67 لطائف التفسير والمعاني
مشاركة محمد بن سعد ورامي وعبدالله البلوشي أبي عيسى
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله. ورفع درجته في عليين وحكام الإمارات ووالديهم ووالدينا)
——‘——-‘——-‘
——‘——-‘——-‘
قال تعالى:
(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)
[سورة البقرة 3]
لأهمية الإيمان بالغيب قدمه الله عزوجل بالذكر
لذا كرر التأكيد بالإيمان بالغيب في الكلام عن أمور الآخرة وغيرها من أمور الغيب ومن ذلك قصص الأنبياء
قال تعالى:
(الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ)
[سورة ا نبياء 49]
ذكرت هذه الآية بين قصة موسى عليه الصلاة والسلام وإبراهيم عليه الصلاة والسلام.
فما هي الآيات التي تدل على الإيمان بالغيب. ووجه الدلالة
——-‘
—‘—
قال السعدي -رحمه الله- في تفسيره (باختصار شديد):*
قال: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} … ، وأما المتقون الذين أتوا بالسبب الأكبر، لحصول الهداية، وهو التقوى التي حقيقتها: اتخاذ ما يقي سخط الله وعذابه، بامتثال أوامره، واجتناب النواهي، فاهتدوا به، وانتفعوا غاية الانتفاع. …..
فالمتقون هم المنتفعون بالآيات القرآنية، والآيات الكونية …..
ثم وصف المتقين بالعقائد والأعمال الباطنة، والأعمال الظاهرة، لتضمن التقوى لذلك فقال: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ….
وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس، فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر. إنما الشأن في الإيمان بالغيب، الذي لم نره ولم نشاهده، وإنما نؤمن به، لخبر الله وخبر رسوله. فهذا الإيمان الذي يميز به المسلم من الكافر، لأنه تصديق مجرد لله ورسله …
ويدخل في الإيمان بالغيب، الإيمان بجميع ما أخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة، وأحوال الآخرة، وحقائق أوصاف الله وكيفيتها، وما أخبرت به الرسل من ذلك …
ثم قال: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} … ويدخل في الصلاة فرائضها ونوافلها.
ثم قال: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} يدخل فيه النفقات الواجبة كالزكاة، والنفقة على الزوجات والأقارب، والمماليك ونحو ذلك. والنفقات المستحبة بجميع طرق الخير …..
ثم قال: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ} وهو القرآن والسنة، …
وقوله: {وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ} يشمل الإيمان بالكتب السابقة، ويتضمن الإيمان بالكتب الإيمان بالرسل وبما اشتملت عليه، خصوصا التوراة والإنجيل والزبور، وهذه خاصية المؤمنين يؤمنون بجميع الكتب السماوية وبجميع الرسل فلا يفرقون بين أحد منهم.
ثم قال: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} و “الآخرة “اسم لما يكون بعد الموت، وخصه بعد العموم، لأن الإيمان باليوم الآخر، أحد أركان الإيمان؛ ولأنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل، ….
{أُولَئِكَ} أي: الموصوفون بتلك الصفات الحميدة {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} …… ، وأي هداية أعظم من تلك الصفات المذكورة المتضمنة للعقيدة الصحيحة والأعمال المستقيمة، …..
ثم قال: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} والفلاح الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب، حصر الفلاح فيهم؛ لأنه لا سبيل إلى الفلاح إلا بسلوك سبيلهم، وما عدا تلك السبيل، فهي سبل الشقاء والهلاك والخسار التي تفضي بسالكها إلى الهلاك.
فنأخذ من قوله -رحمه الله – (مما له ارتباط بموضوع البحث حول مناسبة تقديم الإيمان بالغيب في الذكر) أن في الآيات:
– وصف المتقين بالعقائد والأعمال الباطنة، والأعمال الظاهرة، لتضمن التقوى لذلك.
– الإيمان بالغيب يميز به المسلم من الكافر، لأنه تصديق مجرد لله ورسله.
– يدخل في الإيمان بالغيب، الإيمان بجميع ما أخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة، وأحوال الآخرة، وحقائق أوصاف الله وكيفيتها، وما أخبرت به الرسل من ذلك.
– الإيمان باليوم الآخر، أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل.
*وقال الشيخ عطية بن محمد سالم -رحمه الله- في تفسير سورة الحجرات:*
علامَ يتحمل الناس الالتزام بالصلوات الخمس؟ علام يلتزم الناس صوم رمضان جوعاً وعطشاً؟ علام يلتزم الإنسان إخراج جزء من المال بكفه وعرق جبينه ويعطيه إلى غيره؟ علام يتحمل الإنسان السفر الطويل من كل فج عميق، ويأتي في حل وارتحال للحج؟ علام يتحمل الناس مسئولية الجهاد وسفك الدماء؟
كل ذلك لأي شيء؟!! لدافع لذلك الإيمان بالغيب واليقين بما فيه من عند الله سبحانه، ولولا ذلك اليقين ما حصل شيء من ذلك، ولهذا المنافق لعدم يقينه يعمل ما كان ظاهراً أمام الناس، وإذا خلا بينه وبين أصحابه جحد ما كان يظهره بلسانه.
——”’——-”’——–”” ..
الآيات في مطلوبية الإيمان بالغيب كثيرة فمن ذلك:
قال تعالى {يؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَائِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} – آل عمران
وقال تعالى {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا} – النساء
وقال تعالى {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} – الأحزاب
وقال تعالى {إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} – سورة فاطر
–”’—”’—–
قال تعالى
(قُولُو ا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَ ا هِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَد مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاق فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
[سورة البقرة 136 – 137]
لعل اللطيفة هنا:
هي أنه لما وقر الإيمان بالغيب في القلب و هو أمر غير محسوس اليوم كان تصديقه فعل الأمور المحسوسة مع المداومة عليها مثل إقامة الصلاة و الإنفاق في سبيل الله و غيره من الأعمال التي يرجو العبد قبولها و ثوابها فما داوم عليه العبد المؤمن من التقرب للرحمن من فعل الطاعات و ترك المنكرات هو ثمرة الإيمان بأنه مجزى بها يوم القيامة فكان فعله برهانا على تصديقه لما غيب عنه.
—‘—–‘——
تفصيل في مسألة الإيمان بالغيب مجموع من عدة بحوث:
الإيمان بالغيب: فقد اختلفت عبارات السلف فيه:
1 – فقال بعضهم: معنى يؤمنون بالغيب: يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت، وبالبعث، فهذا غيب كله.
2 – وقال بعضهم: (الغيب ما غاب عن العباد من أمر الجنة وأمر النار، وما ذكر في القرآن).
3 – وعن ابن عباس رضي الله عنهما: “الغيب ما جاء من الله -تعالى-“.
4 – وقال سفيان “الغيب القرآن “.
5 – وقال عطاء بن أبي رباح “من آمن بالله فقد آمن بالغيب”.
6 – وقال بعضهم: “الإيمان بالغيب أي غيب الإسلام “.
7 – وقال زيد بن أسلم “الإيمان بالغيب أي بالقدر “.
وقلت: وكل هذه الأقوال صحيحة وهي متقاربة المعنى، وجميع هذه المذكورات من الغيب الذي يجب الإيمان به، فالإيمان بالغيب يشمل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والقدر، وما ذكر في القرآن قال -تعالى-: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).
وكما أن الله أثنى على من آمن بالغيب مع الأوصاف الأخرى، وأخبر أنه على هدى من ربه، وأنه حصل على الفلاح، فقد وردت أيضًا آثار كثيرة في فضل الإيمان بالغيب.
ومن ذلك ما ورد عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسًا، فذكرنا أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وما سبقونا به، فقال عبد الله إن أمر محمد -صلى الله عليه وسلم- كان بيّنًا لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيمانًا أفضل من إيمان بالغيب، ثم قرأ (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
قلت سيف بن دورة: صحيح على شرط الذيل على الصحيح المسند فهو في حكم المرفوع. وتدليس الأعمش يمشيه بعض شيوخنا.
أخرجه سعيد بن منصور 180 وغيره.
وورد من طريق أخرى عند سعيد بن منصور 181 عن عبدالله بن مسعود بنحوه وهي متابعه قويه.
ومن ذلك ما ورد عن صالح بن جبير قال: قدم علينا أبو جمعة الأنصاري صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ببيت المقدس يصلي فيه، ومعنا يومئذ رجاء بن حيوة -رضي الله عنه-، فلما انصرف خرجنا نشيعه، فلما أراد الانصراف قال: إن لكم جائزة وحقًا، أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قلنا: هات -رحمك الله-، قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة، فقلنا: يا رسول الله، هل من قوم أعظم منا أجرا، آمنا بالله واتبعناك، قال: ما يمنعكم من ذلك، ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء، بل قوم بعدكم يأتيهم كتاب من بين لوحين يؤمنون به، ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجرا مرتين.
قلت سيف بن دورة: صالح بن جبير مجهول كما في الميزان. وحكم عليه ابن عساكر باضطراب الأوزاعي في تاريخه … .
وذكر له محقق مختصر الذهبي للمستدرك شواهد، و راجع الصحيحة 3310.
قال ابن كثير رحمه الله بعد سياق هذا الحديث: وهذا الحديث فيه دلالة على العمل بالوجادة التي اختلف فيها أهل الحديث كما قررته في أول شرح البخاري؛ لأنه مدحهم على ذلك، وذكر أنهم أعظم أجرًا من هذه الحيثية لا مطلقًا ا. هـ.
قلت: يعني ابن كثير -رحمه الله-: أن من بعد الصحابة أعظم أجرًا من هذه الجهة، وهي جهة الإيمان بالغيب، ولا ينافي ذلك أن يكون الصحابة أعظم أجرا ممن بعدهم من جهات أخرى كجهة الصحبة وغيرها، فإن مزية صحبتهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاصة بهم، لا يلحقهم فيها من بعدهم إلى يوم القيامة
===
الإيمان بالغيب في الكتاب والسنة
من أصول الدين وقواعد الإيمان أن تعتقد أن الغيب علمه لله تعالى وحده سبحانه وتعالى، وأنه يطلع سبحانه تعالى، على ما شاء من الغيب، من شاء من أنبيائه ورسله فقط، وأن الأنبياء لا يعلمون من الغيب إلا ما أعلمهم الله إياه، كما قال سبحانه وتعالى لرسوله: (قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون) [الأعراف:188].
وقال جل وعلا: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) [الجن:26 – 28].
وأمر رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس أنه ليس ملكاً، ولا يملك خزائن الله، ولا يعلم الغيب، قال تعالى: (قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إلى قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ) [الأنعام:50]
وهذا الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم هو ما قاله نوح قبل ذلك. قال تعالى على لسان نوح: (وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِين) َ [هود:31].
وفي (صحيح البخاري) عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مفاتيح الغيب خمسة لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله)). وهذا الحديث يقرر قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [لقمان:34].
وفي (صحيح البخاري) أيضاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((من حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب وهو يقول: (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) [الأنعام:103] ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب وهو يقول قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ [النمل:65])) (2).
فهذه الآيات والأحاديث ومثلها كثير جداً قاطع بأنه لا يعلم أحد في السماوات والأرض الغيب إلا الله، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وأنه لا يعلم أحد من هؤلاء الغيب إلا ما أطلعه الله سبحانه عليه، فهاهم الملائكة يخلق الله آدم ولا يعلمون الحكمة من خلقه، ويعرض الله عليهم مسميات معينة ويقول لهم: (أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين)، فيقولون: (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم)، ويعلِّم الله آدم النبي الأسماء فيعلمها لهم، وآدم نبي مكلم كما جاء في الحديث الشريف، وهؤلاء الأنبياء لا يعلمون الغيب بنص القرآن. والسنة كذلك مليئه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب.
===
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “والغيب الذي يُؤْمَنُ به ما أخبرت به الرسل من الأمور العامة، ويدخل في ذلك الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وملائكته والجنة والنار، فالإيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر يتضمن الإيمان بالغيب”؛ ولذا جنح المفسرون إلى أن تفسير الإيمان بالغيب هو التصديق بالغيب أو الخشية بالغيب.
وتؤكد نصوص أخر على أن الجنة حق لمن اتقى الله في الغيب؛ فعمل بأوامره ونواهيه، قال تعالى: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيب} [سورة ق:32]. والمقصود: “من خاف الله في الدنيا من قبل أن يلقاه، فأطاعه، واتبع أمره”).
وَتَعْتَبِرُ نصوص أخرى بعض التشريعات والأحكام مجرد اختبار لعقيدة الإيمان بالغيب {يأيها الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيم} [سورة المائدة:94]. “بالغيب أي: في الخلوة، فمن خاف الله انتهى عن الصيد من ذات نفسه”.
والشريعة تتعامل مع هذه القضايا الغيبية على أنها يقينية يُطْلَبُ الجزم فيها، ولا يُقْبَلُ من الإنسان التردد ولا التكذيب، فحين تحدث القرآن عن البعث والنشور وتفصيل ذلك ومآل المؤمنين به والكافرين ختم ذلك بقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِين} [سورة الحاقة:51].
وتحكم النصوص على من تكلم في أمور الغيب بالظن على أنه ضال؛ لأن هذه القضايا قضايا يطلب فيها القطع، بل لا بد فيها من الدليل والبرهان {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُون} [سورة الأنعام:116].
وقد أجابت الشريعة من خلال الإيمان بالغيب على أكثر أسئلة الوجود تعقيدًا، وهي طريقة وجود الإنسان ونشأته، ومعرفة ماضيه ومستقبله
—-