِ مِنْ أَنْ يَرَى وَلَدًا، أَوْ وَلَدَ وَلَدٍ، أَوْ أَخَا، أَوْ حَمِيمًا مُطِيعًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج فِي قَوْلِهِ: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} قَالَ: يَعْبُدُونَكَ وَيَحْسُنُونَ عِبَادَتَكَ، وَلَا يَجُرُّونَ عَلَيْنَا الْجَرَائِرَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: يَعْنِي: يَسْأَلُونَ اللَّهَ لِأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَعْمَر بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَلَسْنَا إِلَى الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ يَوْمًا، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَقَالَ: طُوبَى لِهَاتَيْنِ الْعَيْنَيْنِ اللَّتَيْنِ رَأَتَا رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -! لَوَدِدْنَا أَنَّا رَأَيْنَا مَا رَأَيْتَ، وَشَهِدْنَا مَا شَهِدْتَ. فَاسْتَغْضَبَ … لَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – عَلَى أَشَدِّ حَالٍ بَعَثَ عَلَيْهَا نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي فَتْرَةٍ مِنْ جَاهِلِيَّةٍ، مَا يَرَوْنَ أَنَّ دِينًا أَفْضَلَ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. فَجَاءَ بفُرقان فَرَقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وفَرَقَ بَيْنَ الْوَالِدِ وَوَلَدِهِ، حَتَّى إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَرَى وَالِدَهُ وَوَلَدَهُ، أَوْ أَخَاهُ كَافِرًا، وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ قُفْل قَلْبِهِ لِلْإِيمَانِ، يَعْلَمُ أَنَّهُ إن هلك دخل النَّارَ، فَلَا تَقَرُّ عَيْنُهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ حَبِيبَهُ فِي النَّارِ، وَإِنَّهَا الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ. * * *
وَقَوْلُهُ: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِنَا فِي الْخَيْرِ.
وَقَالَ غَيْرُهُمْ: هُدَاةً مُهْتَدِينَ [وَدُعَاةً] إِلَى الْخَيْرِ، فَأَحَبُّوا أَنْ تَكُونَ عِبَادَتَهُمْ مُتَّصِلَةً بِعِبَادَةِ أَوْلَادِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَأَنْ يَكُونَ هُدَاهُمْ مُتَعَدِّيًا إِلَى غَيْرِهِمْ بِالنَّفْعِ، وَذَلِكَ أَكْثَرُ ثَوَابًا، وَأَحْسَنُ مَآبًا؛ وَلِهَذَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -: “إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ، أَوْ عَلَمٍ يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ، أَوْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ”.
قال ابن القيم:
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُن وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان (74)]
وَقالَ سعيد بن مَنصُور حَدثنا حزم قالَ سَمِعت الحسن وسَألَهُ كثير ابْن زِياد عَن قَوْله تَعالى {رَبنا هَب لنا من أزواجنا وذُرِّيّاتنا قُرَّة أعين}
فَقالَ يا أبا سعيد ما هَذِه القرة الأعْين أفِي الدُّنْيا أم في الآخِرَة؟
قالَ لا بل والله في الدُّنْيا.
قالَ وما هِيَ؟
قالَ والله أن يري الله العَبْد من زَوجته من أخِيه من حميمه طاعَة الله، لا والله ما شَيْء أحب إلى المَرْء المُسلم من أن يرى ولدا أو والدا أو حميما أو أخا مُطيعًا لله عز وجل.
قوله تعالى: {واجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إمامًا}
وَإمامٌ بِمَعْنى قُدْوَةٍ، وهو يَصْلُحُ لِلْواحِدِ والجَمْعِ كالأُمَّةِ والأُسْوَةِ.
وَقَدْ قِيلَ: هو جَمْعُ آمِمٍ كَصاحِبِ وصِحابٍ وراجِلٍ ورِجالٍ وتاجِرٍ وتُجّارٍ.
وَقِيلَ: هو مَصْدَرٌ كَقِتالٍ وضِرابٍ، أيْ ذَوِي إمامٍ.
والصَّوابُ الوَجْهُ الأوَّلُ، فَكُلُّ مَن كانَ مِن المُتَّقِينَ وجَبَ عَلَيْهِ أنْ يَاتَمَّ بِهِمْ، والتَّقْوى واجِبَةٌ، والِائْتِمامُ بِهِمْ واجِبٌ، ومُخالَفَتُهم فِيما أفْتَوْا بِهِ مُخالِفٌ لِلِائْتِمامِ بِهِمْ.
* (فصل)
وَقد أثنى الله سُبْحانَهُ على عباده المُؤمنِينَ الَّذين يسألونه أن يجعلهم أئِمَّة يهتدى بهم فَقالَ تَعالى في صِفات عباده {والَّذين يَقُولُونَ رَبنا هَب لنا من أزواجنا وذُرِّيّاتنا قُرَّة أعين واجعلنا لِلْمُتقين إمامًا}
قالَ ابْن عَبّاس يهتدى بِنا في الخَيْر وقالَ أبُو صالح يقْتَدى بهدانا.
وَقالَ مَكْحُول أئِمَّة في التَّقْوى يَقْتَدِي بِنا المتقون.
وَقالَ مُجاهِد اجْعَلْنا مؤتمين بالمتقين مقتدين بهم وأشكل هَذا التَّفْسِير على من لم يعرف قدر فهم السّلف وعمق علمهمْ وقالَ يجب أن تكون الآيَة على هَذا القَوْل من باب المقلوب على تَقْدِير واجعَل المُتَّقِينَ لنا أئِمَّة ومعاذ الله أن يكون شَيْء مقلوبا على وجهه وهَذا من تَمام فهم مُجاهِد رَحمَه الله فَإنَّهُ لا يكون الرجل إمامًا لِلْمُتقين حَتّى يأتم بالمتقين فنبه مُجاهِد على هَذا الوَجْه الَّذِي ينالون بِهِ هَذا المَطْلُوب وهو اقتداؤهم بالسلف المُتَّقِينَ من قبلهم فيجعلهم الله أئِمَّة لِلْمُتقين من بعدهمْ وهَذا من أحسن الفَهم في القُرْآن وألطفه لَيْسَ من باب القلب في شَيْء فَمن ائتم بِأهْل السّنة قبله ائتم بِهِ من بعده ومن مَعَه.
ووحد سُبْحانَهُ لفظ {إمامًا} ولم يقل واجعلنا لِلْمُتقين أئِمَّة فَقيل الإمام في الآيَة جمع آم نَحْو صاحب وصحاب وهَذا قَول الأخْفَش وفِيه بعد ولَيْسَ هو من اللُّغَة المَشْهُورَة المستعملة المَعْرُوفَة حَتّى يُفَسر بها كَلام الله.
وَقالَ آخَرُونَ الإمام هُنا مصدر لا اسْم يُقال أم إمامًا نَحْو صامَ صياما وقامَ قياما أي اجْعَلْنا ذَوي إمام وهَذا أضْعَف من الَّذِي قبله وقالَ الفراء إنَّما قالَ {إمامًا} ولم يقل أئِمَّة على نَحْو قَوْله {إنّا رَسُول رب العالمين} ولم يقل رَسُولا وهو من الواحِد المُراد بِهِ الجمع لقَوْل الشّاعِر
(يا عاذلاتي لا تردن ملامتي *** إن العواذل لَيْسَ لي بأمير)
أي لَيْسَ لي بأمراء
وَهَذا أحسن الأقْوال غير أنه يحْتاج إلى مزِيد بَيان وهو أن المُتَّقِينَ كلهم على طَرِيق واحِد ومعبودهم واحِد وأتْباع كتاب واحِد ونَبِي واحِد وعبيد رب واحِد فدينهم واحِد ونبيهم واحِد وكتابهم واحِد ومعبودهم واحِد فكأنهم كلهم إمام واحِد لمن بعدهمْ ليسو كالأئمة المُخْتَلِفين الَّذين قد اخْتلفت طرائقهم ومذاهبهم وعقائدهم فالائتمام إنَّما هو بماهم عَلَيْهِ وهو شَيْء واحِد وهو الإمام في الحَقِيقَة
وَقد أخبر سُبْحانَهُ أن هَذِه الإمامَة إنَّما تنال بِالصبرِ واليَقِين فَقالَ تَعالى {وَجَعَلنا مِنهُم أئِمَّة يهْدُونَ بأمرنا لما صَبَرُوا وكانُوا بِآياتِنا يوقنون}
فبالصبر واليَقِين تنال الإمامَة في الدّين
فَقيل بِالصبرِ عَن الدُّنْيا
وَقيل بِالصبرِ على البلاء
وَقيل بِالصبرِ عَن المناهي والصَّواب أنه بِالصبرِ عَن ذَلِك كُله بِالصبرِ على أداء فَرائض الله والصَّبْر عَن مَحارمه والصَّبْر على أقداره.
وَجمع سُبْحانَهُ بَين الصَّبْر واليَقِين إذْ هما سَعادَة العَبْد وفقدهما يفقده سعادته فَإن القلب تطرقه طوارق الشَّهَوات المُخالفَة لأمر الله وطوارق الشُّبُهات المُخالفَة لخبره فبالصبر يدْفع الشَّهَوات وباليقين يدْفع الشُّبُهات فَإن الشَّهْوَة والشبهة مضادتان للدّين من كل وجه فَلا ينجو من عَذاب الله إلّا من دفع شهواته بِالصبرِ وشبهاته بِاليَقِينِ.
* [فصل: الفرق بين حب الرئاسة وحب الإمارة]
والفرق بين حب الرئاسة وحب الإمارة للدعوة إلى اللّه هو الفرق بين تعظيم أمر اللّه والنصح له وتعظيم النفس والسعي في حظها فإن الناصح اللّه المعظم له والمحب له يحب أن يطاع ربه فلا يعصى وأن تكون كلمته هي العليا وأن يكون الدين كله للّه وأن يكون العباد ممتثلين أوامره مجتنبين نواهيه فقد ناصح اللّه في عبوديته وناصح خلقه في الدعوة إلى اللّه فهو الإمامة في الدين بل يسأله ربه أن يجعله للمتقين إماما يقتدي به المتقون كما اقتدى هو بالمتقين فإذا أحب هذا العبد الداعي إلى اللّه أن يكون في أعينهم جليلا وفي قلوبهم مهيبا وإليهم حبيبا وأن يكون فيهم مطاعا لكي يأتموا به ويقتفوا أثر الرسول على يده لم يضره ذلك بل يحمد عليه لأنه داع إلى اللّه يحب أن يطاع ويعبد ويوحد فهو يحب ما يكون عونا على ذلك موصلا إليه ولهذا ذكر سبحانه عباده الذين اختصهم لنفسه وأثنى عليهم في تنزيله وأحسن جزاءهم يوم لقائه فذكرهم بأحسن أعمالهم وأوصافهم ثم قال: {والَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِن أزْواجِنا وذُرِّيّاتِنا قُرَّةَ أعْيُنٍ واجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إمامًا}
فسألوه أن يقر أعينهم بطاعة أزواجهم وذرياتهم له سبحانه وأن يسر قلوبهم باتباع المتقين لهم على طاعته وعبوديته فإن الإمام والمؤتم متعاونان على الطاعة فإنما سألوه ما يعانون به المتقين على مرضاته وطاعته وهو دعوتهم إلى اللّه بالإمامة في الدين التي أساء بها الصبر واليقين كما قال تعالى: {وجَعَلْنا مِنهم أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنا لَمّا صَبَرُوا وكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ}
وسؤالهم أن يجعلهم أئمة للمتقين هو سؤال أن يهديهم ويوفقهم ويمن عليهم بالعلوم النافعة والأعمال الصالحة ظاهرا وباطنا التي لا تتم الإمامة إلا بها.
وتأمل كيف نسبهم في هذه الآيات إلى اسمه الرحمن جل جلاله ليعلم خلقه أن هذا إنما نالوه بفضل رحمته ومحض وجوده ومنته.
وتأمل كيف جعل جزاءهم في هذه السورة الغرف وهي المنازل العالية في الجنة لما كانت الإمامة في الدين من الرتب العالية بل من أعلى مرتبة يعطاها العبد في الدين كان جزاؤه عليها الغرفة العالية في الجنة.
وهذا بخلاف طلب الرئاسة فإن طلابها يسعون في تحصيلها لينالوا بها أغراضهم من العلو في الأرض وتعبد القلوب لهم وميلها إليهم ومساعدتهم لهم على جميع أغراضهم مع كونهم عالين عليهم قاهرين لهم، فترتب على هذا المطلب من المفاسد ما لا يعلمه إلا اللّه من البغي والحسد والطغيان والحقد والظلم والفتنة والحمية للنفس دون حق اللّه وتعظيم من حقره اللّه، واحتقار من أكرمه اللّه.
ولا تتم الرئاسة الدنيوية إلا بذلك، ولا تنال إلا به وبأضعافه من المفاسد، والرؤساء في عمى عن هذا.
فإذا كشف الغطاء تبين لهم فساد ما كانوا عليه، ولا سيما إذا حشروا في صور الذر يطؤهم أهل الموقف بأرجلهم إهانة لهم وتحقيرا وتصغيرا كما صغروا أمر اللّه وحقروا عباده.
قال البقاعي:
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُن وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان (74)]
ولَمّا ذَكَرَ هَذِهِ الخَصْلَةَ المُثْمِرَةَ لِما يَلِي الخَصَلةَ الأوْلى، خَتَمَ بِما يُنْتِجُ الصِّفَةَ الأُولى. فَقالَ مُؤْذِنًا بِأنَّ إمامَةَ الدِّينِ يَنْبَغِي أنْ تَطْلُبَ ويَرْغَبَ فِيها: {والَّذِينَ يَقُولُونَ} عِلْمًا مِنهم بَعْدَ اتِّصافِهِمْ بِجَمِيعِ ما مَضى أنَّهم أهْلٌ لِلْإمامَةِ: {رَبَّنا هَبْ لَنا مِن أزْواجِنا} اللّاتِي قَرَنْتَها بِنا كَما فَعَلْتَ لِنَبِيِّكِ – صلى الله عليه وسلم -، فَمَدَحْتَ زَوْجَتَهُ في كَلامِكَ القَدِيمِ، وجَعَلْتَ مَدْحَها يُتْلى عَلى تَعاقُبِ الأزْمانِ والسِّنِينَ {وذُرِّيّاتِنا قُرَّةَ} ولَمّا كانَ المُتَّقُونَ – الَّذِينَ يَفْعَلُونَ الطّاعَةَ ويُسِرُّونَ بِها – قَلِيلًا في جَنْبِ العاصِينَ، أتى بِجَمْعِ القِلَّةِ ونَكَّرَ فَقالَ: {أعْيُنٍ} أيْ مِنَ الأعْمالِ أوْ مِنَ العُمّالِ يَاتَمُّونَ بِنا، لِأنَّ الأقْرَبِينَ أوْلى بِالمَعْرُوفِ، ولا شَيْءَ أسَرُّ لِلْمُؤْمِنِ ولا أقَرُّ لِعَيْنِهِ مِن أنْ يَرى حَبِيبَهُ يُطِيعُ اللَّهَ، فَما طَلَبُوا إلّا أنْ يُطاعَ اللَّهُ فَتَقَرُّ أعْيُنُهُمْ، فَ ”مِن“ إمّا تَكُونُ مِثْلَها فِي: رَأيْتُ مِنكَ أسَدًا، وإمّا أنْ تَكُونَ عَلى بابِها، وتَكُونُ القُرَّةُ هي الأعْمالُ، أيْ هَبْ لَنا مِنهم أعْمالًا صالِحَةً فَجَعَلُوا أعْمالَ مَن يَعِزُّ عَلَيْهِمْ هِبَةً لَهُمْ، وأصْلُ القُرَّةِ البَرْدُ لِأنَّ العَرَبَ تَتَأذّى بِالحَرِّ وتَسْتَرْوِحُ إلى البَرْدِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ كِنايَةً عَنِ السُّرُورِ {واجْعَلْنا} أيْ إيّانا وإيّاهم {لِلْمُتَّقِينَ} أيْ عامَّةً مِنَ الأقارِبِ والأجانِبِ.
ولَمّا كانَ المَطْلُوبُ مِنَ المُسْلِمِينَ الِاجْتِماعَ في الطّاعَةِ حَتّى تَكُونَ الكَلِمَةُ في المُتابَعَةِ واحِدَةً، أشارُوا إلى ذَلِكَ بِتَوْحِيدِ الإمامِ وإنْ كانَ المُرادُ الجِنْسَ، فَقالُوا: {إمامًا} أيْ فَنَكُونُ عُلَماءَ مُخْبِتِينَ مُتَواضِعِينَ كَما هو شَانُ إمامَةِ التَّقْوى في إفادَةِ التَّواضُعِ والسَّكِينَةِ، لِنَحُوزَ الأجْرَ العَظِيمَ، إذِ الإنْسانُ لَهُ أجْرُهُ وأجْرُ مَنِ اهْتَدى بِهِ فَعَمِلَ بِعَمَلِهِ ”مَن سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً كانَ لَهُ أجْرُها وأجْرُ مَن عَمِلَ بِها إلى يَوْمِ القِيامَةِ“ وعَكْسُهُ.
قال السعدي:
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا} أي: قرنائنا من أصحاب وأقران وزوجات، {وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} أي: تقر بهم أعيننا.
وإذا استقرأنا حالهم وصفاتهم عرفنا من هممهم وعلو مرتبتهم أنهم لا تقر أعينهم حتى يروهم مطيعين لربهم عالمين عاملين وهذا كما أنه دعاء لأزواجهم وذرياتهم في صلاحهم فإنه دعاء لأنفسهم لأن نفعه يعود عليهم ولهذا جعلوا ذلك هبة لهم فقالوا: {هَبْ لَنَا} بل دعاؤهم يعود إلى نفع عموم المسلمين لأن بصلاح من ذكر يكون سببا لصلاح كثير ممن يتعلق بهم وينتفع بهم.
{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} أي: أوصلنا يا ربنا إلى هذه الدرجة العالية، درجة الصديقين والكمل من عباد الله الصالحين وهي درجة الإمامة في الدين وأن يكونوا قدوة للمتقين في أقوالهم وأفعالهم يقتدى بأفعالهم، ويطمئن لأقوالهم ويسير أهل الخير خلفهم فيهدون ويهتدون.
ومن المعلوم أن الدعاء ببلوغ شيء دعاء بما لا يتم إلا به، وهذه الدرجة -درجة الإمامة في الدين- لا تتم إلا بالصبر واليقين كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهم أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} فهذا الدعاء يستلزم من الأعمال والصبر على طاعة الله وعن معصيته وأقداره المؤلمة ومن العلم التام الذي يوصل صاحبه إلى درجة اليقين، خيرا كثيرا وعطاء جزيلا وأن يكونوا في أعلى ما يمكن من درجات الخلق بعد الرسل.
وهذا الدعاء سبقته صفات لهم وختم بالثمرة. وختمت الآيات بأن الله عزوجل لا يعبأ إلا بمن يدعوه مؤمنا به:
قال السعدي:
{أُأولئك يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّة وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَررا وَمُقَاما (76)} [الفرقان (75) – (76)]
لما كانت هممهم ومطالبهم عالية كان الجزاء من جنس العمل فجازاهم بالمنازل العاليات فقال: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} أي: المنازل الرفيعة والمساكن الأنيقة الجامعة لكل ما يشتهى وتلذه الأعين وذلك بسبب صبرهم نالوا ما نالوا كما قال تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} ولهذا قال هنا {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} من ربهم ومن ملائكته الكرام ومن بعض على بعض ويسلمون من جميع المنغصات والمكدرات.
والحاصل: أن الله وصفهم بالوقار والسكينة والتواضع له ولعباده وحسن الأدب والحلم وسعة الخلق والعفو عن الجاهلين والإعراض عنهم ومقابلة إساءتهم بالإحسان وقيام الليل والإخلاص فيه، والخوف من النار والتضرع لربهم أن ينجيهم منها وإخراج الواجب والمستحب في النفقات والاقتصاد في ذلك – وإذا كانوا مقتصدين في الإنفاق الذي جرت العادة بالتفريط فيه أو الإفراط، فاقتصادهم وتوسطهم في غيره من باب أولى- والسلامة من كبائر الذنوب والاتصاف بالإخلاص لله في عبادته والعفة عن الدماء والأعراض والتوبة عند صدور شيء من ذلك، وأنهم لا يحضرون مجالس المنكر والفسوق القولية والفعلية ولا يفعلونها بأنفسهم وأنهم يتنزهون من اللغو والأفعال الردية التي لا خير فيها، وذلك يستلزم مروءتهم وإنسانيتهم وكمالهم ورفعة أنفسهم عن كل خسيس قولي وفعلي، وأنهم يقابلون آيات الله بالقبول لها والتفهم لمعانيها والعمل بها، والاجتهاد في تنفيذ أحكامها، وأنهم يدعون الله تعالى بأكمل الدعاء، في الدعاء الذي ينتفعون به، وينتفع به من يتعلق بهم وينتفع به المسلمون من صلاح أزواجهم وذريتهم، ومن لوازم ذلك سعيهم في تعليمهم ووعظهم ونصحهم لأن من حرص على شيء ودعا الله فيه لا بد أن يكون متسببا فيه، وأنهم دعوا الله ببلوغ أعلى الدرجات الممكنة لهم وهي درجة الإمامة والصديقية.
فلله ما أعلى هذه الصفات وأرفع هذه الهمم وأجل هذه المطالب، وأزكى تلك النفوس وأطهر تلك القلوب وأصفى هؤلاء الصفوة وأتقى هؤلاء السادة”
ولله، فضل الله عليهم ونعمته ورحمته التي جللتهم، ولطفه الذي أوصلهم إلى هذه المنازل.
ولله، منة الله على عباده أن بين لهم أوصافهم، ونعت لهم هيئاتهم وبين لهم هممهم، وأوضح لهم أجورهم، ليشتاقوا إلى الاتصاف بأوصافهم، ويبذلوا جهدهم في ذلك، ويسألوا الذي من عليهم وأكرمهم الذي فضله في كل زمان ومكان، وفي كل وقت وأوان، أن يهديهم كما هداهم ويتولاهم بتربيته الخاصة كما تولاهم.
فاللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا بك، لا نملك لأنفسنا نفعا ولا ضرا ولا نقدر على مثقال ذرة من الخير إن لم تيسر ذلك لنا، فإنا ضعفاء عاجزون من كل وجه.
نشهد أنك إن وكلتنا إلى أنفسنا طرفة عين وكلتنا إلى ضعف وعجز وخطيئة، فلا نثق يا ربنا إلا برحمتك التي بها خلقتنا ورزقتنا وأنعمت علينا بما أنعمت من النعم الظاهرة والباطنة وصرفت عنا من النقم، فارحمنا رحمة تغنينا بها عن رحمة من سواك فلا خاب من سألك ورجاك.
ولما كان الله تعالى قد أضاف هؤلاء العباد إلى رحمته واختصهم بعبوديته لشرفهم وفضلهم ربما توهم متوهم أنه وأيضا غيرهم فلم لا يدخل في العبودية؟
{قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان (77)]
فأخبر تعالى أنه لا يبالي ولا يعبأ بغير هؤلاء وأنه لولا دعاؤكم إياه دعاء العبادة ودعاء المسألة ما عبأ بكم ولا أحبكم فقال: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} أي: عذابا يلزمكم لزوم الغريم لغريمه وسوف يحكم الله بينكم وبين عباده المؤمنين. انتهى من تفسير السعدي
ويدل على دعاء المسألة ما أخرجه مسلم:
365 – (214) حدثني أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا حفص بن غياث، عن داود، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: «قلت: يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه؟ قال: لا ينفعه، إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين»
صحيح مسلم (1/ 136 ط التركية)
قال ابن كثير:
وقد ذكرنا ترجمة حاتم طيء أيام الجاهلية عند ذكرنا من مات من أعيان المشهورين فيها وما كان يسديه حاتم إلى الناس من المكارم والإحسان، إلا أن نفع ذلك في الآخرة أي: (مشروط) بالإيمان، وهو ممن لم يقل يومًا من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين.»
البداية والنهاية ” ((5) / (67)).
يعني أنه لم يكن يؤمن بالبعث، ويعمل وهو يرجو لقاء الله.
ثم إن المسلم لا تقبل منه العبادة إلا إذا تحقق فيها شرطان أساسيان:
الأول: إخلاص النية لله تعالى: وهو أن يكون مراد العبد بجميع أقواله وأعماله الظاهرة والباطنة ابتغاء وجه الله تعالى دون غيره.
الثاني: موافقة الشرع الذي أمر الله تعالى أن لا يعبد إلا به، وذلك يكون بمتابعة النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما جاء به، وترك مخالفته، وعدم إحداث عبادة جديدة أو هيئة جديدة في العبادة لم تثبت عنه.
والدليل على هذين الشرطين قوله تعالى: (فَمَن كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحًا ولا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أحَدا) الكهف/ (110)
قال ابن كثير:» (فمن كان يرجوا لقاء ربه) أي ثوابه وجزاءه الصالح (فليعمل عملا صالحا) أي ما كان موافقا لشرع الله (ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له وهذان ركنا العمل المتقبل لابد أن يكون خالصا لله صوابا على شريعة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.ا. هـ