613 – تحضير سنن الترمذي:
جمع أحمد بن علي وعدنان البلوشي وعمر الشبلي وأحمد بن خالد وأسامة الحميري
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
بَابٌ: فِي الرُّخْصَةِ لِلْجُنُبِ فِي الْأَكْلِ وَالنَّوْمِ إِذَا تَوَضَّأَ
613 – حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ: حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءٍ الخُرَاسَانِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، عَنْ عَمَّارٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِلْجُنُبِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ، أَوْ يَشْرَبَ، أَوْ يَنَامَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ»: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ»
[حكم الألباني] : ضعيف
—–
قال البغوي:
باب الجنب إذا أراد النوم أو العود أو الأكل توضأ
263 – أخبرنا أبو الحسن الشيرزي، أنا زاهر بن أحمد، أنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر، أنه قال: ذكر عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تصيبه الجنابة من الليل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «توضأ واغسل ذكرك، ثم نم».
هذا حديث متفق على صحته، أخرجه محمد، عن عبد الله بن يوسف، وأخرجه مسلم، عن يحيى بن يحيى، كلاهما عن مالك
ثم ذكر حديث عمار وقال :
وروي عن الأسود، عن عائشة، قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان جنبا فأراد أن يأكل أو ينام توضأ».
268 – أخبرنا عمر بن عبد العزيز، أنا القاسم بن جعفر الهاشمي، أنا أبو علي اللؤلئي، نا أبو داود، نا محمد بن كثير، نا سفيان، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة، قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء»
قال أبو داود: نا الحسن بن علي الواسطي، قال: سمعت يزيد بن هارون، يقول: هذا الحديث وهم.
قال الإمام: وإن ثبت الحديث، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك أحيانا ليدل على الرخصة، وكان يتوضأ في أغلب أحواله ليدل على الفضيلة.
قال الإمام: وهذه الأحاديث تدل على أن الجنب إذا أخر الغسل فلا حرج عليه.
وروي عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب ولا جنب»، وهذا فيمن يتخذ تأخير الاغتسال عادة، تهاونا به، فيكون أكثر أوقاته جنبا، وأراد بالملائكة: الذين ينزلون بالبركة والرحمة، دون الملائكة الذين هم الحفظة، فإنهم لا يفارقون الجنب وغير الجنب.اهـ
[شرح السنة للبغوي 2/ 32]
قال ابن رجب في شرح البخاري :
25 – باب
كينونة الجنب في البيت إذا توضأ
خرج فيهِ حديثين:
أحدهما:
قالَ:
286 – نا أبو نعيم: نا هشام وشيبان، عَن يحيى، عَن أبي سلمة، قالَ: سألت عائشة: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يرقد وهو جنب؟ قالت: نعم، ويتوضأ.
والثاني:
قالَ:
278 – ثنا قتيبة: نا الليث، عَن نافع، عَن ابن عمر، أن عمر بنِ الخطاب سأل
النبي صلى الله عليه وسلم: أيرقد أحدنا وَهوَ جنب؟ قالَ ((نعم، إذا توضأ أحدكم فليرقد وَهوَ
جنب)) .
ومراد البخاري بهذين الحديثين في هَذا الباب: الاستدلال على جواز تأخير الغسل من الجنابة لغير الضرورة، وإن الجنب كانَ في بيته، وإن نام في بيته وَهوَ جنب، ولكنه إذا أراد النوم فإنه يستحب أن يتوضأ، وقد أفرد باباً بعد هَذا.
ويتعلق بهذا: حكم أكل الجنب، وقد وردت فيهِ أحاديث لَم يخرجها البخاري:
فخرج مسلم من حديث شعبة، عَن الحكم، عَن إبراهيم، عَن الأسود، عَن عائشة، قالت: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانَ جنباً فأراد أن يأكل أو ينام توضأ.
وخرجه وكيع في ((كتابه)) – وعنه الإمام أحمد -، وزاد: ((أو يشرب)) .
وقد تكلم في لفظة: ((الأكل)) :
قالَ الإمام أحمد: قالَ يحيى بنِ سعيد: رجع شعبة عَن قولُهُ: ((يأكل)) ، قالَ أحمد: وذلك لأنه ليسَ أحد يقوله غيره، إنما هوَ في النوم. انتهى.
وقد رواه – أيضاً – ميمون أبو حمزة، عَن إبراهيم، بهذا الإسناد، وزاد:
((وضوءه للصلاة)) .
خرجه الطبراني.
أبو حمزة هَذا، ضعيف جداً.
وروى ابن المبارك، عَن يونس، عَن الزهري، عَن أبي سلمة، عَن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم
كانَ إذا أراد أن ينام وَهوَ جنب توضأ وضوءه للصلاة، وإذا أراد أن يأكل وَهوَ جنب غسل يديه.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.
وفي رواية لَهُ: إذا أراد أن يأكل أو يشرب.
وخرج ابن ماجه آخره.
ورواه الأوزاعي، عَن يونس، عَن الزهري كذلك.
ورواه عيسى بنِ يونس، عَن يونس، عَن الزهري، عَن عروة، عَن عائشة.
خرجه ابن خزيمة في ((صحيحه)) .
ورواه صالح بنِ أبي الأخضر، عَن الزهري، عَن أبي سلمة أو غيره – بالشك – عَن عائشة.
خرجه الإمام أحمد.
ورواه ابن وهب، عَن يونس، فجعل ذكر الأكل من قول عائشة، ولم يرفعه.
وأعله أبو داود وغيره بذلك.
وضعف أحمد حديث صالح بنِ أبي الأخضر.
وخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي من حديث عطاء الخرساني عَن يحيى بنِ يعمر، عَن عمار بنِ ياسر، أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أن يتوضأ وضوءه للصلاة.
وحسنه الترمذي.
وإسناده منقطع؛ فإن يحيى بن يعمر لَم يسمع من عمار بن ياسر -: قاله ابن معين، [و] أبو داود، والدارقطني وغيرهم.
وروى شرحبيل بنِ سعد، عن جابر، قالَ سئل النبي صلى الله عليه وسلم عَن الجنب:
هل ينام أو يأكل أو يشرب؟ قالَ ((نعم، إذا توضأ وضوءه للصلاة)) .
خرجه ابن ماجه وابن خزيمة في ((صحيحه)) .
وشرحبيل، ضعفه يحيى وغيره.
وروي عَن شريك، عَن عبد الله بنِ محمد بنِ عقيل، عَن جابر، عَن النبي صلى الله عليه وسلم، في الجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب، فليتوضأ وضوءه للصلاة.
خرجه ابن عدي وغيره.
وفي الباب أحاديث أخر ضعيفة.
وقد اختلف العلماء في الجنب إذا أراد الأكل:
فقالت طائفة منهم: يتوضأ، منهُم: علي، وابن عمر، وابن سيرين، وأبو جعفر محمد بنِ علي، والنخعي، ورخص في الشرب بغير وضوء دونَ الأكل.
واستحباب الوضوء للأكل قول الشَافِعي، وأحمد في رواية، وقال معَ هَذا: لا يكره تركه.
وقال القاضي أبو يعلى من أصحابنا: يكره تركه.
وقالت طائفة: المستحب للجنب إذا أراد الأكل أن يغسل كفيه – ومنهم من قالَ: ويمضمض -، وروي هَذا عَن ابن المسيب، ومجاهد، والزهري، والأوزاعي، وأبي حنيفة، وَهوَ رواية عَن أحمد، وزعم الخلال أن أحمد رجع إليها أخيراً.
وأنكرت طائفة الوضوء وغسل اليد للأكل، روي عَن مالك، وقال: لا يغسل يده إلاّ أن يكون فيها قذر.
ومما يتعلق بذلك: جلوس الجنب في المسجد إذا توضأ، وهو قول أحمد، وإسحاق.
قالَ عطاء بنِ يسار: رأيت رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون، إذا توضئوا وضوء الصلاة.
خرجه سعيد بنِ منصور والأثرم.
وعن زيد بنِ أسلم، قالَ: كانَ الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يجنب، ثُمَّ يتوضأ، ثُمَّ يدخل المسجد فيجلس فيهِ.
وقال أكثر الفقهاء: لا يجوز للجنب الجلوس في المسجد بوضوء ولا غيره، حتى يغتسل، إلا أن يضطر إلى ذَلِكَ، وَهوَ قول أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وحكي رواية عَن أحمد، ورجحها بعض أصحابنا.
ومتى اضطر إلى ذَلِكَ للخوف على نفسه أو ماله فله اللبث فيهِ.
وهل يلزمه التيمم لذلك؟ فيهِ قولان:
أحدهما: لا يلزمه ذَلِكَ، وَهوَ منصوص أحمد، وقول أكثر أصحابه؛ لأنه ملجأ إلى ذَلِكَ.
والثاني: يلزمه التيمم، وَهوَ قول الشافعية، واختاره صاحب ((المغني))
مِن أصحابنا.
ورخصت طائفة للجنب في الجلوس في المسجد والمقام فيهِ بكل حال بدون
وضوء، وَهوَ قول داود [والمزني] وابن المنذر.اهـ
[فتح الباري لابن رجب 1/ 349]
فالقاعدة : أنه لا يصح في الباب حديث اي لا يصح حديث في استحباب الوضوء للجنب إذا أراد أن يأكل . والحديث الذي في صحيح مسلم ذكر ابن رجب في النقل السابق أن الإمام أحمد اعتبره وهم
قال ابن عثيمين:
ويُسنُّ لجُنُبٍ غَسْلُ فَرْجِهِ، والوُضُوءُ لأكْلٍ، ونَوْمٍ، ومُعَاوَدةِ وَطْءٍ.
قوله: «ويُسنُّ لجُنُبٍ غَسْلُ فَرجِهِ، والوُضُوءُ لأكلٍ»، وُضوء الجُنُبِ للأكل ليس بواجب بالإِجماع؛ لكنَّه مستَحَبٌّ والدَّليل على ذلك:
1 – حديث عائشة رضي الله عنها أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إِذا أراد أن يأكل أو ينام وهو جُنُبٌ توضَّأ وضوءه للصَّلاة.
وأمَّا مَنْ حمل هذا على الوُضُوء اللغوي، وهو النَّظَافة، فلا عِبْرة به؛ لأن رواية مسلم صريحة في أنَّ المراد به الوُضُوء الشَّرعي.
ولأن القاعدة في أصول الفِقْه: أنَّ الحقائق تُحمَل على عُرْفِ النَّاطِقِ بها، فإِذا كان النَّاطِقُ الشَّرع حُمِلَت على الحقيقة الشَّرعيَّة
2 – حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رخَّص للجُنُب إِذا أراد أن يأكل، أو يشرب أو ينام أن يتوضَّأ .
قوله: «ونومٍ»، أي: يُسْتَحَبُّ للجُنُب إِذا أراد النَّوم أن يتوضَّأ، واستُدلَّ لذلك بحديث عمر رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، أَيَرْقُد أحدُنا وهو جُنُب؟ قال: «نعم، إِذا توضَّأ أحدُكم فلْيَرْقُد وهو جُنُب»، وفي لفظ: «توضَّأ واغسلْ ذَكَرَكَ ثُمَّ نَمْ» …..
وهذا الدَّليل يقتضي الوُجوب لأنَّه قال: «نعم إِذا توضَّأ». وتعليق المباح على شَرْط يدلُّ على أنَّه لا يُباح إِلا به، وعليه يكون وُضُوء الجُنُب عند النوم واجباً، وإلى هذا ذهب الظَّاهريَّة وجماعة كثيرة من أهل العِلْمِ، ولكن المشهور عند الفقهاء والأئمَّة المتبوعين أنَّ هذا على سبيل الاستحباب، واستدلُّوا لذلك بحديث عائشة رضي الله عنها أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: «كان ينامُ وهو جُنُبٌ من غير أن يمسَّ ماءً».
قالوا: فَتَرْكُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم للوُضُوء في هذه الحال بيان للجَواز، وأن الأمر ليس للوُجوب. وهذه قاعدة صحيحة معتَبَرة، خلافاً لمن قال: إِن فِعْلَه لا يُعارض قولَه، بل يؤخذ بالقول فلا يدلُّ فِعلُه على الجواز.
فائدة: هذه الطَّريقة يلجأ إِليها الشَّوكاني رحمه الله في «نَيْل الأوطار»، وأنا أتعجَّب من سلوكه هذه الطَّريقة؛ لأنَّه مِنَ المعلوم أنَّنا لا نحمل فعْل الرَّسول صلى الله عليه وسلم على الخُصوصيَّة إِلا حَيث تعذَّر الجَمْع، أما إِذا أمكن الجَمْع فإِنَّه لا يجوز حَمْلُ النَّصِّ على الخُصوصيَّة؛ لأن الأصل التَّأسِّي به صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، فإذا كان الأصل التَّأسِّي به فلا وجه لحمل النَّصِّ على الخصوصيَّة مع إِمكان الجمع إِلا بدليل.
ويدلُّ على أن فِعْله صلى الله عليه وسلم أو قوله لا يُحمَل على الخُصوصيَّة إِلا بدليل قول الله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]، ووجْه الدَّلالة من الآية: أنَّ الله تعالى بيَّن أنها خالصة للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولولا ذلك لكان مقتضَى النَّص أنه يجوز للإِنسان التزوُّج بالهِبَة.
ودليل آخر: أن الله تعالى قال في قصَّة زينب بنت جحش رضي الله عنها: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]، وكانت زينب تحت زيدِ بن حارثة، وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قد تَبَنَّاهُ، فلما أحلَّ الله له زينب قال: {لِكَي لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37]. فهذا الحُكْمُ خاصٌّ، وعِلَّته عامّة، وعلى هذا فالحكم الذي يَثْبُت للرَّسول صلى الله عليه وسلم يَثْبت للأمَّة؛ وإِلا لم يكُنْ لقوله: {لِكَي لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} فَائدةٌ.
وعُورض حديث عائشة: «كان ينام وهو جُنُب من غير أن يمسَّ ماءً» بأمرين:
الأول: أنَّه منقطع. ورُدَّ بأنه متَّصل، وأن أبا إسحاق سَمِع من الأسود الذي رواه عن عائشة، وإِذا تعارض الوَصْل والقَطْع، فالمعتَبَر الوصل.
الثاني: أنَّ قولها: «من غير أن يمسَّ ماءً»، أي: ماء للغُسْل. ورُدَّ بأن هذا بعيد؛ لأن «ماء» نكرة في سِيَاق النَّفْي فتعُمُّ أيَّ ماءٍ، وعليه فالتَّعليل بالانقطاع غيرُ صَحيح، وكذلك التَّأويل.
والذي يظهر لي: أن الجُنُبَ لا ينام إِلا بِوُضُوء على سبيل الاستحباب، لحديث عائشة رضي الله عنها، وكذا بالنِّسبة للأكْلِ والشُّرْب.
وفرَّق الفقهاء رحمهم الله بين الأكل والشُّرب والنَّوم، فقالوا: يُكْرهُ أن ينام على جنابة بلا وُضُوء، ولا يُكْرَه له الأكل، والشُّرب بلا وُضُوء.
قوله: «ومُعَاوَدَةِ وَطْءٍ»، أي: يُسَنُّ للجُنُبِ أن يتوضَّأ إِذا أراد أن يُجَامع مرَّة أُخرى، والدَّليل على ذلك ما ثَبتَ في «صحيح مسلم» أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر مَنْ جَامَع أهلَه، ثم أراد أن يعود أن يتوضَّأ بينهما وُضُوءاً.
والأصل في الأَمْر الوُجُوب، لكن أخرج هذا الأَمر على الوُجُوب ما رواه الحاكم: « … إِنه أَنْشَطُ للعَوْدِ».
فَدلَّ هذا أنَّ الوُضُوء ليس عبادة حتى نُلْزِم النَّاسَ به، ولكنْ من باب التَّنْشيط، فيكون الأَمْرُ هنا للإِرشاد، وليس للوجوب.
وكان صلى الله عليه وسلم يطوف على نسائِه بِغُسْلٍ واحد، وإِن كان طوافه عليهن بغسل واحد، لا يَمْنَعُ أن يكون قد توضَّأ بين الفِعْلَين
[الشرح الممتع على زاد المستقنع 1/ 368]
قال البسام:
خلاف العلماء:
اختلف العلماء في نوم الجنب بدون وضوء:
فذهب الظاهرية: إلى التحريم؛ أخذًا بحديث ابن عمر وعمَّار وأمثالهما.
وذهب الإمام أحمد في الرواية المشهورة من مذهبه: إلى استحباب الوضوء، وكراهة تركه؛ ذلك أنَّ الوضوء يخفِّف غلظ الجنابة، وثقل حدثها للنَّائم، الَّذي ينبغي أنْ ينام على طهارة تامَّة؛ كما جاء في الترمذي (3589) وغيره من حديث البراء؛ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا أخذْتَ مضجعك، فتوضَّأ وضوءك للصلاة”.
قال شيخ الإِسلام: يستحبُّ الوضوء عند كل نومٍ لكل أحدٍ.
قال الزرقاني: ذهبَ جمهور الصحابة، التَّابعين: إلى جواز تركه بلا كراهة، وعليه فقهاء الأمصار.
والرَّاجحُ من هذه الأقوال: ما ذهب إليه الإمام أحمد من استحباب الوضوء، وكراهة تركه؛ فهذا أقلُّ حال ما تَدُلُّ عليه الأحاديثُ الكثيرة الصحيحة الصريحة في هذه المسألة.
[توضيح الأحكام من بلوغ المرام 1/ 393]قال العباد:
أورد أبو داود حديث عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب أن يتوضأ)، يعني: أنه إذا أراد ذلك فإنه عليه أن يتوضأ، ورخص له أن يتوضأ، وهذا فيه دليل على أن الاغتسال والمبادرة إليه حيث أمكن هو الأولى والأفضل، ولكنه إذا أراد أن ينام أو يأكل أو يشرب فإنه يتوضأ، وبالنسبة للأكل والشرب إذا اكتفى بغسل اليدين فإن ذلك يكون كافياً، وقد مر الحديث الذي فيه أنه كان إذا أراد أن يأكل غسل يديه، فيكون المراد به الوضوء اللغوي فيما يتعلق بغسل اليدين، وإن توضأ الوضوء الشرعي فإنه يكون أشمل وأفضل.
[شرح سنن أبي داود للعباد 36/ 13 بترقيم الشاملة آليا]———
تفريعات :
الجنابة هي في الأصل البعد، والمراد بالجنب
عند الفقهاء هو من وجب عليه الغسل بالجماع أو خروج المني.
قال الأزهري: إنما قيل له جنب، لأنه نهي أن يقرب مواضع الصلاة ما لم يتطهر فتجنبها وأجنب عنها أي تنحى. انتهى.
فتبين لنا أن الجنب هو من جامع ولو لم ينزل منيا، أو أنزل منيا ولو لم يجامع، ويستوي في هذا المرأة والرجل، وله أحكام كثيرة مبثوثة في كتب الفقه
ويباح للجنب أشياء ذكرها العلماء لاحتمال حصول اللبس فيها عند بعض المسلمين، ومنها:
1- الذكر والتسبيح والدعاء، لما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه.
2- يصح من الجنب أداء الصوم بأن يصبح صائما قبل أن يغتسل، لحديث سليمان بن يسار أنه سأل أم سلمة -رضي الله عنها- عن الرجل يصبح جنبا أيصوم؟ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من غير احتلام ثم يصوم. رواه مسلم.
3- يصح أذان الجنب مع الكراهة عند جمهور الفقهاء من المذاهب الأربعة وغيرهم.
4- تجوز خطبة الجمعة من الجنب مع الكراهة عند المالكية، وفي ظاهر الرواية عند الحنفية، وهو قول الإمام أحمد لأن الطهارة في خطبة الجمعة سنة عندهم، وليست شرطا، ولأنها من باب الذكر، والجنب لا يمنع من الذكر، وذهب الشافعية إلى اشتراط الطهارة فيها، لمواظبة السلف على الطهارة فيها، وقياسا على الصلاة، والراجح هو الأول، ومما يستحب للجنب أنه إذا أراد أن ينام أو يأكل أو يعاود الوطء أن يتوضأ
——
تفريعات :
أحكام الجُنُب:
المبحث الأوَّل: ما يُمنَع منه الجُنُب
المطلب الأوَّل: الصَّلاة:
يحرُم على الجُنُب الصَّلاةُ، ولا تُجزِئُه.
الأدلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب
قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء: 43]
ثانيًا: مِن السُّنَّةِ
1- عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((أُقيمتِ الصَّلاةُ، وعُدِّلتِ الصُّفوفُ قيامًا، فخرج إلينا رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا قام في مُصلَّاه ذكر أنَّه جُنُبٌ، فقال لنا: مكانَكم، ثمَّ رجَع فاغتسَلَ، ثمَّ خرَج إلينا ورأسُه يقطُرُ، فكبَّرَ فصلَّينا معه ))
2- عن ابن عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: إنِّي سمعتُ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: ((لا تُقبَل صَلاةٌ بغيرِ طُهورٍ، ولا صدقةٌ من غُلولٍ ))
ثالثًا: من الإجماع
نقَل الإجماعَ على ذلك: ابنُ رُشدٍ، والنوويُّ، وابنُ تيميَّة، وابنُ جُزَيٍّ
المطلب الثاني: الطَّواف:
يحرُم على الجنُبِ الطَّوافُ بالبَيتِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة، والمالكيَّة، والشَّافعيَّة، والحنابلة
الأدلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب
عمومُ قَولِ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء: 43]
ثانيًا: مِن السُّنَّةِ
1- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّها حاضت وهي مُحرِمةٌ، فقال لها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((افعلِي ما يفعَلُ الحاجُّ، غيرَ ألَّا تطوفِي بالبيتِ حتى تَطَّهَّري))، وفي رواية ((حتى تغتسلِي ))
وجه الدَّلالة:
أنَّ الرسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رخَّص لعائشةَرَضِيَ اللهُ عنها أنْ تفعَلَ- وهي حائضٌ- كلَّ ما يفعَلُه الحاجُّ، غيرَ الطَّوافِ؛ فإنَّه جعَلَه مقيَّدًا باغتسالِها وطهارَتِها من الحَيضِ، فدلَّ على اشتراط الطَّهارة للطَّواف، وفي معنى الحائض: الجُنُب والمُحدِث
2- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((أنَّ صفيَّةَحاضت، فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّها لحابِسَتُنا، فقالوا: يا رسولَ الله، قد زارتْ يومَ النَّحرِ، قال: فلتنفِرْ معكم ))
وجه الدَّلالة:
أنَّ هذا الحديثَ يدلُّ على أنَّ الحائِضَ تنتظِرُ حتى تطهُرَ، ثم تطوف، وهذا يدلُّ على اشتراطِ الطَّهارة
ثالثًا: من الآثار
عَنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: (الطَّوافُ بالبَيتِ صلاةٌ…)
وجه الدَّلالة:
أنَّه شبَّه الطَّوافَ بالصَّلاة؛ فدلَّ ذلك على أنَّ للطَّوافِ جميعَ أحكام الصَّلاة- إلَّا ما دلَّ الدَّليلُ على استثنائِه، كالمشيِ، والكلامِ وغَيرِه- ومن ذلك الطَّهارةُ؛ لقوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَقبَلُ اللهُ صلاةً بغيرِ طُهورٍ ))
المطلب الثَّالث: المُكث في المسجد:
يحرُم على الجنُب المُكثُ في المسجِدِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة، والمالكيَّة، والشَّافعيَّة، والحنابلة
الأدلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب
قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء: 43]
وجه الدَّلالة:
أنَّ الجُنُب لا يجوزُ له قِربانُ محلِّ الصَّلاةِ، وهي المساجِدُ، إلَّا مرورًا فقط من غيرِ مُكثٍ
ثانيًا: أنَّ المساجِدَ بيوتُ الله عزَّ وجلَّ، ومحلُّ ذِكرِه، وعبادَتِه، ومأوًى لملائكَتِه، وإذا كان آكِلُ البَصَلِ والأشياءِ المكروهةِ ممنوعًا من البقاءِ في المسجد، فالجُنُب الذي تحرُمُ عليه الصَّلاةُ مِن باب أوْلى
فرع: عُبورُ المسجد
يجوز للجُنُب عُبورُ المسجِدِ؛ وهو مذهب الشَّافعيَّة، والحنابلة، وبه قالت طائفةٌ مِن السَّلف، واختاره ابنُ تيميَّة, وابنُ باز، وابنُ عثيمين
الدليلُ مِن الكتابِ:
قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء: 43]
وجه الدَّلالة:
أنَّه استثنى عابِرَ السَّبيلِ مِن نهي الجُنُبِ عن قِربانِ مواضِعِ الصَّلاة، والاستثناءُ من المنهيِّ عنه إباحةٌ
المطلب الرابع: مسُّ المصحف:
يحرُم على الجُنُب مسُّ المصحَفِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة، والمالكيَّة، والشَّافعيَّة، والحنابلة، وحُكِيَ فيه الإجماعُ
الأدلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب
1- قول الله تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الواقعة: 77-80]
وجه الدَّلالة:
أنَّ الضمير في قوله: لا يَمَسُّهُ يعود على القرآن؛ لأنَّ الآياتِ سِيقت للتحدُّث عنه
2- قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء: 43]
وجه الدَّلالة:
أنَّه إذا كان لا يجوزُ له اللُّبث في المسجد، فأحْرى ألَّا يجوزَ له مسُّ المصحَفِ، ولا القراءةُ فيه؛ إذ هو أعظمُ حُرمةً
ثانيًا: مِن السُّنَّةِ
حديثُ: ((لا يمسَّ القرآنَ إلَّا طاهِرٌ ))
وجه الدَّلالة:
أنَّ الطَّاهِرَ هو المؤمِنُ المتطهِّرُ مُطلقًا، من الحدَث الأصغَرِ والأكبَرِ
ثالثًا: من الآثار
عن عبد الرَّحمن بن يزيدَ بنِ جابر، قال: (كنَّا معه أي سلمانَ في سفَرٍ، فانطلقَ فقضى حاجتَه، ثمَّ جاء، فقلتُ: أيْ أبا عبد اللهِ، توضَّأ؛ لعلَّنا نسألُك عن آيٍ من القرآنِ، فقال: سلونِي؛ فإنِّي لا أمسُّه؛ إنَّه لا يمسُّهُ إلَّا المطهَّرونَ، فسألناه، فقرَأ علينا قَبلَ أن يتوضَّأ)
المطلب الخامس: قراءة القرآن:
اختلفَ أهلُ العِلمِ في حكمِ قراءةِ القُرآنِ للجُنُبِ على أقوالٍ، أقواها قولان:
القول الأول: تحرُمُ على الجنُبِ قراءةُ القُرآنِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة والمالكيَّة والشَّافعيَّة والحنابلة، وبه قال أكثرُ أهلِ العِلمِ
الأدلَّة:
أولًا: من الآثار
1- عن عَبِيدَة السَّلمانيِّ قال: (كان عمرُ بن الخطَّاب يَكره أن يَقرأ القرآنَ وهو جُنُب)
2- عن أبي الغَريفِ الهَمْدانيِّ قال: (كنَّا مع عليٍّ في الرَّحَبة , فخرج إلى أقصى الرَّحَبة, فوالله ما أدري أبولًا أحدَثَ أو غائطًا, ثم جاء فدعا بكوزٍ من ماءٍ, فغسل كفَّيه ثم قبَضَهما إليه, ثم قرأ صدرًا مِن القرآنِ, ثم قال: اقرَؤوا القرآنَ ما لم يُصِبْ أحدَكم جنابةٌ, فإن أصابَتْه جنابةٌ فلا، ولا حرفًا واحدًا)
ثانيا: لأن الجنابةَ أغلَظُ الحَدَثينِ
القول الثاني: تجوزُ قراءةُ القُرآنِ للجُنب، وهو مذهَبُ الظاهريَّة وقولُ بَعضِ السَّلَفِ، واختاره البخاريُّ والطبريُّ وابنُ المُنذِر، والشَّوكاني
الأدلَّة:
أولًا: مِن السُّنَّةِ
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يذكُرُ اللهَ على كلِّ أحيانِه ))
وجهُ الدلالة:
أنَّ القرآنَ ذِكرٌ، فيدخُلُ في عمومِ هذا الحديثِ
ثانيًا: من الآثار
عَنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ( أنَّه كان يقرأُ وِردَه وهو جُنُبٌ)
ثالثًا: أنَّ الأصلَ عَدَمُ التَّحريمِالمبحث الثاني: ما يُستحبُّ للجُنُب:
المطلب الأوَّل: الوضوءُ عند الأكلِ والشُّرب والنوم
يُستحبُّ للجنُب الوضوءُ إذا أراد الأكْلَ أو الشُّربَ أو النَّومَ
المطلب الثَّاني: الوضوءُ عند معاودةِ الوَطءِ
يُستحبُّ للجنُب الوضوءُ إذا أراد أن يعاوِدَ الوطءَ مرَّةً أخرى
المبحث الثالث: حُكم صيام الجنُب:
يصحُّ الصَّومُ مِن الجنُب
الأدلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب
قَولُ الله تعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة: 187]
وجه الدَّلالة:
أنَّ الجِماع مباحٌ في رمضانَ إلى طلوعِ الفجْرِ، وإذا جامَعَ قبل طلوعِ الفجْرِ، فإنَّه يستلزِمُ أن يطلُعَ الفجرُ عليه وهو جنُبٌ.
ثانيًا: مِن السُّنَّةِ
عن عائشةَ وأمِّ سلمةَ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يُدرِكُه الفجرُ وهو جنُبٌ مِن أهلِه، ثمَّ يغتسلُ ويصومُ ))
ثالثًا: من الإجماع
نقَل الإجماعَ على ذلك: ابنُ العربيِّ، والنوويُّ، وابنُ حجر
المبحث الرَّابع: جِسم الجُنُب وعَرَقه:
جِسم الجُنُبِ وعَرَقه، طاهرٌ.
الأدلَّة:
أولًا: مِن السُّنَّةِ
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لقِيه في بعضِ طَريقِ المدينة وهو جنُبٌ، فانخنستُ منه، فذهب فاغتسَل، ثمَّ جاء، فقال: أين كنتَ يا أبا هُرَيرةَ؟ قال: كنتُ جنُبًا؛ فكرهتُ أن أجالسَك وأنا على غيرِ طهارةٍ، فقال: سبحانَ اللهِ! إنَّ المُسلِمَ لا يَنجُسُ ))
ثانيًا: من الإجماع
نقَل الإجماعَ على طهارةِ جِسمِ الجُنُب: النوويُّ، وابنُ تيميَّة
ونقَل الإجماعَ على طهارةِ عرَقِ الجُنُب: ابنُ المُنذِر، وابنُ عبدِ البَرِّ، والبغويُّ
——
بحوث معاصرة لفضيلة الاغتسال من الجنابة :
الشريعة الإسلامية شريعة الحكمة والتعليل ، وشريعة المصلحة والعقل والمنفعة ، ومع ذلك فلا ننفي وجود الجوانب التعبدية في الأحكام الشرعية .
فلو سألك أحدهم : لماذا شُرع الظهر أربعا ، والمغرب ثلاثا ؟ ولماذا كان الطواف بالكعبة سبعة أشواط ؟ وما الحكمة من تخصيص جبل عرفة بالوقوف ؟ ونحو ذلك من التساؤلات التي ترتبط ببعض العبادات الإسلامية .
فالجواب على ذلك كله سيكون بإسناد العلم إلى الله سبحانه وحده ، وبتقرير أن من مقتضيات الإسلام الاستسلام لأمر الله عز وجل ، سواء عُلمت الحكمة أم جُهلت ، وسواء تبينت المصلحة أم خفيت ، كما قال الله عز وجل عن إبراهيم عليه السلام – وقد أُمر بذبح ولده ولم يتبين له وجه الحكمة من ذلك -: ( فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ . وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ . وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ . وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ . سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ . كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) الصافات/103-111، فكان من أعظم البلاء أن يؤمر بذبح ولده تعبدا دون أن يعلم وجه الحكمة من ذلك ، ومع هذا أطاع وامتثل ، ليعلمنا عليه السلام درسا في الاستسلام لأمر الله جل وعلا ، واليقين بالحكمة منه سبحانه .
فيكفي المؤمن أن يعلم أن الله تعالى أمره بالاغتسال من الجنابة ، ورتب على الجنابة عدة أحكام حتى يمتثل كل ذلك ، ويقول سمعنا وأطعنا .
ومع ذلك فالأمر بالاغتسال من الجنابة معقول المعنى في بعض جوانبه لدى كثير من العلماء ، فقالوا : إن الغسل يبعث الجسم على النشاط والقوة التي ذهبت بسبب خروج المني ، ويعين الجسم على تعويض هذا القدر المفقود من الطاقة والنشاط ، وقد نص على ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله حيث يقول :
” الاغتسال من خروج المني من أنفع شيء للبدن والقلب والروح ، بل جميع الأرواح القائمة بالبدن ، فإنها تقوى بالاغتسال ، والغسل يخلف عليه ما تحلل منه بخروج المني ، وهذا أمر يعرف بالحس .
وأيضا : فإن الجنابة توجب ثقلا وكسلا ، والغسل يحدث له نشاطا وخفة ، ولهذا قال أبو ذر لما اغتسل من الجنابة : كأنما ألقيت عني حملا .
وبالجملة : فهذا أمر يدركه كل ذي حس سليم ، وفطرة صحيحة ، ويعلم أن الاغتسال من الجنابة يجري مجرى المصالح التي تلحق بالضروريات للبدن والقلب ، مع ما تحدثه الجنابة من بعد القلب والروح عن الأرواح الطيبة ، فإذا اغتسل زال ذلك البعد ، وقد صرح أفاضل الأطباء بأن الاغتسال بعد الجماع يعيد إلى البدن قوته ، ويخلف عليه ما تحلل منه ، وإنه من أنفع شيء للبدن والروح ، وتركه مضر ، ويكفي شهادة العقل والفطرة بحسنه ، وبالله التوفيق ” .
انتهى من ” إعلام الموقعين ” (2/77-78) .
وقد بحث بعض الباحثين المعاصرين تفسير التأثيرات التي تحدثها الجنابة على جسم الإنسان ، والتي تقتضي منه الاغتسال الكامل ، ومن هؤلاء الدكتور عبد البديع حمزة زللي ، أستاذ علم التلوث البيئي والتسمم البيئي ، ووكيل معهد البحوث والاستشارات في جامعة طيبة في المدينة النبوية ، حيث كتب بحثا بعنوان : ” الإعجاز العلمي في مسمى الجنابة وحكمها الشرعي “، فكان مما قاله في البحث (ص/17-18):
” من هنا تبرز لنا مهمة ووظيفة الوحدات الإخراجية المنتشرة على جميع بشرة الإنسان في حالة المواقعة الجنسية ، وخاصة تلك الكبيرة منها التي يتركز وجودها في مناطق محددة من الجسم كفرج المرأة والرجل ومنطقة الإبطين وحول الحلمتين ، والتي لا تثار لتنتج إفرازاتها عن طريق المثيرات والمنبهات الحرارية ، وإنما ترتبط إفرازاتها بالأمور الجنسية ، وتعمل جميع هذه الوحدات الإخراجية على إخراج السموم ، وما تولد في الجسم من مركبات سامة ، لتستقر على سطح البشرة ، ولا يعني هذا أن تكون الإفرازات والسوائل التي تخرج من وحدات الغدد العرقية مرئية للعين ، فقد أشرنا سابقًا أن الناس يعرقون في الجو البارد مثل ما يعرقون في الجو الحار ، وأن العرق في الحالة الأولى يتبخر مباشرة فور خروجه ، ولهذا تسمى هذه العملية بالتعرق غير الملموس . ويتبخر ماء هذا الإفرازات وتبقى السموم والمواد الكيميائية على سطح البشرة ، كما إن الإفرازات التي تفرزها الغدد العرقية البعيدة ( الكبيرة ) ، وهي غير مرئية أصلا ، مثل العرق العادي لأن هذه الإفرازات عند خروجها تشكل طبقة غير مرئية تشبه المادة البلاستيكية . وعليه ندرك أن السموم التي تخرج بواسطة الغدد العرقية الصغيرة أو الكبيرة لا تذهب عن الجسم ، وإنما تُجنَّب عليه فقط ، حيث تنتقل من موضعها الداخلي إلى موضعها الخارجي ، أي أنها لا تزال موجودة على جسم الإنسان . ومن هنا تتجلى لنا بوضوح تام المعجزة النبوية والانسجام البليغ في إطلاق اسم الجنابة على المواد التي تخرج من الجسم ، وتستقر تحت الشعر أو عليها . وإذا كان خالق الكون جلت قدرته قد خلصنا نحن البشر من هذا الأذى بخروجه من داخل الجسم إلى خارجه ، فينبغي على كل مدرك عاقل أن لا يتركه على الجسم ليتراكم ، ويسبب مشكلات صحية محتملة سنذكرها فيما بعد ، أو يتركها لتعود ثانية إلى داخل الجسم عن طريق إعادة الامتصاص خاصة عندما تتراكم على الجسم ، وتزداد كميتها ، وتنتشر على جميع أجزاء البشرة ، إذ تدل نتائج الدراسات أن للجلد قدرة على امتصاص كثير من العناصر والمركبات الكيميائية التي تتصل به بشكل مباشر ، وله قدرة أيضًا على إعادة امتصاص بعض العناصر والمعادن التي تخرج منه وتبقى عليه ، فالمعادن السامة التي تخرج عن طريق هذه الوحدات كالرصاص مثلا عندما تبقى كثيرًا على الجلد تترك فرصة لإعادة امتصاصها ، وتدل الدراسات أيضًا أن زيادة كمية المعادن الثقيلة الضارة وزيادة زمن مدة بقائها على الجلد وحالة الجلد غير الصحية تعمل على زيادة تأثيرها السام على الجسم ، وتسهل هذا العوامل وتيسر عملية امتصاصها بواسطة الجلد ، ولذلك ينبغي إزالتها عن الجسم بالغسل ” انتهى .
فإذا تبين ما سبق علمنا أن الحكمة في منع الجنب من الصلاة أو مس المصحف أو قراءة القرآن قد تكمن في هذا التغير في جسم الإنسان ، والذي أوجبت الشريعة إزالته والتنظف منه ، فلكي يكون هذا الإيجاب ملزما وضروريا فقد منعت المسلم من أداء عبادة الصلاة والتلاوة حتى يؤدي هذا الواجب الضروري .
وخروج هذه الإفرازات التي ذكرها الدكتور عبد البديع محصور في حصول العملية الجنسية ، ولا يحصل شيء منها عند خروج البول أو المذي مجردا .
يقول الدكتور عبد البديع – (ص/25) في بحثه السابق -:
” عرفنا أن الإثارة والمواقعة الجنسية هي العامل المثير لتشغيل الغدتين البصيلية الإحليلية لإفراز المذي ، وأن خروج المذي من الجسم لا يعمل كما تعمل الغدد العرقية الإخراجية على إخراج المواد الضارة المؤذية من جميع أجزاء بشرة الجسم ، وإنما يكون موقع خروجه هو فتحه خروج البول من عضو الرجل ، فيكون عندئذ موقع النجاسة والمواد المؤذية الضارة فقط هو الفرج وموضع اللباس الذي يصيبه ، ولذلك لم يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالاغتسال ، وإنما أمر من خرج منه المذي بغسل فرجه ، وغسل مكان الثوب الذي يرى فيه الإصابة بالمذي ، وهذا الأمر يكفي تمامًا لإزالة النجس والقذارات من المواضع التي تصيبها ، في حين أن الأذى الذي يخرج ويجنب من الجسم بواسطة الغدد العرقية الإخراجية التي تنتشر في جميع أرجاء بشره الإنسان وخصوصًا مناطق العانة وتحت الإبطين وحول السرة والصدر لا يكفي إزالتها غسل الفرج فقط ، وإنما يتطلب ذلك غسل البدن كله ” انتهى.
ويبقى هذا التوجيه في دائرة البحث والنظر ، حتى تزداد الأبحاث وتتكامل في تحديد الأثر الذي تحدثه الجنابة على الجسم ، الأمر الذي يقتضي الغسل الكامل .
ويكفي المسلم كما سبق أن يسلم لحكم الله تعالى مع اليقين بأن لله تعالى الحكمة البالغة .