67 عون الصمد شرح الذيل والمتمم له على الصحيح المسند
جمع نورس الهاشمي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1،2،3 والاستفادة والمدارسة
—————
مسند أحمد
518 – حَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ حَدَّثَنِي أَبِي وَأَبُو خَيْثَمَةَ قَالَا حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ قَالَ أَبِي فِي حَدِيثِهِ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ وَقَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ حَدَّثَنِي عَنْ عَمِّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي صَالِحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ أَنَّ عَامِرَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ يَقُولُ قَالَ عُثْمَانُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ بِفِنَاءِ أَحَدِكُمْ نَهَرٌ يَجْرِي يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ مَا كَانَ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ قَالُوا لَا شَيْءَ قَالَ إِنَّ الصَّلَوَاتِ تُذْهِبُ الذُّنُوبَ كَمَا يُذْهِبُ الْمَاءُ الدَّرَنَ
قلت سيف: على الشرط حيث رجح أبوحاتم هذا الإسناد العلل360 وانظر علل الدارقطني 4/ 344
وورد بنحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه البخاري 528، ومسلم 667.
_-_-_-_-
فضل الصلوات
وعن ابن مسعود رضي الله عنه (أن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأنزل الله تعالى {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} فقال الرجل: ألي هذا؟ قال: لجميع أمتي كلهم) متفق عليه
– وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر) رواه مسلم
– وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة وذلك الدهر كله) رواه مسلم.
قال ابن عبد البر: وبلغني أن أبا زرعة الرازي قال خطر ببالي تقصير الناس وتقصيري في الأعمال من النوافل والحج والصيام والجهاد فكبر ذلك في قلبي فرأيت ليلة فيما يرى النائم كأن آتيا أتاني فضرب بيده بين كتفي وقال: قد أكثرت في العبادة وأي عبادة أفضل من الصلوات الخمس في جماعة. التمهيد (24/ 229)
قوله (مَا كَانَ يَبْقَى) (مَا) استفهامية، أي: أي شيء يبقى؟ (مِنْ دَرَنِهِ) بفتحتين، أي: وسخه (كَمَا يُذْهِبُ الْمَاءُ) أي: ذلك الماء الجاري الذي يغتسل منه المرء كل يوم خمس مرات، على أن التعريف للعهد، وإلا لم يبق لأول الحديث تعلق بالمقصود، ثم العلماء خصّوا الذنوب في الحديث بالصغائر، ولا يخفى أنه لا يناسب التشبيه بالماء المذكور، إذ هو لا يُبقي من الدرن شيئًا أصلًا، وعلى تقدير أن يبقى فإبقاء القليل والصغير أقرب من إبقاء الكثير والكبير، فاعتبار بقاء الكبائر وارتفاع الصغائر قلب المعقول، والجواب أن هذا مبني على أن الصغائر بمنزلة درن الظاهر كما يدل عليه خروجها عن الاعضاء عند التوضئ بالماء بخلاف الكبائر، فإنها بمنزلة درن الباطن كما جاء أن العبد إذا ارتكب المعصية تحصل في قلبه نقطة سوداء ونحو ذلك، وقد قال تعالى: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} |المطففين: 14| فصار تشبيه الصلوات بالماء مناسبًا لدفع الصغائر دون الكبائر فتأمل. مسند الإمام أحمد بحاشية السندي
ذكر الصنعاني معنى الدرن في كتابه (التحبير لإيضاح معاني التيسير):
قال الطيبي: في هذا الحديث مبالغة [314 ب] في نفي الذنوب؛ لأنهم لم يقتصروا في [الجواب] على [لا] بل أعادوا اللفظ تأكيداً.
وقال ابن العربي: وجه التمثيل أن العبد كما يتدنس [بالأقذار] المحسوسة في ثيابه وبدنه، ويطهر بالماء الكثير، فكذلك الصلوات تطهر العبد عن أقذار الذنوب حتى لا يبقى له ذنب إلا أسقطته. انتهى.
قال ابن بطال: يؤخذ من الحديث أن المراد الصغائر خاصة؛ لأنه شبه الخطايا بالدرن، والدرن صغير بالنسبة إلى ما هو أكبر منه من القروح والخرّاجات، انتهى.
قال الحافظ: وهو مبني على أن المراد بالدرن في الحديث الحب، والظاهر أن المراد به الوسخ؛ لأنه هو الذي يناسبه الاغتسال والطيب، وقد جاء من حديث أبي سعيد التصريح بذلك [390/ أ].
قال القرطبي: ظاهر الحديث: أن الصلوات الخمس تستقل بتكفير جميع الذنوب، وهو مشكل، لكن روى مسلم قبله حديث إسماعيل، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعاً: “الصلوات الخمس كفارة لما بينها ما اجتنبت الكبائر”. انتهى
قال ابن رجب في الفتح (3/ 52): وقد حكى ابن عبد البر وغيره الإجماع على ذلك، وأن الكبائر لا تكفر بمجرد الصلوات الخمس، وإنما تكفر الصلوات الخمس الصغائر خاصة.
وقد ذهب طائفة من العلماء، منهم: أبو بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا – إلى أن اجتناب الكبائر شرط لتكفير الصلوات الصغائر، فإن لم تجتنب الكبائر لم تكفر الصلوات شيئا من الصغائر، وحكاه ابن عطية في ” تفسيره ” عن جمهور أهل السنة؛ لظاهر قوله: ((ما اجتنبت الكبائر)).
والصحيح الذي ذهب إليه كثير من العلماء، ورجحه ابن عطية، وحكاه عن
الحذاق: أن ذلك ليس بشرط، وأن الصلوات تكفر الصغائر مطلقا إذا لم يصر عليها، فإنها بالإصرار عليها تصير من الكبائر.
قال العلامة العثيمين:
هذه الأحاديث من فضائل الصلوات فقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم بنهر غمر جار.
النهر الغمر: الكثير الماء الجاري: معروف ضد الراكد يغتسل منه الإنسان في اليوم خمس مرات فهل يبقى من وسخه شيء؟ الجواب: لا يبقى من وسخه شيء. فهكذا الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا حتى يبقي الإنسان طاهرا نقيا من الخطايا ولكن كما أسلفنا فيما مضى أن هذا في الصلوات التي يتمها الإنسان ويحققها ويحضر قلبه ويشعر أنه يناجي الله سبحانه وتعالى فإذا تمت الصلاة على المطلوب حصل هذا الثواب العظيم وكذلك أيضا من فضائل الصلوات الخمس أن الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة مكفرات لما بينهن ما لم تغش الكبائر يعني ما لم تفعل. فالصلوات الخمس تكفر الصغائر لكن الكبائر لا فالغش مثلا في المعاملات كبيرة من كبائر الذنوب لأن النبي صلى الله عليه وسلم تبرأ من فاعله فقال: (من غش فليس منا) فإذا صلى الإنسان الصلوات الخمس وهو غاش فإن الغش لا يكفر لأنه كبيرة من كبائر الذنوب … . شرح رياض الصالحين (5/ 50).
هل الصلاة إلى الصلاة تكفر كبائر الذنوب أم لا؟ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شئ؟) قالوا لا يبقى من درنه شئ. قال: (فكذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا) رواه البخاري ومسلم وجاء في صحيح مسلم وغيره من حديث أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارة لما بينهن، ما لم تغش الكبائر) وأورد هذا الحديث أيضاً المنذري في الترغيب والترهيب وفي حاشية صحيح الترغيب والترهيب في المجلد الأول منه في صفحة 263
قال الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله: أي: ما لم يؤت، قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في ” شرح مسلم “: (معناه أن الذنوب كلها تغفر إلا الكبائر، فإنها لا تغفر، وليس المراد أن الذنوب تغفر ما لم تكن كبيرة، فإن كان لا يغفر شئ من الصغائر، فإن هذا و إ ن كان محتملاً فسياق الحديث يأباه. قال القاضي عياض رحمه الله: هذا المذكور في الحديث من غفران الذنوب ما لم تؤت كبيرة هو مذهب أهل السنة، وأن الكبائر إنما تكفرها التوبة، أو رحمة الله تعالى وفضله. والله أعلم)
قلت ” أي الإمام الألباني “: هذا الاستفهام التقريري في الحديث الذي قبله ” أي الحديث الأول” (هل يبقى من درنه شيء؟) كما هو ظاهر؛ فإنه لا يمكن تفسيره على أن المراد به الدرن الصغير، فلا يبقى منه شيء، وأما الدرن الكبير فيبقى كله كما هو! فإن تفسير الحديث بهذا ضرب له في الصدر، كما لا يخفى ز وفي الباب أحاديث أخرى لا يمكن تفسيرها بالحصر المذكور كقوله صلى الله عليه وسلم (من حج فلم يرفث ولم يفسق؛ رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)
فالذي يبدو لي والله أعلم ” أي الإمام الألباني ” أن الله تعالى زاد في تفضله على عباده، فوعد المصلين منهم بأن يغفر لهم الذنوب جميعاً وفيها الكبائر، بعد أن كانت المغفرة خاصة بالصغائر، ولعل مما يؤيد هذا قوله تعالى} إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم {فإذا كانت الصغائر تكفر بمجرد اجتناب الكبائر، فالفضل الإلهي يقتضي أن تكون للصلاة وغيرها من العبادات فضيلة أخرى تتميز بها عن فضيلة اجتناب الكبائر، ولا يبدوا ذلك يكون إلا بأن تكفر الكبائر. والله أعلم
ولكن ينبغي على المصلين أن لا يغتروا، فإن الفضيلة المذكورة لا شك أنه لا يستحقها إلا من أقام الصلاة، وأتمها وأحسن أدائها كم أُمر، وهذا صريح في حديث أبي أيوب: (من توضأ كما أُمر، وصلى كما أُمر، غفر له ما تقدم من عمل) وأنى لجماهير المصلين أن يحققوا الأمرين المذكورين، ليستحقوا مغفرة الله وفضله العظيم؟! فليس لنا إلا أن ندعو الله أن يعاملنا برحمته، وليس بما نستحقه بأعمالنا! انتهى رحم الله الشيخ الإمام محمد ناصر الدين الألباني رحمة واسعة وأدخله فسيح جنته
فالألباني يرى أن تكفير الصلاة للصغائر فقط، منسوخ بالنصوص المطلقة، وكذلك بقوله تعالى (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) وأن الله زادهم من فضله حيث صارت الصلوات مكفرة للكبائر لكنه قيد ذلك بالصلاة الكاملة.
واكتفيت ببعض النقول و بالإجماع الذي نقله ابن رجب.
ولابن عبد البر بحث مطول فيه الرد على من ذهب إلى أن الصلوات تكفر الكبائر. ونقل الإجماع عليه كما سبق في كلام ابن رجب.
قال ابن باز:
الأدلة من الكتاب العزيز والسنة المطهرة كلها تدل على أن الكبائر إنما تكفر بالتوبة النصوح وصاحبها تحت مشيئة الله إن مات عليها مسلما
لقول الله – عز وجل-: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما}
وقوله سبحانه: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما} {يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا} {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا} الآية
وقوله سبحانه: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} الآية،
يعني المشيئة معلقة بالتوبة.
وقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر» رواه مسلم في صحيحه، والآيات والأحاديث في هـذا المعنى كثيرة.
وبذلك يعلم أن الآيات المطلقة والأحاديث المطلقة في تكفير السيئات بالأعمال الصالحات مقيدة بالنصوص المقيدة باجتناب الكبائر وهـذه قاعدة شرعية عند أهـل العلم والله ولي التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
– المصدر: مجموع الفتاوى ج28 ص 414
فالألباني يرى أن تكفير الصلاة للصغائر فقط، منسوخ بالنصوص المطلقة، وكذلك بقوله تعالى (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) وأن الله زادهم من فضله حيث صارت الصلوات مكفرة للكبائر لكنه قيد ذلك بالصلاة الكاملة.
واستثنى العلماء أيضا الذنوب التي لها تعلق بحقوق العباد استدلالا بحديث
يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ
الشيخ ابن باز رحمه الله
يرى أن الخصال الكفرة، مشروطة لتكفير الكبائر بانتفاء الموانع ومن الموانع التي ذكرها:
– عدم اجتناب الكبائر
– الإصرار على الكبائر وعرف الإصرار بأنه الإقامة على المعصية وعدم التوبة منها واستدل بالآية:
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا ْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران: 135]
قال الإمام ابن رجب ” فمن جاء مع التوحيد بقراب الأرض، وهو ملؤها أو ما يقارب خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة، لكن هذا مع مشيئة الله عز وجل، فإن شاء غفر له، وإن شاء أخذه بذنوبه ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار بل يخرج منها ثم يدخل الجنة “. جامع العلوم والحكم
حديث أبي ذر – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” أتاني جبريل عليه السلام فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة قلت: وإن زنى وإن سرق قال: وإن زنى وإن سرق ” متفق عليه.
قال النووي رحمه الله: ” وأما قوله صلى الله عليه – وإن زنى وإن سرق فهو حجة لمذهب أهل السنة أن أصحاب الكبائر لا يقطع لهم بالنار، وأنهم إن دخلوها أخرجوا منها وختم لهم بالخلود بالجنة) شرح النووي على مسلم (2/ 97).
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (7/ 485 الإيمان الأوسط):
السبب الثالث: الحسنات الماحية، كما قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، وقال صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مُكَفِّرَاتٌ لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر)، وقال: (من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)، وقال: (من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)، وقال: (من حج هذا البيت فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)،وقال: (فتنة الرجل في أهله وماله وولده، تكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). وقال: (من أعتق رقبة مؤمنة، أعتق الله بكل عضو منها عضوًا منه من النار حتى فرجه بفرجه). وهذه الأحاديث وأمثالها في الصحاح. وقال: (الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب).
وسؤالهم على هذا الوجه أن يقولوا: الحسنات إنما تكفر الصغائر فقط، فأما الكبائر فلا تغفر إلا بالتوبة، كما قد جاء في بعض الأحاديث: (ما اجتنبت الكبائر)،فيجاب عن هذا بوجوه:
/أحدها: أن هذا الشرط جاء في الفرائض، كالصلوات الخمس، والجمعة، وصيام شهر رمضان، وذلك أن الله تعالى يقول: {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]، فالفرائض مع ترك الكبائر مقتضية لتكفير السيئات، وأما الأعمال الزائدة من التطوعات فلابد أن يكون لها ثواب آخر، فإن الله ـ سبحانه ـ يقول: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8].
الثاني: أنه قد جاء التصريح في كثير من الأحاديث بأن المغفرة قد تكون مع الكبائر، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (غفر له وإن كان فَرَّ من الزَّحْفِ). وفي السنن: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب. فقال: (اعتقوا عنه، يعتق الله بكل عضو منه عضوًا منه من النار). وفي الصحيحين في حديث أبي ذر: (وإن زنا، وإن سرق).
الثالث: أن قوله لأهل بدر ونحوهم: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) إن حمل على الصغائر، أو على المغفرة مع التوبة لم يكن فرق بينهم وبين غيرهم. فكما لا يجوز حمل الحديث على الكفر، لما قد علم أن الكفر لا يغفر إلا بالتوبة، لا يجوز حمله على مجرد الصغائر المكفرة باجتناب الكبائر.
الرابع: أنه قد جاء في غير حديث: (أن أول ما يحاسب عليه العبد من/ عمله يوم القيامة الصلاة، فإن أكملها وإلا قيل: انظروا، هل له من تَطَوُّع، فإن كان له تطوع أكملت به الفريضة، ثم يصنع بسائر أعماله كذلك). ومعلوم أن ذلك النقص المكمل لا يكون لترك مستحب، فإن ترك المستحب لا يحتاج إلى جُبْرَان، ولأنه ـ حينئذ ـ لا فرق بين ذلك المستحب المتروك والمفعول، فعلم أنه يكمل نقص الفرائض من التطوعات. وهذا لا ينافي من أن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة، مع أن هذا لو كان معارضًا للأول لوجب تقديم الأول لأنه أثبت وأشهر، وهذا غريب رفعه، وإنما المعروف أنه في وصية أبي بكر لعمر، وقد ذكره أحمد في [رسالته في الصلاة].
وذلك لأن قبول النافلة يراد به الثواب عليها. ومعلوم أنه لا يثاب على النافلة حتى تؤدى الفريضة، فإنه إذا فعل النافلة مع نقص الفريضة كانت جبرًا لها وإكمالا لها. فلم يكن فيها ثواب نافلة، ولهذا قال بعض السلف: النافلة لا تكون إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وغيره يحتاج إلى المغفرة، وتأول على هذا قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} [الإسراء: 79]. وليس إذا فعل نافلة وضيع فريضة تقوم النافلة مقام الفريضة مطلقًا، بل قد تكون عقوبته على ترك الفريضة أعظم من ثواب النافلة.
فإن قيل: العبد إذا نام عن صلاة أو نسيها، كان عليه أن يصليها إذا ذكرها بالنص والإجماع، فلو كان لها بدل من التطوعات لم يجب القضاء. قيل: هذا خطأ، فإن قيل: هذا يقال في جميع مسقطات العقاب، فيقال: إذا كان العبد/ يمكنه رفع العقوبة بالتوبة لم ينه عن الفعل، ومعلوم أن العبد عليه أن يفعل المأمور ويترك المحظور؛ لأن الإخلال بذلك سبب للذم والعقاب، وإن جاز مع إخلاله أن يرتفع العقاب بهذه الأسباب، كما عليه أن يحتمى من السموم القاتلة، وإن كان مع تناوله لها يمكن رفع ضررها بأسباب من الأدوية. والله عليم حكيم رحيم، أمرهم بما يصلحهم، ونهاهم عما يفسدهم، ثم إذا وقعوا في أسباب الهلاك لم يؤيسهم من رحمته، بل جعل لهم أسبابًا يتوصلون بها إلى رفع الضرر عنهم؛ ولهذا قيل: إن الفقيه كل الفقيه الذي لا يؤيس الناس من رحمة الله، ولا يجرئهم على معاصى الله؛ ولهذا يؤمر العبد بالتوبة كلما أذنب، قال بعضهم لشيخه: إني أذنب. قال: تب، قال: ثم أعود، قال: تب، قال: ثم أعود، قال: تب، قال: إلى متى؟! قال: إلى أن تُحزِن الشيطان. وفي المسند عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يحب العبد المُفَتَّنَ التواب).
وأيضًا، فإن من نام عن صلاة، أو نسيها فصلاته إذا استيقظ أو ذكرها كفارة لها، تبرأ بها الذمة من المطالبة ويرتفع عنه الذم والعقاب، ويستوجب بذلك المدح والثواب، وأما ما يفعله من التطوعات فلا نعلم القدر الذي يقوم ثوابه مقام ذلك، ولو علم فقد لا يمكن فعله مع سائر الواجبات، ثم إذا قدر أنه أمر بما يقوم مقام ذلك صار واجبًا، فلا يكون تطوعًا والتطوعات شرعت لمزيد التقرب إلى الله، كما قال تعالى في الحديث الصحيح: (ما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه)، الحديث. /فإذا لم يكن العبد قد أدى الفرائض كما أمر، لم يحصل له مقصود النوافل، ولا يظلمه الله، فإن الله لا يظلم مثقال ذرة، بل يقيمها مقام نظيرها من الفرائض، كمن عليه ديون لأناس يريد أن يتطوع لهم بأشياء، فإن وفاهم وتطوع لهم كان عادلا محسنا، وإن وفاهم ولم يتطوع كان عادلاً، وإن أعطاهم ما يقوم مقام دينهم وجعل ذلك تطوعًا، كان غالطا في جعله، بل يكون من الواجب الذي يستحقونه.
ومن العجب أن المعتزلة يفتخرون بأنهم أهل التوحيد، والعدل! وهم في توحيدهم نفوا الصفات نفيًا يستلزم التعطيل، والإشراك، وأما العدل الذي وصف الله به نفسه، فهو ألا يظلم مثقال ذرة، وأنه: من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره، وهم يجعلون جميع حسنات العبد وإيمانه حابطًا بذنب واحد من الكبائر، وهذا من الظلم الذي نزه الله نفسه عنه، فكان وصف الرب ـ سبحانه ـ بالعدل الذي وصف به نفسه أولى من جعل العدل هو التكذيب بقدر الله.
الخامس: أن الله لم يجعل شيئًا يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، كما أنه لم يجعل شيئًا يحبط جميع السيئات إلا التوبة. والمعتزلة، مع الخوارج يجعلون الكبائر محبطة لجميع الحسنات حتى الإيمان، قال الله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217]، فعلق الحبوط بالموت على الكفر، وقد ثبت أن هذا ليس بكافر، و المعلق بشرط يعدم عند عدمه، وقال تعالى: / {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5]، وقال تعالى لما ذكر الأنبياء: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 87، 88]، وقال: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]، مطابق لقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]، فإن الإشراك إذا لم يغفر وأنه موجب للخلود في النار، لزم من ذلك حبوط حسنات صاحبه، ولما ذكر سائر الذنوب غير الكفر لم يعلق بها حبوط جميع الأعمال، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28]، لأن ذلك كفر، وقوله تعالى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]؛ لأن ذلك قد يتضمن الكفر فيقتضي الحبوط وصاحبه لا يدري، كراهية أن يحبط، أو خشية أن يحبط، فنهاهم عن ذلك؛ لأنه
يفضي إلى الكفرالمقتضى للحبوط.
ولا ريب أن المعصية قد تكون سببًا للكفر، كما قال بعض السلف: المعاصي بريد الكفر، فينهى عنها خشية أن تفضي إلى الكفر المحبط، كما قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، وإبليس خالف أمر الله فصار كافرًا، وغيره أصابه عذاب أليم.
وقد احتجت الخوارج، والمعتزلة بقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]، /قالوا: فصاحب الكبيرة ليس من المتقين، فلا يتقبل الله منه عملاً، فلا يكون له حسنة، وأعظم الحسنات الإيمان، فلا يكون معه إيمان فيستحق الخلود في النار، وقد أجابتهم المرجئة، بأن المراد بالمتقين، من يتقي الكفر، فقالوا لهم: اسم المتقين في القرآن يتناول المستحقين للثواب، كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} [القمر: 54، 55]، وأيضا فابنا آدم حين قربا قربانا، لم يكن المقرب المردود قربانه حينئذ كافرًا، وإنما كفر بعد ذلك، إذ لو كان كافرًا لم يتقرب، وأيضًا فما زال السلف يخافون من هذه الآية ولو أريد بها من يتقى الكفر لم يخافوا، وأيضا فإطلاق لفظ المتقين، والمراد به من ليس بكافر، لا أصل له في خطاب الشارع، فلا يجوز حمله عليه.
والجواب الصحيح: أن المراد من اتقى الله في ذلك العمل، كما قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] قال: أخلصه، وأصوبه، قيل: يا أبا علي، ما أخلصه، وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السُّنة، فمن عمل لغير الله ـ كأهل الرياء ـ لم يقبل منه ذلك، كما في الحديث الصحيح يقول الله ـ عز وجل: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فأنا بريء منه، وهو كله للذي أشركه). وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا يقبل الله صلاة بغير طُهُور، ولا صدقة من غلول)، وقال: (لا يقبل الله صلاة/ حائض إلا بخمارٍ)، وقال في الحديث الصحيح: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي فهو مردود غير مقبول. فمن اتقى الكفر وعمل عملاً ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم. لم يقبل منه، وإن صلى بغير وضوء لم يقبل منه؛ لأنه ليس متقيًا في ذلك العمل، وإن كان متقيا للشرك.
وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 6]، وفي حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: يا رسول الله، أهو الرجل يزني ويسرق، ويشرب الخمر، ويخاف أن يعذب؟ قال: (لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصلي ويصوم ويتصدق، ويخاف ألا يقبل منه).
وخوف من خاف من السلف ألا يتقبل منه، لخوفه ألا يكون أتى بالعمل على وجهه المأمور، وهذا أظهر الوجوه في استثناء من استثنى منهم في الإيمان، وفي أعمال الإيمان كقول أحدهم: أنا مؤمن إن شاء الله، وصليت إن شاء الله؛ لخوف ألا يكون آتى بالواجب على الوجه المأمور به، لا على جهة الشك فيما بقلبه من التصديق، لا يجوز أن يراد بالآية: أن الله لا يقبل العمل إلا ممن يتقي الذنوب كلها؛ لأن الكافر والفاسق حين يريد أن يتوب ليس متقيًا، فإن كان قبول العمل مشروطًا بكون الفاعل حين فعله لا ذنب له، امتنع قبول التوبة، بخلاف ما إذا اشترط التقوى في العمل، فإن التائب حين يتوب يأتي بالتوبة الواجبة، وهو حين شروعه في التوبة منتقل من الشر إلى الخير،/ لم يخلص من الذنب، بل هو متق في حال تخلصه منه.
وأيضًا، فلو أتى الإنسان بأعمال البر وهو مصر على كبيرة، ثم تاب، لوجب أن تسقط سيئاته بالتوبة، وتقبل منه تلك الحسنات، وهو حين أتى بها كان فاسقًا.
وأيضًا، فالكافر إذا أسلم وعليه للناس مظالم من قتل، وغصب، وقذف ـ وكذلك الذمي إذا أسلم ـ قبل إسلامه مع بقاء مظالم العباد عليه، فلو كان العمل لا يقبل إلا ممن لا كبيرة عليه، لم يصح إسلام الذمي حتى يتوب من الفواحش والمظالم، بل يكون مع إسلامه مخلدًا، وقد كان الناس مسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهم ذنوب معروفة وعليهم تبعات، فيقبل إسلامهم، ويتوبون إلى الله ـ سبحانه ـ من التبعات. كما ثبت في الصحيح: أن المغيرة بن شعبة لما أسلم وكان قد رافق قومًا في الجاهلية فغدر بهم، وأخذ أموالهم وجاء فأسلم، فلما جاء عروة بن مسعود عام الحديبية، والمغيرة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف، دفعه المغيرة بالسيف فقال: من هذا؟ فقالوا: ابن أختك المغيرة، فقال: يا غُدَرُ، ألست أسعى في غَدْرتكَ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما الإسلام فأقبله، وأما المال فلست منه في شيء)، وقد قال تعالى: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52]، وقالوا/ لنوح: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} [الشعراء: 111: 113]، ولا نعرف أحدًا من المسلمين جاءه ذمي يسلم فقال له: لا يصح إسلامك حتى لا يكون عليك ذنب، وكذلك سائر أعمال البر من الصلاة والزكاة. اهـ
فصل
وفيها أن الكبيرة العظيمة مما دون الشرك قد تكفر بالحسنة الكبيرة الماحية كما وقع الجس من حاطب مكفرا بشهوده بدرا فإن ما اشتملت عليه هذه الحسنة العظيمة من المصلحة وتضمنته من محبة الله لها ورضاه بها وفرحه بها ومباهاته للملائكة بفاعلها أعظم مما اشتملت عليه سيئة الجس من المفسدة وتضمنته من بغض الله لها فغلب الأقوى على الأضعف فأزاله وأبطل مقتضاه وهذه حكمة الله في الصحة والمرض الناشئين من الحسنات والسيئات الموجبين لصحة القلب ومرضه وهي نظير حكمته تعالى في الصحة والمرض اللاحقين للبدن فإن الأقوى منهما يقهر المغلوب ويصير الحكم له حتى يذهب أثر الأضعف فهذه حكمته في خلقه وقضائه وتلك حكمته في شرعه وأمره.
لابن القيم في زاد المعاد (3/ 423)
فى الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلي رمضان مكفِّرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر.
وهذه الأعمال المكفِّرة لها ثلاث درجات:
أحدها: أن تقصُر عن تكفير الصغائر لضعفها وضعف الإخلاص فيها والقيام بحقوقها بمنزلة الدواء للضعيف الذي ينقص عن مقاومة الداء كمية وكيفية.
الثانية: أن تقاوم الصغائر ولا ترتقي إلى تكفير شيء من الكبائر.
الثالثة: أن تقوى على تكفير الصغائر وتبقى فيها قوة تُكفَّر بها بعض الكبائر.
فتأمل هذا فإنه يزيل عنك إشكالات كثيرة
قاله ابن القيم
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله:
الأظهر – والله أعلم – في هذه المسألة أعني مسألة تكفير الكبائر بالأعمال؛ إن أريد أن الكبائر تُمحي بمجرد الإتيان بالفرائض وتقع الكبائر مكفَّرة بذلك كما تُكفَّر الصغائر باجتناب الكبائر، فهذا باطل
وإن أريد أنه قد يوازن يوم القيامة بين الكبائر وبين بعض الأعمال فتُمحى الكبيرة بما يقابلها من العمل، ويسقط العمل فلا يبقى له ثواب، فهذا قد يقع، وقد تقدم عن ابن عمر أنه لما أعتق مملوكه الذي ضربه قال: ليس لي فيه من الأجر شيء، حيث كان كفارة لذنبه، ولم يكن ذنبه من الكبائر، فكيف بما كان من الأعمال مكفِّرا للكبائر؟ وسبق أيضا قول من قال من السلف: إن السيئة تُمحى ويَسقط نظيرها حسنة من الحسنات التي هي ثواب العمل، فإذا كان هذا في الصغائر، فكيف بالكبائر؟ فإن بعض الكبائر قد يُحبط بعض الأعمال المنافية لها كما يُبطل المنّ والأذى الصدقة. اهـ
فهنيئا لمن حافظ على صلاته في الجماعة وغيرها، و أدا ها على الوجه الأكمل من الخشوع و حضور القلب، و على العاقل أن يدخل للصلاة و خال من أي شغل يشغله عن الخشوع.
قال المروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/ 193 – 194): اللَّعِبُ بِاللِّحْيَةِ فِيهَا تَرْكٌ لِلْخُشُوعِ.
قَالَ: رَأَى حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ رَجُلًا يُصَلِّي يَعْبَثُ بِلِحْيَتِهِ فَقَالَ: لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا سَكَنَتْ جَوَارِحُهُ ”
عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ رَجُلٍ، قَالَ: رَأَى ابْنُ الْمُسَيِّبِ رَجُلًا يَعْبَثُ بِلِحْيَتِهِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: لَوْ خَشَعَ قَلْبُهُ خَشَعَتْ جَوَانِحُهُ. قَالَ إِسْحَاقُ: قِيلَ لِابْنِ عُلَيَّةَ: جَوَارِحُهُ؟ فَقَالَ: لَا. انتهى
من هم أهل الكبائر؟
يُسَمَّى من ارتكب الكبيرة أنه من أهل الكبائر، أو يُوصَفُ أنه من أهل الكبائر إذا اجتمع فيه وصفان:
الأول: العلم.
والثاني: عدم التوبة.
فإذا عَلِمْ أنَّ هذا الفعل معصية واقتَحَمَهُ وكان مَنْصُوصَاً عليه أنَّهُ من الكبائر فيكون من أهل الكبائر.
والثاني أن لا يكونَ أَحْدَثَ توبة فإذا أحدث توبة فلا يُوصَفُ أنه من أهل الكبائر. شرح العقيدة الطحاوية للشيخ صالح آل الشيخ (1/ 437)
الحكمة في عدم بيان حد الكبيرة في الشرع.
قال الإمام أبو الحسن الواحدى المفسر وغيره الصحيح أن حد الكبيرة غير معروف بل ورد الشرع بوصف أنواع من المعاصي بأنها كبائر وأنواعها بأنها صغائر وأنواع لم توصف وهى مشتملة على صغائر وكبائر والحكمة في عدم بيانه أن يكون العبد ممتنعا من جميعها مخافة أن يكون من الكبائر قالوا وهذا شبيه بإخفاء ليلة القدر وساعة يوم الجمعة وساعة إجابة الدعاء من الليل واسم الله الأعظم ونحو ذلك مما أخفى والله أعلم. شرح النووي على مسلم (2/ 86)
تنبيه: أنصح الإخوة الأفاضل بقراءة كتاب تعظيم قدر الصلاة، فقد أوصى العلماء بهذا الكتاب العظيم لإهميته، فقد احتوى على اغلب مسائل الصلاة و غيرها من المسائل، فلا يستغني عنه طالب علم.