6803 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك محمد البلوشي وعبدالله المشجري وعلي الكربي وإبراهيم المشجري وعبدالله البلوشي ابوعيسى وعبدالحميد البلوشي، وكديم وطارق أبي تيسير، وإبراهيم البلوشي
وخميس العميمي.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–
صحيح مسلم، 29 – باب قُبْحِ الْكَذِبِ وَحُسْنِ الصِّدْقِ وَفَضْلِهِ
6803 – حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا وَقَالَ الآخَرَانِ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ” إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ صِدِّيقًا وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا ” .
6804 – حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَهَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، قَالاَ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ” إِنَّ الصِّدْقَ بِرٌّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِنَّ الْكَذِبَ فُجُورٌ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا ” . قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم .
6805 – حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ، قَالاَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، ح وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ” عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا ” .
6806 – حَدَّثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ مُسْهِرٍ، ح وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ، إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، كِلاَهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ . وَلَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِ عِيسَى ” وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ ” . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مُسْهِرٍ ” حَتَّى يَكْتُبَهُ اللَّهُ ” .
==========
التمهيد:
قال الحافظ النووي رحمه الله في (الرياض): “4 – باب الصدق
قَالَ الله تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] وَقالَ تَعَالَى: وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ [الأحزاب:35] وَقالَ تَعَالَى: فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ [محمد:21]
وأما الأحاديث:
1/54- فالأول: عَن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عن النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: الصَّدْقَ يَهْدِي ….
2/55- الثاني: عَنْ أبي مُحَمَّدٍ الْحَسنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أبي طَالِبٍ، رَضيَ اللَّهُ عَنْهما، قَالَ حفِظْتُ مِنْ رسول اللَّه ﷺ: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَريبُكَ، فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمأنينَةٌ، وَالْكَذِبَ رِيبةٌ رواه التِرْمذي وَقالَ: حديثٌ صحيحٌ.
3/56- الثالث: وعنْ أبي سُفْيانَ صَخْرِ بْنِ حَربٍ رضي الله عنه ، في حديثِه الطَّويلِ في قِصَّةِ هِرقْلُ، قَالَ هِرقْلُ: فَماذَا يَأْمُرُكُمْ يعْني النَّبِيَّ ﷺ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قُلْتُ: يقولُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ لا تُشرِكُوا بِهِ شَيْئاً، واتْرُكُوا مَا يَقُولُ آباؤُكُمْ، ويَأْمُرنَا بالصَّلاةِ والصِّدقِ، والْعفَافِ، والصِّلَةِ. متفقٌ عليه.”. انتهى.
قال الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله معلقا: “فهذه الآيات الكريمات والأحاديث كلها تتعلق بالصدق، والصدق يكون بالقول ويكون بالعمل، والواجب على كل مؤمن ومؤمنة الصدق في القول والعمل، فالصدق في القول أن يقول الحقيقة المطابقة للواقع، والصدق في العمل أن ينصح فيه وأن يؤديه كما شرع الله من غير رياء ولا سمعة ولا كسل ولا ضعف، بل يصدق في العمل، قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، نزلت في قصة كعب بن مالك وصاحبيه لما تخلفوا عن غزوة تبوك وسألهم الرسول ﷺ عن العذر فصدقوا فأنجاهم الله بصدقهم وتاب عليهم، وقال تعالى:( فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ )[محمد:21] أي: لو عاملوا الله بالصدق لكان خيرًا لهم في الدنيا والآخرة، وقال تعالى: ( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) [الأحزاب:35] فالصادقون والصادقات ممن أعد الله لهم المغفرة والأجر العظيم، قال تعالى في آخر سورة المائدة: قَالَ اللَّهُ ( هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) [المائدة:119]، يعني: الصادقين في قولهم وعملهم ينفعهم صدقهم يوم القيامة فيدخلهم الله الجنة وينجيهم من النار، ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود عن النبي ﷺ أنه قال: عليكم بالصدق….- إيا هذه أداة تحذير- وإياكم والكذب ؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار يعني يقول هذا لهذا الكذب يقود إلى الفجور بالقول والعمل، والفجور يقود إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى حتى يكتب عند الله كذابًا فالكذب يجر إلى الكذب، والصدق يجر إلى الصدق فينبغي للمؤمن أن يتحرى الصدق في قوله وعمله حتى يكون سجية له وطبيعة له وأن يحذر الكذب غاية الحذر حتى يكون بعيدًا عن طبيعته وسجيته.
الحديث الثاني
وفي حديث الحسن بن علي يقول أنه سمع النبي ﷺ يقول: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك؛ فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة .
الحسن كان صغيرًا في عهد النبي ﷺ حين توفي النبي ﷺ وهو في الثامنة، وهذا يدل على حذقه وفطنته وضبط ما حفظ من النبي ﷺ من الأحاديث .
فيه أن الصدق طمأنينة يحصل لصاحبه الطمأنينة، الصادق يطمئن مرتاح آمن يأمن العاقبة، والكذب ريبة صاحبه مضطرب ليس بمطمئن القلب والبال؛ لتعاطيه الكذب الذي يفضي إلى الفجور ويفضي إلى سوء الظن به، ويفضي إلى اتهامه بما يسقط عدالته وسمعته بين القوم. دع ما يريبك مثل ما في الحديث الآخر: اتق الشبهات من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه يعني الشيء الذي فيه ريبة وشك دَعْه واطلب الشيء الواضح؛ لأن الذي فيه ريبة يجرك إلى المحرم الذي لا ريبة فيه، والبعد عن ذلك مما يقيم إيمانك ويريح قلبك وضميرك.
الحديث الثالث
وفي حديث أبي سفيان بن حرب في قصته لما سأله قيصر ملك الروم…..
من جملة المسائل لكن هذه أهمها، وسألهم عن نسبه وعن مكانته فيهم، وهل قاله أحد من آبائه إلى غير ذلك من الأسئلة المعروفة.
وفيه جواب لأبي سفيان قال: لولا أني أخشيت أن يؤثروا عني الكذب لكذبت .
والشاهد من قوله أنه يأمرنا بالصلة والصلاة والعفاف والصدق، فالرسول ﷺ يأمرهم بالصدق مع أمره لهم بالتوحيد والإيمان وصلة الرحم وبر الوالدين والعفاف عن المحارم، يأمرهم بالصدق في أقوالهم وأعمالهم، فلما أخبر هرقل بهذا الكلام، قال: هذا لا يقوله إلا نبي .
فالواجب على أهل الإيمان رجالاً ونساء الصدق بأقوالهم وأعمالهم فإن عملوا صدقوا وإن قالوا صدقوا هكذا المؤمن {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، وفق الله الجميع.”. انتهى.
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
(٢٩) – (بابُ قُبْحِ الكَذِبِ، وحُسْنِ الصِّدْقِ، وفَضْلِهِ)
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، على قول من يقول: إن منصورًا من صغار التابعين.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود – رضي الله عنه -؛ أنه (قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ – ﷺ -: «إنَّ
الصِّدْقَ) – بكسر الصاد، وسكون الدال-: خلاف الكذب، قال الراغب الأصفهانيّ: الصدق والكذب أصلهما في القول، ماضيًا كان أو مستقبلًا، وعدًا
كان أو غيره، ولا يكونان بالقصد الأول إلا في القول، ولا يكونان في القول
إلا في الخبر دون غيره من أصناف الكلام، وقد يكونان بالعَرَض في غيره من
أنواع الكلام، كالاستفهام، والأمر، والدعاء، وذلك نحو قول القائل: أزيد في
الدار؟ فإن في ضمنه إخبارًا بكونه جاهلًا بحال زيد، وكذا إذا قال: واسني في
ضمنه أنه محتاج إلى المواساة، وإذا قال: لا تؤذني ففي ضمنه أنه يؤذيه.
والصدق: مطابقة القول الضميرَ والمُخْبَرَ عنه معًا، ومتى انخرم شَرْط من ذلك
لم يكن صدقًا، بل إما أن لا يوصف بالصدق، وإما أن يوصف تارة بالصدق،
وتارة بالكذب على نَظَرَين مختلفين، كقول الكافر من غير اعتقاد: محمد رسول الله، فإن هذا يصحّ أن يقال: صِدقٌ لكون المُخْبَر عنه كذلك، ويصحّ أن يقال: كَذِبٌ لمخالفة قوله ضميره، وبالوجه الثاني إكذابُ الله تعالى المنافقين؛ حيث قالوا: ﴿نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه…..ِ﴾ الآية [المنافقون ١].
والصِّدّيق من كَثُر منه الصدق. وقيل: بل يقال لمن لا يكذب قطّ لتعوّده الصدق. وقيل: لمن لا يتأتّى منه الكذب لتعوّده الصدق. وقيل: بل لمن صَدَقَ بقوله واعتقاده، وحَقَّقَ صِدْقه بفعله.
وقد يُستعمل الصدق والكذب في كل ما يَحِقُّ ويحْصُل في الاعتقاد،
نحو: صَدَقَ ظَنِّي، ويُستعملان في أفعال الجوارح، فيقال: صَدَقَ في القتال إذا وفّى حقّه، وفعلَ ما يجب كما يجبُ، وكَذَبَ في القتال إذا كان بخلاف ذلك،
قال الله عز وجل: ﴿رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ الآية [الأحزاب ٢٣]؛ أي: حقّقوا العهد بما أظهروه من أفعالهم، وقال عز وجل: ﴿لِيَسْألَ الصّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ﴾ [الأحزاب ٨]؛ أي: يسأل من صَدَق بلسانه عن صِدْق فِعله تنبيهًا أنه لا يكفي الاعتراف بالحقّ دون تحرّيه بالفعل، وقال عز وجل: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالحَقِّ﴾ [الفتح ٢٧]: فهذا صِدق بالفعل، وهو التحقيق؛ أي: حقَّقَ رؤيته، وعلى ذلك قوله عز وجل: ﴿والَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وصَدَّقَ بِهِ﴾ [الزمر ٣٣]؛ أي: حقّق ما أورده قولًا بما تحرّاه فعلًا.
ويُعبّر عن كلّ فعل فاضل ظاهرًا وباطنًا بالصدق، فيُضاف إليه ذلك الفعل الذي يوسف به، نحو قوله عز وجل: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥)﴾ [القمر ٥٥]، وعلى هذا قوله عز وجل: ﴿أنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ الآية [يونس ٢]، وقوله عز وجل: ﴿أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وأخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾ الآية [الإسراء ٨٠]، وقوله عز وجل: ﴿واجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ (٨٤)﴾ [الشعراء ٨٤]، فإن ذلك سؤال أن يجعله الله تعالى صالحًا، بحيث إذا أثنى عليه مَن بَعدَهُ لم يكن ذلك الثناء كذبًا، بل يكون كما قال الشاعر [من الطويل]:
إذا نَحْنُ أثْنَيْنا عَلَيْكَ بِصالِحٍ … فَأنْتَ الَّذِي نُثْنِي وفَوْقَ الَّذِي نُثْنِي.
انتهى المقصود من كلام الراغب [»مفردات ألفاظ القرآن«ص ٤٧٨ – ٤٧٩].
(يَهْدِي) بفتح أوله، من الهداية، وهي الدلالة الموصلة إلى المطلوب ،
(إلى البِرِّ) بكسر الموحّدة، أصله التوسع في فعل الخير، وهو اسم جامع للخيرات كلّها، ويُطلق على العمل الخالص الدائم. [»الفتح«١٠/ ٥٢٤].
وقيل: هو العمل الصالح الخالص من كلّ مذموم. قال ابن العربيّ: إذا تحرّى الصدق لم يَعص الله؛ لأنه إن أراد أن يفعل شيئًا من المعاصي خاف أن يقال: أفعلت كذا؟ فإن سكت لم يَأمن الريبة، وإن قال: لا كَذَب، وإن قال: نعم فَسَق، وسقطت منزلته، وانتُهكت حرمته. انتهى [ راجع:»شرح السنديّ” على ابن ماجه ١/ ٣٦].
(وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ) قال ابن بطال: مصداقه في كتاب الله تعالى: ﴿إنَّ الأبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣)﴾ [الانفطار ١٣]، (وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ) زاد في الرواية الآتية: ((ويتحرّى الصدق)). قال القرطبيّ: معنى((يتحرّى الصدق)): يقصد إليه، ويتوخّاه، ويجتنب نقيضه الذي هو الكذب حتى يكون الصدق غالب حاله، فيُكتب من جملة الصدّيقين، ويُثبتُ في ديوانهم، وكذلك القول في الكذب، وأصل الكَتْب: الضمّ والجمع …. انتهى [«المفهم» ٦/ ٥٩٢].
(حَتى يُكْتَبَ صِدِّيقًا) وفي بعض النُّسخ: ((حتى يُكتب عند الله صدّيقًا)).
قال ابن بطال: المراد أنه يتكرر منه الصدق، حتى يستحقّ اسم المبالغة في الصدق، (وإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إلى الفُجُورِ) بالضمّ مصدر فَجَر يفجُر من باب قَعَد، يقال: فَجَر العبد فُجُورًا: إذا فسق، وزنى، وفَجَر الحالف فُجورًا: إذا كذب. قاله الفيّوميّ [«المصباح المنير» ٢/ ٤٦٢].
وقال الراغب الأصفهانيّ رحمه الله: أصل الفَجْر: الشقّ، فالفجور شَقّ سِتر الديانة، ويُطلق على المَيْل إلى الفساد، وعلى الانبعاث في المعاصي، وهو اسم جامع للشرّ. انتهى بتصرّف [«مفردات ألفاظ القرآن» ص ٦٢٦].
وقال السنديّ رحمه الله: قيل: لعلّ الكذب بخاصيّته يُفضي بالإنسان إلى القبائح، والصدق بخلافه، ويَحْتَمِل أن يكون المراد بالفجور هو نفس ذلك الكذب، وكذلك البرّ نفس ذلك الصدق، والهداية إليه باعتبار المغايرة الاعتباريّة في المفهوم والعنوان، كما يقال: العلم يؤدّي إلى الكمال، وإليه يشير آخر الحديث. انتهى [«شرح السنديّ» ١/ ٣٦].
(وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إلى النّارِ)؛ أي: يوصل إليها، ومِصداق هذا في
كتاب الله تعالى قوله عز وجل: ﴿وإنَّ الفُجّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤)﴾ [الانفطار ١٤].
(وإنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ، حَتّى يُكْتَبَ كَذابًا») قال في «الفتح»: المراد بالكتابة: الحُكم عليه بذلك، وإظهاره للمخلوقين من الملأ الأعلى، وإلقاء ذلك في قلوب أهل الأرض، وقد ذكره مالك بلاغًا عن ابن مسعود، وزاد فيه زيادة
مفيدة، ولفظه: «لا يزال العبد يكذب، ويتحرى الكذب، فيُنكت في قلبه نكتةٌ
سوداءُ، حتى يسوَدّ قلبه، فيُكتب عند الله من الكاذبين» [«الفتح دا ١٣/ ٦٦٩، كتاب» الأدب ” رقم (٦٠٩٤)]، والله تعالى أعلم.
قال المؤلّف رحمه الله:
حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، وهَنّادُ بْنُ السَّرِيِّ، قالا: حَدَّثَنا أبُو الأحْوَصِ، عَنْ مَنصُورٍ، عَنْ أبِي وائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ…..
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث
الماضي، ولله الحمد والمنّة.
قال المؤلّف رحمه الله:
حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنا أبُو مُعاوِيةَ، ووَكِيعٌ، قالا: حَدَّثَنا الأعْمَشُ (ح) وحَدَّثَنا أبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنا أبُو مُعاوِيَةَ، حَدَّثَنا الأعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، …..
قال القرطبيّ رحمه الله: «يهدي»: يُرشد ويوصل، والبرّ: العمل الصالح، أو الجنة كما قدّمناه.
والفجور: الأعمال السيّئة. و«عليكم» من ألفاظ الإغراء المصرّحة بالإلزام، فحقٌّ على كل مَن فَهِم عن الله تعالى أن يلازم الصدق في الأقوال، والإخلاص في الأعمال، والصفاء في الأحوال، فمن كان كذلك لَحِقَ بالأبرار، ووصل إلى رضا الغفّار، وقد أرشد الله تعالى إلى ذلك كله بقوله عند ذِكر أحوال الثلاثة التائبين
فقال: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ (١١٩)﴾ [التوبة ١١٩]،
وخرّج أبو مسعود الدمشقيّ حديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – هذا، وزاد فيه: “وإن شرّ الرَّوايا روايا الكذب، وإن الكذب لا يصلح فيه جِدّ، ولا هَزْل، ولا يَعِد الرجل صاحبه، فيُخلفه”، وذكر أبو مسعود: أن مسلمًا خرّج هذه الزيادة.
قال القرطبيّ: ولم تقع لنا هذه الزيادة، ولا لأحد من أشياخنا فيما علمناه، وقال أبو عبد الله الحميديّ: وليست عندنا.
والرَّوايا: جمع راوية؛ يعني به: حامل الكذب، وراويه، والهاء فيه للمبالغة، كعلّامة، ونسّابة، أو يكون استعارةً، شبّه حامل الكذب لِحَمْله إياه بالراوية الحاملة للماء.
وفيه حجَّة للطبريّ في تحريمه الكذب مطلقًا وعمومًا، وفيه ما يدلّ على
وجوب الوفاء بالوعد، ولو كان بالشيء الحقير مع الصبيّ الصغير. انتهى [«المفهم» ٦/ ٥٩٢ – ٥٩٣].
والحديث متّفقٌ عليه.
[البحر المحيط الثجاج، بتصرف يسير]
فوائد الباب:
١ – (منها): التحذير عن الكذب، وأنه لا يجوز لا بجدّ، ولا بهزل.
قال القرطبيّ: وفيه: ما يدلّ على وجوب الوفاء بالوعد، ولو كان بالشيء الحقير مع الصبيّ الصغير.
٢ – (ومنها): أن الكذب باب الفجور، وأن الفجور باب النار، أعاذنا الله سبحانه وتعالى منها بمنّه وكَرَمه آمين.
٣ – (ومنها): أن الصدق باب البرّ، وأن البرّ باب الجنّة، جعلنا الله سبحانه وتعالى
من أهلها آمين.
٤ – (ومنها): أن الصادق يستحقّ أن يوصف بالصدق والبرّ، والكاذب يوصف بالكذب والفجور.
٥ – (ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله، قال العلماء: في هذا الحديث حَثّ على تحري الصدق، وهو قصدُهُ، والاعتناءُ به، وعلى التحذير من الكذب، والتساهل فيه، فإنه إذا تساهل فيه كَثُرَ منه، فَيُعرَف به.
قال الحافظ: والتقييد بالتحري وقع في رواية أبي الأحوص، عن منصور عند مسلم، وكذا قال في الكذب، وعنده أيضا في رواية الأعمش، عن شقيق .
قال: وفي هذه الزيادة إشارة إلى أن من تَوَقّى الكذب بالقصد الصحيح إلى الصدق، صار له الصدق سَجِيّةً حتى يَستحقَّ الوصف به، وكذلك عكسه، وليس المراد أن الحمد والذمّ فيهما يَختص بمن يَقصد إليهما فقط، وإن كان الصادق في الأصل ممدوحًا، والكاذب مذمومًا.
ثم قال النووي: واعلَم أن الموجود في نُسخ البخاريّ ومسلم في بلادنا وغيرها، …. ونَقَل أبو مسعود عن كتاب مسلم في حديث ابن المثنى وابن بشار زيادة، وهي: «إن شر الرَّوايا …..وذكرها أيضًا أبو بكر البَرْقاني في هذا الحديث، . انتهى. «المفهم» ٦/ ٥٩٣].
قال الحافظ: لم أر شيئًا من هذا في «الأطراف» لأبي مسعود، ولا في «الجمع بين الصحيحين» للحميدي، فلعلهما ذكراه في غير هذين الكتابين. انتهى [«الفتح» ١٠/ ٥٢٤ – ٥٢٥].
٦ – (ومنها): أن العبد إذا تحرّى الكذب ولازَمه، كَتَبه الله سبحانه وتعالى من
الكذابين، وبغّضه إلى خَلْقه أجمعين، وكذلك الصادق إذا تحرّى الصدق ولازَمه، كَتَبه الله تعالى من الصادقين، وحبَّبه إلى خلقه أجمعين، وهذا هو معنى الحديث الآخر الذي أخرجه الشيخان وغيرهما، من حديث عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – ﷺ – قال: «إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأحِبّه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في أهل الأرض»، هذا لفظ البخاريّ، والله تعالى
أعلم. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف يسير]
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
مر في الأبواب السابقة شيء مما يتعلق بالكذب، وسيكون الحديث عن تمام مسائله، وأما ماسبق فيعرض باختصار، وما يتعلق بالباب، وينقسم الحديث في الباب عن الصدق والكذب – إن شاء الله -، كالتالي:
أولاً: معالم الصدق
(المسألة الأولى): معنى الصدق لغةً واصطلاحًا
معنى الصدق لغةً:
الصدق ضدُّ الكذب، صَدَقَ يَصْدُقُ صَدْقًا وصِدْقًا وتَصْداقًا، وصَدَّقه: قَبِل قولَه، وصدَقَه الحديث: أَنبأَه بالصِّدْق، ويقال: صَدَقْتُ القوم. أي: قلت لهم صِدْقًا وتصادقا في الحديث وفي المودة [((لسان العرب)) لابن منظور (10/193)، ((مختار الصحاح)) للرازي (ص 174)].
معنى الصدق اصطلاحًا:
الصدق: (هو الخبر عن الشيء على ما هو به، وهو نقيض الكذب). [((الواضح في أصول الفقه)) لابن عقيل (1/129)].
وقال الباجي: (الصدق الوصف للمخبَر عنه على ما هو به) [((إحكام الفصول)) للباجي (ص 235)].
وقال الراغب الأصفهاني: (الصدق مطابقة القول الضمير والمخبَر عنه معًا، ومتى انخرم شرط من ذلك لم يكن صدقًا تامًّا). [((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص 270)].
فرع:
– الفرق بين الحقِّ والصدق:
(الحق في اللغة: هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، من حقَّ الشيء يحقُّ إذا ثبت ووجب.
وفي اصطلاح أهل المعاني: الحكم المطابق للواقع، يطلق على الأقوال، والعقائد، والأديان، والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك، ويقابله الباطل.
وأما الصدق، فقد شاع في الأقوال خاصة، ويقابله الكذب.
وقد يفرق بينهما بأن المطابقة تعتبر في الحق: من جانب الواقع، وفي الصدق: من جانب الحكم.
فمعنى صدق الحكم: مطابقته للواقع.
ومعنى حقيته: مطابقة الواقع إياه، وقد يطلق الحق على الموجد للشيء، وعلى الحكمة، ولما يوجد عليه، كما يقال: الله: حق، وكلمته: حق)[((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص 194)].
– الفرق بين الوفاء والصدق:
(قيل: هما أعم وأخص.
فكل وفاء صدق، وليس كل صدق وفاء.
فإن الوفاء قد يكون بالفعل دون القول، ولا يكون الصدق إلا في القول؛ لأنه نوع من أنواع الخبر، والخبر قول). [((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص 575)].
– الفرق بين الصَّادق والصِّدِّيق:
قال الماوردي: (والفرق بين الصَّادق والصِّدِّيق: أن الصادق في قوله بلسانه، والصديق من تجاوز صدقه لسانه إلى صدق أفعاله في موافقة حاله لا يختلف سره وجهره، فصار كلُّ صِدِّيق صادقًا، وليس كل صادق صِدِّيقًا). [((تفسير الماوردي)) (3/43)].
(المسألة الثانية): أهمية الصدق في المجتمع
(تبدو لنا حاجة المجتمع الإنساني إلى خلق الصدق، حينما نلاحظ أن شطرًا كبيرًا من العلاقات الاجتماعية، والمعاملات الإنسانية، تعتمد على شرف الكلمة، فإذا لم تكن الكلمة معبرة تعبيرًا صادقًا عما في نفس قائلها، لم نجد وسيلة أخرى كافية نعرف فيها إرادات الناس، ونعرف فيها حاجاتهم ونعرف فيها حقيقة أخبارهم.
كيف يوثق بنقل المعارف والعلوم ؟!
كيف يوثق بنقل الأخبار والتواريخ ؟!
كيف يوثق بالوعود والعهود ؟!
كيف يوثق بالدعاوى والشهادات ودلائل الإثبات القولية ؟!).
يقول ابن القيم في الصدق إنه: (منزلة القوم الأعظم الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين، وبه تميَّز أهل النفاق من أهل الإيمان، وسكان الجنان من أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه، الذي ما وُضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلًا إلا أرداه وصرعه، من صال به لم تردَّ صولته، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته، فهو روح الأعمال، ومحكُّ الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين، وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية لدرجة النبوة، التي هي أرفع درجات العالمين، ومن مساكنهم في الجنات: تجري العيون والأنهار إلى مساكن الصديقين، كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متصل ومعين، وقد أمر الله سبحانه أهل الإيمان: أن يكونوا مع الصادقين، وخصَّ المنعم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119])[((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/5)].
وقال أبو حاتم: (إنَّ الله جلَّ وعلا فضَّل اللسان على سائر الجوارح، ورفع درجته، وأبان فضيلته، بأن أنطقه من بين سائر الجوارح بتوحيده، فلا يجب للعاقل أن يعود آلة خلقها الله للنطق بتوحيده بالكذب، بل يجب عليه المداومة برعايته بلزوم الصدق، وما يعود عليه نفعه في داريه؛ لأنَّ اللسان يقتضي ما عُوِّد؛ إن صدقًا فصدقًا، وإن كذبًا فكذبًا). [((روضة العقلاء)) (ص 51)].
(المسألة الثالثة): الترغيب في الصدق
أولًا: الترغيب في الصدق في القرآن الكريم
أمر الإسلام بالصدق وحث عليه في كل المعاملات التي يقوم بها المسلم، والأدلة كثيرة من القرآن الكريم على هذا الخلق النبيل:
– قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].
(أي: اصدُقوا والزموا الصدق تكونوا مع أهله، وتنجوا من المهالك، ويجعل لكم فرجًا من أموركم ومخرجًا) [((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (4/230)].
وعن عبد الله بن عمر: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقال الضحاك: مع أبي بكر وعمر وأصحابهما.
وقال الحسن البصري: إن أردت أن تكون مع الصادقين، فعليك بالزهد في الدنيا، والكفِّ عن أهل الملة)[((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (4/231)].
– ووصف الله به نفسه فقال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87] وقال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122].
– وقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].
قال الشوكاني: والصدِّيق المبالغ في الصدق، كما تفيده الصيغة، وقيل: هم فضلاء أتباع الأنبياء، والشهداء: من ثبتت لهم الشهادة، والصالحين: أهل الأعمال الصالحة)[((فتح القدير)) للشوكاني (2/172)].
– وقوله: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119].
(أي: ينفع الصادقين في الدنيا صدقهم في الآخرة، ولو كذبوا ختم الله على أفواههم، ونطقت به جوارحهم فافتضحوا). [((معالم التنزيل)) للبغوي (3/123)].
– وقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ …} [الأحزاب: 35].
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ (أي: لهؤلاء الموصوفين بتلك الصفات الجميلة، والمناقب الجليلة، التي هي ما بين اعتقادات، وأعمال قلوب، وأعمال جوارح، وأقوال لسان، ونفع متعدٍّ وقاصر، وما بين أفعال الخير، وترك الشرِّ، الذي من قام بهنَّ، فقد قام بالدين كلِّه، ظاهره وباطنه، بالإسلام والإيمان والإحسان…..)[((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (664)].
ثانيًا: الترغيب في الصدق في السنة النبوية
جاءت الأحاديث النبوية متضافرة في الحث على الصدق، والأمر به، وأنَّه وسيلة إلى الجنة.
– فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إنَّ الصدق يهدي إلى البرِّ …
– وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع إذا كنَّ فيك فلا عليك ما فاتك في الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة))[رواه أحمد (2/177) (6652)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (6/449). وصححه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (1718)].
– وعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اضمنوا لي ستًّا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدَّثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضُّوا أبصاركم، وكفُّوا أيديكم)) [رواه أحمد (5/323) (22809)
– وعن أبي محمد، الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك؛ فإنَّ الصدق طمأنينة، والكذب ريبة))[رواه الترمذي (2518)، والنسائي (5711). وصححه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (318)].
قال الطِّيبي: جاء هذا القول ممهدًا لما تقدمه من الكلام، ومعناه: إذا وجدت نفسك ترتاب في الشيء فاتركه؛ فإنَّ نفس المؤمن تطمئنُّ إلى الصدق وترتاب من الكذب، فارتيابك من الشيء منبئ عن كونه مظنَّة للباطل فاحذره، وطمأنينتك للشيء مشعر بحقيقته فتمسك به، والصدق والكذب يستعملان في المقال والأفعال وما يحقُّ أو يبطل من الاعتقاد، وهذا مخصوص بذوي النفوس الشريفة القدسية المطهرة عن دنس الذنوب، ووسخ العيوب)[((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص 724)].
ثالثًا:
أقوال السلف والعلماء في الصدق
– قال عمر: (لا يجد عبد حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وهو محقٌّ، ويدع الكذب في المزاح، وهو يرى أنَّه لو شاء لغلب)[ ((روضة العقلاء)) لابن حبان (ص 55)].
– وعن عبد الله بن عمرو قال: (ذر ما لست منه في شيء، ولا تنطق فيما لا يعنيك، واخزن لسانك كما تخزن دراهمك)[رواه البيهقي في ((الشعب)) (7/66) (4653)، وابن حبان ((روضة العقلاء)) (55)].
– وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 42]: (أي: لا تخلطوا الصدق بالكذب) [رواه الطبري في ((تفسيره)) (1/568)].
– وعن إسماعيل بن عبيد الله قال: (كان عبد الملك بن مروان يأمرني أن أُجنِّب بنيه السمن، وكان يأمرني أن لا أطعم طعامًا حتى يخرجوا إلى البراز، وكان يقول: علِّم بنيَّ الصدق كما تعلمهم القرآن، وجنبهم الكذب، وإن فيه كذا وكذا يعني القتل)[((روضة العقلاء)) لأبي حاتم البستي (ص 51)].
– وقال الفضيل بن عياض: (ما من مضغة أحب إلى الله من لسان صدوق، وما من مضغة أبغض إلى الله من لسان كذوب). [((روضة العقلاء)) لأبي حاتم البستي (ص 52)].
– وقالوا: (من شرف الصدق أن صاحبه يصدق على عدوه). [((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (2/26)].
– وقال الأحنف لابنه: (يا بني، يكفيك من شرف الصدق، أنَّ الصادق يُقبل قوله في عدوه، ومن دناءة الكذب، أن الكاذب لا يُقبل قوله في صديقه ولا عدوه، لكلِّ شيء حِليةٌ، وحليةٌ المنطق الصدق؛ يدلُّ على اعتدال وزن العقل)[((نهاية الأرب في فنون الأدب )) للنويري (3/224)].
– وقال إبراهيم الخواص: (الصادق لا تراه إلا في فرض يؤديه، أو فضل يعمل فيه)[((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/20)].
– وقيل: (ثلاث لا تخطئ الصادق: الحلاوة والملاحة والهيبة)[((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/20)].
– وقال أبو حاتم: (الصدق يرفع المرء في الدارين كما أنَّ الكذب يهوي به في الحالين، ولو لم يكن الصدق خصلة تحمد؛ إلا أنَّ المرء إذا عرف به قُبل كذبه، وصار صدقًا عند من يسمعه؛ لكان الواجب على العاقل أن يبلغ مجهوده في رياضة لسانه حتى يستقيم له على الصدق، ومجانبة الكذب، والعيُّ في بعض الأوقات خير من النطق؛ لأنَّ كلَّ كلام أخطأ صاحبه موضعه، فالعيُّ خير منه). [((روضة العقلاء)) (ص 54)].
– وقال الجنيد: (حقيقة الصدق: أن تصدق في موطن لا ينجيك منه إلا الكذب)[((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/20)].
– وقال القيني: (أصدق في صغار ما يضرني، لأصدق في كبار ما ينفعني)[((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (2/28)].
– وقال بعض البلغاء: (الصادق مصان جليل، والكاذب مهان ذليل).
وقال بعض الأدباء: (لا سيف كالحق، ولا عون كالصدق). [((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص270)].
– وقال بعضهم: (من لم يؤدِّ الفرض الدائم لم يقبل منه الفرض المؤقت، قيل: وما الفرض الدائم؟
قال: الصدق.
وقيل: من طلب الله بالصدق أعطاه مرآة يبصر فيها الحق والباطل، وقيل: عليك بالصدق حيث تخاف أنه يضرك؛ فإنه ينفعك، ودع الكذب حيث ترى أنه ينفعك؛ فإنه يضرك، وقيل: ما أملق. تاجر صدوق). [((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/22)]. [ أملق الرجل، فهو مملق إذا افتقر. ((لسان العرب)) (10/ 348)]
– (وروي أن بلالًا لم يكذب منذ أسلم، فبلغ ذلك بعض من يحسده، فقال: اليوم أكذبه فسايره، فقال له: يا بلال ما سنُّ فرسك؟
قال عظم، قال: فما جريه؟ قال: يحضر ما استطاع، قال: فأين تنزل؟ قال: حيث أضع قدمي، قال: ابن من أنت؟ قال ابن أبي وأمي، قال: فكم أَتى عليك؟ قال: ليالٍ وأيامٌ، الله أعلم بعدها، قال: هيهات، أعيت فيك حيلتي، ما أتعب بعد اليوم أبدًا). [((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (3/225)].
(المسألة الرابعة) ومضات في بيان الصدق، وحقيقته.
أولاً: فوائد وآثار الصدق
إذا تمكن الصدق من القلب سطع عليه نوره، وظهرت على الصادق آثاره، في عقيدته وعباداته، وأخلاقه وسلوكياته، ومن هذه الآثار:
1- سلامة المعتقد:
فمن أبرز آثار الصدق على صاحبه: سلامة معتقده من لوثات الشرك ما خفي منه وما ظهر.
2- البذل والتضحية لنصرة الدين:
فالصادق قد باع نفسه وماله وعمره لله، ولنصرة دين الله؛ إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، همه رضا مولاه.
3- الهمة العالية:
الصادقون أصحاب همة عالية، وعزيمة قوية ماضية، همهم رضا ربهم، يسيرون معها أين توجهت ركائبها، ويستقلون معها أين استقلت مضاربها؛ ترى الصادق قد عمَّر وقته بالطاعات، وشغله بالقربات .
4- تلافي التقصير واستدراك التفريط:
الصادق قد تمر به فترة ولكنها إلى سنة، وقد يعتريه تقصير ولكنه سرعان ما يتلاقاه بتكميل، وقد يلم بذنب ولكنه سريع التيقظ والتذكر، فيقلع ويندم ويرجع: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]
5- حب الصالحين وصحبة الصادقين:
من علامات الصادق وأثر الصدق في قلبه، أنه يضيق بصحبة أهل الغفلة، ولا يصبر على مخالطتهم إلا بقدر ما يبلغهم به دعوة الله . قال الله تعالى للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]
6- الثبات على الاستقامة:
فمن آثار الصدق تمسك الصادق بدينه عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة، سلوكًا وهديًا؛ لا تغويه الشبهات، ولا تغريه الشهوات، ولا تستزله الفتن، ولا تزلزله المحن.
7- البعد عن مواطن الريب:
((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإنَّ الصدق طمأنينة والكذب ريبة)).
(فيه إشارة إلى الرجوع إلى القلوب الطاهرة والنفوس الصافية عند الاشتباه، فإن نفس المؤمن جبلت على الطمأنينة إلى الصدق، والنفر من الكذب). [ ((تطريز رياض الصالحين)) لفيصل المبارك (ص 55)].
8- حصول البركة في البيع والشراء:
((البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما))[ رواه البخاري (2079)، ومسلم (1532)].
(حصول البركة لهما إن حصل منهما الشرط وهو الصدق والتبيين، ومحقها إن وجد ضدهما وهو الكذب)[ٍ((فتح الباري)) لابن رجب (4/311)].
9- الوفاء بالعهود:
قال أبو إسماعيل الهروي: (وعلامة الصادق: ألا يتحمل داعية تدعو إلى نقض عهد)).
ثانيًا: صور الصدق
الصدق يستعمل في ستة معان: صدق في القول، وصدق في النية والإرادة، وصدق في العزم، وصدق في الوفاء بالعزم، وصدق في العمل، وصدق في تحقيق مقامات الدين كلها، فمن اتصف بالصدق في جميع ذلك فهو صدِّيق.
1- صدق اللسان:
وهو أشهر أنواع الصدق وأظهرها
فمن حفظ لسانه عن الإخبار عن الأشياء على خلاف ما هي عليه فهو صادق، ولهذا الصدق كمالان، فالأول في اللفظ: أن يحترز عن صريح اللفظ وعن المعاريض أيضًا، إلا عند الضرورة،
والكمال الثاني: أن يراعي معنى الصدق في ألفاظه التي يناجي بها ربه.
2- صدق النية والإرادة:
ويرجع ذلك إلى الإخلاص، وهو أن لا يكون له باعث في الحركات والسكنات إلا الله تعالى
3- صدق العزم:
فإنَّ الإنسان قد يقدم العزم على العمل؛ فيقول في نفسه: إن رزقني الله مالًا تصدقت بجميعه فكان الصدق هاهنا عبارة عن التمام والقوة.
4- صدق الوفاء بالعزم:
فإنَّ النفس قد تسخو بالعزم في الحال؛ إذ لا مشقة في الوعد والعزم والمؤنة فيه خفيفة، فإذا حقت الحقائق، وحصل التمكن، وهاجت الشهوات انحلت العزيمة، قال الله تعالى: رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23]. فقد روي عن أنس أن عمه أنس بن النضر لم يشهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشق ذلك على قلبه …..فاستشهد في أحد فنزلت هذه الآية {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] [انظر ما رواه البخاري (2805)] .
5- صدق في الأعمال:
وهو أن يجتهد حتى لا تدلَّ أعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتصف هو به، مثل التظاهر بالخشوع والوقار وهو ضد ذلك
6- الصدق في مقامات الدين:
وهو أعلى الدرجات وأعزها، ومن أمثلته: الصدق في الخوف والرجاء والتعظيم والزهد والرضا والتوكل وغيرها من الأمور.
ثالثًا: دواعي الصدق
هناك دوافع تجعل الإنسان حريصًا على الصدق، متحريًا له، وقد ذكر الماوردي منها: (العقل؛ لأنه موجب لقبح الكذب، لا سيما إذا لم يجلب نفعًا ولم يدفع ضررًا.
والعقل يدعو إلى فعل ما كان مستحسنًا، ويمنع من إتيان ما كان مستقبحًا.
ومنها: الدين الوارد باتباع الصدق وحظر الكذب؛ لأنَّ الشرع لا يجوز أن يرد بإرخاص ما حظره العقل، بل قد جاء الشرع زائدًا على ما اقتضاه العقل من حظر الكذب؛ لأن الشرع ورد بحظر الكذب، وإن جرَّ نفعًا، أو دفع ضررًا. والعقل إنما حظر ما لا يجلب نفعًا، ولا يدفع ضررًا .
ومنها: المروءة؛ فإنها مانعة من الكذب باعثة على الصدق؛ لأنها قد تمنع من فعل ما كان مستكرهًا، فأولى من فعل ما كان مستقبحًا .
ومنها: حب الثناء والاشتهار بالصدق، حتى لا يُردَّ عليه قول، ولا يلحقه ندم)[((أدب الدنيا والدين)) للماوردي. بتصرف].
الأمور التي تخلُّ بالصدق:
هذه بعض الآفات التي تخل بصدق المسلم، وتوهن أركان الصدق في شخصيته؛ ولذا يجب الحذر منها، ومجاهدة النفس على الابتعاد عنها، والتخلص منها، ومن هذه الأمور:
1- الكذب الخفي:
الرياء وهو الشرك الخفي، الذي تختلف فيه سريرة المرء عن علانيته، وظاهره عن باطنه؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس، اتقوا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل. قالوا: وكيف نتقيه يا رسول الله؟ قال: قولوا: اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئًا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه))[رواه أحمد (4/403) (19622)، ن وحسنه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (36)].
2- الابتداع:
إنَّ من كمال الصدق حسن الاتباع، وبقدر استمساك المرء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم يكون صدقه مع ربه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، ولهذا (كانت الصديقيَّة: كمال الإخلاص والانقياد، والمتابعة للخبر والأمر، ظاهرًا وباطنًا).
3- كثرة الكلام:
من كثر كلامه كثر سقطه؛ وقد قال الله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].
ومن الكذب أن يحدث الإنسان بكلِّ ما يسمع من أحاديث وأخبار دون تحرير لها ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ((كفى بالمرء كذبًا أن يحدِّث بكلِّ ما سمع)). [رواه مسلم في المقدمة (باب النهي عن الحديث بكل ما سمع)].
4- مداهنة النفس:
الاسترسال مع النفس في أهوائها وشهواتها، ليست من صفات الصادقين؛ ولهذا قيل: (لا يشمُّ رائحة الصدق عبد داهن نفسه أو غيره). [((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/311)]. فكلما ألجمها بلجام المجاهدة، وزمَّها بزمام المراقبة والمحاسبة، ثبتت على الصدق قدمه.
5- التناقض بين القول والعمل:
لقد عدَّ بعض السلف مخالفة عمل المرء لقوله أمارة كذب ونفاق. قال إبراهيم التيمي: (ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبًا). [رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم قبل حديث (48)، ووصله ابن أبي شيبة (7/160) (34970)، واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (1580)].
رابعًا: الوسائل المعينة على الصدق
وإليك بعض الوسائل التي تعين على الصدق:
1- مراقبة الله تعالى:
إن إيمان المرء بأن الله عز وجل معه، يبصره ويسمعه؛ يدفعه للخشية والتحفظ، فإن ذلك يقوده إلى رياض الصدق في الأقوال والأعمال والأحوال.
2- الحياء:
الحياء يحجب صاحبه عن كل ما هو مستقبح شرعًا وعرفًا وذوقًا وسبق استحياء أبي سفيان من الكذب فالمسلم أولى
3- صحبة الصادقين:
4- إشاعة الصدق في الأسرة:
فعن عبد الله بن عامر قال: ((دعتني أمي يومًا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا، فقالت: تعال أعطك، فقال لها صلى الله عليه وسلم: ما أردت أن تعطيه؟ قالت: أردت أن أعطيه تمرًا، فقال لها: أما لو لم تعطه شيئًا كتبت عليك كذبة))[ ((صحيح أبي داود)) (4991)].
5- الدعاء:
قال عز وجل: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا. [الإسراء: 80] وقد ذكر المفسرون عدة أقوال في تأويلها.
6- معرفة وعيد الله للكذابين وعذابه للمفترين:
قد جاءت النصوص الكثيرة التي تحذر من الكذب، وتبين سوء عاقبته في الدنيا والآخرة؛ ولهذا فإنَّ تذكير النفس بها، مما يعين المرء على الصدق في أحواله كلها.
المسألة (الرابعة): نماذج في الصدق
(1): نماذج من حياة الأنبياء عليهم السلام مع الصدق
الأنبياء عليهم السلام كلهم موصوفون بالصدق، وقد ذكر الله أنبياءه بالصدق فقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم: 41] وقال سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا}[مريم: 56].
وأثنى الله على إسماعيل، فقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} مريم: 54.
وَوُصِفَ يوسف عليه السلام بالصدق حينما جاءه الرجل يستفتيه فقال: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} [يوسف: 46].
وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا [الإسراء: 80]، وقال تعالى: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ. [الزمر: 33]
قال السعدي في تفسير قوله: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ (أي: في قوله وعمله، فدخل في ذلك الأنبياء ومن قام مقامهم، ممن صدق فيما قاله عن خبر الله وأحكامه، وفيما فعله من خصال الصدق وَصَدَّقَ بِهِ أي: بالصدق؛ لأنه قد يجيء الإنسان بالصدق، ولكن قد لا يصدق به، بسبب استكباره، أو احتقاره لمن قاله وأتى به، فلا بد في المدح من الصدق والتصديق، فصدقه يدل على علمه وعدله، وتصديقه يدل على تواضعه وعدم استكباره)[ ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص 724)].
(2): صدق إمام الصادقين النبي صلى الله عليه وسلم
قال علي رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس صدرًا، وأصدقهم لهجة، وألينهم عريكة
[العريكة: الطبيعة. يقال: فلان ليِّن العريكة إذا كان سَلِسًا مُطَاوِعًا مُنْقَادًا قليل الخلاف والنُّفور. ((النهاية في غريب الحديث)) لابن الأثير (1/108)]،
وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة [ بَديهةً أي: مُفاجأة وبَغْتة، يعني من لَقِيه قبل الاختلاط به هابه لوقاره وسكونه، وإذا جالسه وخالطه بان له حسن خُلُقه. ((النهاية في غريب الحديث والثر)) لابن الأثير (1/108)] هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته: لم أرَ قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم)[رواه الترمذي باختلاف يسير في بعض ألفاظه (3638)، وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (11/513)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (2/148) (1415). قال الترمذي: حسن غريب ليس إسناده بمتصل، وقال ابن عبد البر في ((الاستذكار)) (7/336): من أحسن شيء في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وضعفه الألباني في ((ضعيف سنن الترمذي)) (3638)].
ويعلق ابن القيم على كلام عليٍّ قائلًا: (وقوله: أصدق الناس لهجة. هذا مما أقر له به أعداؤه المحاربون له، ولم يجرب عليه أحد من أعدائه كذبة واحدة قط، دع شهادة أوليائه كلهم له به، فقد حاربه أهل الأرض بأنواع المحاربات مشركوهم وأهل الكتاب منهم وليس أحد منهم يومًا من الدهر طعن فيه بكذبة واحدة صغيرة ولا كبيرة.
قال المسور بن مخرمة قلت لأبي جهل- وكان خالي-: يا خال، هل كنتم تتهمون محمدًا بالكذب قبل أن يقول مقالته؟ فقال: والله يا ابن أختي، لقد كان محمد وهو شاب يُدعى فينا الأمين، فلما وخطه الشيب لم يكن ليكذب. قلت: يا خال، فلم لا تتبعونه؟ فقال: يا ابن أختي، تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف، فأطعموا وأطعمنا، وسقوا وسقينا، وأجاروا وأجرنا، فلما تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان[أي: متساويين. ((تاج العروس)) للزبيدي (35/124)]، قالوا: منا نبي. فمتى نأتيهم بهذه؟ أو كما قال)[((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص 183)].
وقد روى البخاري من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: ((لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] صعِد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي- لبطون قريش- حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولًا؛ لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أنَّ خيلًا بالوادي تريد أن تُغير عليكم أكنتم مُصدقيَّ؟ قالوا: نعم، ما جرَّبنا عليك إلا صدقًا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [المسد: 1- 2]))[رواه البخاري (4770)].
(3): نماذج من صدق الصحابة رضي الله عنهم
أبو بكر الصديق رضي الله عنه:
أبو بكر الصديق رضي الله عنه صاحب النبي صلى الله عليه وسلم ورفيقه في الغار، وقد سُمِّي صديقًا لتصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى؛ أصبح يتحدث الناس بذلك؛ فارتدَّ ناس ممن كان آمنوا به وصدقوه، وسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أُسري به الليلة إلى بيت المقدس؟ قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم قال: لئن قال ذلك لقد صدق، قالوا: أو تصدقه أنَّه ذهب الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح؟ فقال: نعم، إني لأصدقه ما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء في غدوة أو روحة. فلذلك سُمِّي أبا بكر الصديق رضي الله عنه[رواه الحاكم (3/81) (4458)، وعبد الرزاق في ((المصنف)) (5/321)، والآجري في ((الشريعة)) (1030). وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (306): متواتر].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حقِّه: ((إنَّ الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت. في أول الأمر، وقال أبو بكر: صدقت. وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟! فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟! فما أوذي بعدها))[رواه البخاري (3661) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه].
أبو ذر رضي الله عنه صادق اللهجة:
كان أبو ذر رضي الله عنه صادق اللهجة [اللهجة: هي لغة الإنسان التي جُبِل عليها فاعتادها. ومعنى صادق اللهجة: أنه لا يذهب إلى التورية والمعاريض في الكلام، فلا يرخي عنان كلامه، ولا يحابي مع الناس ولا يسامحهم، ويظهر الحق البحت، والصدق المحض. انظر: ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (10/206)، ((معجم اللغة العربية المعاصرة)) (3/2041)]،
فقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء -لا الأرض ولا السماء- من ذي لهجة أصدق من أبي ذر، وهو شبيه عيسى ابن مريم)).
[رواه الترمذي (3802)، وابن حبان (16/76) (7132). قال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه. وصحح إسناده ابن جرير الطبري في ((مسند علي)) (159)، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (5537)].
كعب بن مالك رضي الله عنه ينجو بالصدق:[رواه البخاري (4418)، ومسلم (2769)].
وقد ذكر ابن القيم الفوائد المستنبطة من هذه القصة، فقال: (ومنها عظم مقدار الصدق، وتعليق سعادة الدنيا والآخرة والنجاة من شرهما به، فما أنجى الله من أنجاه إلا بالصدق، ولا أهلك من أهلكه إلا بالكذب، وقد أمر الله سبحانه عباده المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين، فقال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119] وقد قسم سبحانه الخلق إلى قسمين: سعداء، وأشقياء. فجعل السعداء هم أهل الصدق والتصديق، والأشقياء هم أهل الكذب والتكذيب، وهو تقسيم حاصر مطرد منعكس. فالسعادة دائرة مع الصدق والتصديق، والشقاوة دائرة مع الكذب والتكذيب. وأخبر سبحانه وتعالى: أنه لا ينفع العباد يوم القيامة إلا صدقهم. وجعل علم المنافقين الذي تميزوا به هو الكذب في أقوالهم وأفعالهم، فجميع ما نعاه عليهم أصله الكذب في القول والفعل، فالصدق بريد الإيمان، ودليله، ومركبه، وسائقه، وقائده، وحليته، ولباسه، بل هو لبه وروحه. والكذب بريد الكفر والنفاق، ودليله، ومركبه، وسائقه، وقائده، وحليته، ولباسه، ولبه، فمضادة الكذب للإيمان كمضادة الشرك للتوحيد، فلا يجتمع الكذب والإيمان إلا ويطرد أحدهما صاحبه، ويستقر موضعه، والله سبحانه أنجى الثلاثة بصدقهم، وأهلك غيرهم من المخلفين بكذبهم، فما أنعم الله على عبد بعد الإسلام بنعمة أفضل من الصدق الذي هو غذاء الإسلام وحياته، ولا ابتلاه ببلية أعظم من الكذب الذي هو مرض الإسلام وفساده)[((زاد المعاد)) لابن القيم (3/480)].
عبد الله بن جحش رضي الله عنه:
عن إسحاق بن سعد بن أبي وقاص قال: حدثني أبي ((أنَّ عبد الله بن جحش قال يوم أحد: ألا نأتي ندعو الله، فخلوا في ناحية فدعا سعد قال: يا رب، إذا لقينا القوم غدًا فلقني رجلًا شديدًا بأسه، شديدًا حرده، فأقاتله فيك ويقاتلني، ثم ارزقني عليه الظفر حتى أقتله وآخذ سَلَبه، فأمَّن عبد الله ابن جحش، ثم قال: اللهم ارزقني غدًا رجلًا شديدًا حرده، شديدًا بأسه، أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غدًا قلت: يا عبد الله، فيمَ جُدع أنفك وأذنك؟! فأقول: فيك وفي رسولك صلى الله عليه وسلم، فتقول: صدقت. قال سعد بن أبي وقاص: يا بني، كانت دعوة عبد الله بن جحش خيرًا من دعوتي، لقد رأيته آخر النهار، وإن أذنه وأنفه لمعلَّقان في خيط))[رواه الحاكم (2/86)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (12769)، وأبو نعيم في ((معرفة الصحابة)) (3/1607). قال الهيثمي في ((المجمع)) (9/304): رجاله رجال الصحيح. وصحح إسناده ابن حجر في ((فتح الباري)) (6/285)].
المسألة (الخامسة): معنى ما أضيف إلى الصدق من المدخل والمخرج واللسان والقدم والمقعد
ذكر ابن القيم معاني هذه الكلمات في كتابه (مدارج السالكين) فقال:
(وقد أمر الله تعالى رسوله: أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق، فقال: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا [الإسراء: 80].
– وأخبر عن خليله إبراهيم أنه سأله أنه يهب له لسان صدق في الآخرين، فقال: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء: 84].
– وبشر عباده بأن لهم عنده قدم صدق ومقعد صدق، فقال تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [يونس: 2].
– وقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 54-55].
فهذه خمسة أشياء: مدخل الصدق ومخرج الصدق ولسان الصدق وقدم الصدق ومقعد الصدق)[((مدارج السالكين)) (3/5)].
ثم بعد أن سرد الآيات قال: (وحقيقة الصدق في هذه الأشياء: هو الحق الثابت المتصل بالله الموصل إلى الله، وهو ما كان به وله من الأقوال والأعمال، وجزاء ذلك في الدنيا والآخرة.
– فمدخل الصدق ومخرج الصدق: أن يكون دخوله وخروجه حقًّا ثابتًا بالله وفي مرضاته، بالظفر بالبغية وحصول المطلوب، ضد مخرج الكذب ومدخله الذي لا غاية له يوصل إليها، ولا له ساق ثابتة يقوم عليها، كمخرج أعدائه يوم بدر، ومخرج الصدق كمخرجه هو وأصحابه في تلك الغزوة.
وكذلك مدخله صلى الله عليه وسلم المدينة: كان مدخل صدق بالله ولله وابتغاء مرضات الله، فاتصل به التأييد، والظفر، والنصر، وإدراك ما طلبه في الدنيا والآخرة، بخلاف مدخل الكذب الذي رام أعداؤه أن يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب، فإنه لم يكن بالله ولا لله، بل كان محادة لله ورسوله، فلم يتصل به إلا الخذلان والبوار.
وكذلك مدخل من دخل من اليهود المحاربين لرسول الله حصن بني قريظة، فإنه لما كان مدخل كذب: أصابه معهم ما أصابهم.
فكل مدخل معهم ومخرج كان بالله ولله، وصاحبه ضامن على الله فهو مدخل صدق ومخرج صدق.
وكان بعض السلف إذا خرج من داره، رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إني أعوذ بك أن أخرج مخرجًا لا أكون فيه ضامنًا عليك.
يريد: أن لا يكون المخرج مخرج صدق، ولذلك فسر مدخل الصدق ومخرجه: بخروجه من مكة ودخوله المدينة، ولا ريب أن هذا على سبيل التمثيل، فإن هذا المدخل والمخرج من أجل مداخله ومخارجه، وإلا فمداخله كلها مداخل صدق ومخارجه مخارج صدق، إذ هي لله وبالله وبأمره ولابتغاء مرضاته.
وما خرج أحد من بيته ودخل سوقه أو مدخلًا آخر إلا بصدق أو بكذب، فمخرج كل واحد ومدخله: لا يعدو الصدق والكذب، والله المستعان.
– وأما لسان الصدق: فهو الثناء الحسن عليه صلى الله عليه وسلم من سائر الأمم بالصدق، ليس ثناء بالكذب، كما قال عن إبراهيم وذريته من الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه: وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [مريم:50] والمراد باللسان هاهنا: الثناء الحسن، فلما كان الصدق باللسان وهو محله أطلق الله سبحانه ألسنة العباد بالثناء على الصادق جزاء وفاقًا، وعبر به عنه.
فإن اللسان يراد به ثلاثة معان: هذا واللغة كقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُم [إبراهيم: 4]. وقوله: وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُم [الروم: 22]. وقوله: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ. [النحل: 103] ويراد به الجارحة نفسها كقوله تعالى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة: 16].
– وأما قدم الصدق: ففسر بالجنة وفسر بمحمد وفسر بالأعمال الصالحة.
وحقيقة القدم ما قدموه وما يقدمون عليه يوم القيامة، وهم قدموا الأعمال والإيمان بمحمد، ويقدمون على الجنة التي هي جزاء ذلك.
فمن فسره بها أراد: ما يقدمون عليه، ومن فسره بالأعمال وبالنبي: فلأنهم قدموها وقدموا الإيمان به بين أيديهم، فالثلاثة قدم صدق.
– وأما مقعد الصدق: فهو الجنة عند الرب تبارك وتعالى.
ووصف ذلك كله بالصدق مستلزم ثبوته واستقراره، وأنه حق ودوامه ونفعه وكمال عائدته، فإنه متصل بالحق سبحانه كائن به وله، فهو صدق غير كذب، وحق غير باطل، ودائم غير زائل، ونافع غير ضار، وما للباطل ومتعلقاته إليه سبيل ولا مدخل)[((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/9)].
المسألة (السابعة): معنى الصِّدِّيقية:
الصِّدِّيقية: هي كمال الانقياد للرسول مع كمال الإخلاص للمرسل. [((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/8)].
وقال القرطبي: (الصديق هو الذي يحقق بفعله ما يقوله بلسانه).[((تفسير القرطبي)) (6/449)].
وقال ابن تيمية: (فالصِّدِّيق قد يراد به الكامل في الصدق، وقد يُراد به الكامل في التصديق).[((منهاج السنة)) لابن تيمية (4/266)].
وقال ابن العربي: (وأما الصِّدِّيق فهو من أسماء الكمال، ومعناه الذي صدَّق علمه بعمله). [((كتاب التعريفات الاعتقادية)) (ص 218)، نقلًا عن كتاب: ((قانون التأويل)) لابن العربي (ص343 )].
المسألة (الثامنة): الأمثال في الصدق
– قولهم: سُبَّنِي واصْدُق:
يقال ذلك في الحض على الصدق، والنهي عن الكذب، يقول: إني لا أبالي أن تسبني بما أعرفه من نفسي بعد أن تجانب الكذب. [((الأمثال)) لأبي عبيد بن سلام (ص46 )].
– لا يكذِب الرَّائدُ أهله:
والرائد هو الذي يقدمونه ليرتاد لهم كلأً أو منزلًا أو ماءً أو موضع حرز يلجؤون إليه من عدو يطالبهم، فإن كذبهم أو غرهم صار تدبيرهم على خلاف الصواب، فكانت فيه هلكتهم. [((الأمثال)) لأبي عبيد بن سلام (ص49 )].
– الصدق عزٌّ والكذب خضوع:
يضرب في مدح الصدق وذمِّ الكذب. [((مجمع الأمثال)) للميداني (ص 408)].
– إن الكذوب قد يصدق:
يقال في الرجل المعروف بالكذب تكون منه الصدقة الواحدة أحيانًا. [((الأمثال)) لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص50 )]. [انظر: موسوعة الأخلاق، بتصرف].
* * *
ثانيًا: معالم الكذب
وقد مر في الباب (تحريم الكذب وبيان ما يباح منه)، ذكر بعض ما يتعلق بأحكام الكذب، وتتميما لما سبق:
المسألة (الأولى): أقوال السلف والعلماء في الكذب
– قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لأن يضعني الصدق- وقلَّما يضع- أحبُّ إليَّ من أن يرفعني الكذب، وقلَّما يفعل). [((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (1/263)].
– وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (أعظم الخطايا الكذب، ومن يعفَّ يعفُ الله عنه)[ رواه أبو نعيم في ((الحلية)) (1/138)].
– وروي عنه أيضًا أنه قال: (الكذب لا يصلح منه جدٌّ ولا هزل)[رواه أحمد في ((المسند)) (3896)].
– وكان ابن عباس يقول: (الكذب فجور، والنَّمِيمَة سحرٌ، فمن كذب فقد فجر، ومن نمَّ فقد سحر)[((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (2/31)].
– وقال ابن عمر: (زعموا زاملة الكذب)[((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (2/32)].
– وقال الأحنف: (ما خان شريفٌ، ولا كذب عاقلٌ، ولا اغتاب مؤمنٌ. وكانوا يحلفون فيحنثون، ويقولون فلا يكذبون)[رواه الدينوري في ((المجالسة وجواهر العلم)) (1128)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (24/343)].
– وقال أيضًا: (اثنان لا يجتمعان أبدًا: الكذب والمروءة).[((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (2/32)].
– وقال ميمون بن ميمون: (من عُرف بالصدق جاز كذبه، ومن عُرف بالكذب لم يجز صدقه).[((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (2/33)].
– وقال ابن القيم: (إياك والكذب؛ فإنه يفسد عليك تصور المعلومات على ما هي عليه، ويفسد عليك تصويرها وتعليمها للناس). [((الفوائد)) (ص 135)].
المسألة (الثانية): آثار الكذب السيئة
1- الكذب يقرب البعيد، ويبعد القريب خلاف الواقع.
3- الكذب يذهب بالمروءة.
4- الكذب يعرض صاحبه للإهانة.
5- (الكاذب يصور المعدوم موجودًا، والموجود معدومًا. والحقَّ باطلًا، والباطل حقًّا، والخير شرًّا والشرَّ خيرًا، فيفسد عليه تصوره وعلمه عقوبة له، ثم يصور ذلك في نفس المخاطب)[((الفوائد)) (ص 135)].
6- الكذب يهدي إلى الفجور.
7- الكذاب لا تسكن القلوب إليه بل تنفر منه.
8- الكذاب لا يفلح أبدًا.
9- الكذب من علامات النفاق.
10- الكذاب توعده الله بجهنم.
المسألة (الثالثة): حُكم الكذب وما يُباح منه
قال النووي: (قد تظاهرتْ نصوصُ الكتاب والسنة على تحريم الكذب في الجملة، وهو من قبائح الذنوب وفواحش العيوب. وإجماعُ الأمة منعقدٌ على تحريمه مع النصوص المتظاهرة، فلا ضرورة إلى نقل أفرادها، وإنما المهمُّ بيان ما يُستثنى منه، والتنبيه على دقائقه)[ ((الأذكار)) (ص 377)].
ثم قال: (وقد ضبط العلماءُ ما يُباح منه. وأحسنُ ما رأيتُه في ضبطه، ما ذكرَه الإِمامُ أبو حامد الغزالي فقال: الكلامُ وسيلةٌ إلى المقاصد، فكلُّ مقصودٍ محمودٍ يُمكن التوصلُ إليه بالصدق والكذب جميعًا، فالكذبُ فيه حرامٌ؛ لعدم الحاجة إليه، وإن أمكنَ التوصل إليه بالكذب، ولم يمكن بالصدق، فالكذبُ فيه مباحٌ إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحًا، وواجبٌ إن كان المقصود واجبًا، فإذا اختفى مسلم من ظالم، وسأل عنه، وجبَ الكذبُ بإخفائه، وكذا لو كان عندَه أو عندَ غيره وديعة، وسأل عنها ظالمٌ يُريدُ أخذَها، وجبَ عليه الكذب بإخفائها، حتى لو أخبرَه بوديعةٍ عندَه فأخذَها الظالم قهرًا، وجبَ ضمانُها على المودع المخبر، ولو استحلفَه عليها، لزمَه أن يَحلفَ ويورِّي في يمينه، فإن حلفَ ولم يورِّ، حنثَ على الأصحِّ، وقيل: لا يحنثُ. وكذلك لو كان مقصودُ حَرْبٍ، أو إصلاحِ ذاتِ البين، أو استمالة قلب المجني عليه في العفو عن الجناية لا يحصل إلا بكذب، فالكذبُ ليس بحرام، وهذا إذا لم يحصل الغرضُ إلا بالكذب، والاحتياطُ في هذا كلِّه أن يورِّي، ومعنى التورية أن يقصدَ بعبارته مقصودًا صحيحًا ليس هو كاذبًا بالنسبة إليه، وإن كان كاذبًا في ظاهر اللفظ.
ولو لم يقصد هذا، بل أطلق عبارةَ الكذب، فليس بحرام في هذا الموضع.
قال أبو حامد الغزالي: وكذلك كلُّ ما ارتبط به غرضٌ مقصودٌ صحيح له أو لغيره، فالذي له، مثل أن يأخذَه ظالم، ويسألَه عن ماله ليأخذَه، فله أن ينكرَه، أو يسألَه السلطانُ عن فاحشةٍ بينَه وبينَ الله تعالى ارتكبَها، فله أن ينكرَها ويقول: ما زنيتُ، أو ما شربتُ مثلًا.
وقد اشتهرتِ الأحاديث بتلقين الذين أقرُّوا بالحدود الرجوع عن الإِقرار.
وأما غرضُ غيره، فمثل أن يُسأَل عن سرِّ أخيه فينكرَهُ ونحو ذلك، وينبغي أن يُقابِلَ بين مَفسدةِ الكذب والمفسدةِ المترتبة على الصدق، فإن كانت المفسدةُ في الصدق أشدَّ ضررًا، فله الكذبُ، وإن كان عكسُه، أو شكَّ، حَرُم عليه الكذب، ومتى جازَ الكذب، فإن كان المبيحُ غرضًا يتعلَّق بنفسه، فيستحبُّ أن لا يكذبَ، ومتى كان متعلقًا بغيره، لم تجزِ المسامحةُ بحقِّ غيره، والحزمُ تركه في كلِّ موضعٍ أُبيحَ، إلا إذا كان واجبًا)[((الأذكار)) (ص 377)، وانظر ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/137)].
وهذه بعض الحالات التي يباح فيها الكذب، وهي:
1- (في الحرب؛ لأنَّ الحرب خدعة، ومقتضياتها تستدعي التمويه على الأعداء، وإيهامهم بأشياء قد لا تكون موجودة، واستعمال أساليب الحرب النفسية ما أمكن، ولكن بصورة ذكية لبقة.
2- في الصلح بين المتخاصمين؛ حيث إنَّ ذلك يستدعي أحيانًا أن يحاول المصلح تبرير أعمال كل طرف وأقواله بما يحقق التقارب ويزيل أسباب الشقاق، وأحيانًا ينسب إلى كل من الأقوال الحسنة في حق صاحبه ما لم يقله، وينفي عنه بعض ما قاله؛ وهو ما يعوق الصلح ويزيد شقة الخلاف والخصام.
3- في الحياة الزوجية؛ حيث يحتاج الأمر أحيانًا إلى أن تكذب الزوجة على زوجها، أو يكذب الزوج على زوجته، ويخفي كل منهما عن الآخر ما من شأنه أن يوغر الصدور، أو يولد النفور، أو يثير الفتن والنزاع والشقاق بين الزوجين، كما يجوز أن يزف كل منهما للآخر من معسول القول ما يزيد الحب، ويسر النفس، ويجمل الحياة بينهما، وإن كان ما يقال كذبًا؛ لأن هذا الرباط الخطير يستحق أن يهتم به غاية الاهتمام، وأن يبذل الجهد الكافي ليظل قويًا جميلًا مثمرًا.
فعن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت من المهاجرات الأول اللاتي بايعن النَّبي صلى الله عليه وسلم أخبرته: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ((ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، ويقول خيرًا، وينمي خيرًا)). قال ابن شهاب: ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب، إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها[رواه البخاري (2692)، ومسلم (2605)].
المسألة (الرابعة): صور الكذب
للكذب صور كثيرة منها:
1- الكذب على الله تعالى ورسوله:
وهذا أعظم أنواع الكذب، (والكذب على الله نوعان:
النوع الأول أن يقول: قال الله كذا، وهو يكذب.
والنوع الثاني: أن يفسر كلام الله بغير ما أراد الله؛ لأن المقصود من الكلام معناه، فإذا قال: أراد الله بكذا كذا وكذا، فهو كاذب على الله، شاهد على الله بما لم يرده الله عزَّ وجلَّ، لكن الثاني إذا كان عن اجتهاد وأخطأ في تفسير الآية، فإنَّ الله تعالى يعفو عنه؛ لأنَّ الله قال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقال: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وأما إذا تعمَّد أن يفسِّر كلام الله بغير ما أراد الله، اتباعًا لهواه أو إرضاء لمصالح أو ما أشبه ذلك، فإنَّه كاذب على الله عزَّ وجلَّ). [((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (6/156) بتصرف].
وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام: 93].
(يقول تعالى: لا أحد أعظم ظلمًا، ولا أكبر جرمًا، ممن كذب على الله. بأن نسب إلى الله قولًا أو حكمًا، وهو تعالى بريء منه، وإنما كان هذا أظلم الخلق؛ لأنَّ فيه من الكذب، وتغيير الأديان أصولها، وفروعها، ونسبة ذلك إلى الله ما هو من أكبر المفاسد.
ويدخل في ذلك، ادعاء النبوة، وأنَّ الله يوحي إليه، وهو كاذب في ذلك، فإنه -مع كذبه على الله، وجرأته على عظمته وسلطانه يوجب على الخلق أن يتبعوه، ويجاهدهم على ذلك، ويستحل دماء من خالفه وأموالهم.
ويدخل في هذه الآية، كل من ادعى النبوة، كمسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، والمختار، وغيرهم ممن اتصف بهذا الوصف)[((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص 264)]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبًا مِنْ ثلاثين كلُّهم يزعم أنَّه رسول الله))[رواه البخاري (3609)].
قال الله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 60].
وقال سبحانه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [الأعراف: 37].
وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم ((من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار))[رواه البخاري (110)، ومسلم (3) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].
وقال: ((من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين))[رواه مسلم في باب وجوب الرواية عن الثقات، والترمذي (2662)، وابن ماجه (41)، وأحمد (4/255) (18266) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه].
(وأكثر الناس كذبًا على رسول الله هم الرافضة الشيعة، فإنه لا يوجد في طوائف أهل البدع أحد أكثر منهم كذبًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما نص على هذا علماء مصطلح الحديث رحمهم الله، لما تكلموا على الحديث الموضوع قالوا: إن أكثر من يكذب على الرسول هم الرافضة الشيعة، وهذا شيء مشاهد ومعروف لمن تتبع كتبهم)[((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (6/156-157)].
2- الكذب على الناس بادِّعاء الإيمان:
(كذب يظهر الإنسان فيه أنَّه من أهل الخير والصلاح، والتقى والإيمان، وهو ليس كذلك، بل هو من أهل الكفر والطغيان – والعياذ بالله – فهذا هو النفاق، النفاق الأكبر الذين قال الله فيهم: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ [البقرة: 8] لكنَّهم يقولون بألسنتهم، ويحلفون على الكذب وهم يعلمون، وشواهد ذلك في القرآن والسنة كثيرة، إنهم – أعني المنافقين أهل الكذب يكذبون على الناس في دعوى الإيمان وهم كاذبون، وانظر إلى قول الله تعالى في سورة (المنافقون) حيث صدر هذه السورة ببيان كذبهم حيث قال تعالى: إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون: 1] أكدوا هذه الجملة بكم مؤكد؟ بثلاثة مؤكدات، (نشهد) (إن) (اللام) ثلاثة مؤكدات، يؤكدون أنهم يشهدون أنَّ محمدًا رسول الله، فقال الله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون: 1] في قولهم (نشهد إنك لرسول الله) هذا أيضًا من أنواع الكذب، وهو أشدُّ أنواع الكذب على الناس؛ لأنَّ فاعله والعياذ بالله منافق)[((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (6/157)].
3- الكذب في الحديث بين الناس:
(الكذب في الحديث الجاري بين الناس يقول: قلت لفلان كذا. وهو لم يقله. قال فلان كذا. وهو لم يقله. جاء فلان. وهو لم يأت وهكذا، هذا أيضًا محرم ومن علامات النفاق، كما قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب))…)[((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (6/158)].
4- الكذب لإضحاك الناس:
روي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ويل للذي يحدث بالحديث، ليضحك به القوم فيكذب، ويل له، ويل له))[رواه أبو داود (4990)، والترمذي (2315)، وأحمد (5/5) (20067) من حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه. وحسنه الترمذي، والألباني في ((صحيح الترمذي))]..
قال المناوي في شرحه للحديث: (كرره إيذانًا بشدة هلكته؛ وذلك لأنَّ الكذب وحده رأس كلِّ مذموم، وجماع كلِّ فضيحة، فإذا انضم إليه استجلاب الضحك الذي يميت القلب، ويجلب النسيان، ويورث الرعونة كان أقبح القبائح، ومن ثم قال الحكماء: إيراد المضحكات على سبيل السخف نهاية القباحة)[((فيض القدير)) (6/368)].
قال ابن عثيمين: (وهذا يفعله بعض الناس ويسمونها النكت، يتكلم بكلام كذب ولكن من أجل أن يضحك الناس، هذا غلط، تكلم بكلام مباح من أجل أن تدخل السرور على قلوبهم، وأما الكلام الكذب فهو حرام)[((شرح رياض الصالحين)) (6/117)].
(والحكمة من هذا المنع أنَّه يجر إلى وضع أكاذيب ملفقة على أشخاص معينين، يؤذيهم الحديث عنهم، كما أنه يعطي ملكة التدرب على اصطناع الكذب، وإشاعته فيختلط في المجتمع الحق بالباطل، والباطل بالحق).
5- المبالغة في الإطراء والمدح:
(تمدح الناس مدرجة إلى الكذب، والمسلم يجب أن يحاذر حينما يثني على غيره، فلا يذكر إلا ما يعلم من خير، ولا يجنح إلى المبالغة في تضخيم المحامد، وطيِّ المثالب، ومهما كان الممدوح جديرًا بالثناء، فإنَّ المبالغة في إطرائه ضرب من الكذب المحرم)[((خلق المسلم)) للغزالي (ص 36)].
فعن المقداد رضي الله عنه، قال: ((أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثو في وجوه المداحين التراب))[رواه مسلم ( 3002)].
قال النووي: (اعلم أنَّ مدح الإنسان والثناء عليه بجميل صفاته قد يكون في حضور الممدوح، وقد يكون بغير حضوره، فأمَّا الذي في غير حضوره، فلا منع منه إلا أن يجازف المادح، ويدخل في الكذب، فيحرم عليه بسبب الكذب لا لكونه مدحًا، ويستحب هذا المدح الذي لا كذب فيه إذا ترتب عليه مصلحة، ولم يجرَّ إلى مفسدة، بأن يبلغ الممدوح فيفتتن به، أو غير ذلك)[((الأذكار)) للنووي (ص 276)].
6- كذب التاجر في بيان سلعته:
عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما: ((أن رجلًا أقام سلعة في السوق، فحلف فيها، لقد أعطى بها ما لم يعطه، ليوقع فيها رجلًا من المسلمين))، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً} [آل عمران: 77][رواه البخاري (4551)].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم: رجل حلف على سلعة لقد أعطي بها أكثر مما أعطي وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر؛ ليقتطع بها مال رجل مسلم…))[رواه البخاري (2369) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].
8- الكذب على الأولاد:
فكثيرًا ما يكذب الوالدان على أولادهما الصغار؛ رغبةً في التخلص منهم، أو تخويفًا لهم؛ كي يكفُّوا عن العبث واللعب، أو حفزًا لهم كي يجِدُّوا في أمر ما، أو غير ذلك[((الكذب مظاهره – علاجه)) لمحمد الحمد].
9- شهادة الزور:
(الحيف في الشهادة من أشنع الكذب، فالمسلم لا يبالي إذا قام بشهادة ما أن يقرر الحقَّ، ولو على أدنى الناس منه وأحبهم إليه، لا تميل به قرابة ولا عصبية، ولا تزيغه رغبة أو رهبة.
وتزكية المرشحين لمجالس الشورى، أو المناصب العامة، نوع من أنواع الشهادة فمن انتخب المغموط في كفايته وأمانته، فقد كذب وزوَّر، ولم يقم بالقسط)[((خلق المسلم)) للغزالي (ص 37)].
فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثًا، قلنا: بلى. قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس. وكان متكئًا فجلس، وقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور. فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت))[رواه البخاري (5976)، ومسلم (87)].
10- المبالغة في المعاريض:
لا ريب أنَّ في المعاريض مندوحةً عن الكذب، ولكن هناك من يبالغ في المعاريض، ويتوسَّع فيها توسُّعًا يخرجه عن طوره، ويجعله يدخل فيها ما ليس منها، فتجده يقلب الحقائق، وينال من الآخرين، ويُلبس عليهم، ويحصل على مآربه بالمراوغة والمخاتلة، مما يوقعه في الكذب، فَتُفْقَدُ الثقة به، وبحديثه[((الكذب مظاهره – علاجه)) لمحمد الحمد -بتصرف-].
المسألة (الخامسة): أسباب الوقوع في الكذب
(دوافع الكذب كثيرة، منها الخوف من النقد، والخوف من العقاب أو العتاب، ومنها إيثار المصلحة العاجلة، ومنها قلة مراقبة الله والخوفِ منه، ومنها اعتياد الكذب وإلفه، ومنها البيئة والمجتمع، ومنها سوء التربية إلى غير ذلك من دوافع الكذب)[((الكذب مظاهره – علاجه)) لمحمد الحمد -بتصرف-].
قال الماوردي: (وأما دواعي الكذب فمنها:
– اجتلاب النفع واستدفاع الضر، فيرى أن الكذب أسلم وأغنم، فيرخص لنفسه فيه اغترارًا بالخدع، واستشفافًا للطمع. وربما كان الكذب أبعد لما يؤمِّل، وأقرب لما يخاف؛ لأنَّ القبيح لا يكون حسنًا، والشر لا يصير خيرًا. وليس يجنى من الشوك العنب ولا من الكرم الحنظل…
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لأن يضعني الصدق وقلَّما يفعل، أحب إليَّ من أن يرفعني الكذب وقلَّما يفعل.
وقال بعض الحكماء: الصدق منجيك وإن خفته، والكذب مرديك وإن أمنته.
وقال الجاحظ: الصدق والوفاء توأمان، والصبر والحلم توأمان، فيهن تمام كلِّ دين، وصلاح كلِّ دنيا، وأضدادهنَّ سبب كلِّ فرقة، وأصل كلِّ فساد.
– ومنها: أن يؤثر أن يكون حديثه مستعذبًا وكلامه مستظرفًا، فلا يجد صدقًا يعذب ولا حديثًا يستظرف، فيستحلي الكذب الذي ليست غرائبه معوزة، ولا ظرائفه معجزة.
وهذا النوع أسوأ حالًا مما قبل؛ لأنه يصدر عن مهانة النفس، ودناءة الهمة.
وقد قال الجاحظ: لم يكذب أحد قط إلا لصغر قدر نفسه عنده.
وقال ابن المقفع: لا تتهاون بإرسال الكذبة من الهزل، فإنها تسرع إلى إبطال الحق.
– ومنها: أن يقصد بالكذب التشفي من عدوه، فيسمه بقبائح يخترعها عليه، ويصفه بفضائح ينسبها إليه.
ويرى أن معرة الكذب غنم، وأن إرسالها في العدو سهم وسم.
وهذا أسوأ حالًا من النوعين الأوَّلَين؛ لأنَّه قد جمع بين الكذب المعر، والشر المضر.
ولذلك ورد الشرع برد شهادة العدو على عدوه.
– ومنها: أن تكون دواعي الكذب قد ترادفت عليه حتى ألفها، فصار الكذب له عادة، ونفسه إليه منقادة، حتى لو رام مجانبة الكذب عسر عليه؛ لأنَّ العادة طبع ثان.
وقد قالت الحكماء: من استحلى رضاع الكذب عسر فطامه.
وقيل في منثور الحكم: لا يلزم الكذاب شيءٌ إلا غلب عليه)[((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص 264)].
المسألة (السادسة): أخطاء شائعة في الكذب
1- من الأخطاء الشائعة في الكذب:كذبة إبريل.
2- من الأخطاء الشائعة في الكذب: الكذب الأبيض والأسود.
1- من الأخطاء الشائعة في الكذب: كذبة إبريل
يقوم بعض الناس في الدول الغربية في اليوم الأول من شهر إبريل بإطلاق الأكاذيب، وقلدهم في ذلك بعض المسلمين، ويُطلقون على من يُصدِّق هذه الأكاذيب اسم ضحية كذبة إبريل.
ويقصدون بفعلهم هذا المزاح، ولا شك أن هذا من الكذب الحرام، ويضاف إليه أنه من التشبه بالكفار، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من تشبه بقوم فهو منهم))[رواه أبو داود (4031)، وأحمد (2/50) (5114) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ورواه الطبراني في ((الأوسط)) (8/179) (8327) من حديث حذيفة رضي الله عنه، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (6149)].
قال ابن عثيمين: (أُحذِّر إخواني المسلمين مما يصنعه بعض السفهاء من كذبة إبريل، هذه الكذبة التي تلقوها عن اليهود، والنصارى، والمجوس، وأصحاب الكفر، فهي مع كونها كذبٌ، والكذب محرم شرعًا؛ ففيها تشبه بغير المسلمين، والتشبه بغير المسلمين محرم، وقد قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((من تشبه بقومٍ فهو منهم)) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إسناده جيد، وأقل أحواله التحريم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، وهي مع تضمنها لهذين المحظورين فيها إذلالٌ للمسلم أمام عدوه؛ لأنَّ من المعلوم بطبيعة البشر أن المقلد يفخر على من قلده، ويرى أنه أقدر منه، ولذلك ضعف مقلده حتى قلده فهي فيها إذلالٌ للمؤمن بكونه ذليلًا، وتبعًا للكفار، المحظور الرابع: أن غالب هذه الكذبة الخبيثة تتضمن أكلًا للمال بالباطل، أو ترويعًا للمسلم، فإنه ربما يكذب فيكلم أهل البيت ويقول: إن فلانًا يقول: ترى عندنا جماعة اليوم فيطبخون غداءً كثيرًا ولحمًا وما أشبه ذلك، أو ربما يخبرهم بأمرٍ يروعهم، كأن يقول: قيِّمكم دعسته سيارة. وما أشبه ذلك من الأمور التي لا تجوز بدون أن تكون بهذه الحال، فعلى المسلم أن يتقي الله سبحانه وتعالى وأن يكون عزيزًا بدينه فخورًا به)[((الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين))].
2- من الأخطاء الشائعة في الكذب: الكذب الأبيض والأسود
يظن بعض الناس أن هناك كذبًا أبيض وهو حلال، وكذبًا أسود وهو حرام، والأمر ليس كذلك، فالكذب كله حرام، قال ابن عثيمين: (والكذب حرام وكلما كانت آثاره أسوأ، كان أشد إثمًا، وليس في الكذب شيء حلالًا وأما ما ادعاه بعض العامة، حيث يقولون: إن الكذب نوعان: أسود، وأبيض، فالحرام هو الأسود، والحلال هو الأبيض، فجوابه: أن الكذب كله أسود، ليس فيه شيء أبيض، لكن يتضاعف إثمه بحسب ما يترتب عليه، فإذا كان يترتب عليه أكل مال المسلم أو غرر على مسلم صار أشد إثمًا، وإذا كان لا يترتب عليه أي شيء من الأضرار فإنه أخف ولكنه حرام)[((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/570)].
المسألة (السابعة): علامات تدل على الكذاب
قال ابن أبي الدنيا: (واعلم أن للكذاب قبل خبرته أمارات دالة عليه.
فمنها: أنك إذا لقَّنته الحديث تَلَقَّنَه، ولم يكن بين ما لقنته وبين ما أورده فرق عنده.
ومنها: أنك إذا شككته فيه تشكَّك حتى يكاد يرجع فيه، ولولاك ما تخالجه الشك فيه.
ومنها: أنك إذا رددت عليه قوله حصر وارتبك، ولم يكن عنده نصرة المحتجين، ولا برهان الصادقين. ولذلك قال علي بن أبي طالب: الكذاب كالسراب.
ومنها: ما يظهر عليه من ريبة الكذابين وينم عليه من ذلة المتوهمين؛ لأنَّ هذه أمور لا يمكن الإنسان دفعها عن نفسه؛ لما في الطبع من آثارها. ولذلك قالت الحكماء: العينان أنم من اللسان. وقال بعض البلغاء: الوجوه مرايا تريك أسرار البرايا.
وقال بعض الشعراء:
تريك أعينهم ما في صدورهم إنَّ العيون يؤدي سرَّها النظر
وإذا اتسم بالكذب نسبت إليه شوارد الكذب المجهولة، وأضيفت إلى أكاذيبه زيادات مفتعلة، حتى يصير الكاذب مكذوبًا عليه، فيجمع بين معرة الكذب منه ومضرة الكذب عليه)[((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (264-265)].
المسألة (الثامنة): ما قيل في المعاريض
عن عمران بن حصين أنه قال: (إنَّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب)[رواه البخاري في ((الأدب المفرد)) (857)، وابن أبي شيبة (5/282) (26096)، والطحاوي في ((شرح المشكل)) (7/370) (2924). صحح وقفه الألباني في صحيح ((الأدب المفرد)) (662)].
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ما في المعاريض ما يغنى الرجل عن الكذب)[رواه البيهقي في ((السنن الكبرى)) (10/335) (20841)].
(والمعاريض: أن يريد الرجل أن يتكلم الرجل بالكلام الذي إن صرح به كان كذبًا، فيعارضه بكلام آخر يوافق ذلك الكلام في اللفظ، ويخالفه في المعنى، فيتوهم السامع أنَّه أراد ذلك)[((غريب الحديث)) لأبي عبيد (4/287)].
قال النووي: (اعلم أنَّ هذا الباب من أهم الأبواب، فإنه مما يكثر استعماله، وتعم به البلوى، فينبغي لنا أن نعتني بتحقيقه، وينبغي للواقف عليه أن يتأمله ويعمل به)[((الأذكار)) (ص 380)].
وقال أيضًا: (واعلم أن التورية والتعريض معناهما: أن تطلق لفظًا هو ظاهر في معنى، وتريد به معنى آخر يتناوله ذلك اللفظ، لكنه خلاف ظاهره، وهذا ضرب من التغرير والخداع.
قال العلماء: فإن دعت إلى ذلك مصلحة شرعية راجحة على خداع المخاطب، أو حاجة لا مندوحة عنها إلا بالكذب، فلا بأس بالتعريض، وإن لم يكن شيء من ذلك فهو مكروه وليس بحرام، إلا أن يتوصل به إلى أخذ باطل أو دفع حقٍّ، فيصير حينئذ حرامًا، هذا ضابط الباب)[((الأذكار)) (ص 380)].
أمثلة للمعاريض:
(لما هَزم الحجاجُ عبدَ الرحمن بن الأشعث وقتَل أصحابَه وأسرَ بعضهم، كتب إليه عبدُ الملك بن مَرْوان أن يَعْرِض الأسرى على السيف، فمَن أقرَّ منهم بالكفر خلَّى سبيلَه، ومَن أبَى يَقْتله، فأُتي منهم بعامر الشعبي، ومطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير وسعيد بن جُبَير؟ فأمَّا الشعبي ومطرِّف فذَهبا إلى التعريض والكناية، ولم يُصرِّحا بالكفر، فَقبِل كلامهما وعفا عنهما؟ وأمَّا سعيد ابن جُبير فأبى ذلك فقتل.
وكان مما عرَّض به الشعبي، فقال: أَصلح الله الأمير، نَبا المنزل، وأَحْزَن بنا الجَناب، واستَحلَسْنا الخوفَ، واكتَحلنا السهرَ، وخَبطتنا فتنةٌ لم نكن فيها برَرَة أتقياء، ولا فَجَرة أقوياء. قال: صدقَ والله، ما بَرُّوا بخروجهم علينا ولا قَوُوا. خَلِّيا عنه.
ثم قُدِّم إليه مُطرِّف بن عبد الله، فقال له الحجَّاج: أَتُقِرُّ على نفسِك بالكفر؟ قال: إنَّ مَن شقَّ العصا، وسَفَك الدماء، ونكث الـبَيْعة، وأخاف المسلمين لجديرٌ بالكفر. قال: خلِّيا عنه. ثمّ قُدِّم إليه سعيد بن جُبير، فقال له: أتقِرُّ على نفسك بالكُفر؟ قال: ما كفرتُ بالله مذ آمنت به؟ قال: اضربوا عُنقه)[((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/297)].
وقال النخعي: (إذا بلغ الرجل عنك شيء قلته فقل: الله يعلم ما قلت من ذلك من شيء. فيتوهم السامع النفي، ومقصودك الله يعلم الذي قلته)[((الأذكار)) للنووي (ص 381)].
(وكان النخعي إذا طلبه رجل قال للجارية: قولي له اطلبه في المسجد.
وقال غيره: خرج أبي في وقت قبل هذا.
وكان الشعبي يخط دائرة ويقول للجارية: ضعي أصبعك فيها، وقولي: ليس هو هاهنا)[((الأذكار)) للنووي (ص 381)].
المسألة (التاسعة): حِكم وأمثال في الكذب
– (إنَّ الكَذُوب قد يَصْدُق:
يقال في الرجل المعروف بالكذب تكون منه الصدقة الواحدة أحيانًا)[((الأمثال)) لأبي عبيد بن سلام (ص 50)].
– (جاء بالحَظِر الرطب: إذا جاء بكثرة الكذب)[((جمهرة الأمثال)) لأبي هلال العسكري (1/314)].
[الحظِر: الشجر المحتظر به، وقيل: الشوك الرطب. ((المحكم والمحيط الأعظم)) لابن سيده (3/282)، ((جمهرة اللغة)) (3/1288)]
– (عند النوى يكذبك الصادق:
قالوا: يضرب مثلًا للرجل يُعرف بالصدق ثم يحتاج إلى الكذب)[((جمهرة الأمثال)) لأبي هلال العسكري (2/35)].
– (أكذب من دبَّ ودرَج:
أي: أكذب الكبار والصغار، دبَّ؛ لضعف الكِبر، ودرج؛ لضعف الصغر، وقيل: بل معناه: أكذب الأحياء والأموات. والدبيب: للحي، والدروج: للميت يقال: درج القوم. إذا انقرضوا)[((مجمع الأمثال)) للميداني (2/167)].
ما قيل في الحكم:
– (قيل في منثور الحكم: الكذاب لصٌّ؛ لأنَّ اللص يسرق مالك، والكذاب يسرق عقلك.
– وقال بعض البلغاء: الصادق مصان خليل، والكاذب مهان ذليل)[((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص 261)].
– (وقيل لكذوب: أصدقت قط؟ قال: أكره أن أقول لا فأصدق)[((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (2/31)].
– (ويقال: الأذلاء أربعة: النمام، والكذاب، والمدين، والفقير)[((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (2/32)].
الألفاظ المرادفة للكذب:
من الألفاظ المرادفة للكذب: (الميْن، والزُّور، والتَّخرُّص، والإفك، والباطل، والخطل، والفند، والتَّزيَّد، واللفت، والانتحال، والبَهت)[((الألفاظ المترادفة)) لأبي الحسن الرماني (ص 61)].
المسألة (العاشرة):
ذم الكذب في واحة الشعر
قال الشاعر:
لا يكذبُ المرءُ إِلا من مهانتِه أو عادةِ السوءِ أو من قلةِ الأدبِ
لَبعضُ جيفةِ كلبٍ خيرُ رائحةٍ من كذبةِ المرءِ في جدٍّ وفي لعبِ [((المستطرف)) للأبشيهي (ص 258)]
وقال آخر:
لا عُذْرَ للسيدِ حين يكذبُ إِذ ليس يرجو أحدًا أو يرهبُ
وليس معذورًا إِذا ما يغضَبُ إِذا العقابُ عندَه لا يصعبُ [((مجمع الحكم والأمثال)) لأحمد قبش (ص 430)]
وقال آخر:
الكذبُ عارٌ وخيرُ القولِ أصدقُهُ والحقُّ ما مسَّه مِن باطلٍ زهقا [((الظرف والظرفاء)) لأبي الطيب الوشاء (ص 42)]
وقال آخر:
الكذبُ راقَكَ أنه متجملٌ والصدقُ ساءكَ أنه عريانُ
من ساءَ من مرضٍ عضالٍ طبعهُ يستقبحُ الأيامَ وهي حسانُ [((مجمع الحكم والأمثال)) لأحمد قبش (ص 431)]
وقال آخر:
الكذبُ مرديك وإن لم تخفْ والصدقُ منجيك على كلِّ حالِ
فانطقْ بما شئتَ تجدْ غبَّه لم تُبتخسْ وزنة مثقالِ [((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 52)]
وقال آخر:
إِنَّ الكريمَ إِذا ما كانَ ذا كذبٍ شانَ التكرمَ منه ذلكَ الكذبُ
الصدقُ أفضلُ شيءٍ أنت فاعلهُ لا شيءَ كالصدقِ لا فخرٌ ولا حسبُ [((الحماسة البصرية)) لأبي الحسن البصري (2/78)]
وقال آخر:
إِذا عُرِف الكذابُ بالكذبِ لم يزلْ لدى الناسِ كذابًا وإِن كان صادقًا
ومن آفةِ الكذابِ نسيانُ كذبِهِ وتلقاهُ ذا ذهنٍ إذا كان حاذقًا [((غرر الخصائص الواضحة)) لأبي إسحاق الوطواط (ص 70)]. [انظر: موسوعة الأخلاق، بتصرف].