6871 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك محمد البلوشي، وطارق أبو تيسير وعبدالملك وعبدالله المشجري وأحمد بن علي وعبدالحميد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
(14) – بابُ التَّعَوُّذِ مِن شَرِّ الفِتَنِ وغَيْرِها
(49) – ((589)) حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، وأبُو كُرَيْبٍ – واللَّفْظُ لِأبِي بَكْرٍ – قالا: حَدَّثَنا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنا هِشامٌ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ عائِشَةَ، أنَّ رَسُولَ اللهِ ?، كانَ يَدْعُو بِهَؤُلاءِ الدَّعَواتِ: «اللهُمَّ فَإنِّي أعُوذُ بِكَ مِن فِتْنَةِ النّارِ وعَذابِ النّارِ، وفِتْنَةِ القَبْرِ وعَذابِ القَبْرِ، ومِن شَرِّ فِتْنَةِ الغِنى، ومِن شَرِّ فِتْنَةِ الفَقْرِ، وأعُوذُ بِكَ مِن شَرِّ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجّالِ، اللهُمَّ اغْسِلْ خَطايايَ بِماءِ الثَّلْجِ والبَرَدِ، ونَقِّ قَلْبِي مِنَ الخَطايا، كَما نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وباعِدْ بَيْنِي وبَيْنَ خَطايايَ، كَما باعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ، اللهُمَّ فَإنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الكَسَلِ، والهَرَمِ، والمَاثَمِ، والمَغْرَمِ»
(49) – وحَدَّثَناهُ أبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنا أبُو مُعاوِيَةَ، ووَكِيعٌ، عَنْ هِشامٍ، بِهَذا الإسْنادِ.
==========
التمهيد:
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله:
شرح الحديث:
(عَنْ عائِشَةَ) -رضي الله عنها-؛ (أنَّ رَسُولَ اللهِ ? كانَ يَدْعُو بِهَؤُلاءِ الدَّعَواتِ) هي
قوله: (اللَّهُمَّ فَإنِّي أعُوذُ بِكَ مِن فِتْنَةِ النّارِ)؛ أي: فتنة تؤدي إلى النار؛ لئلا
يتكرر، ويَحْتَمِل أن يراد بفتنة النار: سؤال الخزنة على سبيل التوبيخ، وإليه
الإشارة بقوله تعالى: {كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَألَهُمْ خَزَنَتُها ألَمْ يَاتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك (8)]،
وقوله: (وعَذابِ النّارِ)؛ أي: من أن أكون من أهل النار، وهم الكفار فإنهم
هم المعذَّبون، وأما الموحدون فإنهم مؤدَّبون، ومهذَّبون بالنار، لا معذبون
بها [«عون المعبود» (4) / (282)].
وقال المناويّ رحمهُ اللهُ:
(وفِتْنَةِ القَبْرِ) معنى فتنة القبر: التحيّر في جواب منكَر ونكير، وقوله:
(وعَذابِ القَبْرِ) عطف عامّ على خاصّ، فعذابه قد ينشأ عنه فتنة، بأن يتحير،
فيعذَّب لذلك، وقد يكون لغيرها، كأن يجيب بالحقّ، ولا يتحير، ثم يعذَّب
على تفريطه في بعض المأمورات، أو المنهيات، كإهمال التنزه عن البول.
وقال القرطبيّ رحمهُ اللهُ: الفتنة هنا هي ضلال أهل النار المفضي بهم إلى عذاب النار، وفتنة القبر: هي الضلال عن صواب إجابة الملَكين فيه، وهما:
منكر ونكير -كما تقدَّم-. وعذاب القبر: هو ضربُ من لم يوفَّق للجواب
بمطارق الحديد، وتعذيبه إلى يوم القيامة، وشر فتنة الغنى: هي الحرص على
الجمع للمال، وحبّه حتى يكتسبه من غير حلّه، وبمنعه من واجبات إنفاقه،
وحقوقه. وشر فتنة الفقر؛ يعني به: الفقر المدقع الذي لا يصحبه صبر، وقيل: المراد به فقر النفس الذي لا يردّه مُلك الدنيا بحذافيرها.
وليس في شيء من هذه الأحاديث ما يدلّ على أن الغنى أفضل من الفقر، ولا أن الفقر أفضل من الغنى؛ لأنّ الغنى والفقر المذكورين هنا مذمومان باتفاق العقلاء.
تنبيه: المقصود عدم وجود دليل في هذا الحديث وإلا مسألة تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر أو العكس مسألة طويلة سبق تلخيص الخلاف والراجح في شروح أخرى
والكسل المتعوّذ منه: هو التثاقل عن الطاعات، وعن السعي في تحصيل المصالح الدينية والدنيوية، والعجز المتعوّذ منه: هو عدم القدرة على تلك الأمور، والهَرَم المتعوّذ منه: هو المعبّر عنه في الحديث الآخر بأرذل العمر،
وهو: ضَعف القوى، واختلال الحواسّ، والعقل الذي يعود الكبير بسببه إلى
أسوأ من حال الصغير، وهو الذي قال الله تعالى فيه: {ومَن نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي
الخَلْقِ أفَلا يَعْقِلُونَ ((68))} [يس (68)]. انتهى [«المفهم» (7) / (33) – (34)].
(ومِن شَرِّ فِتْنَةِ الغِنى) هو البَطَر، والطغيان، وتحصيل المال من الحرام،
وصَرْفه في العصيان، والتفاخر بالمال والجاه. (ومِن شَرِّ فِتْنَةِ الفَقْرِ) هو الحسد
على الأغنياء، والطمع في أموالهم، والتذلل بما يدنِّس العِرْض، ويثْلِم الدين،
وعدم الرضا بما قَسَم الله له، وغير ذلك مما لا تُحْمَد عاقبته.
وقيل: الفتنة هنا: الابتلاء، والامتحان؛ أي: من بلاء الغنى، وبلاء
الفقر؛ أي: من الغنى والفقر الذي يكون بلاءً ومشقةً. ذكره في «المرقاة» [«عون المعبود» (4) / (282)].
وقال المناويّ: «وقال الطيبيّ: الفتنة إن فُسّرت بالمحنة
والمصيبة، فشرّها أن لا يصبر الرجل على لأوائها، ويجزع منها، وإن فُسرت
بالامتحان والاختبار، فشرّها أن لا يَحمد في السراء، ولا يصبر في الضراء [«فيض القدير» (2) / (127)].
(وأعُوذُ بِكَ مِن شَرِّ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجّالِ) «المسيح» بفتح الميم، وكسر
السين، وبكسرهما مع تشديد السين، فمن شدّد فهو من ممسوح العين، ومن
خفّف فهو من السياحة؛ لأنه يمسح الأرض، أو لأنه ممسوح العين اليمنى؛
أي: أعور، وقال ابن فارس: المسيح: الذي أحد شِقي وجهه ممسوح، لا
عين له، ولا حاجب.
و «الدجال» من الدجل، وهو التغطية؛ لأنه يغطي الأرض بالجمع الكثير،
أو لتغطيته الحقّ بالكذب، أو لأنه يقطع الأرض [«عمدة القاري» (5) / (23)].
(بِماءِ الثَّلْجِ والبَرَدِ) خصَّهما بالذِّكر؛ لنقائهما، ولِبُعدهما من مخالطة
النجاسة، و «البرد» بفتح الباء الموحدة والراء: حَبّ الغمام.
وقال في «الفتح» في تخصيص الثلج والبرد: قال الكرمانيّ: وله توجيه آخر، وهو أنه
جعل الخطايا بمنزلة النار؛ لكونها تؤدي إليها، فعَبَّر عن إطفاء حرارتها
بالغسل؛ تأكيدًا في إطفائها، وبالغ فيه باستعمال المبرّدات؛ ترقيًا عن الماء إلى
أبرد منه، وهو الثلج، ثم إلى أبرد منه، وهو البَرَد، بدليل أنه قد يَجْمُد ويصير
جليدًا، بخلاف الثلج، فإنه يذوب. انتهى [«فتح الباري» (11) / (177)].
(ونَقِّ) بفتح النون، وشد القاف، (قَلْبِي) الذي هو بمنزلة ملك الأعضاء،
واستقامَتُها باستقامته. (مِنَ الخَطايا) تأكيد للسابق، ومجاز عن إزالة الذنوب،
ومحو أثرها. (كَما نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ) – بفتح الدال، والنون-؛
أي: الوسخ، وفي رواية: «من الدرن».
(اللَّهُمَّ فَإنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الكَسَلِ) هو عدم انبعاث النفس بالخير، وقلة
الرغبة فيه مع إمكانه، (والهَرَمِ) -بفتحتين- هو الرد إلى أرذل العمر؛ لِما فيه
من اختلال العقل، والحواسّ، والضبط، والفهم، وتشويه بعض المنظر،
والعجز عن كثير من الطاعات، والتساهل في بعضها [«الديباج على مسلم» (6) / (62)].
(والمَاثَمِ)؛ أي: مما
يأثم به الإنسان، أو ما فيه إثم، أو ما يوجب الإثم، أو الإثم نفسه وضعًا
للمصدر موضع الاسم، (والمَغْرَمِ «)؛ أي: الدَّين، يقال: غَرِم الرجل بالكسر:
إذا ادّان: وقيل: الغُرْم والمغرم: ما ينوب الإنسان في ماله من ضرر بغير جناية
منه، [«عمدة القاري» (6) / (117)].
زاد في رواية أخرى لمسلم تقدّمت في «المساجد»: «قالت: فقال له
قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم يا رسول الله؟ فقال: إن الرجل إذا غَرِم
حدّث، فكَذَب، ووَعَد، فأخلف»، وبيّن في رواية النسائيّ أن السائلة هي عائشة
نفسها، والله تعالى أعلم.
وسبق شرح الحديث في كتاب المساجد لكن نورد هنا
فوائد ذكرها الحافظ وليّ الدين
العراقيّ رحمهُ اللهُ في كتابه الممتع «طرح التثريب شرح التقريب»،:
(1) – (منها): فائدة استعاذة النبيّ ? من هذه الأمور مع أنه مُعاذ منها
قطعًا إظهار الخضوع، والاستكانة، والعبودية، والافتقار، وليقتدي به غيره في
ذلك، ويشْرَع لأمته.
(2) – (ومنها): أنه لم يُبَيِّن في هذه الرواية المحلّ الذي كان النبيّ ? يأتي
فيه بهذه الاستعاذة، وفي «الصحيحين» من حديث عائشة -رضي الله عنها-؛ أنه ? كان
يدعو بذلك في صلاته [تقدّم في مسلم في «كتاب المساجد» برقم [(25) / (1328)] ((589))]، وفي «صحيح مسلم» وغيره من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-
الأمر بذلك بعد الفراغ من التشهد، وفي رواية له تقييد ذلك بالأخير، ففيه
استحباب الإتيان بهذا الدعاء بعد التشهد الأخير، وقد صرح بذلك العلماء من
أصحابنا -أي: الشافعيّة- وغيرهم، وزاد ابن حزم الظاهريّ على ذلك، فقال
بوجوبه، ولم يخص ذلك بالتشهد الأخير، فقال: ويلزمه فرضًا أن يقول إذا فرغ
من التشهد في كلتا الجلستين: «اللَّهُمَّ إني أعوذ بك … » فذكرها، قال: وقد
رُوي عن طاوس أنه صلى ابنه بحضرته، فقال له: ذكرت هذه الكلمات؟ قال: لا، فأمَره بإعادة الصلاة. انتهى، وهذا الأثر عن طاوس ذكره مسلم في
«صحيحه» بلاغًا بغير إسناد.
قال القاضي عياض:، وجمهور العلماء على أنه مستحب، ليس بواجب،
ولعل طاووسًا أراد تأديب ابنه، وتأكيد هذا الدعاء عنده، لا أنه يعتقد وجوبه.
انتهى.
وكذا قال أبو العباس القرطبيّ: يَحْتَمِل أن يكون إنما أمَره بالإعادة تغليظًا
عليه؛ لئلا يتهاون بتلك الدعوات، فيتركها، فئحْرم فائدتها وثوابها. انتهى.
قال الأتيوبي بعد أن نقل الخلاف في موضع الدعاء:
: عندي أن التقييد بالأخير يعني -التشهد الأخير-في الرواية السابقة،
وهي في «صحيح مسلم» يؤيّد ما ذهب إليه الجمهور من أنه لا يستحبّ التعوّذ
المذكور في الجلوس الأول، فما ذهب إليه ابن حزم مردود، فتبصّر، والله
تعالى أعلم.
(3) – (ومنها): أن الشيخ تقيّ الدين رحمهُ اللهُ قال: قد ظهرت العناية بالدعاء
بهذه الأمور، حيث أُمرنا بها في كل صلاة، وهي حقيقة؛ لِعِظَم الأمر فيها،
وشدّة البلاء في وقوعها، ولأن كلها أو أكثرها أمور ثمانية غيبية، فتكررها
على الأنفس يجعلها ملَكة لها. انتهى.
(4) – (ومنها): أنه استَدَل به ابن بطال، والقاضي عياض، وغيرهما على جواز الدعاء في الصلاة بما ليس من القرآن؛ خلافًا لأبي حنيفة، فإنه قال: لا
يجوز أن يدعو في الصلاة إلا بما يوجد في القرآن، قال ابن بطال: وهو قول النخعيّ، وطاووس، وهو استدلال واضح، لكن فيما حكوه عن أبي حنيفة نظر؛ فإنه لا يقصر ذلك على ما في القرآن، بل يُلحق به في الجواز الأدعية المأثورة، والذي يمتنع الدعاء به في الصلاة عند الحنفية ما يُشْبه كلام الناس.
وهو ما لا يستحيل سؤاله من العباد، فلا يَرِد عليه بهذا الحديث، لكن يَرِد عليه بغيره من الأحاديث، والله أعلم. انتهى.
قال ابن قدامة من الحنابلة: “ولا يجوز أن يدعو في صلاته بما يقصد به ملاذ الدنيا وشهواتها، بما يشبه كلام الآدميين وأمانيهم، مثل اللهم ارزقني جارية حسناء وداراً قوراء، وطعاماً طيباً، وبستاناً أنيقا” (انظر المغني ج 1 ص 620).
وفي الموسوعة الفقهية الكويتية:
*الدُّعَاءُ فِي الصَّلاَةِ:*
(13) – قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُسَنُّ الدُّعَاءُ فِي التَّشَهُّدِ الاخِيرِ بَعْدَ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يُشْبِهُ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ، أَوْ بِمَا يُشْبِهُ أَلْفَاظَ السُّنَّةِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ الدُّعَاءُ بِمَا يُشْبِهُ كَلاَمَ النَّاسِ كَأَنْ يَقُول: اللَّهُمَّ زَوِّجْنِي فُلاَنَةَ، أَوِ اعْطِنِي كَذَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْمَنَاصِبِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ: يُسَنُّ الدُّعَاءُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ وَقَبْل السَّلاَمِ بِخَيْرَيِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ بِشَيْءٍ مُحَرَّمٍ أَوْ مُسْتَحِيلٍ أَوْ مُعَلَّقٍ، فَإِنْ دَعَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ، وَالافْضَل أَنْ يَدْعُوَ بِالْمَاثُورِ.
ابن عابدين (1) / (351)، ونهاية المحتاج للرملي (1) / (511)، ومواهب الجليل وكشاف القناع (1) / (360) – (361)، وروضة الطالبين للنووي (1) / (365)، وأسنى المطالب (1) / (166)، وحاشية الشرقاوي (1) / (311)، والفتاوى الهندية (1) / (72)، والمغني لابن قدامة (1) / (585)، والدسوقي (1) / (52)، (232)، البدائع (1) / (213)، قليوبي (1) / (168)
وإليك هذه الفتوى لبعض أهل العلم:
هل يمكن أن ندعو بغير العربية في الصلاة بعد التشهد والدعاء موجود في السنة؟ هل يمكن أن ندعو بدعاء يوجد في القرآن ولا يوجد في السنة؟.
الجواب
الحمد لله.
أولاً:
إذا كان المصلي يُحسن الدعاء باللغة العربية فلا يجوز له الدعاء بغيرها.
لكن إن كان المصلِّي عاجزاً عن الدعاء بالعربية: فلا مانع من الدعاء بلغته، على أن يتعلم اللغة العربية أثناء ذلك.
وأما الدعاء بغير العربية خارج الصلاة: فلا بأس به، ولا حرج فيه لاسيما إذا كان حضور قلب الداعي فيه أعظم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
والدعاء يجوز بالعربية، وبغير العربية، والله سبحانه يعلم قصد الداعي ومراده، وإن لم يقوِّم لسانه، فإنَّه يعلم ضجيج الأصوات، باختلاف اللغات على تنوع الحاجات …
” مجموع الفتاوى ” (22/ 488 – 489).
وانظر الجواب على السؤالين: (3471) و (11588).
ثانياً:
لا مانع من الدعاء بالأدعية الواردة في القرآن حتى لو لم ترد في السنَّة، وفي كلٍّ خير وهدى ورشاد، وأكثر دعاء الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام عرفناه من القرآن، ولا شك أن أدعيتهم – عليهم الصلاة والسلام – أبلغ الأدعية وأعظمها معانٍ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
وينبغي للخلق أنْ يدْعوا بالأدعية الشرعيَّة التي جاء بها الكتاب والسنة؛ فإنَّ ذلك لا ريب في فضله وحُسنه وأنَّه الصراط المستقيم، وقد ذكر علماءُ الإسلام وأئمَّة الدين الأدعيةَ الشرعيَّة، وأعرضوا عن الأدعية البدعية فينبغي اتباع ذلك.
” مجموع الفتاوى ” (1/ 346 و 348).
والله أعلم.
(5) – (ومنها): ما قال القاضي عياض: جاء دعاؤه ? في هذه الأحاديث
وغيرها جملة، كقوله: «فتنة المحيا والممات»، فقد أدخل فيه جميع دعاء الدنيا
والآخرة، وجاء تفصيلًا، كقوله: «أعوذ بك من المأثم والمغرم»، وهذا داخل
في فتنة المحيا، وجاء دعاؤه بالتعوذ من عذاب القبر، وعذاب النار، وفتنة
القبر، وهو داخل في فتنة الممات، فدل على جواز الدعاء بالوجهين، وقد
جاءت الأحاديث بالأمر بالدعاء إلى الله تعالى في كل شيء، وإن كان قد رُوي
عن بعض السلف استحباب الدعاء بالجوامع، كما تقدم في الاستعاذة من فتنة
المحيا والممات، وسؤأل العفو والعافية في الدنيا والآخرة، ولكل مقام مقال.
انتهى.
(6) – (ومنها): أن فيه ذكرَ العامّ بعد الخاصّ؛ لأن عذاب النار، وعذاب
القبر من فتنة الممات، وذكر الخاص بعد العامّ؛ لأن شر المسيح الدجال من
فتنة المحيا.
(7) – (ومنها): أن فيه إثباتَ عذاب القبر، وهو مذهب أهل الحقّ خلافًا
للمعتزلة، وقد اشتهرت به الأحاديث حتى كادت أن تبلغ حدّ التواتر، والإيمان
به واجب. انتهى ما كتبه الحافظ وليّ الدين رحمهُ اللهُ [«طرح التثريب شرح التقريب» (3) / (107) – (111)]، وهو بحثٌ مفيدٌ، والله تعالى أعلم.
——-
ثانيًا: ملحقات:
المسألة الأولى: معنى الفتن، وفيه خمسة أمور:
أولاً: الفتنة في اللغة:
قال الأزهري: جماع معنى الفتنة في كلام العرب: الابتلاء، والامتحان وأصلها مأخوذ من قولك: فتنتُ الفضة والذهب، أذبتهما بالنار ليتميز الردي من الجيد، ومن هذا قول الله عز وجل: ” يوم هم على النار يفتنون ” أي يحرقون بالنار. (تهذيب اللغة 14/ 296).
قال ابن فارس: ” الفاء والتاء والنون أصل صحيح يدل على الابتلاء والاختبار ” (مقاييس اللغة 4/ 472). فهذا هو الأصل في معنى الفتنة في اللغة.
قال ابن الأثير: الفتنة: الامتحان والاختبار … وقد كثر استعمالها فيما أخرجه الاختبار من المكروه، ثم كثر حتى استعمل بمعنى الإثم والكفر والقتال والإحراق والإزالة والصرف عن الشيء. (النهاية 3/ 410).وبنحو من هذا قال ابن حجر في الفتح (13/ 3).
وقد لخص ابن الأعرابي معاني الفتنة، بقوله: ” الفتنة الاختبار، والفتنة: المحنة، والفتنة: المال، والفتنة: الأولاد، والفتنة الكفر، والفتنة اختلاف الناس بالآراء والفتنة الإحراق بالنار”. (لسان العرب لابن منظور).
ثانيًا: معاني الفتنة في الكتاب والسنة:
1 – الابتلاء والاختبار؛ كما في قوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} العنكبوت/2 أي وهم لا يبتلون كما في ابن جرير.
قال ابن تيمية:
وقالَ تَعالى: {الم} {أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ} {ولَقَدْ فَتَنّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الكاذِبِينَ} فَبَيَّنَ أنَّهُ لا بُدَّ أنْ يَفْتِنَ النّاسَ أيْ يَمْتَحِنَهُمْ ويَبْتَلِيَهُمْ ويَخْتَبِرَهُمْ. يُقالُ: فَتَنْت الذَّهَبَ إذا أدْخَلْته النّارَ لِتُمَيِّزَهُ مِمّا اخْتَلَطَ بِهِ ومِنهُ قَوْلُ مُوسى: {إنْ هِيَ إلّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَن تَشاءُ وتَهْدِي مَن تَشاءُ} أيْ مِحْنَتُك واخْتِبارُك وابْتِلاؤُك كَما ابْتَلَيْت عِبادَك بِالحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ لِيَتَبَيَّنَ الصَّبّارُ الشَّكُورُ مِن غَيْرِهِ وابْتَلَيْتهمْ بِإرْسالِ الرُّسُلِ وإنْزالِ الكُتُبِ لِيَتَبَيَّنَ المُؤْمِنُ مِن الكافِرِ والصّادِقُ مِن الكاذِبِ والمُنافِقُ مِن المُخْلِصِ فَتَجْعَلُ ذَلِكَ سَبَبًا لِضَلالَةِ قَوْمٍ وهَدْيِ آخَرِينَ
مجموع الفتاوى 7/ 187
2 – الصد عن السبيل والرد: كما في قوله تعالى: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْك} المائدة/ من الآية49 قال القرطبي: معناه: يصدوك ويردوك.
3 – العذاب: كما في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (النحل:110) فتنوا: أي عذبوا.
4 – الشرك، والكفر: كما في قوله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) البقرة/193 قال ابن كثير: أي شرك.
5 – الوقوع في المعاصي والنفاق: كما في قوله تعالى في حق المنافقين (وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِي) الحديد/ من الآية14 قال البغوي: أي أوقعتموها في النفاق وأهلكتموها باستعمال المعاصي والشهوات.
6 – اشتباه الحق بالباطل: كما في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) لأنفال/73 فالمعنى: ” إلا يوالى المؤمن من دون الكافر، وإن كان ذا (تكن فتنة في الأرض) أي شبهة في الحق والباطل.” كذا في جامع البيان لابن جرير.
7 – الإضلال: كما في قوله تعالى: (ومن يرد الله فتنته) المائدة / 41، فإن معنى الفتنة هنا الإضلال. البحر المحيط لأبي حيان (4/ 262)
8 – القتل والأسر: ومنه قوله تعالى: (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) النساء / 101. والمراد: حمل الكفار على المؤمنين وهم في صلاتهم ساجدون حتى يقتلوهم أو يأسروهم. كما عند ابن جرير.
9 – اختلاف الناس وعدم اجتماع قلوبهم: كما في قوله تعالى: {ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة} أي يوقعوا الخلاف بينكم كما في الكشاف (2/ 277).
10 – الجنون: كما في قوله تعالى (بأيِّكم المفتون).فالمفتون بمعنى المجنون.
11 – الإحراق بالنار: لقوله تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات}. (البروج:10)
قال ابن حجر: ويعرف المراد حيثما ورد بالسياق والقرائن. الفتح (11/ 176)
تنبيه: قال ابن القيم رحمه الله: ” وأما الفتنة التي يضيفها الله سبحانه إلى نفسه أو يضيفها رسوله إليه كقوله: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض} وقول موسى: {إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء} فتلك بمعنى آخر وهي بمعنى الامتحان والاختبار والابتلاء من الله لعباده بالخير والشر بالنعم والمصائب فهذه لون وفتنة المشركين لون، وفتنة المؤمن في ماله وولده وجاره لون آخر، والفتنة التي يوقعها بين أهل الإسلام كالفتنة التي أوقعها بين أصحاب علي ومعاوية وبين أهل الجمل، وبين المسلمين حتى يتقاتلوا و يتهاجروا لون آخر. زاد المعاد ج: 3 ص: 170. [معنى كلمة الفتنة في القرآن الكريم].
ثالثًا: أنواع الفتنة:
يقول ابن القيم: “الفتنة نوعان:
فتنة الشبهات. وهي أعظم الفتنتين،
وفتنة الشهوات.
وقد يجتمعان للعبد، وقد ينفرد بإحداهما.
أما النوع الأول: وهو فتنة الشبهات من ضعف البصيرة، وقلة العلم، ولا سيما إذا اقترن بذلك فساد القصد، وحصول الهوى.
وهذه الفتنة مآلها إلى الكفر والنفاق، وهي فتنة المنافقين، وفتنة أهل البدع، على حسب مراتب بدعهم. وهذه الفتنة تنشأ تارة من فهم فاسد، وتارة من نقل كاذب. وتارة من غرض فاسد وهوى متبع، فهي من عمى في البصيرة وفساد في الإرادة. ولا ينجى من هذه الفتنة إلا تجريد اتباع الرسول، وتحكيمه في كل أمور الدين ظاهرة وباطنة.
أما النوع الثاني من الفتنة ففتنة الشهوات. وقد جمع سبحانه بين الفتنتين في قوله: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ}. أي تمتعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها، والخلاق هو النصيب المقدر ثم قال: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا} [التوبة:69]. فهذا الخوض بالباطل، وهو الشبهات.
فأشار سبحانه في هذه الآية إلى ما يحصل به فساد القلوب والأديان من الاستمتاع بالخلاق، والخوض بالباطل؛ لأن فساد الدين إما أن يكون باعتقاد الباطل والتكلم به أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح.
فالأول: هو البدع وما والاها،
والثاني: فسق العمل.
فالأول: فساد من جهة الشبهات والثاني: من جهة الشهوات. وأصل كل فتنة إنما هو من تقديم الرأي على الشرع، والهوى على العقل. فالأول: أصل فتنة الشبهة، والثاني: أصل فتنة الشهوة، ففتنة الشبهات تُدْفَع باليقين، وفتنة الشهوات تُدْفَع بالصبر ولذلك جعل سبحانه إمامة الدين منوطة بهذين الأمرين، فقال: {وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]. فدل على أنه بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين. وبكمال العقل والصبر تدفع فتنة الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تدفع فتنة الشبهة” (إغاثة اللهفان).
رابعًا: ضروب الفتن
من حيث وقوعه للشخص وعدمه، وشدة ذلك، على نوعين:
الضرب الأول: لا ينفك عن الإنسان في أي مكان أو زمان كان؛ وهو: فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره، فهذا النوع يعتريه فرط المحبة، ويسبب الشح والبخل والجبن، ويشغل عن كثير من الخير، قال ابن المنيّر: “الفتنة بالأهل تقع بالميل إليهن، أو عليهن في القسمة والإيثار، حتى في أولادهن، ومن جهة التفريط في الحقوق الواجبة لهن، وبالمال يقع بالاشتغال به عن العبادة أو بحبسه عن إخراج حق الله، والفتنة بالأولاد تقع بالميل الطبيعي إلى الولد، وإيثاره على كل أحد، والفتنة بالجار تقع بالحسد والمفاخرة والمزاحمة في الحقوق وإهمال التعاهد”.
ثم قال ابن حجر: “وأسباب الفتنة بمن ذكر غير منحصرة فيما ذكرت من الأمثلة، وأما تخصيص الصلاة وما ذكر معها بالتكفير دون سائر العبادات، ففيه إشارة إلى تعظيم قدرها، لا نفي أن غيرها من الحسنات ليس فيه صلاحية التكفير، ثم إنّ التكفير المذكور يحتمل أنْ يقع بنفس فعل الحسنات المذكورة، ويحتمل أنْ يقع بالموازنة، والأول أظهر، والله أعلم”. [فتح الباري (6/ 700)].
وقال ابن أبي جمرة: ” خص الرجل بالذكر؛ لأنه في الغالب صاحب الحكم في داره وأهله، وإلا فالنساء شقائق الرجال في الحكم. ثم أشار إلى أنّ التكفير لا يختص بالأربع المذكورات، بل نبه بها على ما عداها، والضابط: أنّ كل ما يشغل صاحبه عن الله فهو فتنة له، وكذلك المكفرات لا تختص بما ذكر، بل نبّه به على ما عداها، فذكر عبادة الأفعال: الصلاة والصيام، وذكر من عبادة المال: الصدقة، ومن عبادة الأقوال: الأمر بالمعروف”.
“فالحياة الدنيا كلها فتنة واختبار، شرها فتنة، وخيرها فتنة، والشهوات فتنة، تلك فتنة قائمة في جميع العصور، وتعمّ ذرية آدم في جميع الأماكن”، وهذا الضرب ليس موضوع حديثنا.
الضرب الثاني: الفتن التي تموج موج البحر؛ أي: تضطرب وتدفع بعضها بعضاً، وشُبِّهت بموج البحر؛ لشدّة عظمها، وكثرة شيوعها، وهذا النوع يشتدّ بمضيّ الزمان، ويظهر للعيان، ويهيّج من بعض البلدان، وفق سنن للرحمن، وتكون تارةً على هيئة عواصف وكوارث وزلازل وبراكين، تصيب الطالحين وتمتد عند الكثرة إلى الصالحين، وتكون عذاباً وعقوبة لجماعة، ورحمة وخيراً ورفعةً لآخرين.
ولك أن تتصور تشبيه الفتن بهذا الموج خاصة إذا كان في ظلمة ورياح عاتية فلن ينجو إلا من نجاه الله عزوجل.
وكان هذان النوعان قائميْن في فهم الصحابة رضوان الله عليهم يفرّقون بينهما، ولذا لما ذكر حذيفة النوع الأول، بيّن عمر أنه لا يسأل عن هذا النوع، وإنما يريد النوع الثاني، والله الهادي.
ثانياً: إنَّ للفتنة زماناً ومكاناً ومحلاًّ، وجمع هذا الحديث الأمور الثلاثة:
زَمَنُ الفِتْنة (نَشأتهُا، اشْتِدادُها، آخِرُها)
فزمانها؛ يشتدُّ بمقتل عمر رضي الله عنه، فشبهت الفتن في المحاورة السابقة ببيتٍ له باب، والفتن محصورة فيه، فإذا قتل عمر فالباب يبقى مفتوحاً، والصحابة عرفوا ذلك فهذا خالد بن الوليد يسمع رجلاً يقول له في خلافة عمر: «يا أبا سليمان! اتّق الله، فإنّ الفتن قد ظهرت». فرد عليه مستنكراً بقوله: «وابن الخطاب حي؟! إنما تكون بعده، … » أخرجه أحمد (4/ 90) وغيره بسندٍ حسن.
ويتمِّم هذا المعنى أحاديثُ أُخر، فيها بيان (أول فتنة) تكون في (الأُمة)، ولو قضي عليها في حينها لما وجدت (فتنة) بعدها، ولكنها سنة الله الكونية
أخرج الإمام أحمد (5/ 42): حدثنا روح، ثنا عثمان الشحام، ثنا مسلم ابن أبي بكْرة، عن أبيه أنّ نبي الله صلى الله عليه وسلم مرّ برجُلٍ ساجد -وهو ينطلق إلى الصلاة-، فقضى الصَّلاةَ، ورجع عليه وهو ساجد، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «من يقتل هذا؟» فقام رجل فَحَسرَ عن يديه فاخترط سيفه وهزَّه، ثم قال: يا نبي الله! بأبي أنت وأمي، كيف أقتل رجلاً ساجداً يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله؟ ثم قال: «من يقتل هذا؟» فقام رجل فقال: أنا. فحسر عن ذراعيه واخترط سيفه وهزَّه حتى أُرْعدت يده، فقال: يا نبي الله! كيف أقتل رجلاً ساجداً يشهد أنْ لا إله إلا الله، وأنّ محمداً عبده ورسوله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لو قتلتموه؛ لكان أول فتنة وآخرها)).
وللحديث شاهد من حديث أنس نحوه، وفيه: أنّ الرجل الأول الذي قام لقتله هو أبو بكر، والثاني عمر، وزاد: «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيكم يقوم إلى هذا فيقتله؟)) قال علي: أنا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنت له إن أدركته)). فذهب علي فلم يجده، فرجع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقتلت الرجل؟)) قال: لم أدْرِ أين سلك من الأرض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّ هذا أوَّلُ قِرْنٍ خرج من أمتي، لو قتلته -أو قتله- ما اختلف من أمتي اثنان)).
أخرجه أبو يعلى (7/ 154 – 155 رقم 4127) وغيره، ورجاله رجال مسلم، غير الرقاشي، وهو ضعيف
وأخرجه أبو يعلى (2215) وغيره من حديث أنس أيضًا، وفي آخره، عن علي: «فانطلق، فوجده قد ذهب» وإسناده حسن.
وله شاهد آخر أخرجه أحمد (3/ 15) بسند حسن عن أبي سعيد الخُدري أنَّ أبا بكر جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني مررتُ بوادي كذا وكذا، فإذا رجل متخشٍّعٌ حسنُ الهيئة يصلِّي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «اذهب إليه فاقْتله». قال: فذهب إليه أبو بكر، فلما رآه على تلك الحال كره أن يقتله، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: «اذْهَب فاقْتله». فذهب عمر فرآه على تلك الحال التي رآه أبو بكر، قال: فكره أن يقتله، قال: فرجع، فقال: يا رسول الله! إني رأيته يصلِّي مُتَخشِّعاً فكرهت أنْ أقتله، قال: يا عليّ! «اذهب فاقتله» قال: فذهب عليٌّ فلم يره، فرجع علي، فقال: يا رسول الله! إنه لم يره! قال: فقال صلى الله عليه وسلم: ((إنّ هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيَهم، يَمْرقُون من الدِّين كما يمْرُقُ السَّهمُ من الرَّمية، ثم لا يعودون فيه، حتى يَعودَ السَّهم في فُوقِه، فاقْتُلوهم، هم شَرُّ البريَّة))
قال باحث: الحديث بمجموع طرقه صحيح إن شاء الله تعالى، ولا مغمز فيه، ويحتاج إلى تأمّل وتدبر، فإنَّ فيه بياناً: لو قُتِلَ هذا الرجل وجاء في مرسل الشعبي أنه اعترض عليه في قسمة الغنائم، وقال: «إنك لتقسم وما ترى عدلاً» لما وقعت فتنة بعده أبداً.
وجاء التصريح في حديث آخر صحيح، أنّ الفتن جميعها ما صُنِعت ووجدت إلا لفتنة الدجال، وهذا البيان:
أخرج أحمد (5/ 389)، والبزار في «مسنده» (2807 و 2808)، وابن حبان (6807)، والطبراني مختصراً في «الكبير» (3018) من طرق عن الأعمش، قال أحمد: عن أبي وائل عن حذيفة. وقال الباقون: عن سليمان بن ميسرة، عن طارق بن شهاب، عن حذيفة، قال: ذكر الدجال عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((لأنا لفتنةِ بعضكم أخوفُ عندي من فتنة الدَّجال، ولن ينجو أحد مما قبلها إلا نجا منها، وما صُنِعت فتنةٌ -منذ كانت الدنيا- صغيرةً ولا كبيرة إلا لفتنة الدَّجال)).
فالفتن سلسلة، آخذة كلُّ حلْقةٍ بأختها، حتى تصل إلى الدجال، والذي خشيه عليها نبيُّنا صلى الله عليه وسلم (فتنة بعضنا) من البغي، والظلم، والقتل، وهذا الذي بدأ زمن (الخوارج)، الذين خرجوا من ضئضئ ذاك الرجل، الذي لو قُتِل، لكان أول فتنة وآخرها؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. [زَمَنُ الفِتْنة، نَشأتهُا، اشْتِدادُها، آخِرُها من: التَهذِيبُ الحَسَن لكِتابِ العِراق في أحاديث وآثار الفتن)].
خامسًا: الفروق: الفرق بين الفتنة والاختبار والابتلاء:
أ – الفرق بين الفتنة والاختبار:
هو أن الفتنة أشد الاختبار وأبلغه، ويكون في الخير والشر ألا تسمع قوله تعالى: {أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15]. وقال تعالى: {لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً. لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن:16، 17]. فجعل النعمة فتنة؛ لأنه قصد بها المبالغة في اختبار المنعم عليه بها.
ب – أما الفرق بين الاختبار والابتلاء:
فهو أن الابتلاء عادة لا يكون إلا بتحميل المكاره والمشاق. والاختبار يكون بذلك وبفعل المحبوب ألا ترى أنه يقال اختبره بالإنعام عليه ولا تقول ابتلاه بذلك.
والفتنة تأتي أيضا بمعنى الابتلاء كما في قوله تعالى: {الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ} [العنكبوت:1 – 3]. (من كتاب: نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم)
المسألة المسألة (2): الدنيا دار امتحان وابتلاء
إذا من التعريف السابق نعلم أن سبحانه وتعالى خلق “هذه الحياة الدنيا، وجعلها دار ابتلاء وامتحان، وخلق فيها من الفتن ما يتميز به الصادق من الكاذب، وما يتبين به المخلص من المنافق؛ يقول تعالى: {الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 – 3].
فكان من حكمة الله وعدله أن أوجد آفات وقواطع في طريق الجنة والدار الآخرة؛ إذ إنه لو لم يوجد الله ذلك لكانت الطريق معمورة بالسالكين، ولاستوى في ذلك المؤمن والمنافق والصالح والفاجر”.
انظر ما يتعلق بفتنة المال وأثاره التعليق على الحديث (1093) من الصحيح المسند.
المسألة الثالثة: ضوابط لتجنب الفتن
عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إِنَّ السَّعَيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَن)) [رواه أبو داود (4263)، وصححه الألباني رحمه الله في (صحيح سنن أبي داود) (3585)].
– وهذه ضوابطُ عظيمة مستقاة من كتاب الله العزيز وسنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
1 – وإنَّ أهم ما تُتَقَى به الفتن ويتجنَّب به شرُّها وضررها: تقوى الله جلّ وعلا وملازمة تقواه في السر والعلن والغيب والشهادة، والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 – 3] أي: يجعل له مخرجاً من كلِّ فتنة وبلية وشرٍّ في الدنيا والآخرة، ويقول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4]، والعاقبة دائمًا لأهل التقوى.
ولما وقعت الفتنة في زمن التابعين أتَى نفر من النصحاء إلى طلق بن حبيب رحمه الله وقالوا: قد وقعت الفتنة فكيف نتقيها؟ فقال رحمه الله: اتقوها بالتقوى، قالوا: أجمل لنا التقوى؟ قال: “تقوى الله: عملٌ بطاعة الله على نور من الله رجاء رحمة الله، وترك معصية الله على نور من الله خيفة عقاب الله”.
2 – ومن الضوابط المهمة لاجتناب الفتن لزوم الكتاب والسنة والاعتصام بهما، فإنَّ الاعتصام بالكتاب والسنة سبيل العزِّ والنجاة والفلاح في الدنيا والآخرة، وقد قال الإمام مالك رحمه الله إمام دار الهجرة: “السنة سفينة نوح فمن ركبها نجا ومن تركها هلك وغرق”. ومن أَمَّرَ السنة على نفسه نطق بالحكمة وسلِمَ من الفتنة ونال خيري الدنيا والآخرة.
وقد ثبت في حديث العرباض بن سارية أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)) [رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42)، وصححه الألباني رحمه الله في (صحيح سنن أبي داود) (3851)].
3 – ومن الضوابط العظيمة لاتِّقاء الفتن: الرفقُ والأناة وعدم العجلة والتأمل في عواقب الأمور،
وقد جاء عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال: “إنها ستكون أمور مشتبهات فعليكم بالتُؤَدَة، فإنَّك أَن تكون تابعًا في الخير، خيرٌ من أن تكون رأسًا في الشر”.
4 – وإنَّ من الضوابط المهمة: لزوم جماعة المسلمين. قال صلى الله عليه وسلم: ((الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ)) [رواه أحمد (4/ 278) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما، وحسنه الألباني رحمه الله في (صحيح الجامع) (3109)]، وقال صلى الله عليه وسلم ((عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ)) [رواه الترمذي (2165) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وصححه الألباني رحمه الله في (صحيح سنن الترمذي) (1758)]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ)) [رواه ابن أبي عاصم في (السنة) (81) من حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه، وصححه الألباني رحمه الله في (ظلال الجنة) (1/ 40)]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لَا تَخْتَلِفُوا فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا)) [رواه البخاري (2410) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه].
5 – ومن الضوابط العظيمة التي يلزمُ مراعاتها لاتقاء الفتن واجتناب شرها: الأخذُ عن العلماء الراسخين والأئمة المحققين وترك الأخذ عن الأصاغر من الناشئين في طلب العلم المقلِّين في التحصيل منه، يقول صلى الله عليه وسلم: ((الْبَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ)) [رواه ابن حبان (559) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه الألباني رحمه الله في (الصحيحة) (1778)].
6 – ومن الضوابط المهمة لتجنب الفتن: حسنُ الصلة بالله ودعاؤه سبحانه. [ضوابط لتجنب الفتن للشيخ عبد الرزاق العباد].
المسألة الرابعة: آثار الفِتن
الذي لا يعرف الفتن، ولا يعرف آثارها وعواقبها وعوائدها: ربما دخل في شيء منها وتلطخ بها
ولهذا جاء في سيرة الإمام أحمد رحمه الله أن نفرا من علماء بغداد جاؤوا إليه رحمه الله في بيته، فقالوا: يا أبا عبد الله هذا الأمر قد تفاقم وفشا – يعنون إظهاره لخلق القرآن وغير ذلك – فقال لهم أبو عبد الله: فما تريدون؟ قالوا: أن نشاورك في أنّا لسنا نرضى بإمارته ولا سلطانه! فناظرهم أبو عبد الله ساعة وقال لهم: (عليكم بالنكرة بقلوبكم ولا تخلعوا يدا من طاعة ولا تشقوا عصا المسلمين ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، انظروا في عاقبة أمركم واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر) رواه أبو بكر الخلاَّل في (السُّنَّة) رقم (90).
فهذه دعوة منه رحمه الله للنظر في آثار الفتن وعواقبها، وأيِّ شيء سيعود على أهلها منها.
فكانت العاقبة التي حذرهم منها الإمام أحمد رحمه الله: قًتِل من قًتِل، وسُجن من سُجن، دون أن يقدِّموا شيئاً في باب الإصلاح.
وروى الإمام البخاري رحمه الله في كتابه (الأدب المفرد) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (لا تكونوا عُجُلاً مَذَايِيعَ بُذُرًا: فإن من ورائكم بلاءً مبرِّحاً أو مُكْلِحاً، وأمور مُتَماحِلَةً رُدُحاً) ((الأدب المفرد)) (327)، قال الألباني: صحيح، أي ثقيلة وشديدة.
فأوصى بأمور ثلاثة: قال:
(لا تكونوا عجلا مذاييع بذرا):: بأن يكون مذياعًا للفتنة مذياعا للشر ومذكيًا لناره.
وذكر الأمر الثالث: قال: (بذرا) أي بذرة الفتن والسُّعاة في نشرها،: (ستكون فتن القاعد فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي) البخاري (3406)، ومسلم (2886)، أي ان المرء كلما كان بعيدا عن تحريك الفتنة وإشعالها وإيقادها وإضرامها كان خيرا له وأصلح، يبتعد عنها، ويسأل الله – تبارك وتعالى – أن يعيذه ويعيذ المسلمين من شرها، لا أن يكون أداةً في اشتعالها وانتشارها.
وقد جاء (صحيح مسلم) برقم (2867). من حديث زيد بن ثابت، عن نبينا – عليه الصلاة والسلام – أنه قال: (تعوذوا بالله من الفتن من ظهر منها وما بطن)، فقالوا الصحابة رضي الله عنهم: (نعوذ بالله من الفتن ما ظهر وما بطن).
، وكما قيل: (السعيد من اتعظ بغيره)، فينظر
وقد جاء في الحديث (سنن ابن ماجة) و (السنة) لابن أبي عاصم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الناس ناسا مفاتح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتح للشر مغاليق للشر فطوبى لمن جعل الله مفتاح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفتاح الشر على يديه) ((سنن ابن ماجة)) (237)، وابن أبي عاصم في ((السُّنَّة)) (297)، والطَّيالسي في ((مسنده)) (2082)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (69)، وحسنه الألباني في ((الصحيحة)) (1332).
الأثر الأول: انصراف الناس عن العبادة
ولهذا جاء في الحديث الصَّحيح عن نبيِّنا- عليه الصلاة والسلام- أنه قال: (عبادة في الهرج كهجرة إلي) (1).
وقد جاء في (الصحيح) من حديث أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فزعًا يقول: (سبحان الله! ماذا أنزل الله من الخزائن؟! ماذا أنزل الله من الفتن؟! من يوقظ صواحب الحجرات – يعني: أزواجه – يصلين) (3).
يدل على هذا المعنى: قوله -عليه الصلاة السلام-: (بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم)،
لما وقعت الفتنة في زمن التابعين: قال الحسن البصري رحمه الله –وهو ممن اعتزل الفتن-، قال: (يا أيها الناس! إنه –والله! – ما سلط الله الحجاج عليكم إلا عقوبة: فلا تعارضوا عقوبة الله بالسيف، ولكن عليكم بالسكينة والتضرع) (5): فإن الله يقول: ((وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ)) 76:المؤمنون، أي أن الواجب على الإنسان هو الاستكانة إلى الله، والتضرع إليه، وملازمة ذكره، وأن يصلح حاله بنفسه وبيته، وأن يستقيم على طاعة ربه على الوجه الذي يرضي الله –تبارك وتعالى-.
وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه في هذا المعنى أنه قال: (تكون فتنةٌ لا يُنجي منها إلا دعاءٌ كدعاء الغريق).
ويعرف كلٌ واحد منَّا كيف يكون دعاء الغريق، الذي أدركه الغرق كيف يكون دعاؤه؟! يقول: (تكون فتنة لا يُنجي منها إلا دعاء الغريق)، أنت تُقبل على الله –تبارك وتعالى- اقبالاً صادقًا بأن ينَّجِّيَك ويجيرَك ويسلِّمَك ويحفظك.
الأثر الثاني: صرف الناس عن العلم والعلماء
من آثار الفتن وعواقبها: أنَّها تصرف الناس عن مجالس العلم ومُجالسة العلماء، وتعلُّم الأحكام،
بل أَزيدَ من ذلك وأعظم أنها تُفضي –أي الفتنة- بكثيرٍ من النَّاس إلى انتقاص العلماء واحتقارهم، وعدم معرفة أقدارهم، والوقيعة فيهم، وفي أعراضهم، والنَّيل منهم.
وممَّا جاء في هذا المعنى من الأخبار التي تُروى في التَّاريخ: أنَّه لَّما كانت فتنة عبد الرحمن بن الأشعت، وقد دخل في هذه الفتنة عددٌ من القرَّاء وكثيرٌ من الناس، لَّما كانت هذه الفتنة: انطلق نفرٌ من النَّاس، فدخلوا على الحَسَن البَصْري، وهو إمام من أجلَّة أهل العلم، وفقيهٌ من كبار فقهاء الإسلام، دخلوا على الحسن البصري فقالوا، ما تقول في هذا الطَّاغية –أي الحجَّاج– الَّذي سفك الدَّم الحرام وأخذ المال الحرام وترك الصَّلاة وفعل وفعل .. ؟! وذكروا له من أفعال الحَجَّاج، فقال الحسن البصري رحمه الله: (أرى أَلاَّ تُقاتلوه: فإنَّها إن تَكُنْ عقوبةً من الله –أي تسلط الحجاج-: فما أنتم برادِّي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكنْ بلاء: فاصبروا حتَّى يحكم الله، وهو خير الحاكمين)، فخروجا من عنده، وهم يقولون:
نطيع هذا العِلْجَ؟!.
الأثر الثالث: تصدُّر السُّفهاء
ومن آثار الفتن أيضاً: أنها يترتَّب عليها تصدُّر السُّفهاء، ومن لا علمَ عندهم،
ولهذا يقول شيخ الاسلان ابن تيمة رحمه الله في كتابه (المنهاج) (1): (والفتنة إذا وقعت عَجَزَ العُقلاء فيها عن دفع السُّفهاء).
وهذا شأن الفتن كما قال الله تعالى: ((وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً)) [الأنفال: 25].
من آثار الفتن وعواقبها: أن من يدخل الفتنة ويتوَّرط فيها: يبوء بالعواقب المردية والمآلات السَّيئَة،
قال رحمه الله: ((قلَّ من خرج على إمام ذي سلطان إلاَّ كان ما تولَّد على فعله من الشَّرِّ أعظم ممَّا تولًّد من الخير))، وذكر أمثلةَ كثيرةً لِفِتَنٍ حصلتْ، ثمَّ لخَّص نَتَاجَ وآثار تلك الفتن: فقال رحمه الله: (فلا أقاموا دينا، ولا أَبْقَوْا دُنْيَا).
وفي المجلد الثامن من (سير أعلام النبلاء) – في ترجمة الحكم بن هشام الدَّاخل الأموي- كان أمير الأندلس-: يقول الذّهبي في قصةٍ طويلة لا يَسَعُ المقام لذكرها، ولكن يمكن أن تُراجع في (سير أعلام النبلاء) (2)، بدأها الذهبي رحمه الله بقوله: (كَثُرَت العلماء بالأندلس في دولته –أي دولة الحَكَم- حتَّى قيل: إنه كان بقرطبة أربعة آلاف مُتَقَلِّس مُتَزيِّن بزيِّ العلماء – يعني: كَثُرَ أهل العلم وطلبة العلم المتزيِّين بزيِّ أهل العلم- قال: فلما أراد الله فناءهم: عزَّ عليهم انتهاك الحَكَم للحُرمات، وائتمروا ليخلعوه، ثم جيَّشوا لقتاله، وجرت بالأندلس فتنة عظيمة على الإسلام وأهله فلا قوَّة إلاَّ بالله)، ثمَّ سرد القصَّة رحمه الله، وفي نهايتها أنَّ كثيرًا من هؤلاء قُتلوا ومنهم مَنْ فَرَّ، ومنهم من سُجِنَ دون أن يقيموا دينًا بمثل هذه الفتن التي تُشعل وتُؤجَّج، والسَّعيد – كما يُقال- مَنِ اتَّعظ بغيره.
بل إن عددا كبيرا ممن شاركوا في الفتن ودخلوا فيها كانت نهايتهم فيها النَّدم وتمنِّي أن لو لم يدخلوا في تلك الفتن.
وسُطِّر من ذلك شيءٌ كثير في كتب التاريخ والتراجم، أخبارٌ لأولئك الذين شاركوا في الفتن كانت نهايتهم النَّدم على ذلك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله: (وهكذا عامَّة السَّابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال)
ويقول أيُّوب السَّخْتِيَانِي رحمه الله، ذكر القرَّاء الذين خرجوا مع ابن الأشعت: فقال: (لا أعلم أحدًا منهم قُتِلَ إِلَا قد رُغِبَ له عن مصرعهِ، ولا نجا منهم أحدٌ إلا حَمِدَ الله إن سلَّمه) (4) وندم على ما كان منه.
ومن الأخبار المفيدة واللَّطيفة في هذا الباب قصة زُبيد ابن الحارث اليامي، وهو من رجال الكتب السِّتَّة، ومن علماء الإسلام، وهو ممَّن دخل في فتنة ابن الأشعت، ولكنَّه سَلِمَ منها، وسَلِمَ من القتل، قال محمَّد بن طلحة: (رآني زبيد مع العلاء بن عبد الكريم ونحن نضحك، فقال: لو شهدتَ الجماجم ما ضَحِكْتَ!)، و (الجماجم) التي يشير إلها: جماجم المسلمين ورؤوسهم تتساقط بأيدي المسلمين أنفسهم، يقتل بعضُهم بعضًا ثم قال زبيد: (وَلَوَدِدْتُ أنَّ يدي –أو قال: يميني- قُطعت من العَضُد ولم أكن شهدت ذلك).
ثم جاءت فتنة بعد ذلك ودُعِيَ إلى المشاركة فيها لكنه رأى الآثار والعواقب وانْتَبَه، فتأمل جوابه الطَّريف اللطيف الذي هو جواب مجرِّب، جاء في بعض الرِّوايات أن منصور ابن المعْتَمِر كان يختلف إلى زبيد، فذكر أهل البيت يُقتلون، ويريد زبيد أن يخرج مع زيد بن عليٍّ في فتنة أخرى، فقال زبيد رحمه الله: (ما أنا بخارج إلاَّ مع نبيٍّ، وما أنا بواجِده)، أي: لن أجد نبيًّا أخرج معه، هذه قالها عن معرفةٍ وتجربةٍ ومعاينةٍ للآثار الَّتي حُصدت من تلك الفتن.
الأثر الخامس: من دخل الفتن انحطَّ قدره.
وغيرها من الآثار
[للشيخ عبد الرزاق العباد]
المسألة الخامسة: ثبات أهل الإيمان في الفتن
ومن أهم هذه الأمور ما يلي:
أولاً: أنه يعلم علم يقين لا يخالطه شك ولا يداخله ريب أنَّ خالق هذا الكون وموجده ومدبر شؤونه هو الله وحده لا شريك له، وأنه وحده المتصرِّف فيه،
ثانياً: أن الله جل وعلا تكفَّل بنصر أهل الإيمان وحفظ أهل الدين
ثالثاً: أنَّ الله وعد في كتابه بخذلان الكافرين وإبادتهم وقصم ظهورهم وقطع دابرهم وجعلهم عبرة للمعتبرين وعظة للمتعظين
رابعاً: أن المؤمن يعلم أنه لن تموت نفسٌ حتى تستوفي أجلها وتستتم رزقها
خامساً: أنَّ المؤمن لشدة ثباته وقوة يقينه لا تزعزعه الأراجيف ولا تخوِّفه الدعايات
سادساً: أنَّ صاحب الإيمان الصحيح لا يعتمد في أموره كلها إلا على الله وحده ولا يفوض أموره إلا له ولا يتوكل إلا عليه ولا يستعين إلا به
سابعاً: أنَّ المؤمن يعلم أنَّ التوكل الحقيقي لا يتم إلا بأمرين اثنين لابد منهما:
الأول: اعتماد القلب على الله واستناده إليه وسكونه إليه -كما قال ابن القيم رحمه الله – بحيث لا يبقى فيه اضطراب من تشوش الأسباب ولا سكون إليها، بل يخلع السكون إليها من قلبه ويلبسه السكون إلى مسببها وهو الله. وعلامة هذا: أنه لا يبالي بإقبالها وإدبارها ولا يضطرب قلبه ويخفق عند إدبار ما يحب منها وإقبال ما يكره، لأن اعتماده على الله وسكونه إليه واستناده إليه.
والثاني: إثبات الأسباب والقيام بها،
قال بعض أهل العلم: ” الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدحٌ في الشرع، وإنما التوكل والرجاء معنى يتألَّف من موجب التوحيد والعقل والشرع”.
ثامناً: ثمَّ إنَّ المؤمن في الأمور الملمات والأحوال المدلهمات يجد من قلبه إقبالاً شديداً على الله وانكساراً بين يديه وخضوعاً له،. [ثبات أهل الإيمان في الفتن، للشيخ عبد الرزاق العباد].
المسألة السادسة: موقف المؤمن من الفتن
الفتن نعوذ بالله من شرها – بين النبي صلى الله عليه وسلم خطرها وشرح ما يجب حولها عليه من ربه الصلاة والتسليم.
ما الفتنة؟
الفتنة كلمة مشتركة تقع على معان كثيرة تقع على الشرك وهو أعظم الفتن كما قال الله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [1] أي حتى لا يكون شرك وقال جل وعلا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [2] وتقع الفتنة أيضا على التعذيب والتحريق كما قال جل وعلا: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [3] وقال جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [4] والمراد هنا العذاب والتحريق فتنوهم يعني عذبوهم. وتطلق الفتنة أيضا على الاختبار والامتحان كما قال جل وعلا: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [5] يعني اختبارا وامتحانا وقال جل وعلا: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [6] يعني اختبارا وامتحانا حتى يتبين من يستعين بالأموال والأولاد في طاعة الله ومن يقوم بحق الله ويتجنب محارم الله ويقف عند حدود الله ممن ينحرف عن ذلك ويتبع هواه. وتقع أيضا على المصائب والعقوبات كما قال تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [7] يعني: بل تعم.
جاء عن الزبير بن العوام رضي الله عنه وجماعة من السلف في هذه الفتنة أنهم قالوا: (ما كنا نظن أنها فينا حتى وقعت) وكانت بسبب مقتل عثمان رضي الله عنه فإن قوما جهلة وظلمة وفيهم من هو متأول خفي عليه الحق واشتبهت عليه الأمور فتابعهم حتى قتلوا عثمان رضي الله عنه بالشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة ثم عمت هذه الفتنة وعظمت وأصابت قوما ليس لهم بها صلة وليسوا في زمرة الظالمين وجرى بسببها ما جرى بين علي رضي الله عنه ومعاوية رضي الله عنه وما حصل يوم الجمل ويوم صفين كلها بأسباب الفتنة التي وقعت بسبب ما فعله جماعة من الظلمة بعثمان رضي الله عنه فقام قوم وعلى رأسهم معاوية بالمطالبة بدم القتيل عثمان رضي الله عنه وطلبوا من علي رضي الله عنه وقد بايعه المسلمون خليفة رابعا وخليفة راشدا تسليمهم القتلة وعلي رضي الله عنه أخبرهم أن المقام لا يتمكن معه من تسليم القتلة ووعدهم خيرا وأن النظر في هذا الأمر سيتم بعد ذلك وأنه لا يتمكن من قتلهم الآن وجرى من الفتنة والحرب يوم الجمل ويوم صفين ما هو معلوم حتى قال جمع من السلف رضي الله عنهم منهم الزبير رضي الله عنه: إن الآية المذكورة نزلت في ذلك. وهذه أول فتنة وقعت بين المسلمين بعد موت نبيهم عليه الصلاة والسلام فأصابت جما غفيرا من الصحابة وغير الصحابة وقتل فيها عمار بن ياسر وطلحة بن عبيد الله وهو من العشرة المبشرين بالجنة والزبير وهو من العشرة أيضا وقتل فيها جمع غفير من الصحابة وغيرهم في الجمل وفي صفين بأسباب هذه الفتنة.
وتقع الفتنة أيضا بأسباب الشبهات والشهوات فكم من فتن وقعت لكثير من الناس بشبهات لا أساس لها كما جرى للجهمية والمعتزلة والشيعة والمرجئة وغيرهم من طوائف أهل البدع فتنوا بشبهات أضلتهم عن السبيل وخرجوا عن طريق أهل السنة والجماعة بأسبابها وصارت فتنة لهم ولغيرهم إلا من رحم الله.
وطريق النجاة من صنوف الفتن هو التمسك بكتاب الله وبسنة رسوله عليه الصلاة والسلام …. إلى آخر ما قرره الشيخ ابن باز في الحذر من الفتن [موقع فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله تعالى]
وانظر الحديث (1090) من الصحيح المسند.
وانظر التعليقات في الصحيح المسند فيما يتعلق بالفتن، وما ورد فيها: (147)، (306)، (307) (335) (339)، (407)، (821) (1052)، (893) (1058)، (1090) (1093) (1195) (1537) (1539).