6709 الفوائد المنتقاة على صحيح مسلم
مجموعة: إبراهيم البلوشي وأبي عيسى البلوشي وهشام السوري، وعبدالله المشجري، وسامي آل سالمين، وعلي آل رحمه، وكرم.
ومجموعة : طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، ونوح وموسى الصوماليين، وخميس العميمي.
كتاب الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالْآدَابِ، باب: النَّهْىِ عَنِ الشَّحْنَاءِ، وَالتَّهَاجُرِ.
———
صحيح مسلم، باب (11): النَّهْىِ عَنِ الشَّحْنَاءِ، وَالتَّهَاجُرِ،
6709 – حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: ((تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلاَّ رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا)).
6710 – حَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، ح وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، الضَّبِّيُّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، كِلاَهُمَا عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، بِإِسْنَادِ مَالِكٍ نَحْوَ حَدِيثِهِ غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ الدَّرَاوَرْدِيِّ ((إِلاَّ الْمُتَهَاجِرَيْنِ)). مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبْدَةَ، وَقَالَ قُتَيْبَةُ ((إِلاَّ الْمُهْتَجِرَيْنِ)).
6711 – حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، رَفَعَهُ مَرَّةً، قَالَ: ((تُعْرَضُ الأَعْمَالُ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ، فَيَغْفِرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِكُلِّ امْرِئٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلاَّ امْرَأً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا)).
6712 – حَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ، وَعَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ، قَالاَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ، أَنَسٍ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: ((تُعْرَضُ أَعْمَالُ النَّاسِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إِلاَّ عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: اتْرُكُوا – أَوِ ارْكُوا – هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا)).
==========
تمهيد:
” مازلنا مع أحاديث السلامة والمودة والتآلف بين المسلمين، وقد مضى قريبا النهي عن التباغض والتحاسد والتدابر والتقاطع والظن السيئ والتحسس والتجسس والتنافس والهجر والخصام فوق ثلاثة أيام والنهي عن البيع على البيع والنهي عن ظلم المسلم والتخاذل عن نصرته ومساعدته وعن تحقيره، وأن كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه، وسبقت الدعوة للمسلمين أن يكونوا عباد الله إخوانا، وإن الله لا ينظر إلى الصور والأجسام ولكن ينظر إلى القلوب وهو بها عليم.
وليس المقصود من أحاديث الباب النهي عن الشحناء كما تبعنا في هذا العنوان الإمام النووي رحمه الله؛ لأن النهي عن الشحناء قد سبق بألفاظ كثيرة، ولكن المقصود منها التخويف والوعيد من عاقبة عدم الانتهاء عما نهى الله عنه، وكأنه تعالى يقول: انتهوا عن الشحناء؛ لتغنموا مغفرة الله لذنوبكم، فإن المتشاحنين لا تغفر ذنوبهما حتى يصطلحا”. [فتح المنعم]
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته: قال الحافظ النووي رحمه الله:
(١١) – (بابُ النَّهْيِ عَنِ الشَّحْناءِ، والتَّهاجُرِ)
“الشحناء” بالفتح، والمد: البغضاء، والعداوة، و”التهاجر”: التقاطع، والتدابر.
قال الإمام مسلم بن الحجاج:
(عَنْ مالِكِ بْنِ أنَسٍ) إمام دار الهجرة، وقوله: (فِيما قُرِئَ عَلَيْهِ) ببناء الفعل للمفعول، متعلّق بحال مقدّر؛ أي: حال كونه كائنًا في جملة الأحاديث التي قُرئت على مالك رحمه الله.
[فائدة]: إنما يُعبّر يحيى بن يحيى فيما يرويه عن مالك بهذه الصيغة كثيرًا؛ لأن مالكًا رحمه الله كان يفضّل القراءة على السماع، أو يسوّي بينهما، فكان غالب من يأخذ عنه يأخذه قراءة، بل بالغ بعض أصحابه، فقال: صَحِبْته سبع عشرة سنة، فما رأيته قرأ «الموطّأ» على أحد، بل يقرؤون عليه، ذَكَره السخاويّ، والله تعالى أعلم.
(عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أبِيهِ) أبي صالح ذكوان السمّان الزيّات (عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه-؛ (أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «تُفْتَحُ أبْوابُ الجَنَّةِ)؛ أي: فتحًا حقيقيًّا؛ لأن الجنة مخلوقة، مُغلقة، وفَتْح أبوابها ممكن، ويكون دليلًا على المغفرة، ويحْتَمِل أنه كناية عن مغفرة الذنوب العظيمة، وكَتْب الدرجات الرفيعة، قاله الباجيّ، وقال القرطبيّ: الفتح حقيقةٌ، ولا ضرورة تدعو إلى التأويل، ويكون فَتْحها تأهبًا من الخَزَنة لمن يموت يومئذ، ممن غُفر له، أو يكون علامة للملائكة على أن الله تعالى يغفر في ذينك اليومين. انتهى [«شرح الزرقاني على الموطّأ» (٤/ ٣٣٤)].
قال الأثيوبي عفا الله عنه: ما قاله القرطبيّ رحمه الله، من حَمْل الفتح على الحقيقة هو الحقّ الذي لا محيد عنه؛ لأن النصوص إذا وردت تُحمل على ظاهر ما تدلّ عليه، إلا أن يأتي ما يصرف عن الظاهر في نصّ آخر، فيُتّبع، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
[فضل وعلة الصيام في هذين الومين:](يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، ويَوْمَ الخَمِيسِ) فيه بيان فضلهما على غيرهما من الأيام، وكان ﷺ يصومهما، ويَندُب أُمّته إلى صيامهما، وكان يتحرّاهما بالصيام، وأظن هذا الخبر إنما توجه إلى طائفة كانت تصومهما تأكيدًا على لزوم ذلك، كذا قال أبو عمر.
وقد رَوى أبو داود، وغيره، عن أسامة بن زيد قال: ((كان يصوم يوم الاثنين، والخميس، فسئل عن ذلك، فقال: إن أعمال العباد تُعرض يوم الاثنين، ويوم الخميس»[«شرح الزرقاني على الموطّأ» ٤/ ٣٣٤].
[أسباب المغفرة:] (فَيُغْفَرُ) بالبناء للمفعول، (لِكُلِّ عَبْدٍ) مسلم، وقوله: (لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا) جملة في محلّ جرّ صفة لـ«عبد»؛ أي: تُغفر ذنوبه الصغائر، بغير وسيلة طاعة، وإنما قيّدناه بالصغائر؛ لحديث: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفِّرات ما بينهنّ ما اجتنبت الكبائر».
(إلّا رَجُلًا) بالنصب؛ لأنه استثناء من كلام موجَب، قال التوربشتيّ: وهي الرواية الصحيحة، ورُوي بالرفع، قال الطيبيّ: وعلى الًرفع الكلام محمول على المعنى؛ أي: لا يبقى ذنب أحد، إلا ذنب رجل، ونحوه قول الفرزدق [من الطويل]:
وعَضُّ زَمانٍ يا ابْنَ مَرْوانَ لَمْ يَدَعْ … مِنَ المالِ إلّا مُسْحَتٌ أوْ مُجَلَّفُ.
كأنه قال: لم يبق من المال إلا مُسحتٌ، أو مجلف، وقولُهُ تعالى: ﴿فَشَرِبُوا مِنهُ إلّا قَلِيلًا مِنهُمْ﴾ [البقرة ٢٤٩] على قراءة الرفع؛ أي: فلم يطيعوه إلا قليلٌ. انتهى[«الكاشف عن حقائق السنن» ٣٢١٠].
ثم إن قوله: «رجلًا» هو وصف طرديّ، والمراد: إنسان؛ أي: فيشمل النساء. [«شرح الزرقاني على الموطّأ» ٤/ ٣٣٥].
(كانَتْ بَيْنَهُ وبَيْنَ أخِيهِ شَحْناءُ) بفتح الشين المعجمة، والمدّ؛ أي: عداوة، (فَيُقالُ: أنْظِرُوا) بفتح الهمزة، وسكون النون، وكسر الظاء المعجمة، قال البيضاويّ: يعني: يقول الله تعالى للملائكة النازلة بهدايا المغفرة: أخِّروا، وأمهلوا (هَذَيْنِ) أتى باسم الإشارة بدل الضمير؛ لمزيد التنفير، والتعيير؛ يعني: لا تُعطوا منها أنصباءَ رجلين بينهما عداوة، (حَتّى يَصْطَلِحا، أنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتّى يَصْطَلِحا، أنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتّى يَصْطَلِحا») بالتكرار ثلاث مرّات؛ للتأكيد؛ أي: أخِّروهما حتى ترتفع الشحناء، ويصطلحا، ولو بمراسلة عند البُعد.
وقال الطيبيّ: لا بدّ هنا من تقدير من يخاطب بقوله: «أنظروا» كأنه تعالى لمّا غَفَر للناس سواهما، قيل: «أنظروا هذين حتى يصطلحا»، وكرره للتأكيد، وقال القرطبيّ: المقصود من الحديث التحذير من الإصرار على العداوة، وإدامة الهجر، قال ابن رسلان: ويظهر أنه لو صالح أحدهما الآخرَ، فلم يَقْبَل غُفر للمصالِح، قال أبو داود: إذا كان الهجر لله، فليس من هذا، فإن النبيّ ﷺ هجر نساءه شهرًا، وابن عمر -رضي الله عنهما- هجر ابنًا له حتى مات.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): فوائده:
١ – (منها): بيان أن الجنة مخلوقة، وأن لها أبوابًا، وقد جاء في الآثار الصحاح أن لها ثمانية أبواب.
٢ – (ومنها): بيان أن المغفرة لا تكون إلا للعبد المسلم، الذي لا يُشرك بالله شيئًا، قال الله عز وجل: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ ومَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إثْمًا عَظِيمًا (٤٨)﴾ [النساء ٤٨].
٣ – (ومنها): أن المهاجرة، والعداوة، والشحناء، والبغضاء، من الذنوب العظام، والسيئات الجسام، وإن لم تكن في الكبائر مذكورة، ألا ترى أنه استَثنى في هذا الحديث غفرانها، وخصّها بذلك.
٤ – (ومنها): أن الذنوب إذا كانت بين العباد، فوقعت بينهم فيها المغفرة، والتجاوز، والعفو، سَقَطت المطالبة بها من قِبَل الله عز وجل، ألا ترى إلى قوله: «حتى يصطلحا»، فإذا اصطلحا غُفر لهما ذلك، وغيره من صغائر ذنوبهما، بأعمال البرّ، من الطهارة، والصلاة، والصيام، والصدقة.
٥ – (ومنها): بيان فضل يوم الاثنين، والخميس على غيرهما من الأيام، وكان رسول الله ﷺ يصومهما، ويندُب أمته إلى صيامهما، وكان يتحراهما بالصيام، قال ابن عبد البرّ: وأظن هذا الخبر إنما توجه إلى أمة، وطائفة كانت تصومهما؛ تأكيدًا على لزوم ذلك، والله أعلم.
ووُلد رسول الله ﷺ يوم الاثنين، ونُبِّئ يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وتُوُفّي يوم الاثنين ﷺ، قاله ابن عبد البرّ رحمه الله في «التمهيد» [«التمهيد لابن عبد البرّ» ٢١/ ٢٦٣].
وقال في «الاستذكار»: وفي قول الله عز وجل: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ [النساء ٤٨]، وإجماع علماء المسلمين على أنه مُحْكَم، لا يجوز النسخ عليه، ما يُغني عن الاستدلال بأخبار الآحاد في معناه،
وفيه تعظيم ذنب المهاجَرَة، والعداوة، والشحناء لأهل الإيمان، وهم الذين يَأْمَنهم الناس على دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم، المصدّقون بوعد الله، ووعيده، المجتنبون لكبائر الإثم، والفواحش، والعبد المسلم مَن وصَفْنا حاله، ومن سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، فهؤلاء لا يحلّ لأحد أن يهجرهم، ولا أن يُبغضهم، بل محبتهم دِين، وموالاتهم زيادة في الإيمان واليقين.
قال: وفي هذا الحديث دليل على أن الذنوب بين العباد إذا تساقطوها، وغَفَرها بعضهم لبعض، أو خرج بعضهم لبعض عما لزمه منها سقطت المطالبة من الله عز وجل بدليل قوله ﷺ في هذا الحديث: ((حتى يصطلحا))، فإذا اصطلحا غُفر لهما. انتهى. [الاستذكار” ٨/ ٢٩٤].
٦ – (ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: قد خصّ الله تعالى هذين اليومين بفتح أبواب الجنة فيهما، وبمغفرة الله تعالى لعباده، وبأنهما تُعرض فيهما الأعمال على الله تعالى، كما جاء في الحديث الآخر، وهذه الذنوب التي تُغفر في هذين اليومين هي الصغائر، والله تعالى أعلم. كما تقدم ذلك في قوله ﷺ:
((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهنّ إذا اجتُنبت الكبائر))، متّفقٌ عليه، ومع ذلك فرحمة الله تعالى وسِعَت كل شيء، وفضْله يعمّ كل ميت، وحيّ، ومقصود هذا الحديث التحذير من الإصرار على بُغض المسلم، ومقاطعته، وتحريم استدامة هِجْرته، ومشاحنته، والأمر
بمواصلته، ومكارمته.
٧ – (ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله أيضًا: فتحُ أبواب الجنة في هذين اليومين محمولٌ على ظاهره، ولا ضرورة تُحوِج إلى تأويله، ويكون فتحها تأهبًا، وانتظارًا من الخَزَنة لروح من يموت في ذينك اليومين ممن غُفرت ذنوبه، أو يكون فَتْحها علامة للملائكة على أن الله تعالى غَفَر في ذينك اليومين
للموحّدين، والله تعالى أعلم.
قال: وهو حجَّة لأهل السُّنَّة على قولهم: إن الجنة والنار قد خُلقتا ووُجدتا، خلافًا للمبتدعة الذين قالوا: إنهما لم تُخلَقا بعدُ، وستخلقان، وعَرْض الأعمال المذكورة إنما هو -والله تعالى أعلم- لِتُنْقَل من الكرام الكاتبين إلى محلّ آخر، ولعلّه اللوح المحفوظ، كما قال الله تعالى: ﴿هَذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالحَقِّ إنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩)﴾ [الجاثية ٢٩]، قال
الحسن: إن الخَزَنة تستنسخ الحفظة من صحائف الأعمال، وقد يكون هذا العرض في هذين اليومين للأعمال الصالحة مباهاةً بصالح أعمال بني آدم على الملائكة، كما يباهي الله الملائكة بأهل عرفة، وقد يكون هذا العرض؛ لِتَعْلم الملائكة المقبول من الأعمال من المردود، كما جاء الحديث الآخر: «إن الملائكة تصعد بصحائف الأعمال، فتعرِضها على الله، فيقول الله تعالى: ضعوا هذا، واقبلوا هذا، فتقول الملائكة: وعزّتك يا ربنا ما رأينا إلا خيرًا، فيقول الله تعالى: إن هذا كان لغيري، ولا أقبل من العمل إلا ما ابتُغِيَ به وجهي» [رواه ابن المبارك في كتاب «الزهد والرقائق» بنحوه (٤٥٢)].
والله تعالى أعلم بحقيقة ذلك. انتهى [«المفهم» ٦/ ٥٣٩ – ٥٤١]، والله تعالى أعلم.
====
====
====
[تنبيه]:
رواية جرير بن عبد الحميد عن سُهيل ساقها البيهقيّ في »الكبرى«، فقال: (٦١٨٩) – أخبرنا أبو طاهر الفقيه، أنبأ حاجب بن أحمد الطوسيّ، ثنا عبد الرحيم بن منيب، ثنا جرير بن عبد الحميد الضبيّ، أنبأ سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبيّ ﷺ قال:»تُفتح أبواب السماء في كل اثنين وخميس، فيُغفر لكل عبد لا يُشرك بالله شيئًا، إلا امرؤ بينه وبين أخيه شحناء، قال: فيقال: انتظر هذين حتى يصطلحا«. انتهى. [»سنن البيهقيّ الكبرى«٣/ ٣٤٦].
ورواية عبد العزيز الداورديّ عن سهيل ساقها الترمذيّ في»جامعه«بسند المصنّف، فقال:
(٢٠٢٣) – حدّثنا قتيبة، حدّثنا عبد العزيز بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ قال:»تُفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس، فيُغفر فيهما لمن لا يُشرك بالله شيئًا، إلا المهتجرَين، يقال: رُدّوا هذين حتى يصطلحا«، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، ويروى في بعض الحديث:»ذَرُوا هذين حتى يصطلحا«، قال: ومعنى قوله:»المهتجرين«؛ يعني: المتصارمين، وهذا مِثل ما رُوي عن النبيّ ﷺ أنه قال:»لا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام«. انتهى. [»جامع الترمذيّ«٤/ ٣٧٣].
وساقها ابن حبّان في»صحيحه«باللفظ الذي أشار إليه المصنّف، فقال:
(٥٦٦٣) – أخبرنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم مولى ثقيف، قال: حدّثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدّثنا عبد العزيز بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ قال:»تُفتَح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس، فيُغفر لمن لا يشرك بالله شيئًا، إلا المتهاجرين، يقول: رُدّوا
هذين حتى يصطلحا«. انتهى [»صحيح ابن حبان” ١٢/ ٤٧٩]
قال الإمام مسلم:
[٦٥٢٥] (…) – (حَدَّثَنا ابْنُ أبِي عُمَرَ، حَدَّثَنا سُفْيانُ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أبِي مَرْيَمَ، عَنْ أبِي صالِحِ، سَمِعَ أبا هُرَيْرَةَ، رَفَعَهُ مَرَّةً، قالَ: «تُعْرَضُ الأعْمالُ فِي
كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ، واثْنَيْنِ، فَيَغْفِرُ اللهُ عز وجل فِي ذَلِكَ اليَوْمِ لِكُلِّ امْرِئٍ لا يُشْرِكُ بِاللهِ
شَيْئًا، إلّا امْرَءًا كانَتْ بَيْنَهُ وبَيْنَ أخِيهِ شَحْناءُ، فَيُقالُ: ارْكُوا هَذَيْنِ حَتّى يَصْطَلِحا، ارْكُوا هَذَيْنِ حَتّى يَصْطَلِحا»).
وقوله: («ارْكُوا هَذَيْنِ حَتّى يَصْطَلِحا … إلخ») قال النوويّ رحمه الله: قوله ﷺ: «اركوا هذين حتى يصطلحا» هو بالراء الساكنة، وضم الكاف، والهمزةُ في أوله همزة وصل؛ أي: أخِّروا، يقال: ركاه يركوه رَكْوًا: إذا أخّره، قال صاحب «التحرير»: ويجوز أن يرويه بقطع الهمزة المفتوحة، من قولهم: أركيت الأمر:
إذا أخّرته، وذَكَر غيره أنه رُوي بقطعها، ووصلها، و«الشحناء»: العداوة؛ كأنه شُحِن بُغضًا له؛ أي: ملأه، و«أنظروا هذين» بقطع الهمزة: أخِّروهما، «حتى يفيئا»؛ أي: يرجعا إلى الصلح، والمودّة. انتهى. [«شرح النوويّ» ١٦/ ١٢٢].
وقال القاضي عياض رحمه الله في «المشارق»: قوله: «اركوا هذين حتى يصطلحا» بضم الهمزة، وسكون الراء؛ أي: أخّروهما، وهو بمعنى الرواية الأخرى: «أنظِروا»، يقال: ركاه يركوه: إذا أخَّره، وقيل: أركاه أيضًا رباعيًّا، وقد ضَبَطه بعضهم: «أركوا» بفتح الهمزة على هذه اللغة، وقد جاء في رواية السمرقنديّ، والسجزيّ: «اتركوا» مفسرًا، وفي «الموطأ»: «اتركوا، أو اركوا» على الشك. انتهى. [«مشارق الأنوار» ١/ ٢٩٠]
وقال ابن الأثير رحمه الله: «اركوا هذين حتى يصطلحا»: يقال: ركاه يركوه: إذا أخّره، وفي رواية: «اتركوا هذين» من التّرك، وُيروى: «ارهكوا هذين» بالهاء؛ أي: كلّفوهما، وألزموهما، من رهكت الدابة: إذا حملت عليها في السير، وجهدتها. انتهى. [«النهاية في غريب الأثر» ٢/ ٢٦١].
[تنبيه]: قد تكلّم الدارقطنيّ على هذا الحديث، ورجَّح الوقف فيه،
وعبارته في «العلل»:
(١٨٨٤) – وسئل عن حديث أبي صالح، عن أبي هريرة، قال
رسول الله ﷺ: «تُفتح أبواب الجنة يوم الاثنين، ويوم الخميس، فيُغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء».
فقال: ……. وذكر الخلاف ثم قال :
ومَن وقَفه أثبت ممن أسنده. انتهى كلام الدارقطنيّ رحمه الله [«العلل الواردة في الأحاديث النبوية» ١٠/ ٨٧ – ٨٩]
قال الأثيوبي عفا الله عنه: خلاصة ما أشار إليه الدارقطنيّ رحمه الله أن وقْف هذا الحديث أرجح مِن رَفْعه، ففيه تنكيت على مسلم، حيث أخرج المرفوع، لكن الذي يظهر أن مسلمًا رجَّح الرفع؛ لأمرين:
الأول: أن واقِفوه وإن كانوا أكثر، لكن الذين رفعوه ثقات معهم زيادة علم، وزيادة الثقات مقبولة.
الثاني: أن هذا الكلام مما لا يقال بالرأي، بل بالتوقيف من النبيّ ﷺ.
قال ابن عبد البرّ رحمه الله: وأما حديث مسلم بن أبي مريم، فهو موقوف عند جمهور رواة «الموطأ»، وقد رواه ابن وهب، عن مالك، عن مسلم بن أبي مريم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبيّ ﷺ مسندًا، وهو الصحيح
==
==
لأنه لا يقال مثله بالرأي، ولا يدرك بالقياس. انتهى. «الاستذكار» ٨/ ٢٩٤
وأيضًا فإن للحديث متابعةً، وشواهد، فقد أخرج أحمد في «مسنده»، فقال: حدّثنا يونس بن محمد، قال: حدّثني الخزرج -يعني: ابن عثمان السعديّ- عن أبي أيوب؛ يعني: مولى عثمان، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله ﷺ قال: «إن أعمال بني آدم تُعْرَض كلَّ خميس، ليلة الجمعة، فلا
يُقبل عمل قاطع رَحِم» [«مسند الإمام أحمد بن حنبل» ٢/ ٤٨٣]، قال الهيثميّ رحمه الله: رجال ثقات [وحسّنه الشيخ الألبانيّ].
وأخرج النسائيّ في «المجتبى»، فقال: (٢٣٥٨) – أخبرنا عمرو بن عليّ، عن عبد الرحمن، قال: حدّثنا ثابت بن قيس أبو الغصن شيخ من أهل المدينة، قال: حدّثني أبو سعيد المقبريّ، قال: حدّثني أسامة بن زيد، قال: قلت:
يا رسول الله، إنك تصوم حتى لا تكاد تُفطر، وتُفطر حتى لا تكاد أن تصوم، إلا يومين، إن دخلا في صيامك، وإلا صُمْتَهما، قال: «أيُّ يومين؟» قلت: يوم الاثنين، ويوم الخميس، قال: «ذانك يومان، تُعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، فأُحِبّ أن يُعرَض عملي، وأنا صائم». انتهى [»سنن النسائي (المجتبى«) ٤/ ٢٠١]. وهو حديث صحيح.
وأخرج الطبرانيّ عن جابر -رضي الله عنه-؛ أن رسول الله ﷺ قال: «تُعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فمن مستغفر، فيغفرَ له، ومن تائب، فيتابَ عليه، وُيرَدّ أهل الضغائن بضغائنهم حتى يتوبوا»، قال ابن المنذر: رواه الطبرانيّ، ورواته ثقات. [»الترغيب والترهيب«٢/ ٧٩]
فهذه الأحاديث، وإن تُكُلِّم في بعضها فإنها تشهد لحديث الباب. والحاصل أن الحديث صحيح، فتأمل بالإنصاف، وقد أجاد الشيخ ربيع المدخلي في كتابه «بين الإمامين» [راجع:»بين الإمامين: مسلم والدارقطنيّ” ص ٣٩٤ – ٣٩٩]، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم.
وقوله: («تُعْرَضُ أعْمالُ النّاسِ) قال الطيبيّ رحمه الله: المعروض عليه هو الله تعالى، أو ملَك وكّله الله تعالى على جَمْع صحائف الأعمال وضَبْطها.
قال الأثيوبي عفا الله عنه: الاحتمال الثاني ضعيف، فالصواب أن العرض على الله سبحانه وتعالى؛ للنصوص الكثيرة على ذلك، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (فِي كُلِّ جُمُعَةٍ)؛ أي: في كلّ أسبوع، عبّر عن الشيء بآخره، وما يتمّ به، ويوجد عنده، وخصّه لأنه أفضل أيّام الأسبوع.
وقوله: (اتْرُكُوا -أوِ ارْكُوا-)»أو«هنا للشكّ من الراوي، وقوله: »اتركوا«من الترك، وقوله:»اركوا«بوصل الهمزة، ويقال بقطعها؛ أي: أخّروهما.
وقوله: (حَتّى يَفِيئا») بفتح أوله، من الفيء؛ أي: الرجوع؛ أي: إلى أن يرجعا إلى ما كانا عليه من المحبّة، والمودّة.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وتقدم البحث فيه مستوفًى قريبًا، ولله الحمد والمنّة. [البحر الثجاج، بتصرف يسير].
المسألة: صيام ثلاثة أيام من كل شهر: وأيام البيض أفضل.
“وردت الأحاديث في الترغيب في صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وهي مع رمضان تعدل صيام الدهر، والأحاديث في صيام ثلاثة أيام من كل شهر جاءت على قسمين:
القسم الأول: صيام ثلاثة أيام من كل شهر بدون تعيين:
١ – حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -، قال: «أوصاني خليلي ﷺ بثلاث [لا أدعهن حتى أموت] صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام» [مسلم، كتاب البر والصلة، باب النهي عن الشحناء والتهاجر، برقم ٢٥٦٥].
٢ – حديث أبي قتادة الأنصاري – رضي الله عنه – وفيه عن النبي ﷺ قال: «صيام ثلاثة من كل شهر، ورمضان إلى رمضان صومُ الدهر» [مسلم، برقم ١٩٧ – (١١٦٢].
وغيرهما الكثير من الرايات في الباب.
القسم الثاني: صيام ثلاثة أيام من كل شهر معينة: بأيام البيض
قد جاء في ذلك أحاديث، منها الأحاديث الآتية:
١ – حديث ملحان القيسي – رضي الله عنه -، قال: «كان رسول الله ﷺ، يأمرنا أن نصوم البيض: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة»، قال: وقال: «هنَّ كهيئة الدهر» [ أبو داود، كتاب الصيام، باب في صوم الثلاثة من كل شهر، برقم ٢٤٤٩، والنسائي، كتاب الصوم، باب ذكر الاختلاف على موسى بن طلحة في صيام ثلاثة أيام من كل شهر، برقم ٢٤٣٠، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، ٢/ ٨١]، قال الإمام ابن الأثير: «أيام البيض: الأيام البيض من كل شهر: ثالث عشر، ورابع عشر، وخامس عشر، وسُميت بيضًا؛ لأن لياليها بيض؛ لطلوع القمر فيها من أولها إلى آخرها، ولابد من حذف مضاف، تقديره: أيام الليالي البيض»[جامع الأصول، لابن الأثير، ٦/ ٣٢٦]
٢ – حديث أبي ذر – رضي الله عنه -،قال قال: رسول الله ﷺ: «يا أبا ذرٍ إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام، فصم: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة»، وفي لفظ النسائي: «أمرنا رسول الله ﷺ أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام البيض: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة» [الترمذي، كتاب الصوم، باب ما جاء في صيام ثلاثة أيام من كل شهر، برقم ٧٦١، والنسائي، كتاب الصوم، باب ذكر الاختلاف على موسى بن طلحة في صيام ثلاثة أيام من كل شهر، برقم ٢٤٢١ – ٢٤٢٥، وقال الألباني في صحيح الترمذي، ١/ ٤٠٢: ((حسن صحيح»، وفي صحيح النسائي، ٢/ ١٧٠ – ١٧١ قال: «حسن صحيح»].
٣ – حديث جرير بن عبد الله – رضي الله عنه – عن النبي ﷺ قال: «صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر، وأيام البيض: صبيحة ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة»[ النسائي، كتاب الصيام، باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، برقم ٢٤١٩، وحسنه الألباني في صحيح النسائي، ٢/ ١٧٠].
وهذه الأحاديث تدل على أن صيام أيام الليالي البيض أفضل إن تيسر، وإن لم يتيسر كفى صيام ثلاثة أيام من الشهر في أي وقت منه، وإن تيسر أن تكون هذه الثلاثة من أيام: الإثنين والخميس كان أفضل، وإلا فإنه يحصل على صيام الدهر كله بصيام ثلاثة أيام من كل شهر والحمد لله.
«هذه الأحاديث تتعلق بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وإن تيسر صيام هذه الثلاثة أيام البيض كان ذلك أفضل، وليست سنة مستقلة، بل إن صام هذه الثلاثة البيض، وإلا صام ثلاثة أيام مطلقًا من أي أيّام الشهر))
وإن صام يوم الإثنين والخميس من كل أسبوع – كما تقدم – كان أفضل من ذلك كلِّه؛ لأنه بهذا الصيام صام أكثر من ثلاثة أيامٍ مضاعفة، فكان ثوابه أعظم.[ الصيام في الإسلام في ضوء الكتاب والسنة].
المسألة في أسباب مغفرة الذنب وتكفيره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :” وإن قدر أن لهم ذنوبا فالذنوب لا توجب دخول النار مطلقا إلا إذا انتفت الأسباب المانعة من ذلك وهي عشرة، منها : – التوبة، ومنها الاستغفار، ومنها الحسنات الماحية، ومنها المصائب المكفرة، ومنها شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها شفاعة غيره، ومنها دعاء المؤمنين، ومنها ما يهدى للميت من الثواب، والصدقة، والعتق، ومنها فتنة القبر، ومنها أهوال القيامة”. “مجموع الفتاوى” ( 4/432).
المسألة:
الأمر الأول: من آثار الشحناء والبغضاء
1) فمن أهمها التفرق والضعف والهوان، وقد بيّن لنا ربنا ذلك في قوله: (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال:46].
2) الوعيدُ بسوء الخاتمة في حقّ من كان قلبُه يحمل الغلَّ والحسدَ والبغضاء على إخوانه، وقد قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: “لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ”. (رواه أبو داود وصححه الألباني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ).
3) ما يقع في القلب من الأذى والهمّ والغمّ والعذاب الذي يتلظّى به صاحبُ الشحناء والبغضاء، ولذلك كان من نعيم أهل الجنة أن نزع الله من صدور أهلها من الغل، (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) [الحجر:47].
4) الغيبةُ والنميمةُ وتتبُّع الزلات والهمز واللمز، فقلّما تجد من يحمل في قلبه شحناءَ على مسلم إلا وسعى في كل مجلسٍ إلى عيْبه وهمزه ولمزه وتنقُّصه، بل ربما وقع في الكذب في بعض الأحيان وفي الظلم وتجاوز الحدّ.. وفي المقابل تجده يغفل عن عيوب نفسه وأخطائها.
5) تأخيرُ مغفرة الذنوب، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: “تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْاثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا” (رواه مسلم وغيره).
البغضاء حائلة بين الإنسان ومغفرة الله تعالى، على هذا دلت النصوص، ومنها هذا الحديث العظيم الذي سمعتموه، ومنها الحديث في صحيح مسلم ، قال فيه عليه الصلاة والسلام: ( إن أبواب الجنة تفتح يوم الإثنين ويوم الخميس، فيغفر الله تعالى لكل عبدٍ لا يشرك بالله شيئاً إلا رجل بينه وبين أخيه شحناء، فيقول الله تعالى: أنظروا هذين -يعني: أخروا هذين عن المغفرة- حتى يصطلحا).
الشحناء بين المؤمنين مرفوضة شرعاً، ومذمومة طبعاً، جعلها الله عز وجل حائلاً بين مغفرة الله عز وجل والعباد.
الأمر الثاني: أهمية الإصلاح وإزالة الشحناء:
الإصلاح بين النفوس وإزالة الشحناء والبغضاء وتقارب القلوب من أعظم المقاصد القرآنية التي جاءت بها هذه الشريعة.
* ارتكاب بعض المفاسد لتحقيق الإصلاح بين الناس
أعظم مقصد دعانا الله عز وجل إليه إحداث الألفة والمحبة بين المؤمنين، لذا قد يرتكب المرء أدنى المفاسد ليتحقق المصالح العظمى.
تذهب إلى الخصم فتقول له: خصمك يثني عليك خيراً، ويذكرك بالخير ويحبك، وهو لا يتصف بشيء من هذا، إنما قصدك الإصلاح بين القلوب وإحداث المحبة.
وخاصة في الحياة الزوجية
عظم وظيفة الإصلاح بين الناس
الأخوة الإيمانية عليها يقوم هذا الدين، كما قال الله تعالى: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون:52].. إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحجرات:10]، هذه وظيفة ليست من نوافل الأعمال، وظيفة الإصلاح بين المؤمنين، أقارب، جيران، زوج وزوجة، أخ وأخيه، دولة وأخرى، عصابة وأخرى، قبيلة وأخرى، وظيفة الإصلاح بين فئات المؤمنين على اختلافهم وظيفة إيمانية ليست من نوافل الأعمال، إنما ينبغي أن يبتدر الناس إليها، يسارع إليها أهل الكرم، يسارع إليها أهل السجايا النبيلة والصفات العظيمة، يسارعون إلى القيام بهذه الوظيفة، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]، هكذا يأمر الله تعالى ويأمر رسوله، الإسراع والمبادرة إلى الإصلاح بين الناس.
رفعة درجة المصلحين بين الناس
وفي مقابل هذا يرفع الله عز وجل درجة هذا المصلح، ورفعة لدرجته ومحافظة عليه ندب له الشارع وأباح له أن يتحمل الغرامات المالية في سبيل الإصلاح بين المختلفين، الإصلاح بين الناس، قد يحتاج المصلح أن يتحمل غرامات مالية قد تكون هناك ديات، وقد تكون هناك أروش، وقد تكون هناك أضرار يحتاج المصلح أن يتحمل أعباء مالية دعاه الشرع إلى أن يتحمل هذا، وتحمل عنه كل تلك التبعات، وأمر بأن يعطى من أموال الزكاة، فجعل الغارمين، أي: الذين ينفقون الأموال للإصلاح بين الناس، جعلهم مصرفاً من مصارف الزكاة، فمن تولى الإصلاح بين الناس وتحمل غرامات مالية، وأصبح مديناً بها، فإنه لا ينبغي أن يجحف بمكانته، ولا ينبغي أن يخذل، ندبه الشارع إلى هذا وأعانه على ذلك، وحافظ عليه وعلى مكانته، فيعطى كل ما تحمله، وكل ما استدانه من الغرامات المالية إلى الإصلاح بين الناس.
إكثار النبي من الوصية بإزالة الشحناء والبغضاء
الحديث عن الإصلاح بين النفوس حديث يطول، لكن يختصر ما نعبر عنه بأنه من الأركان الركينة التي تقوم عليها هذه الديانة، ولهذا أكثر عليه الصلاة والسلام من الوصية بإزالة أسباب الشحناء والبغضاء، وقال في الحديث العظيم: ( لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا، لا تحسسوا ولا تجسسوا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض )، وقال في آخره: ( وكونوا عباد الله إخواناً )، أزيلوا كل أسباب الشحناء، وترفعوا عنها، وكونوا كما أمركم الله، وكونوا عباد الله إخواناً، الإنسان بهذا المسلك يهيئ نفسه ليكون محلاً لرحمات الله، يجهز نفسه ليكون مكاناً لنزول مغفرة الله، فإن الله عز وجل غفور يحب أهل المغفرة، رحيم يحب أهل الرحمة، متجاوز يحب أهل التجاوز.
الأمر الثالث: أسباب الشحناء كثيرة نذكر منها:
1) تحريش الشيطان بين المؤمنين، فقد قال الله سبحانه: (وَقُل لّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ) [الإسراء:53]، وقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ” (رواه مسلم عن جابرٍ -رضي الله عنه-).
الغضب، فإن الإنسان إذا عجز عن إخراج غضبه رجع إلى باطنه فصار حقدًا وغلاً، ولذلك أوصى النبي –صلى الله عليه وسلم- ذلك الرجلَ بأن لا يغضب، فردد مرارًا فأوصاه بهذه الوصية العظيمة.
2) الحسد، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: “دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ”. (رواه الترمذي وصححه الألباني). والحسدُ هو تمنّي زوال النعمة عن الآخرين، وهو مرضٌ من أخطر أمراض القلوب.
3) ومن أسباب التشاحن والغلّ بين الناس: الهوى والجدال والتعصّب للرأي، فمتى ما تحول النقاش وطلب الحق إلى جدالٍ مذموم وتعصبٍ للرأي؛ صار الجدال طلباً لتحقيق الرغبات والانتصارات الشخصية، فسينتج عن هذا الجدال حقد وشحناء وبغضاء على من خالفه في رأيه؛ لأن الوصولَ إلى الحق لم يكن الدافع في هذا النقاش الذي دار بينهما. ولذلك ضمن له رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيتاً في الجنة لمن ترك الجدل، فقال: “أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا” (رواه أبو داود عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رضي الله عنه-).
4) التنافسُ على الدنيا وحطامها، فإنها ترهِق أصحابها المتنافسين في طلبها، وتورث التشاحن والعداوات فيما بينهم، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: ذاتَ يومٍ لأصحابِه: “إِذَا فُتِحَتْ عَلَيْكُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ، أَيُّ قَوْمٍ أَنْتُمْ؟” قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: نَقُولُ كَمَا أَمَرَنَا اللهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: “أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، تَتَنَافَسُونَ، ثُمَّ تَتَحَاسَدُونَ، ثُمَّ تَتَدَابَرُونَ، ثُمَّ تَتَبَاغَضُونَ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.. (الحديث رواه مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنهما-).
5) النجوى وكثرة المزَاحُ، وقد أخبر الله سبحانه أن النجوى من الشيطان، والنجوى أن يتحادث اثنان دون الثالث، وليس في المجلس سواهم، فهذا مما يوغر الصدور، ويحرّش بين الناس، كما جاء في حديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
الأمر الرابع: كيفية سلامة الصدور وعلاجها
1) من هذا الداء فإن أعظم دواء لذلك إخلاصُ العمل لله -عز وجل-، بأن يكون المقصد هو وجهه –سبحانه-، وقد صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “ثَلَاثُ خِصَالٍ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ ولَاةِ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ” (رواه الإمام أحمد وغيره وصححه الألباني). أي: هذه الثلاث الخصال تنفي الغل عن قلب المسلم.
2) ومن العلاج كذلك: ملازمةُ الدعاء وسؤال الله -عز وجل- أن يطهِّر القلبَ من هذا المرض، يقول –سبحانه- مبينًا حال المؤمنين الممتَدَحين: (وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لّلَّذِينَ آمَنُواْ) [الحشر:10]، وقد جاء في دعائه : “واسْلُل سخيمةَ قلبي”، وقال سبحانه: (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [فصلت:36].
3) ومن العلاج: حُسنُ الظن بالأخ المسلم، وإعذار المخطئ من الناس، فإن المسلمَ حين يحمل إخوانه على مبدأ حسن الظن ويعذرهم إذا أخطئوا فإن قلبه يبقى سالمًا له من الغلّ والشحناء.
4) ومن العلاج كذلك: صيامُ ثلاثة أيام من كلّ شهر، فقد قال: “أَفَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ” (رواه النسائي وصححه الألباني).
5) ومن العلاج: الهديةُ وإفشاء السلام، وقد جاء في الحديث: “تهادَوا تحابّوا”، وقوله: “أفشوا السلام بينكم”.
والصدقة كذلك والكلمة الطيبة من العلاج لهذا المرض، يقول سبحانه: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا) [التوبة:103]، [الإسراء: 53]. [الشحناء آثارها وعلاجها]
المسألة: الفوائد:
فيه “التربية الحكيمة التي كان النبي ﷺ يتعهدهم بها في التعليم والتربية وتزكية النفوس، والحث على مكارم الأخلاق، ويؤدبهم بآداب الود والإخاء والمجد والشرف والعبادة والطاعة”.
“في هذا الحديث: النهي عن التقاطع والتهاجر. والعمل بهذا الحديث من أعظم الأسباب الموصلة للتآلف بين المسلمين، وقلة الشحناء”.[تطريز شرح رياض الصالحين]
====
====
====
كلام نفيس لابن هبيرة :
قال ابن هبيرة رحمه الله في الإفصاح عن معاني الصحاح:
الحديث الخامس والخمسون:
[عن أبي هريرة يرفعه مرة قال: (تعرض الأعمال في كل يوم خميس واثنين، فيغفر الله عز وجل لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا إلا امرءا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحان).
* سبق النهي عن هجر المسلم أخاه ما قد سبق في مسند أبي أيوب، وفي مسند ابن عمر، وفي مسند أنس رضي الله عنهم.
وإنما جعل هذان اليومان كالفصلين في الأسبوع، يتقدم كل يوم منهما يومان، ويتأخر عنه يومان، وتكون الجمعة منفردة بنفسها.
* وفيه تنبيه على أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (27/أ) أعلم أمته بأن الله يستعرض صحائف الخلق في كل أسبوع مرتين، فيمحو السيئة، ويغفر الهفوة، ويعفو عن الزلة، إلا حالة المتشاحنين؛ فإنه لو غفر أحدهما كان ذلك طيا لحق مشاحنه، فلما كان الأمر بينها واقفا من جهتهما معا وقف الأمر في قضيتهما على ما يفضي إليه حالهما، وكان هذا شديدا في تحذير المؤمن من المشاحنة، وهي أن يطيع كل من المسلمين شحناه في الآخرة، ويتبع حقده ودخله ووتره.
* فأما موجباتها فكثيرة، فمنها ما يكون من حسد يبلغ بصاحبه إلى بغض المحسود ومشاحنته، وأكثر ما يعرض هذا في الأقرب نسبا أو حالا أو دارا أو ولاية فالأقرب.
* وقد يكون الشحناء عن الكبر؛ فإني رأيت أكثر ما يثير الشر بين المسلمين الكبر؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه} يعني حل لطباعه أن تمتد إلى ما تقصر عنه مقاديرهم….. وذكر كتابه للمقتفي
والكبر فهو غمط الناس وبطر الحق، هذا هو حده، فليس منه أن يكون الرجل جميل الثوب، طيب الريح، طويل السمت، كريم الجلساء، وإن من جمال ثوب الإنسان طهارته في نفسه، وحله في جنسه، وكونه وفقا للسنة في هيئته، وليس من جماله أن يبالغ في ترقيعه، ولا أن يجعله يسحب من ورائه.
* ومن الشحناء: البغي، والبغي يتنوع، وأظهره وأشده الذي يفضي بصاحبه إلى قتال أهل الحقن كما قال سبحانه وتعالى: {فإن بغت إحداهما} الآية. وقد ذكرنا فيما تقدم من ذلك ما فيه وضوح بحمد الله سبحانه.
* ومن البغي أيضا أن يبغي الرجل على أخيه، ويرى أن أخاه هو الباغي
* وقد بينا أن الشحناء نتيجة الكبر وفرعه، وأن الكبر هو بطر الحق وغمط الناس، ويحتاج إلى بيان هذين الحدين اللذين يحتوي الكبر عليهما لينتهى عنهما
* فأما بطر الحق؛ فالذي أراه فيه أنه ينبغي للمحق أن يكون في حقه حذرا من أن يتجاوز بنفسه في رؤيته أنه محق، فيبطر بذلك الحق بطرا يظهر عليه في الناس، ويكون على نحو الذنب الذي لا يتوب منه صاحبه؛ لأنه يرى أنه قد استطال بواجب شمخ على الناس بحق، فهذه من آفات المحقين.
وعليه أن يكون متمنيا أن يبلغ إليه كل مسلم لم يلحق درجته، وأن يرحم من قصرت به قدرته عن لحاقه
* فأما غمط الناس؛ فقد روي ذلك بالطاء والصاد، والمعنيان متقاربان، وكلاهما يعود إلى احتقار الناس، والتطاول عليهم، فدل هذا الحديث الذي نحن في تفسيره أن الله تعالى يغفر في كل اثنين وخميس للعباد إلا للمتشاحنين، والمتشاحنان أن يكون كل منهما ذا شحناء فلا يتناول هذا النطق أن يكون رجل يخاف شر رجل
وكذلك رجل هجر رجل في بدعة ابتدعها في الدين، وهجره لأجل الله تعالى، ولئلا يراه المسلمون زائرا له، ومقاربا سبيله، فيعتقدون صحة ما عليه المبتدع؛ فاستمر على هجرانه ذلك لأجل هذه الحال؛ بعد أن نصحه فلم ينتصح، واجتهد في إصلاحه فلم ينصلح؛ فهجره، فليس ذلك بمشاحن؛ إلا أنه ينبغي له أن يكون راحما له في الباطن، وداعيا له بأن يرحمه الله، ويرده إلى الحقن كما روي عن أحمد رضي الله عنه من الدعاء في ذلك بما قدمناه.
* وليس من التشاحن الرجلان يكون بينهما الحكومة أو العرض أو المعاملة فيبغي أحدهما على الآخر كما قال سبحانه: {وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض}.
إلا أن هذا في الخلطاء من المؤمنين لا ينبغي أن يبلغ بهم إلى التقاطع والتهاجر؛ بل أحبهما إلى الله أرفقهما بصاحبه، وأيسرهما لأخيه، وأصبرهما على رفيقه لقوله: (يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام).
* فأما المتشاحنان الذي ينصرف إليهما إرجاء الغفران؛ فإنهما قد يكونا متحاسدين أو متكبرين أو باغيين أو متقاطعين أو متنافسين أو متماثلين أو متقاربين؛ فليحذر المؤمن من هذه الحالة، وليغفرها لأخيه خائفا أن يفوته شحناء أخيه ود ومحبة الله لهن وليبادر الفيئة منها؛ فإن من استبدل من محبة الله ومغفرته شحناء أخيه لممن يشمله قول الله عز وجل: {بئس للظالمين بدلا}.
________________
===========
============
عرض الأعمال :
دلت السنة الصحيحة على أن أعمال العباد ترفع للعرض على الله – عز وجل – أولًا بأول؛ فقد روى مسلم في “صحيحه” عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – قال: قام فينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بخمس كلمات، فقال: «إن الله – عز وجل – لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل». قال ابن حجر في “فتح الباري” (2 / 330): “وأن الأعمال تُرفع آخر النهار، فمن كان – حينئذ – في طاعة، بورك في رزقه وفي عمله، والله أعلم”. وفي حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «تُعرض الأعمال في كل اثنين وخميس؛ فيغفر الله لكل امرئ لا يشرك بالله شيئًا إلا امرءًا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحا»؛ رواه مسلم. وروى الترمذي وابن ماجه، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: «تُعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأُحِب أن يُعرض عملي وأنا صائم». قال شيخ الإسلام ابن تيمية في “مجموع الفتاوى” (4 / 252): “وأعمال العباد تُجمع جملة وتفصيلًا، فترفع أعمال الليل قبل أعمال النهار، وأعمال النهار قبل أعمال الليل، تُعرض الأعمال على الله في كل يوم اثنين وخميس؛ فهذا كله مما جاءت به الأحاديث الصحيحة”. اهـ. كما تعرض أعمال السنة كلِّها في شهر شعبان؛ فقد روى النسائي، عن أسامة بن زيد – رضي الله عنهما – قال: قلت: يا رسول الله، لَمْ أرَكَ تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: «ذلك شهر يغفُل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأُحِب أن يرفع عملي وأنا صائم»؛ حسنه الألباني في صحيح النسائي. قال الحافظ فى “الفتح” (4 / 215): “صححه ابن خزيمة”. قال في “تحفة الأحوذي” (3 / 375): “قال ابن الملك: وهذا لا ينافي قوله – عليه السلام -: «يُرفع عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل»، للفرق بين الرفع والعرض؛ لأن الأعمال تُجمَع في الأسبوع، وتعرض في هذين اليومين”. وفي حديث مسلم: «تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين: يوم الاثنين ويوم الخميس؛ فيغفر لكل مؤمن، إلا عبدًا بينه وبين أخيه شحناء، فيُقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا». قال ابن حجر: “ولا ينافي هذا رفعَها في شعبان؛ فقال: «إنه شهر ترفع فيه الأعمال، وأُحب أن يرفع عملي وأنا صائم»؛ لجواز رفع أعمال الأسبوع مفصلة، وأعمال العام مجملة”. اهـ. قال في “عون المعبود” (10 / 226): “فإن عمل العام يُرفع في شعبان؛ كما أخبر به الصادق المصدوق: «إنه شهر ترفع فيه الأعمال، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم»، ويعرض عمل الأسبوع يوم الاثنين والخميس؛ كما ثبت ذلك في صحيح مسلم، وعمل اليوم يرفع في آخره قبل الليل، وعمل الليل في آخره قبل النهار. فهذا الرفع في اليوم والليلة، أخص من الرفع في العام، وإذا انقضى الأجل، رُفع عمل العمُر كله، وطويت صحيفة العمل”. اهـ.