6713 الفوائد المنتقاة في شرح مسلم
مجموعة: إبراهيم البلوشي وأبي عيسى البلوشي ، وعبدالله المشجري.
ومجموعة : طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، وخميس العميمي. وغيرهم
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
صحيح مسلم، صحيح مسلم، بَابُ فِي فَضْلِ الْحُبِّ فِي اللَّهِ
6713 – حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ، الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرٍ عَنْ أَبِي الْحُبَابِ، سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلاَلِي، الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلِّي)).
6714 – حَدَّثَنِي عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ((أَنَّ رَجُلاً زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ، قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ. قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا ؟ قَالَ: لاَ، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ، بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ)).
6715 – قَالَ الشَّيْخُ أَبُو أَحْمَدَ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ، مُحَمَّدُ بْنُ زَنْجُويَهْ الْقُشَيْرِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ، الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ .
==========
التمهيد:
” الحب الميل إلى الشيء، وهو نوعان: جبلي، يغرسه الله في القلب بأسباب أو بدون أسباب، فيحس صاحبه بميل لا سلطان له على دفعه، ولا على الحد منه.
والنوع الثاني: مكتسب، بتناول أسبابه وتوافر دواعيه، فحسن الصورة، وجمال الصوت، وحسن المعاملة، والصلاح، والنفع، ورفع الضر، كل ذلك من أسبابه غالبا.
فحب الصالحين حب مكتسب ناشئ من حب الصلاح نفسه. وإذا كان حب الصالحين حبا لصلاحهم كان حبا لله تعالى وحبا لطاعاته، وحب المسلم لله يؤدي إلى حب الله للمسلم وإكرامه له، ففي الحديث القدسي: ((من تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، ولئن سألني لأجيبنه)) وفي السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه)”.[فتح المنعم]
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته: ( إن الله يقول يوم القيامة) أي في الموقف العظيم يوم القيامة فيوم القيامة أطوار وأحوال
( أين المتحابون بجلالي) الاستفهام نداء لهم وليس استفهاما عن مكانهم فهو أعلم بهم، و[سؤال الله تعالى عن المتحابين مع علمه بمكانهم، لينادي بفضلهم في ذلك الموقف].
(أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى) المراد من الأخوة أخوة الدين إذ لم يذكر بينه وبين الآخر نسبا، بل حصر دافع الزيارة في الحب في الله، وذكر القرية الأخرى لبيان المشقة والتحمل في هذه الزيارة.
(فأرصد لله على مدرجته ملكا) معنى أرصد أقعد يقال رصده بفتح الصاد يرصده بضمها رصدا بفتحها وسكونها قعد له على الطريق، والمدرج المسلك والمدرجة ممر الأشياء على الطريق وتطلق على الطريق يقال اتخذوا داره مدرجة.
( فلما أتى عليه) فاعل أتى للزائر، وضمير عليه للملك، فلما مر الزائر على الملك القاعد قال الملك:
( قال هل لك عليه من نعمة تربها) يقال رب الشيء بفتح الراء والباء المشددة يربه بضم الراء ربا أي تولاه وتعهده بما ينميه ويصلحه، والمراد من النعمة ما يحتاج إلى التعهد من الأموال كالأرض والحيوان والآلات، وعليه بمعنى عنده أي هل لك عنده من عمل تقوم به وتصلحه
وفي بعض النسخ هل له عليك من نعمة تربها أي هل له عليك يد وفضل تقوم بشكره عليها ورد جميله بزيارته
( قال لا غير أني أحببته في الله عز وجل) أي ليس بيني وبينه مصلحة إلا المودة لله وفي الله
( قال فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه) إذ أفصحت عن قصدك فإني أقوم بتبليغك رسالة ربي إليك وهي إن الله قد أحبك لحبك أخاك في الله.
فوائد الحديث:
1- في هذا الحديث فضل المحبة في الله تعالى.
2- وأنها سبب لحب الله تعالى العبد وإكرامه.
3- وفيه فضيلة زيارة الصالحين والأصحاب.
4- وفيه أن الآدميين قد يرون الملائكة، أقول في صورة غير صورتهم الحقيقية، بل يرونهم في صورة بشر مثلا كما كان جبريل يراه الصحابة في صورة دحية الكلبي أو أعرابي.
هذا وقد سبق كثير من مسائل هذا الباب في كتاب الإيمان في حديث ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، وفيه وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله ومما ذكرناه هناك.
حب المرء أخاه لله، معناه: حب من يحبه الله، لا لشيء إلا للصلة بالله، فكأنه من لوازم حب الإنسان لله.
وظاهر من هذا أن المراد بالأخ المحبوب الأخ المسلم الصالح، فإن الفاسق والكافر ينبغي أن يبغضا في الله؛ مصداقا لقوله تعالى: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا ءاباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم} [المجادلة 22] والله أعلم. [فتح المنعم، بتصرف]
==
وقد سبق الكلام حول مسائل هذا الحديث في شرحنا للصحيح المسند (ج2/ رقم 1110): فلننقلها مع إضافات ونقولات أخرى :
قال الإمام أحمد رحمه الله : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي مَرْزُوقٍ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ قَالَ : أَتَيْتُ مَسْجِدَ أَهْلِ دِمَشْقَ، فَإِذَا حَلْقَةٌ فِيهَا كُهُولٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا شَابٌّ فِيهِمْ أَكْحَلُ الْعَيْنِ بَرَّاقُ الثَّنَايَا كُلَّمَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ رَدُّوهُ إِلَى الْفَتَى – فَتًى شَابٌّ -، قَالَ : قُلْتُ لِجَلِيسٍ لِي : مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : هَذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ. قَالَ: فَجِئْتُ مِنَ الْعَشِيِّ فَلَمْ يَحْضُرُوا. قَالَ : فَغَدَوْتُ مِنَ الْغَدِ. قَالَ: فَلَمْ يَجِيئُوا فَرُحْتُ فَإِذَا أَنَا بِالشَّابِّ يُصَلِّي إِلَى سَارِيَةٍ، فَرَكَعْتُ، ثُمَّ تَحَوَّلْتُ إِلَيْهِ . قَالَ: فَسَلَّمَ فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَقُلْتُ : إِنِّي لَأُحِبُّكَ فِي اللَّهِ . قَالَ : فَمَدَّنِي إِلَيْهِ . قَالَ : كَيْفَ قُلْتَ ؟ قُلْتُ: إِنِّي لَأُحِبُّكَ فِي اللَّهِ . قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ((الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ)). قَالَ : فَخَرَجْتُ حَتَّى لَقِيتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ رضي الله عنه، فَذَكَرْتُ لَهُ حَدِيثَ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه، فَقَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ، يَقُولُ : ((حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ ، وَالْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ)). حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْعَبَّاسِ ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمَلِيحِ ، حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي مَرْزُوقٍ ، عَنْ عَطَاءٍ ، حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ قَالَ : دَخَلْتُ مَسْجِدَ حِمْصَ فَإِذَا حَلْقَةٌ فِيهَا اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِمْ فَتًى شَابٌّ أَكْحَلُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
هذا حديث حسن .
* قال الترمذي رحمه الله : حدثنا أحمد بن منيع حدثنا كثير بن هشام حدثنا جعفر بن برقان حدثنا حبيب بن أبي مرزوق عن عطاء بن أبي رباح عن أبي مسلم الخولاني حدثني معاذ بن جبل قال
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله عز وجل: ((المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء)).
قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وأبو مسلم الخولاني اسمه عبد الله بن ثوب.
قال أبو عبدالرحمن: هذا حديث صحيح.
سبق الحديث في الصحيح المسند (540): قال الإمام أحمد (ج5 ص236) حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا وكيع حدثنا جعفر بن برقان عن حبيب بن أبي مرزوق عن عطاء بن أبي رباح عن أبي مسلم الخولاني قال أتيت مسجد أهل دمشق ….
والحديث سيكون من وجوه:
الوجه الأول: شرح وفقه الحديث.
” مِن الصِّفاتِ العَظيمةِ الَّتي تُرضِي اللهَ المحبَّةُ فيه، والمحبَّةُ في اللهِ تَكونُ خالِصةً مِن الأغْراضِ الدُّنيَويَّةِ، فهي تَكونُ لِوَجهِ اللهِ تَعالى.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ التَّابعيُّ أبو إدْريسَ الخَوْلانيُّ: ” أَتَيْتُ مَسْجِدَ أَهْلِ دِمَشْقَ ” فالشام يُقصَدُ بها البِلادُ المَعْروفةُ الآنَ، وهي الَّتي تقَعُ إلى الشَّمالِ مِن الجزيرةِ العربيَّةِ، وتضمُّ سُوريَةَ والأُرْدُنَّ وفِلَسطينَ ولُبنانَ. ودِمَشقُ المَذْكورةُ تقَعُ بالأراضي السُّوريَّةِ، ” فَإِذَا حَلْقَةٌ فِيهَا كُهُولٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا شَابٌّ فِيهِمْ أَكْحَلُ الْعَيْنِ بَرَّاقُ الثَّنَايَا ” شَديدِ أبيَضِ الثَّغْرِ، وقيلَ مَعْناهُ: كَثيرُ التَّبسُّمِ، طَلْقُ الوَجهِ، وإذا النَّاسُ حَولَهُ، ” كُلَّمَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ رَدُّوهُ إِلَى الْفَتَى – فَتًى شَابٌّ -” يَرجِعونَ لِرَأيِهِ ومَشورَتِهِ، ورَجَعوا عن خِلافِهِم، واتَّبَعوا رَأيَهُ، في رواية: “فسَأَلتُ عنه” يَستَعلِمُ مَن هو؟ “فقيلَ: هذا مُعاذُ بنُ جَبَلٍ، قَالَ: فَجِئْتُ مِنَ الْعَشِيِّ فَلَمْ يَحْضُرُوا. قَالَ : فَغَدَوْتُ مِنَ الْغَدِ”. وفي رواية: “فلمَّا كان الغَدُ هجَّرتُ، فوَجَدتُهُ قد سَبَقَني بالهَجيرِ -وقال إسْحاقُ: بالتَّهْجيرِ-“، ومَعْنى ذلِكَ أنَّه وَقتٌ يَبعُدُ عن صَلاةِ فَرضٍ قَبلَهُ، ووَقتُ نَومِ النَّاسِ غالِبًا؛ فالمُرادُ بالهَجيرِ: التَّبكيرُ إلى الصَّلاةِ أيَّ صَلاةٍ كانت، ” قَالَ: فَلَمْ يَجِيئُوا فَرُحْتُ فَإِذَا أَنَا بِالشَّابِّ يُصَلِّي ” نَفْلًا ” إِلَى سَارِيَةٍ، فَرَكَعْتُ، ثُمَّ تَحَوَّلْتُ إِلَيْهِ”، في رواية: “فانتَظَرتُهُ حتى إذا قَضى صَلاتَهُ جِئتُهُ من قِبَلِ وَجهِهِ” من أمامِهِ، ” قَالَ: فَسَلَّمَ فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَقُلْتُ : إِنِّي لَأُحِبُّكَ فِي اللَّهِ . قَالَ : فَمَدَّنِي إِلَيْهِ . قَالَ : كَيْفَ قُلْتَ ؟ قُلْتُ: إِنِّي لَأُحِبُّكَ فِي اللَّهِ” كُلُّ هذا يَتحقَّقُ مُعاذٌ رضِيَ اللهُ عنه ويتأكَّدُ من قَولِهِ، وأنَّ حُبَّه له إنَّما هو للهِ، وفي رواية: “فأخَذَ بحَبْوةِ رِدائي فجَبَذني إليه وقال: أبْشِرْ ” شدَّهُ نَحوَهُ من وَسَطِ ثَوبِهِ ومَعقِدِهِ، ” قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ”. وفي رواية: “فإنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: وَجَبَتْ مَحَبَّتي” حقَّتْ مَحَبَّةُ الله
ِ 1 – “للمُتَحابِّينَ فيَّ”، وهُم الَّذين كانتْ قُلوبُهم مُجتمِعةً على المَحبَّةِ في إجْلالِ اللهِ وتَعْظيمِهِ، فلا يُحِبُّون إلَّا ما يُحِبُّه اللهُ، ويُبغِضونَ ما يُبغِضُهُ اللهُ،
2 – “والمُتَجالِسينَ فيَّ”، وهُم الَّذين اجتَمَعوا على ذِكْرِهِ وعِبادَتِهِ،
3 – “والمُتَزاوِرينَ فيَّ”، وهُم الَّذين يَزورُ بعضُهُم بَعضًا لِصِلةِ رَحِمٍ وعِيادةِ مَريضٍ ونَحوِهِ، زيارةً خالِصةً لِوَجهِ اللهِ،
4 – “والمُتَباذِلينَ فيَّ” وهُم الَّذين بَذَلوا أنفُسَهم، وأنْفَقوا أمْوالَهم فيما أمَرَ اللهُ عزَّ وجلَّ وحَضَّ عليه؛ فكلُّ هؤلاءِ ثَبَتَتْ لهم مَحَبَّةُ اللهِ عزَّ وجلَّ”.
الوجه الثاني: الفوائد:- “وفي الحَديثِ:
فيه: الحَثُّ على التَّحابِّ والتَّزاوُرِ وبَذْلِ النَّفْسِ والمالِ للهِ عزَّ وجلَّ.-
وفيه: البشاشةُ عِندَ اللِّقاءِ، والتبشيرُ بالخَيرِ وفضائِلِ الأعمالِ”
.- وفي الحديث ذكر بعض أسباب نيل محبة الله جل وعز، وعلى العبد أن يسع للعمل بما ورد في النصوص مما يوصل إلى الكمال في ذلك.
——-
الوجه الثالث: من حقوق المحبة في الله تعالى:
أولاً: الحب والمناصرة والتأييد والمؤازرة ومحبة الخير لهم، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” متفق عليه: البخاري (13)، ومسلم (45).
ثانياً: التواصي بالحق والصبر وأداء النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتبيين الطريق له، وإعانته على الخير ودفعه إليه، يقول -تعالى-: “والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر”[العصر: 1-3]، ويقول -تعالى-: “والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر”(التوبة: 71).
ثالثاً: القيام بالأمور التي تدعو إلى التوادد وزيادة الصلة، وأداء الحقوق، قال -عليه الصلاة والسلام-: “حٌَق المُسلِمِ عَلَى المُسلِمِ سِتُّ: قِيلَ مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّم عَلَيهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبهُ، وَإِذَا استَنصَحَكَ فَانصَح لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَسَمِّتهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعهُ”رواه مسلم(2162).
رابعاً: من حقوق المسلم على المسلم: لين الجانب، وصفاء السريرة، وطلاقة الوجه، والتبسط في الحديث، قال -عليه الصلاة والسلام-: “لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق”رواه مسلم (2626).
واحرص على نبذ الفرقة والاختلاف. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولو كان كل ما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا، لم يبق بين المسلمين عصمةٌ ولا أخوة).
خامساً: من حقوق المسلم على المسلم: دلالته على الخير، وإعانته على الطاعة، وتحذيره من المعاصي والمنكرات، وردعه عن الظلم والعدوان، قال -صلى الله عليه وسلم-: “ليَنصُر الرَّجُلُ أَخَاهُ ظَالِمًا أَو مَظلُومًا إِن كَانَ ظَالِمًا فَليَنهَهُ فَإِنَّهُ لَهُ نَصرٌ، وَإِن كَانَ مَظلُومًا فَليَنصُرهُ”رواه مسلم (2584).
ب
سادساً: وتكتمل المحبة بين المؤمنين في صورة عجيبة ومحبة صادقة عندما يكونان متباعدين، وكل منهما يدعو للآخر بظهر الغيب في الحياة وبعد الممات، قال -صلى الله عليه وسلم-: “دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير قال الملك المُوكل به: آمين ولك بمثل” رواه مسلم (2733).
سابعاً: تلمس المعاذير لأخيك المسلم، والذب عن عرضه في المجالس، وعدم غيبته أو الاستهزاء به، وحفظ سره، والنصيحة له إذا استنصح لك، وعدم ترويعه وإيذائه بأي نوع من أنواع الأذى، قال -صلى الله عليه وسلم-: “لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً”رواه أحمد (23064)، وأبو داود (5004). وهو في الصحيح المسند 1456
ثامناً: تقديم الهدية والحرص على أن تكون مفيدة ونافعة، مثل إهداء الكتاب الإسلامي، أو الشريط النافع، أو مسواك أو غيره، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبل الهدية ويثيب عليها رواه البخاري (2585).
أما عن كيفية تعاملك مع من تحب في الله -تعالى- فهو كالتالي:
(أ) من واجبات الأخوة الإسلامية إعانة الأخ المسلم ومساعدته وقضاء حاجاته، وتفريج كربته، وإدخال السرور على نفسه، قال -عليه الصلاة والسلام-: “أحب الناس إلى الله -تعالى-أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله -تعالى- سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخي في حاجة أحب إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد يعني مسجد المدينة شهراً”رواه الطبراني في المعجم الكبير (13646). صححه الألباني في الصحيحة 906
فيه مسكين اتهمه ابن حبان بأنه يروي الموضوعات. وحسنه الألباني بسند ابن أبي الدنيا لكن فيه بكر بن خنيس الراجح ضعفه وضعف الحديث صاحب النافلة في الأحاديث الضعيفة .
(ب) احرص على تفقد الأحباب والإخوان والسؤال عنهم وزيارتهم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “إن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى فأرصد الله له على مدرجته ملكاً، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربٌّها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله -عز وجل-، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه”رواه مسلم (2567).
وقال -عليه الصلاة والسلام-: “من عاد مريضاً، أو زار أخاً له في الله، ناداه منادٍ, أن طبت وطاب ممشاك وتبوَّأت من الجنة منزلاً” رواه الترمذي (2008)، وابن ماجه (1443). [الحب في الله علاماته وفضله وشروطه]
قلت سيف : أنكره ابن عدي كن حديث مالك وشبل . وله سند آخر فيه أبوسنان لين . ( تخريجنا للنضرة )
الوجه الرابع : حقيقة المحبة في الله عزوجل، وطرق نيله. وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أنواع المحبة وأحكامها:
تنقسم المحبّة إلى محبة خاصّة، ومحبّة مشتركة، والمحبّة الخاصّة، تنقسم إلى محبّة شرعية ومحبة محرمة.
فالمحبة الشرعية أقسام :
1- محبة الله، وحكمها أنها من أوجب الواجبات؛ وذلك لأن محبته سبحانه هي أصل دين الإسلام فبكمالها يكمل الإيمان. وبنقصها ينقص التوحيد؛ ودليل ذلك قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ )البقرة 165 ، وقوله : ( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) التوبة 24 . وغيرها من الأدلة في القرآن والسنة . وهي تتمثل في إيثار ما أحبه الله من عبده وأراده على ما يحبه العبد ويريده ، فيحب ما أحب الله ويبغض ما يبغضه الله ، ويوالي ويعادي فيه، ويلتزم بشريعته والأسباب الجالبة لها كثيرة.
2- محبة الرسول، وهي أيضاً واجبة من واجبات الدين، بل لا يحصل كمال الإيمان حتى يحب المرء رسول الله أكثر من نفسه كما في الحديث؛ ” قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ”. رواه مسلم رقم 44، وحديث عبد الله بن هشام قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلاّ مِنْ نَفْسِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ فَإِنَّهُ الآنَ وَاللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآنَ يَا عُمَرُ . ” رواه البخاري فتح رقم 6632 .
وهذه المحبّة تابعة لمحبة الله تعالى وتتمثل في متابعته صلى الله عليه وسلم وتقديم قوله على قول غيره .
3- محبة الأنبياء والمؤمنين، وحكمها واجبة؛ لأن محبة الله تعالى تستلزم محبة أهل طاعته وهؤلاء هم الأنبياء والصالحون؛ ودليله قوله عليه السلام: ” من أحب في الله ” أي أحب أهل الإيمان بالله وطاعته من أجل ذلك، ولا يكتمل الإيمان أيضاً إلا بذلك ولو كثرت صلاة الشخص وصيامه ، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لقد رأيتنا في عهد رسول الله وما منا أحد يرى أنه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم.
وأما المحبة المحرمة:منها ما هو شرك: وهو أن تحب من دون الله شيئاً كما يحب الله تعالى فهو قد اتخذ نداً، وهذا شرك المحبة وأكثر أهل الأرض قد اتخذوا أنداداً في الحب والتعظيم.
ومنها ما هو محرّم دون الشرك : وذلك بأن يحب أهله أو ماله أو عشيرته وتجارته ومسكنه فيؤثرها أو بعضها على فعل ما أوجبه الله عليه من الأعمال كالهجرة والجهاد ونحو ذلك؛ ودليله قوله تعالى : ( إن كان آباؤكم … إلى قوله تعالى : أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ).
المسألة الثانية: حقيقة محبة الله جل وعز. قال ابن القيم رحمه الله : “اعْلَمْ أَنَّ أَنْفَعَ الْمَحَبَّةِ عَلَى الْإِطْلاقِ ، وَأَوْجَبَهَا وَأَعْلَاهَا وَأَجَلَّهَا: مَحَبَّةُ مَنْ جُبِلَتِ الْقُلُوبُ عَلَى مَحَبَّتِهِ ، وَفُطِرَتِ الْخَلِيقَةُ عَلَى تَأْلِيهِهِ ، وَبِهَا قَامَتِ الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ ، وَعَلَيْهَا فُطِرَتِ الْمَخْلُوقَاتُ ، وَهِيَ سِرُّ شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ .
فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي تَأَلهُهُ الْقُلُوبُ بِالْمَحَبَّةِ وَالْإِجْلالِ ، وَالتَّعْظِيمِ وَالذُّلِّ لَهُ وَالْخُضُوعِ وَالتَّعَبُّدِ ، وَالْعِبَادَةُ لا تَصْلُحُ إِلَّا لَهُ وَحْدَهُ ، وَالْعِبَادَةُ هِيَ : “كَمَالُ الْحُبِّ مَعَ كَمَالِ الْخُضُوعِ وَالذُّلِّ”، وَالشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ أَظْلَمِ الظُّلْمِ الَّذِي لا يَغْفِرُهُ اللَّهُ ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُحَبُّ لِذَاتِهِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ ، وَمَا سِوَاهُ فَإِنَّمَا يُحَبُّ تَبَعًا لِمَحَبَّتِهِ .
وَقَدْ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ مَحَبَّتِهِ سُبْحَانَهُ جَمِيعُ كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ ، وَدَعْوَةُ جَمِيعِ رُسُلِهِ ، وَفِطْرَتُهُ الَّتِي فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَيْهَا، وَمَا رَكَّبَ فِيهِمْ مِنَ الْعُقُول، وَمَا أَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ ، “فَإِنَّ الْقُلُوبَ مَفْطُورَةٌ مَجْبُولَةٌ عَلَى مَحَبَّةِ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهَا وَأَحْسَنَ إِلَيْهَا ، فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ الْإِحْسَانُ مِنْهُ ؟ وَمَا بِخَلْقِهِ جَمِيعِهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ )” [سُورَةُ النَّحْلِ : 53 ].
وَمَا تَعَرَّفَ بِهِ إِلَى عِبَادِهِ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَا ، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آثَارُ مَصْنُوعَاتِهِ مِنْ كَمَالِهِ وَنِهَايَةِ جَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ .
وَالْمَحَبَّةُ لَهَا دَاعِيَانِ : الْجَمَالُ ، والإجمال [أي: الإحسان والإنعام]؛ وَالرَّبُّ تَعَالَى لَهُ الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ، بَلِ الْجَمَالُ كُلُّهُ لَهُ ، والإجمالُ كُلُّهُ مِنْهُ ، فَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَبَّ لِذَاتِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ سِوَاهُ …
وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ سَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي الْمَحَبَّةِ ، وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اتَّخَذَ مِنْ دُونِهِ أَنْدَادًا يُحِبُّهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ، قَالَ تَعَالَى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ) [ سُورَةُ الْبَقَرَةِ : 165 ] .
وَأَخْبَرَ عَمَّنْ سَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَنْدَادِ فِي الْحُبِّ ، أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي النَّارِ لِمَعْبُودِيهِمْ : ( تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) [ سُورَةُ الشُّعَرَاءِ : 97 – 98 ] .
وَبِهَذَا التَّوْحِيدِ فِي الْحُبِّ أَرْسَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَمِيعَ رُسُلِهِ ، وَأَنْزَلَ جَمِيعَ كُتُبِهِ ، وَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِ دَعْوَةُ جَمِيعِ الرُّسُلِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ ، وَلِأَجْلِهِ خُلِقَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ ، فَجَعَلَ الْجَنَّةَ لِأَهْلِهِ ، وَالنَّارَ لِلْمُشْرِكِينَ بِهِ فِيهِ .
وَقَدْ أَقْسَمَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَنَّهُ : لا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يَكُونَ هُوَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، فَكَيْفَ بِمَحَبَّةِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ ؟ …
وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَوْلَى بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا فِي الْمَحَبَّةِ وَلَوَازِمِهَا أَفَلَيْسَ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ ، أَوْلَى بِمَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَكُلُّ مَا مِنْهُ إِلَى عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ يَدْعُو إِلَى مَحَبَّتِهِ ، مِمَّا يُحِبُّ الْعَبْدُ وَيَكْرَهُ – فَعَطَاؤُهُ وَمَنْعُهُ ، وَمُعَافَاتُهُ وَابْتِلَاؤُهُ ، وَقَبْضُهُ وَبَسْطُهُ ، وَعَدْلُهُ وَفَضْلُهُ ، وَإِمَاتَتُهُ وَإِحْيَاؤُهُ ، وَلُطْفُهُ وَبِرُّهُ ، وَرَحْمَتُهُ وَإِحْسَانُهُ ، وَسَتْرُهُ وَعَفْوُهُ ، وَحِلْمُهُ وَصَبْرُهُ عَلَى عَبْدِهِ ، وَإِجَابَتُهُ لِدُعَائِهِ ، وَكَشْفُ كَرْبِهِ ، وَإِغَاثَةُ لَهْفَتِهِ ، وَتَفْرِيجُ كُرْبَتِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهِ ، بَلْ مَعَ غِنَاهُ التَّامِّ عَنْهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ ، كُلُّ ذَلِكَ دَاعٍ لِلْقُلُوبِ إِلَى تَأْلِيهِهِ وَمَحَبَّتِهِ ،
بَل ستره على عبده وحلمه عنه مع استعماله نعمه في معصيته – مِنْ أَقْوَى الدَّوَاعِي إِلَى مَحَبَّتِهِ ، فَلَوْ أَنَّ مَخْلُوقًا فَعَلَ بِمَخْلُوقٍ أَدْنَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَمْلِكْ قَلْبَهُ عَنْ مَحَبَّتِهِ ، فَكَيْفَ لا يُحِبُّ الْعَبْدُ بِكُلِّ قَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ مَنْ يُحْسِنُ إِلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ بِعَدَدِ الْأَنْفَاسِ ، مَعَ إِسَاءَتِهِ؟ فَخَيْرُهُ إِلَيْهِ نَازِلٌ ، وَشَرُّهُ إِلَيْهِ صَاعِدٌ ، يَتَحَبَّبُ إِلَيْهِ بِنِعَمِهِ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُ ، وَالْعَبْدُ يَتَبَغَّضُ إِلَيْهِ بِالْمَعَاصِي وَهُوَ فَقِيرٌ إِلَيْهِ ، فَلَا إِحْسَانُهُ وَبِرُّهُ وَإِنْعَامُهُ إِلَيْهِ يَصُدُّهُ عَنْ مَعْصِيَتِهِ ، وَلَا مَعْصِيَةُ الْعَبْدِ وَلُؤْمُهُ يَقْطَعُ إِحْسَانَ رَبِّهِ عَنْهُ.
فَأَلْأَمُ اللُّؤْمِ تَخَلُّفُ الْقُلُوبِ عَنْ مَحَبَّةِ مَنْ هَذَا شَأْنُهُ ، وَتَعَلُّقُهَا بِمَحَبَّةِ سِوَاهُ !!
وَأَيْضًا فَكُلُّ مَنْ تُحِبُّهُ مِنَ الْخَلْقِ ، أَوْ يُحِبُّكَ ، إِنَّمَا يُرِيدُكَ لِنَفْسِهِ وَغَرَضِهِ مِنْكَ ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُرِيدُكَ لَكَ ، كَمَا فِي الْأَثَرِ الْإِلَهِيِّ : (عَبْدِي كُلٌّ يُرِيدُكَ لِنَفْسِهِ ، وَأَنَا أُرِيدُكَ لَكَ) ، فَكَيْفَ لا يَسْتَحِي الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ رَبُّهُ لَهُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ ، وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْهُ ، مَشْغُولٌ بِحُبِّ غَيْرِهِ ، قَدِ اسْتَغْرَقَ قَلْبُهُ بِمَحَبَّةِ سِوَاهُ؟
وأَيْضًا، فَكُلُّ مَنْ تُعَامِلُهُ مِنَ الْخَلْقِ إِنْ لَمْ يَرْبَحْ عَلَيْكَ لَمْ يُعَامِلْكَ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّبْحِ، وَالرَّبُّ تَعَالَى إِنَّمَا يُعَامِلُكَ لِتَرْبَحَ أَنْتَ عَلَيْهِ أَعْظَمَ الرِّبْحِ وَأَعْلَاهُ ، فَالدِّرْهَمُ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهِ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ ، وَالسَّيِّئَةُ بِوَاحِدَةٍ وَهِيَ أَسْرَعُ شَيْءٍ مَحْوًا .
وَأَيْضًا هُوَ سُبْحَانَهُ خَلَقَكَ لِنَفْسِهِ ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ لَكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَمَنْ أَوْلَى مِنْهُ بِاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فِي مَحَبَّتِهِ، وَبَذْلِ الْجُهْدِ فِي مَرْضَاتِهِ ؟
وَأَيْضًا فَمَطَالِبُكَ – بَلْ مَطَالِبُ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ جَمِيعًا – لَدَيْهِ ، وَهُوَ أَجْوَدُ الْأَجْوَدِينَ ، وَأَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ ، أَعْطَى عَبْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ فَوْقَ مَا يُؤَمِّلُهُ ، يَشْكُرُ الْقَلِيلَ مِنَ الْعَمَلِ وَيُنَمِّيهِ ، وَيَغْفِرُ الْكَثِيرَ مِنَ الزَّلَلِ وَيَمْحُوهُ : ( يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) ، لا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ، وَلَا تُغْلِطُهُ كَثْرَةُ الْمَسَائِلِ ، وَلَا يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ ، بَلْ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ ، وَيُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ ، وَيَغْضَبُ إِذَا لَمْ يُسْأَلْ ، يَسْتَحِي مِنْ عَبْدِهِ حَيْثُ لا يَسْتَحِي الْعَبْدُ مِنْهُ ، وَيَسْتُرُهُ حَيْثُ لا يَسْتُرُ نَفْسَهُ ، وَيَرْحَمُهُ حَيْثُ لا يَرْحَمُ نَفْسُهُ ، دَعَاهُ بِنِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ وَأَيَادِيهِ إِلَى كَرَامَتِهِ وَرِضْوَانِهِ ، فَأَبَى ، فَأَرْسَلَ رُسُلَهُ فِي طَلَبِهِ ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ مَعَهُمْ عَهْدَهُ ، ثُمَّ نَزَلَ سُبْحَانَهُ إليه بنَفْسُهُ ، وَقَالَ : مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ؟ …
وَكَيْفَ لا تُحِبُّ الْقُلُوبُ مَنْ لا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا هُوَ ، وَلَا يَذْهَبُ بِالسَّيِّئَاتِ إِلَّا هُوَ ، وَلَا يُجِيبُ الدَّعَوَاتِ ، وَيُقِيل الْعَثَرَاتِ ، وَيَغْفِرُ الْخَطِيئَاتِ ، وَيَسْتُرُ الْعَوْرَاتِ ، وَيَكْشِفُ الْكُرُبَاتِ ، وَيُغِيثُ اللَّهَفَاتِ، وَيُنِيلُ الطَّلَبَاتِ سِوَاهُ ؟ … ” انتهى من “الداء والدواء” (534- 538).
ولو كشف الغطاء عن ألطاف الرب تعالى وبره وصنعه لعبده من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم لذاب قلبه محبة له وشوقا إليه ، ولكن حجب القلوب عن مشاهدة ذلك إخلادها إلى عالم الشهوات والتعلق بالأسباب فصدت عن كمال نعيمها وذلك تقدير العزيز العليم ، وإلا فأي قلب يذوق حلاوة معرفة الله ومحبته ثم يركن إلى غيره ويسكن إلى ما سواه ؟! هذا ما لا يكون أبداً [“طريق الهجرتين” (ص 281)].
فإنَّ العبادَ مجبولون ومفطورون على محبَّة خالقهم سبحانه؛ كما قال سبحانه : {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} الروم/30 ، فأصل محبة الخالق جل جلاله : شيء يُولَد مع الإنسان، مجبول ومفطور عليه.
قال ابن رجب رحمه الله : ومحبة الله تنشأ :- تارة من معرفته ، وكمال معرفته: تحصل من معرفة أسمائه وصفاته وأفعاله الباهرة، والتفكير في مصنوعاته وما فيها من الإتقان والحكم والعجائب، فإن ذلك كله يدل على كماله وقدرته وحكمته وعلمه ورحمته .
– وتارة ينشأ من مطالعة النعم ، وفي حديث ابن عباس المرفوع : ( أحبوا الله لما يغدوكم من نعمه، وأحبوني لحب الله) . خرجه الترمذي في بعض نسخ كتابه (برقم 3789)، [ضعَّفه الألباني في ضعيف الجامع (176)]
ـ وقال بعض السلف : من عرف الله أحبه ، ومن أحبه أطاعه فإن المحبة تقتضي الطاعة ، كما قال بعض العارفين: الموافقة في جميع الأحوال ” انتهى من كتابه فتح الباري (1/ 51).
المسألة الثالثة: طرق الوصول إلى محبته سبحانه تعالى، فقد وضح الله تعالى ذلك؛ فقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} آل عمران / 31 -32.
قال ابن كثير رحمه الله : ” (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ) أي : يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه ، وهو محبته إياكم ، وهو أعظم من الأول ، كما قال بعض الحكماء العلماء : ليس الشأن أن تُحِبّ ، إنما الشأن أن تُحَبّ . وقال الحسن البصري وغيره من السلف : زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية .(فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي : خالفوا عن أمره ( فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ) فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر ، والله لا يحب من اتصف بذلك ، وإن ادّعى وزعم في نفسه أنه يحب لله ويتقرب إليه ، حتى يتابع الرسول النبيّ الأميّ خاتم الرسل ، ورسول الله إلى جميع الثقلين الجن والإنس ” انتهى .تفسير ابن كثير” (2 / 32).
وقال السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية : هذه الآية فيها وجوب محبة الله ، وعلاماتها ، ونتيجتها ، وثمراتها ، فقال ( قل إن كنتم تحبون الله ) أي : ادعيتم هذه المرتبة العالية ، والرتبة التي ليس فوقها رتبة فلا يكفي فيها مجرد الدعوى ، بل لا بد من الصدق فيها ، وعلامة الصدق اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله، في أقواله وأفعاله ، في أصول الدين وفروعه ، في الظاهر والباطن ، فمن اتبع الرسول دل على صدق دعواه محبة الله تعالى ، وأحبه الله وغفر له ذنبه ، ورحمه وسدده في جميع حركاته وسكناته ، ومن لم يتبع الرسول فليس محبا لله تعالى ، لأن محبته لله توجب له اتباع رسوله ، فما لم يوجد ذلك دل على عدمها وأنه كاذب إن ادعاها ، مع أنها على تقدير وجودها غير نافعة بدون شرطها .وبهذه الآية يوزن جميع الخلق، فعلى حسب حظهم من اتباع الرسول يكون إيمانهم وحبهم لله ، وما نقص من ذلك نقص ” انتهى . تفسير السعدي” (ص 128).
وقد روى البخاري (6502) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ قَالَ : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ).
فبين في ذلك الحديث القدسي الجليل أن من أحب الله تقرب إليه بما يحبه ، من أداء الفرائض والنوافل، وأنه بذلك ينال العبد محبة الله تعالى .
قال ابن رجب رحمه الله: فجعلَ الله علامة الصِّدق في محبَّته: اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فدلَّ على أنَّ المحبَّة لا تتمُّ بدون الطاعة والموافقة.ومن هنا قال الحسن: اعلم أنَّك لن تُحِبَّ الله حتى تُحِبَّ طاعته”. جامع العلوم والحِكَم لابن رجب (1/ 212).
وفي هذا يقول الشاعر:
تَعْصِي الإلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّه * * * هَذَا لَعَمْرِي في القِياسِ شَنِيعُ
لَوْ كانَ حُبُّكَ صَادِقًا لأَطَعْتَه * * * إِنَّ المُحِبَّ لِمَن يُحِبُّ مُطِيعُ
في كُلِّ يَوْمٍ يَبْتَدِيكَ بِنِعْمَةٍ * * * مِنْهُ وَأنتَ لِشُكْرِ ذَاك مُضِيعُ
المسألة الرابعة: درجات محبة الله تعالى.قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: ومحبة الله على درجتين :إحداهما : فرض ، وهي “المحبة المقتضية لفعل أوامره الواجبة ، والانتهاء عن زواجره المحرمة ، والصبر على مقدوراته المؤلمة”.فهذا القدر لابد منه في محبة الله ، ومن لم تكن محبته على هذا الوجه فهو كاذب في دعوى محبة الله ، كما قال بعض العارفين : من ادّعى محبة الله ولم يحفظ حدوده فهو كاذب ، فمن وقع في ارتكاب شيء من المحرمات ، أو أخل بشيء من فعل الواجبات ، فلتقصيره في محبة الله ، حيث قدم محبة نفسه وهواه على محبة الله ، فإن محبة الله لو كملت لمنعت من الوقوع فيما يكرهه . وإنما يحصل الوقوع فيما يكرهه لنقص محبته الواجبة في القلوب، وتقديم هوى النفس على محبته، وبذلك ينقص الإيمان؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) الحديث .
والدرجة الثانية من المحبة ، وهي فضل مستحب : أن ترتقي المحبة من ذلك إلى التقرب بنوافل الطاعات ، والانكفاف عن دقائق الشبهات والمكروهات ، والرضى بالأقضية المؤلمات. كما قال عامر بن عبد قيس: أحببت الله حباً هوّن عليّ كلّ مصيبة ، ورضّاني بكلّ بليّة ، فما أبالي مع حبي إياه على ما أصبحت ، ولا على ما أمسيت. وقال عمر بن عبد العزيز: أصبحت ومالي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر، ولما مات ولده الصالح قال : إن الله أحب قبضه ، وأعوذ بالله أن تكون لي محبة تخالف محبة الله. وقال بعض التابعين في مرضه: أحبّه إليّ أحبّه إليه . ” . انتهى من ” فتح الباري ” لابن رجب(1/46-48).
—–
المسألة الخامسة:
أسباب وعلامات نيل محبة الله تعالى:قال ابن القيم رحمه الله في (مدارج السالكين): فصل في الأسباب الجالبة للمحبَّة والموجِبة لها وهي عشرة:
أحدُها: قراءةُ القرآن بالتدبر والتفهّم لمعانيه وما أُريدَ به، كتدبّر الكتابِ الذي يحفظه العبدُ ويشرحه؛ ليتفهَّم مُرادَ صاحبه منه.
الثاني: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض؛ فإنها توصله إلى درجة المحبوبيَّة بعد المحبة.
الثالث: دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال؛ فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر.
الرابع: إيثارُ محابّه على محابّك عند غلَبَات الهوى، والتسَنُّمُ إلى محابّه وإن صَعُبَ المرتقى.
الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته، ومشاهدتها ومعرفتها، وتقلّبه في رياض هذه المعرفة ومباديها؛ فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبَّه لا محالة، ولهذا كانت المعطّلة والفرعونية والجهمية قطّاع الطريق على القلوب بينها وبين الوصول إلى المحبوب.
السادس: مشاهدة برِّه وإحسانه وآلائه ونعمه الباطنة والظاهرة فإنها داعية إلى محبته.
السابع: وهو من أعجبها، انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى، وليس في التعبير عن هذا المعنى غير الأسماء والعبارات.
الثامن: الخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.
التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقى أطايب الثمر، ولا تتكلَّم إلا إذا ترجَّحتْ مصلحة الكلام، وعلمتَ أنَّ فيه مزيدًا لحالك ومنفعةً لغيرك.
العاشر: مباعدةُ كلِّ سببٍ يحولُ بينَ القلب وبينَ اللهِ عزَّ وجلَّ.
فمِنْ هذه الأسباب العشرة وصلَ المحبُّونَ إلى منازل المحبَّة ودخلوا على الحبيبِ، وَمَلاكُ ذلك كلِّه أمران: – استعدادُ الرُّوحِ لهذا الشأن. – وانفتاحُ عينِ البصيرةِ، وبالله التوفيق” ا.هـ.
ويمكن أن يقال: 11 – اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى في كتابه الكريم: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم}.
12 – 15 – الذل للمؤمنين والعزة على الكافرين، والجهاد في سبيل الله، وعدم الخوف إلا منه سبحانه؛ وقد ذكر الله تعالى هذه الصفات في آية واحدة؛ قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} .
ففي هذه الآية ذكر الله تعالى صفات القوم الذين يحبهم، وكانت أولى هذه الصفات : التواضع وعدم التكبر على المسلمين ، وأنهم أعزة على الكافرين : فلا يذل لهم ولا يخضع ، وأنهم يجاهدون في سبيل الله: جهاد الشيطان، والكفار، والمنافقين والفساق، وجهاد النفس، وأنهم لا يخافون لومة لائم: فإذا ما قام باتباع أوامر دينه فلا يهمه بعدها من يسخر منه أو يلومه .
16 – الابتلاء ، فالمصائب والبلاء امتحانٌ للعبد ، وهي علامة على حب الله له ؛ إذ هي كالدواء ، فإنَّه وإن كان مُرّاً إلا أنَّـك تقدمه على مرارته لمن تحب – ولله المثل الأعلى – ففي الحديث الصحيح: “إنَّ عِظم الجزاء من عظم البلاء ، وإنَّ الله عز وجل إذا أحب قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط ” رواه الترمذي ( 2396 ) وابن ماجه ( 4031 )، وصححه الشيخ الألباني.
قلت سيف : قال العقيلي بسنده عن أحمد بن حنبل في أحاديث يزيد بن أبي حبيب عن سعد بن سنان عن أنس قال روى خمسة عشر حديثا منكرة ما اعرف منها واحدا .
ومرة قال سعد بن سنان حديثه غير محفوظ حديث مضطرب . ومرة قال : يشبه حديثه حديث الحسن لا يشبهه حديث أنس . انتهى
يقصد بحديث الحسن أي كلام الحسن البصري. أو حديث الحسن الذي يدلسه.
ونزول البلاء خيرٌ للمؤمن من أن يُدَّخر له العقاب في الآخرة، كيف لا وفيه تُرفع درجاته وتكفر سيئاته، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” إذا أراد الله بعبده الخير عجَّل له العقوبة في الدنيا ، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبـــه حتى يوافيه به يوم القيامة ” رواه الترمذي ( 2396 ) ، وصححه الشيخ الألباني .
قلت سيف : راجع تخريج الحديث السابق وكلام الأم أحمد في سعد بن سنان
وبيَّن أهل العلم أن الذي يُمسَك عنه هو المنافق ، فإن الله يُمسِك عنه في الدنيا ليوافيه بكامل ذنبه يوم القيامة .
17-20 : الحبّ ، والتزاور ، والتباذل ، والتناصح في الله .
وقد جاءت هذه الصفات في حديث واحد عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال : ” حقَّت محبتي للمتحابين فيَّ ، وحقت محبتي للمتزاورين فيَّ ، وحقت محبتي للمتباذلين فيَّ ، وحقت محبتي للمتواصلين فيَّ ” حديث الباب.
ومعنى ” َالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ ” أي أَنْ يَكُونَ زِيَارَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ مِنْ أَجْلِهِ وَفِي ذَاتِهِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ مِنْ مَحَبَّةٍ لِوَجْهِهِ أَوْ تَعَاوُنٍ عَلَى طَاعَتِهِ .
وَقَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ” وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ ” أي يَبْذُلُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي مَرْضَاتِهِ مِنْ الِاتِّفَاقِ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أُمِرُوا بِهِ .” انتهى من المنتقى شرح الموطأ حديث 1779
—–
إن التحابب في الله تعالى و الأخوة في دينه من أعظم القربات ، و لها شروط يلتحق بها المتصاحبون بالمتحابين في الله تعالى ، و بالقيام بحقوقها يتقرب إلى الله زلفى ، و بالمحافظة عليها تنال الدرجات العلى ، قال تعالى : ” و ألّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألّفت بين قلوبهم و لكنّ الله ألّف بينهم ” ( الأنفال 63)
قال ابن مسعود رضي الله عنه : هم المتحابون في الله
و في رواية : نزلت في المتحابين في الله (رواه النسائي و الحاكم و قال صحيح)
قال بعضهم :
وأحبب لحبّ الله من كان مؤمنــــا *** و أبغض لبغض الله أهل التّمرّد
وما الدين إلا الحبّ و البغض و الولا *** كذاك البرا من كل غاو و معتدى
قال ابن رجب رحمه الله تعالى :
و من تمام محبة الله ما يحبه و كراهة ما يكرهه ، فمن أحبّ شيئا مما كرهه الله ، أو كره شيئا مما يحبه الله ، لم يكمل توحيده و صدقه في قوله لا إله إلا الله ، و كان فيه من الشرك الخفي بحسب ما كرهه مما أحبه الله ، و ما أحبه مما يكرهه الله
و قال ابن القيم رحمه الله :
من أحبّ شيئا سوى الله ، و لم تكن محبته له لله ، و لا لكونه معينا له على طاعة الله ، عذب به في الدنيا قبل اللقاء كما قيل :
أنت القتيل بكل من أحببته *** فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي
** ثمرات و فضائل المحبة في الله **
للمحبة في الله ثمرات طيبة يجنيها المتحابون من ربهم في الدنيا و الآخرة منها:
1) محبة الله تعالى :
عن معاذ رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : “قال الله تبارك و تعالى : وجبت محبتي للمتحابين فيّ ، و المتجالسين فيّ و المتزاورين فيّ ، و المتباذلين فيّ ” (رواه مالك و غيره )
و قول الملك للرجل الذي زار أخا له في الله :”إني رسول الله إليك بأنّ الله قد أحبّك كما أحببته فيه”
2) أحبهما إلى الله أشدّهما حبا لصاحبه :
عن أبي الدرداء رضي الله عنه يرفعه قال :” ما من رجلين تحابا في الله إلا كان أحبّهما إلى الله أشدّهما حبا لصاحبه ” (رواه الطبراني )
قلت سيف بن دورة : رجح الدارقطني الموقوف على أبي الدرداء (العلل )
وورد من حديث أنس أخرجه البخاري في الأدب المفرد 544 وغيره وانظر الصحيحة 450 . والبزار كما في الكشف 3600 ورجح الدارقطني الموقوف 2366 رواية من رواه عن حماد بن سلمة عن ثابت مرسلا
إلا إذا قلنا الموقوف له حكم الرفع .
ثم يشهد لمعناه خير الأصحاب خيرهم لصاحبه … وهو في الصحيح المسند 793
3) الكرامة من الله :
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ” ما من عبد أحبّ عبدا لله إلا أكرمه الله عز وجل ” ( أخرجه أحمد بسند جيّد) الصحيحة 1256 وعزاه لأحمد 9/259 من طريق إسماعيل بن عياش عن يحيى بن الحارث الذماري عن القاسم عن أبي أمامة مرفوعا
وقال محققو المسند 223د229 إسناده حسن من أجل إسماعيل بن عياش
والشيخ مقبل يرى أن القاسم أقرب للضعف.
وإكرام الله للمرء يشمل إكرامه له بالإيمان ، والعلم النافع ، والعمل الصالح ، و سائر صنوف النِّعم
4) الاستظلال في ظلّ عرش الرحمن :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : “إنّ الله تعالى يقول يوم القيامة : أين المتحابون بجلالي ؟ اليوم أظلّهم في ظلّي يوم لا ظلّ إلاّ ظلّي ( رواه مسلم) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ” مجموع الفتاوى ” :” فقوله : أين المتحابون بجلال الله ؟ تنبيه على ما في قلوبهم من إجلال الله و تعظيمه مع التحاب فيه ، و بذلك يكونون حافظين لحدوده، دون الذين لا يحفظون حدوده لضعف الإيمان في قلوبهم ”
و عن أبي هريرة أيضا رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ” سبعة يظلهم الله تعالى يوم لا ظلّ إلا ظله : إمام عادل ، و شاب نشأ في عبادة الله ، و رجل
قلبه معلّق بالمساجد ، و رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه و تفرّقا عليه …” ( متفق عليه)
5) وجد طعم الإيمان :
قال عليه الصلاة و السلام : ” من أحبّ أن يجد طعم الإيمان فليحبّ المرء لا يحبه إلا لله ( رواه الحاكم و قال : صحيح الإسناد و لم يخرجاه و أقرّه الذهبي)
6) وجد حلاوة الإيمان:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ” من سرّه أن يجد حلاوة الإيمان، فليحبّ المرء لا يحبه إلا لله” ( رواه أحمد و الحاكم و صححه الذهبي )
و عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ” ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله و رسوله أحبّ إليه مما سواهما ، و أن يحبّ المرء لا يحبه إلا لله ، و أن يكره أ يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه ، كما يكره أن يلقى في النار ” (متفق عليه)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في “مجموع الفتاوى”:” أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أنّ هذه الثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان ، لأنّ وجد الحلاوة بالشيء يتبع المحبة له ، فمن أحبّ شيئا أو اشتهاه ، إذا حصل له مراده،فإنه يجد الحلاوة و اللذة و السرور بذلك و اللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهى … فحلاوة الإيمان ، تتبع كمال محبة العبد لله ، و ذلك بثلاثة أمور : تكميل هذه المحبة ، و تفريعها ، و دفع ضدها
“فتكميلها” أن يكون الله و رسوله أحب إليه مما سواهما ، فإن محبة الله و رسوله لا يكتفى فيها بأصل الحبّ ، بل لا بدّ أن يكون الله و رسوله أحبّ إليه مما سواهما
و ” تفريعها” أن يحب المرء لا يحبه إلا لله
و “دفع ضدها ” أن يكره ضدّ الإيمان أعظم من كراهته الإلقاء في النار ”
وهو من أوثق عرى الإيمان:فقد روى أحمد (18524) عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: (إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ: أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ ). وحسنه محققو المسند ، وكذا حسنه الألباني في “صحيح الترغيب” (3030).
قلت سيف : في تخريجنا لسنن أبي داود ذكرنا له شواهد.
قال ابن رجب الحنبلي – رحمه الله – : الخصلة الثانية : أن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، والحب في الله من أصول الإيمان ، وأعلى درجاته … وإنما كانت هذه الخصلة تالية لما قبلها ؛ لأن مَن كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما : فقد صار حبُّه كله له ، ويلزم من ذلك أن يكون بغضه لله ، وموالاته له ، ومعاداته له ، وأن لا تبقى له بقية من نفسه وهواه ، وذلك يستلزم محبة ما يحبه الله من الأقوال ، والأعمال ، وكراهة ما يكرهه من ذلك ، وكذلك من الأشخاص . ” فتح الباري ” لابن رجب ( 1 / 49 – 51 ) باختصار .
7) استكمال الإيمان :
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ” من أحبّ لله ، و أبغض لله ، و أعطى لله ، و منع لله ، فقد استكمل الإيمان ” (رواه أبو داود بسند حسن)
فيه القاسم لكن يحتمل أنه على شرط المتمم على الذيل على الصحيح المسند ويشهد له حديث أوثق عرى الإيمان .
8) دخول الجنة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ” لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا و لا تؤمنوا حتى تحابوا ، أولا أدلّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم ” (رواه مسلم)
9) قربهم من الله تعالى و مجلسهم منه يوم القيامة :
عن أبي مالك الأشعري قال : ” كنت عند النبي صلى الله عليه و سلم فنزلت عليه هذه الآية :” يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم” (المائدة 101) قال : فنحن نسأله إذ قال : إنّ لله عبادا ليسوا بأنبياء و لا شهداء ، يغبطهم النبيون و الشهداء بقربهم و مقعدهم من الله يوم القيامة ، قال : و في ناحية القوم أعرابي فجثا على ركبتيه و رمى بيديه ، ثم قال : حدثنا يا رسول الله عنهم من هم ؟ قال : فرأيت في وجه النبي صلى
الله عليه و سلم البِشر ، فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ” هم عباد من عباد الله من بلدان شتى ، و قبائل شتى من شعوب القبائل لم تكن بينهم أرحام يتواصلون بها ، و لا دنيا يتباذلون بها ، يتحابون بروح الله ، يجعل الله وجوههم نورا و يجعل لهم منابر من لؤلؤ قدام الناس ، و لا يفزعون ، و يخاف الناس و لا يخافون ” (رواه أحمد و الحاكم و صححه الذهبي )
قلت سيف بن دوره :
قال محققو المسند 22894 أصل الحديث صحيح لكن من حديث معاذ فإن شهر بن حوشب اضطرب في رواية هذا الحديث والمحفوظ فيه عن معاذ . وشهر لم يدرك أبا مالك
لكنه ورد في المسند 22906 من طريق عبدالحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب حدثنا عبد الرحمن بن غنم أن أبا مالك الأشعري
ورواية عبدالحميد عن شهر ممكن أن تحسن . فتكون على شرط المتمم على الذيل على الصحيح المسند لكن اعله البيهقي بشهر نقله في تخريج أحاديث الكشاف
و يشهد لغبطة الأنبياء حديث أبي هريرة أخرجه ابويعلى وهو في الصحيح المسند 1433 . وحديث معاذ وهو في الصحيح المسند 1110 وذكرنا الأحاديث الواردة في المحبة في شرحنا للصحيح المسند 1433
10) وجوههم نورا يوم القيامة :
من الحديث السابق في قوله :” يجعل الله وجوههم نورا” سبق في حديث أبي موسى
11) لهم منابر من لؤلؤ:
نفس الحديث السابق في قوله :” يجعل لهم منابر من لؤلؤ قدام الناس ”
12) لهم منابر من نور :
و في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ” إنّ لله عبادا ليسوا بأنبياء و لا شهداء يغبطهم الشهداء و النبيون يوم القيامة لقربهم من الله تعالى ، و مجلسهم منه ” ، فجثا أعرابي على ركبتيه فقال : يا رسول الله صفهم لنا و جلِّهم لنا ؟قال:” قوم من أقناء الناس من نزّاع القبائل ، تصادقوا في الله و تحابّوا فيه ، يضع الله عزّ و جلّ لهم يوم القيامة منابر من نور ، يخاف الناس و لا يخافون ، هم أولياء الله عزّ و جلّ الذين لا خوف عليهم و لا هم يحزنون ” ( أخرجه الحاكم و صححه الذهبي ) الصحيحة 3464 .
قلت سيف بن دوره : هو على شرط المتمم على الذيل على الصحيح المسند فخيثمة بن بن عبدالرحمن بن أبي سبرة الجعفي الكوفي لم أجد من نفى سماعه من ابن عمر .
وورد عن عمر بن الخطاب وهو في أحاديث معلة 346 حيث أن أبا زرعة بن عمرو بن جرير ارسل عن عمر كما في تهذيب التهذيب . قال المزى : لم يدرك عمر
13) يغبطهم الأنبياء و الشهداء يوم القيامة:
من الحديثين السابقين : حديث الأشعري و ابن عمر رضي الله عنهم في قوله صلى الله عليه و سلم:” يغبطهم الشهداء و النبيون يوم القيامة لقربهم من الله تعالى ،و مجلسهم منه ”
وسبق نقل معنى الغبطة في شرحنا للصحيح المسند 1433 فقيل لا يلزم من الغبطة انهم أعلى منزلة . فالانبياء حازوا السبق في كل خصلة . لكن من كان عنده الجواهر تمنى أيضا أن تضم هذه الجوهرة له.
14) تسميتهم بأولياء الله :
من حديث ابن عمر السابق في قوله صلى الله عليه و سلم :” هم أولياء الله عز و جل ”
15) انتفاء الخوف و الحزن عنهم يوم القيامة :
من الحديثين السابقين : حديث الأشعري و ابن عمر رضي الله عنهم : ” لا خوف عليهم و لا هم يحزنون ” و قوله ” و لا يفزعون ، و يخاف الناس و لا يخافون ”
16) أنّ المرء بمحبته لأهل الخير لصلاحهم و استقامتهم يلتحق بهم و يصل إلى مراتبهم ، و إن لم يكن عمله بالغ مبلغهم :
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ،كيف تقول في رجل أحبّ قوما ولم يلحق بهم ؟ قال : “المرء مع من أحبّ” (الصحيحان)
و في الصحيحين أيضا عن أنس رضي الله عنه أنّ رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم متى الساعة ؟ قال : ” ما أعددت لها ؟ ” قال : ما أعددت لها من كثير صلاة و لا صوم و لا صدقة ، و لكني أحبّ الله و رسوله، قال :” أنت مع من أحببت” ، قال أنس : فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه و سلم :”أنت مع من أحببت” فأنا أحب النبي صلى الله عليه و سلم و أبا بكر و عمر ، و أرجو أن أكون معهم بحبي إياهم ، و إن لم أعمل بمثل أعمالهم
وعن علي رضي الله عنه مرفوعا:”لا يحب رجل قوما إلا حشر معهم”( الطبراني في الصغير)
17 – حبُّ الناسِ له والقبول في الأرض ، كما في حديث البخاري (3209) : ” إذا أحبَّ الله العبد نادى جبريل إن الله يحب فلاناً فأحببه فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض ” .
18- ما ذكره الله سبحانه في الحديث القدسي من فضائل عظيمة تلحق أحبابه؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ قَالَ : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ ” رواه البخاري 6502
فهو محفوظٌ بحفظ الله له من كل سوء”
المسألة السابعة: صفات الصديق أو الأخ المرجو في هذا الزمان:إِذا كُنتَ في كُلِّ الذُنوبِ مُعاتِباً صَديقَكَ لَم تَلقَ الَّذي لا تُعاتِبُه فَعِش واحِداً أَو صِل أَخاكَ فَإِنَّهُ مُفارِقُ ذَنبٍ مَرَّةً وَمُجانِبُه . إِذا أَنتَ لَم تَشرَب مِراراً عَلى القَذى ظَمِئتَ وَأَيُّ الناسِ تَصفو مَشارِبُه
قال ابن حزم الأندلسي – رحمه الله – :
ومن الأسباب المتمناة في الحب : أن يهب الله عز وجلَّ للإنسان صديقاً مخلصاً ، لطيف القول ، بسيط الطَّوْل ، حسَن المأخذ ، دقيق المنفذ ، متمكن البيان ، مرهف اللسان ، جليل الحِلم ، واسع العلم، قليل المخالفة ، عظيم المساعفة ، شديد الاحتمال ، صابراً على الإدلال ، جم الموافقة ، جميل المخالفة ، محمود الخلائق ، مكفوف البوائق ، محتوم المساعدة ، كارهاً للمباعدة ، نبيل الشمائل ، مصروف الغوائل ، غامض المعاني ، عارفاً بالأماني ، طيب الأخلاق ، سري الأعراق ، مكتوم السر ، كثير البر ، صحيح الأمانة ، مأمون الخيانة ، كريم النفس ، صحيح الحدس ، مضمون العون ، كامل الصون ، مشهور الوفاء ، ظاهر الغناء ، ثابت القريحة ، مبذول النصيحة ، مستيقن الوداد ، سهل الانقياد، حسن الاعتقاد ، صادق اللهجة ، خفيف المهجة ، عفيف الطباع ، رحب الذراع ، واسع الصدر ، متخلقاً بالصبر ، يألف الإمحاض [أي : إخلاص الود] ، ولا يعرف الإعراض ، يستريح إليه ببلائله ، ويشاركه في خلوة فكره ، ويفاوضه في مكتوماته ، وإن فيه للمحب لأعظمَ الراحات .
وأين هذا ؟!
فإن ظَفِرَتْ به يداك: فشدهما عليه شد الضنين ، وأمسك بهما إمساك البخيل ، وصنه بطارفك وتالدك، فمعه يكمل الأنس ، وتنجلي الأحزان ، ويقصر الزمان ، وتطيب النفس ، ولن يفقد الإنسان من صاحب هذه الصفة عوناً جميلا ، ورأياً حسناً . ” طوق الحمامة ” ( ص 164 ) .
قال ابن الجوزي – رحمه الله – :كان لنا أصدقاء ، وإخوان ، أعتد بهم ، فرأيت منهم من الجفاء ، وترك شروط الصداقة ، والأخوَّة: عجائب ، فأخذت أعتب .
ثم انتبهت لنفسي ، فقلت : وما ينفع العتاب ، فإنهم إن صلحوا: فللعتاب ، لا للصفاء .
فهممت بمقاطعتهم ، ثم تفكرتُ فرأيت الناس بي معارف، وأصدقاء في الظاهر ، وإخوة مباطنين ، فقلت: لا تصلح مقاطعتهم .
إنما ينبغي أن تنقلهم من ” ديوان الأخوة ” إلى ” ديوان الصداقة الظاهرة”.
فإن لم يصلحوا لها : نقلتَهم إلى ” جملة المعارف ” ، وعاملتهم معاملة المعارف ، ومن الغلط أن تعاتبهم .
فقد قال يحيى بن معاذ : بئس الأخ أخ تحتاج أن تقول له اذكرني في دعائك .
وجمهور الناس اليوم معارف ، ويندر فيهم صديق في الظاهر ، فأما الأخوَّة والمصافاة : فذاك شيء نُسخ، فلا يُطمع فيه .
وما رأى الإنسان تصفو له أخوَّة من النسب ، ولا ولده ، ولا زوجته .
فدع الطمع في الصفا ، وخذ عن الكل جانباً ، وعاملهم معاملة الغرباء .
وإياك أن تنخدع بمن يظهر لك الود ؛ فإنه مع الزمان يبين لك الحال فيما أظهره، وربما أظهر لك ذلك لسبب يناله منك .
وقد قال الفضيل بن عياض: إذا أردت أن تصادق صديقاً: فأغضبه، فإن رأيته كما ينبغي: فصادقه .
وهذا اليوم مخاطرة؛ لأنك إذا أغضبت أحداً: صار عدواً في الحال .
والسبب في نسخ حكم الصفا: أن السلف كان همتهم الآخرة وحدها، فصفت نياتهم في الأخوة، والمخالطة ، فكانت دِيناً لا دنيا .
والآن: فقد استولى حب الدنيا على القلوب، فإن رأيت متملقاً في باب الدين : فاخبُرهُ : تَقْلَهُ – أي : إن اختبرته : تبين لك منه ما يبعدك عنه-. ” صيد الخاطر ” ( ص 391 ، 392 ) .
قال القرافي :” ما كل أحد يستحق أن يعاشر و لا يصاحب و لا يسارر ”
و قال علقمة : اصحب من إن صحبته زانك ، و إن أصابتك خصاصة عانك و إن قلت سدّد مقالك ، و إن رأى منك حسنة عدّها ، و إن بدت منك ثلمة سدّها ، و إن سألته أعطاك ، و إذا نزلت بك مهمة واساك ، و أدناهم من لا تأتيك منه البوائق ، و لا تختلف عليك منه الطرائق
و يقول الشيخ أحمد بن عطاء : مجالسة الأضداد ذوبان الروح ، و مجالسة الأشكال تلقيح العقول ، و ليس كل من يصلح للمجالسة يصلح للمؤانسة ، و لا كل من يصلح للمؤانسة يؤمن على الأسرار ، و لا يؤمن على الأسرار إلا الأمناء فقط
و يكفي في مشروعية التحري لاختيار الأصدقاء قوله صلى الله عليه و سلم : ” المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ” (رواه أبو داود و غيره)
قال الأوزاعي : الصاحب للصاحب كالرقعة للثوب ، إذا لم تكن مثله شانته
قيل لابن سماك : أيّ الإخوان أحقّ بإبقاء المودة؟قال:الوافر دينه ، الوافي عقله ، الذي لا يملَّك على القرب ،و لا ينساك على البعد ،إن دنوت منه داناك ، و إن بعدت منه راعاك ، و إن استعضدته عضدك ،و إن احتجت إليه رفدك،و تكفي مودة فعله أكثر من مودة قوله
و قال بعض العلماء : لا تصحب إلا أحد رجلين : رجل تتعلّم منه شيئا في أمر دينك فينفعك ، أو رجل تعلمه شيئا في أمر دينه فيقبل منك ، و الثالث فاهرب منه
قال علي رضي الله عنه :
إنّ أخاك الصِّدق من كان معك *** و من يضُرُّ نفسه لينفعك
و من إذا ريب الزّمان صدعك *** شتّت نفسه ليجمعك
و قال بعض الأدباء:لا تصحب من الناس إلا من يكتم سرّك،و يستر عيبك، فيكون معك في النوائب،و يُؤثرك بالرّغائب،و ينشر حسنتك،و يطوي سيّئتك ، فإن لم تجده فلا تصحب إلا نفسك
و قد ذكر العلماء فيمن تُؤثر صحبته و محبته خمس خصال :
أن يكون عاقلا ، حسن الخلق ، غير فاسق ، و لا مبتدع ، و لا حريص على الدنيا
1) أما العقل : فهو رأس المال و هو الأصل فلا خير في صحبة الأحمق
قال علي رضي الله عنه :
فلا تصحب أخا الجهل *** و إياك و إياه
فكم من جاهل أردى *** حليما حين آخاه
يُقاس المرء بالمرء *** إذا ما المرء ماشاه
و للشيء على الشيء *** مقاييس و أشباه
و للقلب على القلب *** دليل حين يلقاه
و العاقل الذي يفهم الأمور على ما هي عليه ، إما بنفسه و إما إذا فُهِّم
2) أما حسن الخلق : فلا بدّ منه إذ ربّ عاقل يدرك الأشياء على ماهي عليه ، و لكن إذا غلبه غضب أو شهوة أو بُخل أو جبن أطاع هواه ، و خالف ما هو المعلوم عنده ، لعجزه عن قهر صفاته ، و تقويم أخلاقه ، فلا خير في صحبته
قال أبو حاتم ابن حبان رحمه الله : الواجب على العاقل أن يعلم أنه ليس من السرور شيء يعدل صحبة الإخوان ، و لا غم يعدل غم فقدهم ، ثم يتوقى جهده مفاسدة من صافاه ، و لا يسترسل إليه فيما يشينه،و خير الإخوان من إذا عظمته صانك ،و لا يعيب أخاه على الزّلّة،فإنه شريكه في الطبيعة، بل يصفح،و ينتكب محاسدة الإخوان،لأن الحسد للصديق من سقم المودة ،كما أن الجود بالمودة أعظم البذل ، لأنه لا يظهر ودّ صحيح من قلب سقيم
3) أما الفاسق : فلا فائدة في صحبته ، فمن لا يخاف الله لا تؤمن غائلته و لا يوثق بصداقته ، بل يتغيّر بتغيّر الأعراض
قال تعالى :” و لا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتّبع هواه ” ( الكهف 28)
و قال تعالى :”فأعرض عمّن تولّى عن ذكرنا و لم يرد إلا الحياة الدنيا”(النجم 29) ، و قال النبي صلى الله عليه
و سلم :”لا تصاحب إلا مؤمنا و لا يأكل طعامك إلا تقي “( رواه الترمذي و أبو داود)
قال أبو حاتم رحمه الله في”روضة العقلاء”:”العاقل لا يصاحب الأشرار،لأن صحبة صاحب السوء قطعة من النار،تعقب الضغائن، لا يستقيم ودّه ، و لا يفي بعهده ، و إن من سعادة المرء خصالا أربعا:أن تكون زوجته موافقة ، وولده أبرار ، و إخوانه صالحين ،و أن يكون رزقه في بلده .و كل جليس لا يستفيد المرء منه خيرا ، تكون مجالسة الكلب خيرا من عشرته ،و من يصحب صاحب السوء لا يسلم،كما أن من يدخل مداخل السوء يتهّم ”
قال بعضهم :
ابل الرجال إذا أردت إخاءهم *** و توسّمنّ أمورهم و تفقّد
فإذا ظفرت بذي الأمانة و التُّقى *** فبه اليدين قرير عين فاشدد
4) أما المبتدع : ففي صحبته خطر سراية البدعة و تعدي شؤمها إليه ، فالمبتدع مستحق للهجر و المقاطعة ، فكيف تؤثر صحبته
5) أما الحريص على الدنيا : فصحبته سمّ قاتل ، لأنّ الطّباع مجبولة على التشبّه و الاقتداء ، بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدري صاحبه ، فمجالسة الحريص على الدنيا تحرّك الحرص ، و مجالسة الزاهد تزهدّ في الدّنيا ، فلذلك تكره صحبة طلاب الدنيا ، و يستحب صحبة الراغبين في الآخرة
الناس شتىّ إذا ما أنت ذقتهم *** لا يستوون كما لا يستوي الشّجر
هذا له ثمر حلو مذاقته *** و ذاك ليس له طعم و لا ثمر
==
المسألة الثامنة:
إذا أحب أحد أخاه هل يقول له ذلك، وما حكم ذلك، وما ثمار ذلك؟فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه : ( أَنَّ رَجُلًا كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنِّي لَأُحِبُّ هَذَا . فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَعْلَمْتَهُ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : أَعْلِمْهُ. قَالَ : فَلَحِقَهُ فَقَالَ : إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ . فَقَالَ : أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ) رواه أبو داود (رقم/5125)، وصححه النووي في “رياض الصالحين” (183)، وحسنه الألباني في “صحيح أبي داود”. وفي بعض روايات الحديث: ( أعلمه فإنه أثبت للمودة بينكما ) رواه ابن أبي الدنيا في “الإخوان” (69).
وهو في الصحيح المسند 54
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ” وذلك لما في هذه الكلمة من إلقاء المحبة في قلبه ؛ لأن الإنسان إذا علم أنك تحبه أحبك ، مع أن القلوب لها تعارف وتآلف وإن لم تنطق الألسن ، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام :((الأرواح جنود مجندة ، ما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف))، لكن إذا قال الإنسان بلسانه فإن هذا يزيده محبة في القلب، فتقول : إني أحبك في الله ” انتهى. “شرح رياض الصالحين” .
وعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُعْلِمْهُ إِيَّاهُ)) رواه الترمذي (2392) . وحسنه الألباني في “السلسلة الصحيحة” (417).
قلت سيف : راجع العلل لابن أبي حاتم
وعن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إذا أحب أحدكم أخاه في الله فليبين له ، فإنه خير في الألفة ، وأبقى في المودة ) قال الشيخ الألباني في “السلسلة الصحيحة” (1199): “رواه وكيع في ” الزهد ” ( 2 / 67 / 2 ) بسند صحيح عن علي بن الحسين مرفوعا .
قلت (الألباني) : وعلي بن الحسين هو ابن علي بن أبي طالب : ثقة جليل من رجال الشيخين ، فهو مرسل صحيح الإسناد .
وله شاهد من حديث مجاهد مرسلا أيضا . رواه ابن أبي الدنيا في ” كتاب الإخوان ” كما في ” الفتح الكبير ” ( 1 / 67 ) . و له شاهد آخر عن يزيد بن نعامة الضبي خرجته في الكتاب الآخر (1726)، فالحديث بمجموع الطرق حسن إن شاء الله تعالى ” انتهى.
قلت سيف : وورد في سنن أبي داود من حديث المقداد وهو في الصحيح المسند 1143 .
وورد عن أنس :
ورجح الدارقطني والنسائي طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن حبيب بن أبي سبيعه الضبعي عن الحارث أن رجلا كان عند النبي صلى الله عليه وسلم ….. خلافا لمن قال عن ثابت عن أنس . . وحديث أنس هو في الصحيح المسند. 54 مرجوح
وكذلك رجح ابوحاتم حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن حبيب بن سبيعة الضبعي عن رجل حدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل . قال ابوحاتم هذا أشبه وهو الصحيح وذاك لزم الطريق . ونقل ذلك صاحب الدراية في الذيل على أحاديث معلة
وقيل عن حارث عن رجل حدثه بهذا
قال ابوحاتم : حبيب بن سبيعة روى عن رجل له صحبة . يقال اسمه الحارث . تهذيب الكمال.
وجزم ابن حجر بأنه صحابي في التقريب
فيمكن أن نضعه على المتمم على الذيل على الصحيح المسند عن الحارث الذي قيل أن له صحبه
والمقصود من هذا : الاستحباب ، وليس الإلزام والوجوب .
قال المناوي رحمه الله : ((فليخبره أنه يحبه لله)) فليخبره بمحبته له ندبا ، بأن يقول له: إني أحبك لله. أي: لا لغيره من إحسان أو غيره، فإنه أبقى للألفة ، وأثبت للمودة ، وبه يتزايد الحب ويتضاعف ، وتجتمع الكلمة ، وينتظم الشمل بين المسلمين ، وتزول المفاسد والضغائن . وهذا من محاسن الشريعة” انتهى . “فيض القدير” (1/319).
فمن ثمار ذلك:- إلقاء المحبة في قلبه- فإنه أبقى للألفة، – وأثبت للمودة، – وبه يتزايد الحب ويتضاعف، – وتجتمع الكلمة، – وينتظم الشمل بين المسلمين، – وتزول المفاسد والضغائن .
المسألة التاسعة: حقوق الحب في الله عز وجل:قال الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله تعالى: “بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:فإن الحب في الله والبغض في الله من أهم خصال الإيمان، ومن أفضل خصال الإيمان، بل جاء في الحديث أنها أوثق عرى الإيمان، الحب في الله، والبغض في الله، ولكن لا يلزم دوام الاتصال، بل إذا دعا لهم بظهر الغيب، وزارهم بعض الأحيان، أو زاروه كان هذا من أفضل القربات، إذا كان ذلك لله .
ومن المحبة أن يسأل عنه إذا فقده، ويزوره إذا مرض، ويدعو له بالخير، هذا من المحبة، أما دوام الاتصال بالهاتف أو غيره فليس من شرط ذلك، لكن إذا كلمه بالهاتف أو زاره فهذا من ثمرات المحبة في الله جل وعلا في الأوقات المناسبة التي لا يحصل فيها إملال ولا إيذاء، بل في الأوقات المناسبة التي يحصل بها الدعاء، والتعارف، والتلاقي من غير أن يؤذي أحد أحدًا في كثرة اللقاء وكثرة السؤال. نعم.” [الموقع الرسمي، فضائل وحقوق الحب في الله عز وجل].
المسألة العاشرة: كلمة في الحب في الله والاعتصام بحبله بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة الشيخ ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله و نفع بعلمه
في الحب في الله والاعتصام بحبله
إن الْحَمْد لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا, و من سيئات أعمالنا, مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ, وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَه وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد :
فإن اصدق الحديث كلام الله, و خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه و سلم, و شر الأمور محدثاتها, و كل محدثة بدعة, و كل بدعة ضلالة, و كل ضلالة في النار.
مرحبا بالأحبة في هذا اللقاء المبارك الذي نسأل الله تبارك و تعالى أن يوفقنا فيه لقول الحق و الصواب, و أن يجعل من السامعين آذانا صاغية, و قلوباً واعية, و أن يجعل الجميع من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وفي هذا اللقاء أحب أن أتكلم معكم بأمرين هامين جدا:
أحدهما :الحث على الاعتصام بكتاب الله , و سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم.
والأمر الثاني: الحث على التآخي في الله و التحاب فيه.
و هما أمران ضروريان لقيام دعوة الله تبارك و تعالى.
أما الأمر الأول: فقد وردت فيه آيات كثيرة تحث على طاعة الله و طاعة رسوله, و اتباع الكتاب, و اتباع هذا الرسول الكريم عليه الصلاة و السلام , و الاعتصام بحبل الله, و الاستمساك به.
و الثاني وردت فيه أحاديث كثيرة تحث على محبة الله و تبين منزلة التحاب في الله تبارك و تعالى. ……
ثم ذكر أدلة لكلا الأمرين.
=
علامات الحب في الله
1) أنه لا يزيد بالبرّ ولا ينقص بالجفاء :
من علامات الحب في الله أن لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفاء ، قال يحيى ابن معاذ الرازي :
حقيقة المحبة أنها لا تزيد بالبر و لا تنقص بالجفاء
2) الموافقة :
و من علامات الحب في الله الموافقة ، قال بعضهم :
يقول للشيء لا إن قلت لا *** و يقول للشيء نعم إن قلت نعم
3) لا يحسد أخاه :
و من علاماته أن لا يحسد المحبّ أخاه في دين و لا دنيا
و قد وصف الله تعالى المتحابين في قوله :” و لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة ” ( الحشر ٩ )
4) أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه :
و من علاماته أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ” لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ” ( رواه الشيخان)
5) أن يكون معيار المحبة الطاعة :
ومن علاماته أن يزداد إذا رأى أخاه في طاعة الله،وينقص إذا رأى منه معصية الله عزّ وجل
==
==
==
حقوق الأخوة و مستلزمات الصحبة و المحبة
لكل مسلم على أخيه المسلم حقوقا ، و هذه الحقوق أوجبها عقد الإسلام ، و صارت لكل مسلم بهذا العقد حرمة ، لا يحل لأحد أن ينتهكها ، و قد أتت جملة من هذه الحقوق ، و بيان لهذه الحرمة من كلام النبي صلى الله عليه و سلم ، فمن ذلك قوله صلى الله عليه و سلم : ” حقّ المسلم على المسلم ستّ : إذا لقيته فسلّم عليه ، و إذا دعاك فأجبه ، و إذا استنصحك فانصح له ، و إذا عطس فحمد الله فشمته ، و إذا مرض فعده ، و إذا مات فاتبعه ” (متفق عليه)
و في بيان حرمة المسلم ، و ما لا يجوز للمسلم أن يقع فيه مع سائر المسلمين قوله صلى الله عليه و سلم :” إياكم و الظنّ فإنّ الظنّ أكذب الحديث ، و لا تحسّسوا ، و لا تجسّسوا ، و لا تنافسوا ، و لا تحاسدوا ، و لا تباغضوا ، و كونوا عباد الله إخوانا ، المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه و لا يخذله و لا يحقره ، التقوى ههنا … و يشير إلى صدره ، بحسب امرئ من الشرّ أ يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام : دمه و عرضه و ماله ” (رواه الشيخان)
إنّ عقد الأخوة رابطة بين الشخصين كعقد النكاح بين الزوجين ، و يترتب على هذا العقد حقوق المال و البدن و اللسان و القلب ، و بمراعاة هذه الحقوق تدوم المودة و تزداد الألفة ، و يدخل المتعاقدين في زمرة المتحابين في الله ، و ينالان من الأجر و الثواب ما أسلفناه
1) حقوق الأخوة في المال :
– فمن حقوق المال الواجبة إنظاره إلى ميسرة إن كان غريما ، قال تعالى :” و إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة” (البقرة 280) ، و قال صلى الله عليه و سلم :” من يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا و الآخرة” ( مسلم و غيره)
– و من حقوق الأخوة المواساة بالمال : و هي كما قال العلماء على ثلاث مراتب :
1) أدناها أن تقوم بحاجته من فضل مالك،فإذا سنحت له حاجة،وكان عندك فضل، أعطيته ابتداءً ولم تحوجه إلى السؤال،فإن أحوجته إلى السؤال،فهو غاية التقصير في حقّ الأخوة
2) الثانية: أن تنزله منزلة نفسك ، و ترضى بمشاركته إياك في مالك
قال الحسن : كان أحدهم يشقّ إزاره بينه و بين أخيه ، و جاء رجل إلى أبي هريرة رضي الله عنه و قال : إني أريد أن أواخيك في الله ، فقال : أتدري ما حق الإخاء ؟ قال : عرّفني ، قال أن لا تكون أحقّ بدينارك و درهمك مني ، قال : لم أبلغ هذه المنزلة بعد ، قال اذهب عني
و قال علي بن الحسين لرجل : هل يُدخل أحدكم يده في كمّ أخيه أو كيسه ، فيأخذ منه ما يريد بغير إذنه ؟ قال : لا ، قال : فلستم بإخوان
3) الثالثة : و هي العليا ، أن تؤثره على نفسك ، و تقدّم حاجته على حاجتك ، و هذه رتبة الصديقين ، و منتهى درجات المحبين
قال ابن عمر رضي الله عنهما : أهدى لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم رأس شاة ، فقال : أخي فلان أحوج مني إليه ، فبعث به إليه ، فبعثه ذلك الإنسان إلى آخر ، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى رجع إلى الأول ، بعد أن تداوله سبعة
فكانت هذه المرتبة العليا من الإيثار ، هي مرتبة الصحابة الكرام رضي الله عنهم
عن حميد قال : سمعت أنسا رضي الله عنه قال : لما قدموا المدينة نزل المهاجرون على الأنصار ، فنزل عبد الرحمن بن عوف على سعد ابن الربيع ، فقال : أقاسمك مالي ، و أنزل لك عن إحدى امرأتي ، قال : بارك الله لك في أهلك و مالك ، فآثره بما آثره به ، و كأنه قبله ثم آثره به
و قد مدحهم الله عزّ و جلّ بقوله : ” و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة ” ( الحشر٩
قال أبو سليمان الداراني : كان لي أخ بالعراق ، فكنت أجيئه في النوائب ، فأقول : أعطني من مالك شيئا ، فكان يلقي إليّ كيسه فآخذ منه ما أريد ، فجئته ذات يوم فقلت : أحتاج إلى شيء فقال : كم تريد ؟ فخرجت حلاوة إخائه من قلبي و قال آخر:إذا طلبت من أخيك مالا فقال:ماذا تصنع به فقد ترك حقّ الإخاء .
فهذه مراتب المواساة بالمال ، فإن لم توافق نفسك رتبة من هذه الرتب مع أخيك فاعلم أنّ عقد الأخوة لم ينعقد بعد في الباطن ، و إنما الجاري بينكما مخالطة رسمية لا وقع لها في العقل و الدين ، قال ميمون بن مهران : “من رضي من الإخوان بترك الأفضال ، فليؤاخ أهل القبور ”
2) حقوق الأخوة في البدن :
و يقصد بها الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات ، و القيام بها قبل السؤال ، و تقديمها على الحاجات الخاصة ، و هذه أيضا لها درجات كالمواساة بالمال
1) أدناها القيام بالحاجة عند السؤال و القدرة مع البشاشة و الاستبشار و إظهار الفرح و قبول المنة :
قال النبي صلى الله عليه و سلم:”من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ،ومن يسّر على معسّر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة ،و من ستر مسلما ستره الله في الدنيا و الآخرة ،و الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ”
أرسل الحسن البصري جماعة من أصحابه في قضاء حاجة لأخ لهم ، و قال : مروا بثابت البناني فخذوه معكم ، فمروا بثابت فقال : أنا معتكف ، فرجعوا إلى الحسن فأخبروه فقال لهم : قولوا له يا أعمش أما علمت أن سعيك في حاجة أخيك خير لك من حجّة بعد حجة ، فرجعوا إلى ثابت فأخبروه ، فترك اعتكافه و خرج معهم
2) الدرجة الثانية : أن تكون حاجة أخيك مثل حاجتك :
كان بعض السلف يتفقّد عيال أخيه بعد موته أربعين سنة ، يقوم بحاجتهم ، و يتردّد كل يوم إليهم و يمونهم من ماله ، فكانوا لا يفقدون من أبيهم إلا عينه
3) أن تقدّم حاجة أخيك على حاجتك ، و تبادر إلى قضائها و لو تأخرت حاجتك
قضى ابن شبرمة لبعض إخوانه حاجة كبيرة ، فجاء بهدية ، قال : ماهذا؟ قال : لما أسديته إليّ ، قال : خذ مالك عافاك الله ، إذا سألت أخاك حاجة فلم يجهد نفسه في قضائها ، فتوضأ للصلاة و كبّر عليه أربع تكبيرات ، و عدّه من الموتى
و كان الحسن يقول:إخواننا أحبّ إلينا من أهلنا و أولادنا لأن أهلنا يذكروننا بالدنيا ، و إخواننا يذكرون بالآخرة ويدخل في حق المسلم علىأخيه المسلم زيارته له في الله عزّو جلّ ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:”ألا أخبركم برجالكم من أهل الجنة؟النبي في الجنة ، و الشهيد في الجنة ، و الصديق في الجنة ، و الرجل يزور أخاه في ناحية المصر في الجنة ”
و من الصور المشرقة للزيارة في الله عزّ و جلّ ، و ما ينبغي أن تشتمل عليه من الأخلاق و الآداب ، ما كان بين أبي عبيد القاسم ابن سلام و أحمد بن حنبل رحمهما الله ، قال أبو عبيد : “زرت أحمد بن حنبل في بيته فأجلسني في صدر داره ، و جلس دوني ، فقلت : يا أبا عبد الله ، أليس يقال : صاحب البيت أحقّ بصدر بيته؟ فقال : نعم ، يقعد و يُقعِد من يريد ، قال : فقلت في نفسي : خذ إليك يا أبا عبيد فائدة ، قال : ثم قلت له : يا أبا عبد الله ، لو كنت آتيك على نحو ما تستحقّ لأتيتك كلّ يوم ، فقال : لا تقل ، إن لي إخوانا لا ألقاهم إلا في كلّ سنة مرة ، أنا أوثق بمودّتهم ممن ألقى كل يوم ، قال : قلت : هذه أخرى يا أبا عبيد ، فلما أردت أن أقوم قام معي فقلت : لا تفعل يا أبا عبد الله ، فقال: قال الشعبي : من تمام زيارة الزائر أن تمشي معه إلى باب الدار ، و تأخذ بركابه قال : فقلت يا أبا عبيد هذه ثالثة ، قال : فمشى معي إلى باب الدار و أخذ بركابي
و من هذه الصور المشرقة لزيارة السلف بعضهم لبعض و فرحهم بهذه اللقاءات الداعية لمزيد من الإيمان و الحبّ في الله عزّ و جلّ ما رواه الخطيب البغدادي في “تاريخه” عن النقاش أنه قال : ” بلغني أنّ بعض أصحاب محمد بن غالب أبي جعفر المقرئ جاءه في يوم وحلٍ وطين ، فقال له : متى أشكر هاتين الرجلين اللتين نعبتا إليّ، في مثل هذا اليوم لتكسباني في الثواب؟ثم قام بنفسه فاستسقى له الماء،و غسل رجليه ”
3) حقوق الأخوة في اللسان :
و هي بالسكوت تارة و بالنطق أخرى
1) السكوت على المكاره :
1- لا يذكر عيوبه :
فمن حق الأخ على أخيه،أن يسكت عن ذكر عيوبه في غيبته و حضرته،بل يتجاهل عنه أما ذكر عيوبه و مساويه في غيبته فهو من الغيبة المحرمة ، و ذلك حرام في حق كل مسلم ، و يزجرك عنه أمران بالإضافة إلى زجر الشرع : أحدهما : أن تطالع أحوال نفسك ، فإن وجدت فيها شيئا واحدا مذموما ، فهوِّن على نفسك ما تراه من أخيك ، و قدر أنه عاجز عن قهر نفسه في تلك الخصلة الواحدة ، كما أنت عاجز عن قهر نفسه في تلك الخصلة الواحدة ، كما أنت عاجز عما أنت مبتلى به ، و الأمر الثاني : أنك تعلم أنك لو طلبت منزها عن كل عيب اعتزلت عن الخلق كافة ، و لم تجد من تصاحبه أصلا
كما قال النابغة الذبياني :
و لست بمستبق أخا لا تلُمُّه *** على شعث أيّ الرجال المهذّب
فما من أحد من الناس إلا و له محاسن و مساوئ ، فإذا غلبت المحاسن المساوئ فهو الغاية ، و المؤمن أبدا يحضر في نفسه محاسن أخيه لينبعث من قلبه التوقير و الودّ و الاحترام ، و أما المنافق اللئيم فإنه أبدا يلاحظ المساوئ و العيوب
قال ابن المبارك : المؤمن يطلب المعاذير ، و المنافق يطلب العثرات
و قال الفضيل : الفتوة العفو عن زلات الإخوان
2- أن لا يفشي أسراره :
و من ذلك أن يسكت عن إفشاء أسراره و لا إلى أخصّ أصدقائه ، و لو بعد القطيعة و الوحشة ، فإن ذلك من لؤم الطبع و خبث النفس
قيل لبعض الأدباء : كيف حفظك للسر؟ قال : أنا قبره .
و أفشى بعضهم سرا إلى أخيه ثم قال له حفظت ، قال : بل نسيت .
و قالوا : قلوب الأحرار قبور الأسرار
كان أبو سعيد الثوري يقول : إذا أردت أن تؤاخي رجلا فأغضبه ثم دس عليه من يسأله عنك فإن قال خيرا و كتم سرا فاصحبه
3- أن لا يجادله و لا يماريه :
و من ذلك أن يسكت عن مماراته و جداله :
قال بعض السلف : من لاحى الإخوان و ماراهم ، قلّت مروءته ، و ذهبت كرامته
و قال عبد الله بن الحسن:إياك و مماراة الرجال، إنك لن تعدم مكر حليم ، أو مفاجأة لئيم
و بالجملة فلا باعث على المماراة إلا إظهار التميّز بمزيد العقل و الفضل ، واحتقار المردود عليه بإظهار جهله و بالغ بعضهم في ترك المراء و الجدال فقال : إذا قلت لأخيك قم ، فقال : إلى أين؟ فلا تصحبه ، بل ينبغي أن يقوم و لا يسأل
والمراء يفتن القلب وينبت الضغينة و يجفي القلب و يقسيه ويرقق الورع في المنطق و الفعل
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال :” قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : “من ترك المراء و هو مبطل بنى له بيت في ربض الجنة ، و من تركه و هو محقّ بنى له في وسطها ، و من حسن خلقه بنى له في أعلاها” (رواه أبو داود و غيره)
قال خالد بن يزيد بن معاوية الأموي :”إذا كان الرجل مماريا لجوجا معجبا برأيه فقد تمت خسارته ”
قال الحسن البصري :”إياكم و المراء ، فإنه ساعة جهل العالم ، و بها يبتغي الشيطان زلّته”
2) النطق بالمحاب :
و كما تقتضي الأخوة السكوت عن المكاره ، تقتضي أيضا النطق بالمحاب ، بل هو أخص بالأخوة ، لأن من قنع بالسكوت صحب أهل القبور
1- التودد باللسان :
فمن ذلك أن يتودد إليه بلسانه ، و يتفقده في الأحوال التي يحب أن يتفقد فيها ، و كذا جملة أحواله التي يسر بها ينبغي أن يظهر بلسانه مشاركته له في السرور بها ، فمعنى الأخوة المساهمة في السراء و الضراء
2- إخباره بمحبته :
و من ذلك أن يخبره بمحبته له : عن أنس بن مالك قال : مر رجل بالنبي صلى الله عليه و سلم و عنده ناس ، فقال رجل ممن عنده : إني لأحب هذا لله ، فقال النبي صلى الله عليه و سلم :”أعلمته؟” قال : لا ، قال : ” قم إليه فأعلمه ” فقام إليه فأعلمه ، فقال : أحبّك الذي أحببتني له ثم قال ، ثم رجع فسأله النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره بما قال فقال النبي صلى الله عليه و سلم :”أنت مع من أحببت ، و لك ما احتسبت ” (رواه أحمد و الحاكم و صححه الذهبي)
و عن المقدام بن معدى كرب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال :” إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه ” (رواه أحمد و غيره)
و إنما أمر النبي صلى الله عليه و سلم بالإخبار ، لأن ذلك يوجب زيادة حب ، فإن عرف أنك تحبه أحبك بالطبع لا محالة ، فإذا عرفت أنه أيضا يحبك زاد حبك لا محالة ، فإذا عرفت أنه أيضا يحبك زاد حبك لا محالة ، فلا يزال الحب يتزايد من الجانبين و يتضاعف ، و التحابب بين المسلمين مطلوب في الشرع محبوب في الدين ، قال النبي صلى الله عليه و سلم : ” لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ، و لا تؤمنوا حتى تحابوا ، ألا أدلكم على شيء إذا
فعلتموه تحاببتم ، أفشوا السلام بينكم ” ( رواه مسلم ، و قال النووي : قوله :” لا تؤمنوا حتى تحابوا ” معناه لا يكمل إيمانكم ، و لا يصلح حالكم في الإيمان إلا بالتحاب ”
3- دعوته بأحبّ الأسماء إليه :
و من ذلك أن يدعوه بأحبّ أسمائه إليه في غيبته و حضوره ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ثلاث يصفين لك ودّ أخيك : أن تسلّم عليه إذا لقيته أولا ، و توسّع له في المجلس ، و تدعوه بأحب الأسماء إليه
4- الثناء عليه :
و من ذلك : أن تثني عليه بما تعرف من محاسن أحواله و آكد من ذلك أن تبلغه ثناء من أثنى عليه ، مع إظهار الفرح ، فإن إخفاء ذلك محض الحسد ، و ذلك من غير كذب و لا إفراط ، فإن ذلك من أعظم الأسباب في جلب المحبة
6- التعليم و النصيحة :
و من ذلك التعليم و النصيحة : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :” الدين النصيحة قالوا لمن يا رسول الله ، قال : ” لله و لكتابه ، و لرسوله ، و لأئمة المسلمين و عامتهم ” (رواه مسلم) ، و بخاصة إذا استنصح الأخ أخاه وجب عليه أن يخلص له النصيحة ، كما سلف في الحقوق العامة للمسلمين ، و ينبغي أن تكون النصيحة في سرّ لا يطلع عليه أحد فما كان على الملإ فهو توبيخ و فضيحة ، و ما كان في السر ، فهو شفقة و نصيحة
قال الشافعي رحمه الله : من وعظ أخاه سرا فقد نصحه و زانه ، و من وعظه علانية فقد فضحه و شانه و قال رحمه الله :
تعمّدني بنصحك في انفرادي *** و جنّبني النصيحة في الجماعة
فإنّ النصح بين الناس نوع *** من التوبيخ لا أرضى استماعه
و إن خالفتني و عصيت قولي *** فلا تجزع إذا لم تعط طاعة
و تتأكد النصيحة كذلك إذا تغيّر أخوك عما كان عليه من العمل الصالح
قال أبو الدرداء : إذا تغيّر أخوك ، و حال عما كان عليه ، فلا تدعه لأجل ذلك ، فإن أخاك يعوج مرة و يستقيم مرة ، و حكى عن أخوين من السلف انقلب أحدهما عن الاستقامة ، فقيل لأخيه : ألا تقطعه و تهجره؟ فقال: أحوج ما كان إليّ في هذا الوقت لما وقع في عثرته أن آخذ بيده ،و أتلطف له في المعاتبة، و أدعو له بالعود إلى ما كان عليه
و الأخوة عقد ينزل منزلة القرابة ، فإذا انعقد تأكد الحق ووجب الوفاء بموجب العقد ، و من الوفاء به أن لا يهمل أخاه أيام حاجته و فقره ، و فقر الدين أشدّ من فقر المال ، و الأخوة عند النائبات و حوادث الزمان ، و هذا من أشدّ النوائب
و القريب ينبغي أن لا يهجر من أجل معصيته ، حتى يقام له بواجب النصيحة ، و ذلك لأجل قرابته ، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم في عشيرته : ” فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون ” ( الشعراء 216)
و لم يقل : إني برئ منكم ، مراعاة لحق القرابة و لحمة النسب ، و لهذا أشار أبو الدرداء لما قيل له : ألا تبغض أخاك و قد فعل كذا؟ فقال : إنما أبغض عمله و إلا فهو أخي
و كذا التفريق بين الأحباب من محاب الشيطان ، كما أن مقارفة العصيان من محابه ، فإذا حصل للشيطان أحد غرضيه ، فلا ينبغي أن يضاف إليه الثاني
7- الدعاء له في حياته و بعد مماته :
و من ذلك الدعاء لأخيه في حياته و بعد مماته :
عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ” ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك : و لك بمثل (رواه مسلم)
قال النووي رحمه الله : في هذا فضل الدعاء لأخيه المسلم بظهر الغيب ، و لو دعا لجماعة من المسلمين حصلت هذه الفضيلة ، و لو دعا لجملة من المسلمين فالظاهر حصولها أيضا ، و كان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لنفسه يدعو لأخيه المسلم بتلك الدعوة ، لأنها تستجاب و يحصل له مثلها ، جاء في تاريخ بغداد للخطيب البغدادي في ترجمة الطيب إسماعيل أبي حمدون –أحد القراء المشهورين – قال : كان لأبي حمدون صحيفة فيها مكتوب ثلاثمائة من أصدقائه و كان يدعو لهم كل ليلة ، فتركهم ليلة فنام ، فقيل له في نومه يا أبا حمدون : لِمَ لَمْ تسرج مصابيحك الليلة ، قال : فقعد فأسرج ، و أخذ الصحيفة فدعا لواحد واحد حتى فرغ
4) حقوق الأخوة في القلب :
من حق المسلم على أخيه في الله عز و جل الوفاء و الإخلاص في محبته و صحبته ، و علامة ذلك أن تدوم المحبة ، و أن يجزع من الفراق ، و من حقه أن تحسن به الظن ، و أن تحمل كلامه و تصرفاته على أطيب ما يكون ، و من ذلك أن لا يكلف أخاه التواضع له ، و التفقد لأحواله ، و القيام بحقوقه
1) الوفاء و الإخلاص :
و معنى الوفاء الثبات على الحب و إدامته إلى الموت معه ، و بعد الموت مع أولاده و أصدقائه ، فإنّ الحبّ في الله إنما يراد به ما عند الله عزّ و جلّ ، فلا ينتهي بموت أخيه
قال بعضهم : قليل الوفاء بعد الوفاة ، خير من كثيره في حال الحياة ..
و قد جاء أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلم أكرم عجوزا أدخلت عليه فقيل له في ذلك ، فقال :”إنها كانت تأتينا أيام خديجة ، و إنّ حسن العهد من الإيمان”(صححه الحاكم و الذهبي و حسنه الألباني )
– و من الوفاء للأخ مراعاة جميع أصدقائه و أقاربه و المتعلقين به
-و من الوفاء:أن لا يتغيّر حاله مع أخيه ، و إن ارتفع شأنه واتّسعت ولايته و عظم جاهه
قال بعضهم :
إنّ الكرام إذا ما أيسروا ذكروا *** من كان يألفهم في المنزل الخشن
و أوصى بعض السلف ابنه فقال له : يا بنيّ لا تصحب من الناس ، إلا من إذا افتقرت إليه قرب منك ، و إذا استغنيت عنه لم يطمع فيك ، و إن علت مرتبته لم يرتفع عليك و مهما انقطع الوفاء بدوام المحبة ، شمت به الشيطان ، فإنه لا يحسد متعاونين على بر ،كما يحسد متواخيين في الله و متحابين فيه ، فإنه يجهد نفسه لإفساد ما بينهما ، قال تعالى :” و قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إنّ الشيطان ينزغ بينهم ” ( الإسراء 53)
قال بعضهم : ما تواخى اثنان في الله فتفرّق بينهما ، إلا بذنب يرتكبه أحدهما
و قال بعضهم : إذا قصر العبد في طاعة الله ، سلبه الله من يؤنسه ، و ذلك لأنّ الإخوان مسلاة الهموم و عون على الدين
و لذلك قال ابن المبارك : ألذّ الأشياء مجالسة الإخوان ، و الانقلاب إلى كفاية
و من آثار الصدق و الإخلاص و تمام الوفاء ، أن تكون شديد الجزع من المفارقة ، نفور الطبع عن أسبابها ، كما قيل :
وجدت مصيبات الزمان جميعها *** سوى فرقةِ الأحبابِ هيّنةَ الخَطْب
و أنشد ابن عُيينة هذا البيت و قال : لقد عهدت أقواما فارقتهم منذ ثلاثين سنة ، ما يخيّل إليّ أن حسرتهم ذهبت من قلبي
– و من الوفاء أن لا يسمع بلاغات عن صديقه
– و من الوفاء أن لا يصادق عدو صديقه : قال الشافعي رحمه الله : إذا أطاع صديقك عدوك ، فقد اشتركا في عداوتك
2) حسن الظنّ :
و من حقوق الأخوة حسن الظنّ بأخيه :
قال الله تعالى”يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظنّ فإنّ بعد الظنّ إثم”(الحجرات 12)
و من مناقب الإمام الشافعي ما قاله أحد تلامذته عنه الربيع بن سليمان قال : ” دخلت على الشافعي و هو مريض فقلت له :قوى الله ضعفك ، فقال : لو قوى ضعفي قتلني ، فقلت : والله ما أردت إلا الخير ، قال : أعلم أنك لو شتمتني لم ترد إلا الخير ”
فينبغي أن يحمل كلام الإخوان على أحسن معانيه ، و أن لا يظن بالإخوان إلا خيرا ، فإن سوء الظن غيبة القلب
3) التواضع :
و من حقوق الأخوة القلبية أن يتواضع لإخوانه ، و يسيء الظن بنفسه فإذا رآهم خيرا من نفسه يكون هو خيرا منهم
قال أبو معاوية الأسود : إخواني كلهم خير مني ، قيل و كيف ذلك؟ قال : كلهم يرى لي الفضل عليه ، و من فضلني على نفسه فهو خير مني
و مهما رأى الفضل لنفسه فقد احتقر أخاه ، و هذا في عموم المسلمين مذموم ، قال صلى الله عليه و سلم : ” بحسب امرئ من الشّرّ أن يحقر أخاه المسلم ” (رواه الشيخان)
لطائف و نوادر في المحبة و الإخاء
*** ليس من الوفاء ***
ليس من الوفاء مداهنة الأخ في الدين ، كان الشافعي رحمه الله آخى محمد بن الحكم ، و كان يقرّبه و يقبل عليه و يقول : ما يقيمني بمصر غيره ، فاعتلّ محمد فعاده الشافعي فقال :
مرض الحبيب فعدته *** فمرضت من حذري عليه
و أتى الحبيب يعودني *** فبرئت من نظري إليه
وظنّ الناس لصدق مودّتهما أنه يفوّض أمر حلقته إليه بعد وفاته،فقيل للشافعي في علته التي مات منها إلى من نجلس بعدك يا أبا عبد الله،فاستشرف له محمد بن الحكم وهو عند رأسه ليومئ إليه،فقال الشافعي:سبحان الله أيشكّ في هذا؟أبويعقوب البويطي،فانكسر لها محمد ، ومال أصحابه إلى البويطي مع أنّ محمدا كان قد حمل عنه مذهبه كله،لكن كان البويطي أفضل وأقرب إلى الزهد والورع ، فنصح الشافعي لله وللمسلمين ، وترك المداهنة، ولم يؤثر رضا الخلق على رضا الله تعالى ، و المقصود أنّ الوفاء بالمحبة من تمامها النصح لله
فالنصح لله مقدّم على الوفاء بمحبة الإخوان
*** صحبة الأحمق ***
قال أبو حاتم رحمه الله:من علامات الحمق التي يجب للعاقل تفقدّها ممن خفى عليه أمره:
سرعة الجواب ، و ترك التثبت ، و الإفراط في الضحك ، و كثرة الالتفات ، و الوقيعة في الأخيار و الاختلاط بالأشرار ، و الأحمق إذا أعرضت عنه اغتمّ ، و إن أقبلت عليه اغترّ ، و إن حلمت عنه جهل عليك….
*** ما ضاق مكان بمتحابين ***
عن الأثرم قال : دخل اليزيدي يوما على الخليل بن أحمد ، و هو جالس على وسادة ، فأوسع له فجلس معه اليزيدي على وسادته ، فقال له اليزيدي : أحسبني قد ضيّقت عليك ، فقال الخليل : ما ضاق مكان على اثنين متحابين ، و الدنيا لا تسع اثنين متباغضين
*** صاحب أهل الدين ***
قال ابن الجوزي رحمه الله :
صاحب أهل الدين و صافهم ،
واستفد من أخلاقهم و أوصافهم ،
واسكن معهم بالتأدب في دارهم ،
و إن عاتبوك فاصبر و دارهم ،
أنت في وقت الغنائم نائم ،
و قلبك في شهوات البهائم هائم ،
إن صدقت في طِلابهم فانهض و بادر ،
و لا تستصعب طريقهم فالمعين قادر ،
تعرض لمن أعطاهم وسل فمولاك مولاهم
ربّ كنز وقع به فقير ، و ربّ فضل فاز به صغير
علم الخضر ما خفى على موسى ، و كشف لسليمان ما خفى عن داود
*** من أولى بالغم ***
قال الأصمعي :
سأل رجل أبا عمرو بن العلاء حاجة فوعده بها ، ثم إنّ الحاجة تعذّرت على أبي عمرو ، فلقيه الرجل بعد ذلك ، فقال له : يا أبا عمرو وعدتني وعدا فلم تنجزه ؟ فقال له أبو عمرو : فمن أولى بالغم أنا أو أنت ، فقال له : أنا ، فقال له أبو عمرو : بل أنا ، فقال له الرجل : و كيف ذلك أصلحك الله ؟ قال : لأني وعدتك وعدا فأبتَ بفرح الوعد ، و أبتُ أنا بهم الإنجاز ، و بتَّ ليلتك فرحا ، و بتُّ مفكرا مغموما ثم مغموما ، ثم عاق القدر عن بلوغ الإرادة ، فلقيتني مدلا ، و لقيتك محتشما ، فمن هنا صرت أولى بالغم
*** من هم الأحبة ؟ ***
قال الشافعي رحمه الله :
إذا المرء لا يرعاك إلا تكلفا *** فدعه و لا تُكثر عليه التأسفا
ففي النفس أبدال و في الترك راحة *** و في القلب صبر للحبيب و لو جفا
فما كل من تهواه يهواك قلبه *** و لا كل من صافيته لك قد صفا
إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة *** فلا خير في ودّ يجيء تكلفا
ولا خير في خلّ يخون خليله *** و يلقاه من بعد المودّة بالجفا
و ينكر عيشا قد تقادم عهده *** و يظهر سرا كان بالأمس قد خفا
سلام على الدنيا إذا لم يكن بها *** صديق صادق الوعد مُنصفا
صور مشرقة للمحبة الصادقة
1) النبي صلى الله عليه و سلم والصدّيق أبو بكر رضي الله عنه :
محبة صادقة في الله عز و جل ، و لله عز و جل ، و من المواقف التي تدل على صدق المودة و المحبة ، واختصاص المحب لما يدور في قلب أخيه الذي أحبه في الله عز و جل :
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : ” خطب رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس و قال : إنّ الله خيّر عبدا بين الدنيا و بين ما عنده ، فاختار ذلك العبد ما عند الله ، قال : فبكى أبو بكر ، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عبد خُيِّر ، فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم هو المخيّر ، و كان أبو بكر أعلمنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ” إنّ أمَنَّ الناس عليّ في صحبته و ماله أبو بكر ، و لو كنت متّخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر ، و لكن أخوة الإسلام و مودّته ، لا يبقيّن في المسجد باب إلا سُدّ ، إلا باب أبي بكر ” (رواه الشيخان)
قال ابن رجب في “لطائف المعارف ” :
لما عرّض الرسول صلى الله عليه و سلم على المنبر باختياره للقاء على البقاء و لم يصرّح ، خفى المعنى على كثير ممن سمع ، و لم يفهم المقصود غير صاحبه الخصيص به ، ثاني اثنين إذ هما في الغار ، و كان أعلم الأمة بمقاصد الرسول صلى الله عليه و سلم ، فلما فهم المقصود من هذه الإشارة بكى و قال : بل نفديك بأموالنا و أنفسنا و أولادنا ، فسكّن الرسول صلى الله عليه و سلم من جزعه ، و أخذ في مدحه و الثناء عليه على المنبر ، ليعلم الناس كلهم فضله ، و لا يقع عليه اختلاف في خلافته ، فقال : ” إنّ من أمَنّ الناس عليّ في صحبته و ماله أبو بكر
2) المهاجرون و الأنصار :
ما حدث بين المهاجرين و الأنصار أخوة صادقة ، و مدح الله عزّ و جلّ الأنصار بقوله :”
والذين تبوّؤا الدّار و الإيمان من قبلهم يُحبون من هاجر إليهم و لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة و من يوق شُحّ نفسه فأولئك هم المفلحون ” (الحشر ٩
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قالت الأنصار اقسم بيننا و بين إخواننا النخيل ، قال : لا ، فقالوا : أتكفونا المؤنة و نشرككم في الثمرة قالوا سمعنا و أطعنا ” ( البخاري)
قال ابن كثير رحمه الله تعالى : ” يُحبون من هاجر إليهم ” : أي من أكرمهم و شرف أنفسهم ، يحبون المهاجرين و يواسونهم بأموالهم ، و قوله :” و لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا” قال ابن كثير رحمه الله : أي و لا يجدون في أنفسهم حسدا للمهاجرين فيما فضلهم الله به ، من المنزلة و الشرف و التقديم في الذكر و الرتبة ، و قوله : ” و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة ”
قال القرطبي : الإيثار هو تقديم الغير على النفس و حظوظها الدنيوية ، و رغبة في الحظوظ الدينية ، و ذلك ينشأ عن قوة اليقين و توكيد المحبة و الصبر على المشقة ، أي يؤثرون على أنفسهم بأموالهم و منازلهم لا عن غنى بل مع احتياجهم إليها
و قال رحمه الله : و الإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال
و من الأمثال السائرة : و الجود بالنفس أقصى غاية الجود ، قال الدكتور بابللي في ” معاني الأخوة في الإسلام و مقاصدها” هذا الحب لا لصنيعة سبقت من المهاجرين إليهم ، أو ليد كانت لهم عليهم ، و إنما الإيمان بالله الذي وحد بين قلوبهم ، و هو الحب في الله الذي جمع بينهم ، ففتحوا قلوبهم لإخوانهم في الدين ، قبل أن يفتحوا لهم منازلهم
3) و من هذه الصور المشرقة للمحبة الصادقة : ما رواه القرطبي في “تفسيره” عن حذيفة العدوي قال : انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي – و معي شيء من الماء – و أنا أقول إن كان به رمق سقيته ، فإذا أنا به ، فقلت له : أسقيك ، فأشار برأسه أن نعم ، فإذا أنا برجل يقول : آه ، آه ، فأشار إليّ ابن عمي أن أنطلق إليه ، فإذا هو هشام بن العاص ، فقلت : أسقيك ؟ فأشار أن نعم ، فسمع أخر يقول آه ، آه ، فأشار هشام أن انطلق إليه ، فجئته فإذا هو قد مات ، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات ، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات
آفـات الصحبة
بعد ذكر فضل المحبة في الله عز و جل و الأخوة فيه ، من تمام النصيحة التحذير من آفات الصحبة ، و من آفات الصحبة :
1) كثرة الزيارات :
فمن آفات الصحبة كثرة الزيارات و المجالس التي هي مجالس مؤانسة و قضاء وطر ، أكثر منها مجالس ذكر و تذكير و تعاون على البر و التقوى ، فيكون في هذه المجالس ضياع الأوقات و ذهاب المروءات و قد يجرّ فضول الكلام إلى ما يغضب الملك العلام ، قال النبي صلى الله عليه و سلم : ” ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه ، إلا قاموا على مثل جيفة حمار ، و كان عليهم حسرة يوم القيامة ” ( قال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي و الألباني في الصحيحة )
قال ابن القيم رحمه الله في ” الفوائد” :
الاجتماع بالإخوان قسمان :
1) أحدهما اجتماع على مؤانسة الطبع و شغل الوقت ، فهذا مضرته أرجح من منفعته ، و أقل ما فيه أنه يفسد القلب و يضيّع الوقت
2) الثاني : الاجتماع بهم على أسباب النجاة و التواصي بالحق و التواصي بالصبر ، فهذا من أعظم الغنيمة و أنفعها ، و لكن فيه ثلاث آفات :
1- إحداها : تزيّن بعضهم لبعض
2- الثانية : الكلام و الخلطة أكثر من الحاجة
3- أن يصير ذلك شهوة و عادة ينقطع بها عن المقصود
و بالجملة فالاجتماع و الخلطة لقاح إما للنفس الأمارة ، و إما للقلب و النفس المطمئنة ، و النتيجة مستفادة من اللقاح فمن طاب لقاحه طابت ثمرته و هكذا الأرواح الطيبة لقاحها
من الملك ، و الخبيثة لقاحها من الشيطان ، و قد جعل الله سبحانه بحكمته الطيبات للطيبين ، و الطيبين للطيبات ، و عكس ذلك
2) الإفراط في الحب و البغض :
و من آفاتها الإفراط في الحب و البغض :
عن زيد بن أسلم عن أبيه قال : قال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه : يا أسلم لا يكن حبك كلفا ، و لا بغضك تلفا ، قلت : و كيف ذلك ؟ قال : إذا أحببت فلا تكلف كما يكلف الصبي بالشيء يحبه،و إذا أبغضت فلا تبغض بغضا تحب أن يتلف صاحبك و يهلك
و عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : أحبب حبيبك هونا ما ، عسى أن يكون بغيضك يوما ما ، و أبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما ”
و قال أبو الأسود الدؤلي :
و أحبب إذا أحببت حبا مقاربا *** فإنك لا تدري متى أنت نازع
و أبغض إذا أبغضت غير مباين *** فإنك لا تدري متى أنت راجع
و المقصود الاقتصاد في الحب و البغض ، فإنّ الإسراف في الحب داع إلى التقصير ، و كذلك البغض ، فعسى أن يصير الحبيب بغيضا ، و البغيض حبيبا ، فلا تكن مسرفا في الحب فتندم ، و لا في البغض فتأسف ، لأن القلب يتقلب فيندم أو يستحي
قال بعض الحكماء : و لا تكن في الإخاء مكثرا ، ثم تكون فيه مدبرا ، فيعرف سرفك في الإكثار ، بجفائك في الإدبار
و يخشى مع ذلك مع فرط المحبة أن يوافقه على باطل ، أو يقصر معه في واجب النصيحة لله عزّ و جل ، و قد تنقلب هذه المحبة إلى بغض مفرط ، و يخشى عند ذلك إفشاء الأسرار ، و ترك العدل و الإنصاف
و عن الحسن قال : أحبوا هونا و أبغضوا هونا ، فقد أفرط أقوام في حب أقوام فهلكوا ، و أفرط أقوام في بغض أقوام فهلكوا
3) مخالطة المحبة شيء من هوى النفس :
و من آفاتها أن يخالط هذه المحبة التي هي لله عز و جل و في الله عز و جل شيء من هوى النفس ، فبدلا من أن يحب في أخيه طاعته لله عز و جل والتزامه بالشرع ، يحبه لملاحة صورة أو لمنفعة كإصلاح دنيا ، و بدلا من أن يرجو بهذه المحبة ما عند الله عز و جل ، و يتقرّب بها إليه ، يرجو بها استئناسا بشخصه ، أو تحقيقا لغرضه ، و هذه المحبة سرعان ما تزول بزوال سببها ، او بشيء من الجفاء ، فإنه ما كان لله بقى ، كما يقال :
ما كان لله دام واتّصل *** و ما كان لغير الله انقطع وانفصل
قال الله عز و جل : ” الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين” ( الزّخرف 17)
و قال حاكيا عن خليله أنه قال لقومه :” إنما اتّخذتم من دون الله أوثانا مودّة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض و يلعن بعضكم بعضا و مأواكم النار و ما لكم من ناصرين ” ( العنكبوت 25)
فنسأل الله أن يجعل محبتنا لمن نحبه خالصة لوجهه الكريم ، و مقربة إليه و إلى داره دار السلام و النعيم المقيم ، و أن تكون عونا لنا على طاعته ، و دفعا لنا عن معصيته
4) الاستكثار من الإخوان :
و من آفاتها الاستكثار من الإخوان ، حتى يعجز عن القيام بحقوقهم و مواساتهم عند حاجتهم واضطرارهم
قال في تنبيه المغترين : من أخلاق السلف رضي الله عنهم : أنهم لا يتخذون من الإخوان إلا من علموا من نفوسهم الوفاء بحقه ،فإنّ أخاك إذا لم توف بحقه كان فارغ القلب منك
و قال ابن حزم رحمه الله في “مداواة النفوس” : ليس شيء من الفضائل أشبه بالرذائل من الاستكثار من الإخوان و الأصدقاء ، فإنّ ذلك فضيلة تامة مركبة ، لأنهم لا يكتسبون إلا بالحلم و الجود و الصبر و الوفاء و الاستضلاع و المشاركة و العفة و حسن الدفاع و تعلم العلم و كل حال محمودة ، و لكن إذا حصلت عيوب الاستكثار منهم ، و صعوبة الحال في إرضائهم ، و الغرر في مشاركتهم ، و ما يلزمك من الحق لهم عند نكبة تعرض لهم ، فإن غدرت بهم أو أسلمتهم لُؤّمت و ذممت ، و إن وفيت أضررت بنفسك ، و ربما هلكت فيكون السرور بهم ، لا بفي بالحزن الممضّ من أجلهم ” اه باختصار
و قال عمرو بن العاص : كثرة الأصدقاء كثرة الغرماء
و قال ابن الرومي :
عدوّك من صديقك مستفاد *** فلا تستكثرنّ من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه *** يكون من الطعام أو الشراب
5) كشف الستر :
و من آفاتها : كشف الستر عن الدين و المروءة و الأخلاق و الفقر و سائر العورات ، فإنّ
الإنسان لا يخلو في دينه و دنياه من عورات ، و الأولى سترها ، كما مدح الله عزّ و جلّ المستترين فقال : ” يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ” ( البقرة 273)
و قال الشاعر :
و لا عار إن زالت عن الحرّ نعمة *** و لكن عارا أن يزول التّجمّل
و عن الحسن قال : أردت الحجّ فسمع ثابت البناني بذلك ، و كان أيضا من أولياء الله فقال : بلغني أنك تريد الحجّ ، فأحببت أن أصحبك ، فقال له الحسن : ويحك ، دعنا نتعاشر بستر الله علينا ، إني أخاف أن نصطحب فيرى بعضنا من بعض ما نتماقت عليه
قال احمد فريد : و يتأكد ذلك في حق من تصدى لوعظ الناس ، فلا يكثر من صحبتهم و مخالطتهم في فضول المباحات ، حتى ينتفعوا بوعظه ، و يتمتع بستر الله عليه ، مما يكره عليه الناس من ذنوبه و عيوبه ، نسأل الله العفو و العافية في الدنيا و الآخرة
6) هذه الآفة خاصة بصحبة الأغنياء :
و من آفات صحبة الأغنياء إزدراء نعمة الله عليه و تحريك الطمع و الحرص في قلبه و قد لا يتيسّر له فلا ينال إلا الغم بذلك
إنّ من نظر إلى زهرة الحياة الدنيا و زينتها تحرّك حرصه ، و انبعث بقوة الحرص طمعه ، و لا يرى إلا الخيبة في أكثر الأحوال ، فيتأذى بذلك ، و مهما اعتزل لم يشاهد ، و إذا لم يشاهد لم يشته و لم يكمع و لذلك قال الله تعالى : ” و لا تمدّن عينيك إلى ما متّعنا به أزواجا منهم ” (طه 131)
و قال صلى الله عليه و سلم :” انظروا إلى من أسفل منكم و لا تنظروا إلى من هو فوقكم ، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم ” (رواه مسلم و البخاري بمعناه)
قال عون بن عبد الله : كنت أجالس الأغنياء ، فلم أزل مغموما ، كنت أرى ثوبا أحسن من ثوبي ، و دابة أفره من دابتي ، فجالست الفقراء فاسترحت
7) الإستئناس بالناس :
و من آفات الصحبة : الاشتغال بالإخوان عن تفريغ القلب للفكر و الاستئناس بالله عز و جل الذي هو أول مطلوب القلوب و أعظم سبب لسعادتها و نجاتها و قد قيل : الاستئناس بالناس من علامات الإفلاس
قال بعض الحكماء : إنما يستوحش الإنسان من نفسه لخلو ذاته عن الفضيلة ، فيكثر حينئذ ملاقاة الناس ، و يطرد الوحشة عن نفسه بالكون معهم ، فإذا كانت ذاته فاضلة طلب الوحدة ، ليستعين بها على الفكرة ، و يستخرج العلم و الحكمة