6 – بيان الوسيلة في آيات القرآن الكريمة
شارك ابوصالح حازم وابوخليفة وعبدالله المشجري وعدنان ومحمد الرحيمي وعبدالله البلوشي ومحمد الفاتح وسيف بن غدير وناصر الكعبي وموسى الصومالي وعبدالملك ومحدد بن ديرية وابوعبدالله الصومالي
————————
– قوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَات مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَات فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَا ءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَا ءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَابِ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْم لَّا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)
[سورة آل عمران 7 – 9]
توسل بالربوبية والإيمان، وأن الهداية من الله عزوجل. وكان سآلهم التثبيت.
وتوسلوا باسم الله الوهاب. وإيمانه بجمع الناس ليوم لا ريب فيه.
من تفسير الطبري:
القول في تأويل قوله: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ((8))}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنّ الراسخين في العلم يقولون: آمنا بما تشابه من آي كتاب الله، وأنه والمحكم من آيه من تنزيل ربنا ووحيه. ويقولون أيضًا:”ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا”، يعني أنهم يقولون = رغبةً منهم إلى ربهم في أن يصرف عنهم ما ابتلى به الذين زاغت قلوبهم من اتباع متشابه آي القرآن، ابتغاءَ الفتنة وابتغاءَ تأويله الذي لا يعلمه غيرُ الله =: يا ربنا، لا تجعلنا مثل هؤلاء الذين زاغت قلوبهم عن الحق فصدوا عن سبيلك “لا تزغ قلوبنا”، لا تملها فتصرفها عن هُدَاك بعد إذ هديتنا له، فوفقتنا للإيمان بمحكم كتابك ومتشابهه “وهب لنا” يا ربنا “من لدنك رحمة”، يعني: من عندك رحمة، يعني بذلك: هب لنا من عندك توفيقًا وثباتًا للذي نحن عليه من
الإقرار بمحكم كتابك ومتشابهه “إنك أنتَ الوهاب”، يعني: إنك أنت المعطي عبادك التوفيقَ والسدادَ للثبات على دينك، وتصديق كتابك ورسلك
قال أبو جعفر: وفي مدح الله جل ثناؤه هؤلاء القوم بما مدحهم به من رغبتهم إليه في أن لا يزيغ قلوبهم، وأن يعطيهم رحمةً منه معونة لهم للثبات على ما هُم عليه من حسن البصيرة بالحق الذي هم عليه مقيمون ما أبان عن خطأ قول الجهَلة من القدَرية: ((105)) أن إزاغة الله قلب من أزاغ قلبه من عباده عن طاعته وإمالته له عنها، جَوْرٌ. لأن ذلك لو كان كما قالوا، لكان الذين قالوا:”ربنا لا تزغ قلوبنا بعدَ إذ هدَيتنا”، بالذم أولى منهم بالمدح. لأن القول لو كان كما قالوا، لكان القوم إنما سألوا ربَّهم بمسألتهم إياه أن لا يزيغ قلوبهم ((106)) أن لا يظلمهم ولا يجورَ عليهم. وذلك من السائل جهلٌ، لأن الله جل ثناؤه لا يظلم عبادَه ولا يجور عليهم. وقد أعلم عبادَه ذلك ونَفاه عن نفسه بقوله: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ) [سورة فصلت: (46)]. ولا وجه لمسألته أن يكون بالصفة التي قد أخبرهم أنه بها. وفي فساد ما قالوا من ذلك، الدليلُ الواضح على أن عدلا من
الله عز وجل: إزاغةُ من أزاغَ قلبه من عباده عن طاعته، فلذلك استحقّ المدحَ مَنْ رغب إليه في أن لا يزيغه، لتوجيهه الرغبة إلى أهلها، ووضعه مسألته موضعها، مع تظاهر الأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برغبته إلى ربه في ذلك، مع محله منه وكرامته عليه.
قال السمعاني:
“لا تزغ قلوبنا” أَي: لَا تمل قُلُوبنَا {بعد إِذْ هديتنا} وَهَذَا دُعَاء للتثبيت والإدامة عَلَيْهِ، وَقد رَوَت أم سَلمَة عَن النَّبِي أَنه كَانَ يَقُول: ” يَا مُقَلِّب الْقُلُوب ثَبت قلبِي على دينك ” {وهب لنا من لَدُنْك رَحْمَة} نصْرَة ومعونة {إِنَّك أَنْت الْوَهَّاب}.
تفسير السمعاني سورة آل عمران آية 8
قال القرطبي:
قوله تعالى: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب (8)
سألوا إذ هداهم الله ألا يبتليهم بما يثقل عليهم من الأعمال فيعجزوا عنه، نحو” ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ……. أي ثبتنا على هدايتك إذ هديتنا وألا نزيغ فنستحق أن تزيغ قلوبنا. …….. وفي الموطأ عن أبي عبد الله الصنابحي أنه قال: قدمت المدينة في خلافة أبي بكر الصديق فصليت وراءه المغرب، فقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة من قصار المفصل، ثم قام في الثالثة، فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد تمس ثيابه، فسمعته يقرأ بأم القرآن وهذه الآية” ربنا لا تزغ قلوبنا” الآية. قال العلماء: قراءته بهذه الآية ضرب من القنوت والدعاء لما كان فيه من أمر أهل الردة.
… قوله تعالى: (وهب لنا من لدنك رحمة) أي من عندك ومن قبلك تفضلا لا عن سبب منا ولا عمل. وفي هذا استسلام وتطارح.
ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد (9)
أي باعثهم ومحييهم بعد تفرقهم، وفي هذا إقرار بالبعث ليوم القيامة. قال الزجاج: هذا هو التأويل الذي علمه الراسخون وأقروا به
تفسير القرطبي
====
قال ابن الجوزي مبينا التوسل بإسم الوهاب:
قَوْلُهُ تَعالى: {رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا} أيْ يَقُولُونَ: (رَبَّنا لا تُمِلْ قُلُوبَنا عَنِ الهُدى بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا) وقَرَأ أبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وابْنُ يَعْمُرَ، والجَحْدَرِيُّ “لا تُزِغْ” بِفَتْحِ التّاءِ “قُلُوبَنا” بِرَفْعِ الباءِ. ولَدْنَكَ: بِمَعْنى عِنْدَكَ. والوَهّابُ: الَّذِي يَجُودُ بِالعَطاءِ مِن غَيْرِ اسْتِثابَةٍ، والمَخْلُوقُونَ لا يَمْلِكُونَ أنْ يَهَبُوا شِفاءً لِسَقِيمٍ، ولا ولَدًا لِعَقِيمٍ، واللَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى أنْ يَهَبَ جَمِيعَ الأشْياءِ. انتهى من زاد المسير
قال الثعالبي:
ومِنْ لَدُنْكَ: معناه: من عِنْدِكَ تَفَضُّلاً، لا عن سَبَبٍ منَّا، ولاَ عَمَلٍ، وفي هذا استسلامٌ وتطارُحٌ، والمرادُ: هَبْ لنا نعيماً صادراً عن الرحمة.
وقوله تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ: إِقرار بالبَعْثِ ليومِ القيامة، والرَّيْبُ: الشكُّ، والمعنى أنه في نفْسِه حقٌّ لا رَيْبَ فيه.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعادَ، يحتمل: أنْ يكون إِخباراً منه سبحانه لمحمّد -صلى الله عليه وسلم-، وأمته، ويحتملُ: أنْ يكون حكايةً مِنْ قول/ الداعين، ففي ذلك إِقرارٌ بصفة ذاتِ اللَّه تعالى، والميعادُ: من الوَعْد. انتهى (الجواهر الحسان)
قال البقاعي:
ولَمّا عُلِمَ بِذَلِكَ أنَّ الرّاسِخِينَ أيْقَنُوا أنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ المُسْتَلْزِمِ لِأنَّهُ لا عِوَجَ فِيهِ أخْبَرَ أنَّهم أقْبَلُوا عَلى التَّضَرُّعِ إلَيْهِ في أنْ يُثَبِّتَهم بَعْدَ هِدايَتِهِ ثُمَّ أنْ يَرْحَمَهم بِبَيانِ ما أشْكَلَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ حاكِيًا عَنْهم وهو في الحَقِيقَةِ تَلْقِينٌ مِنهُ لَهم لُطْفًا بِهِمْ مُقَدِّمًا ما يَنْبَغِي تَقْدِيمُهُ مِنَ السُّؤالِ في تَطْهِيرِ القَلْبِ عَمّا لا يَنْبَغِي عَلى طَلَبِ تَنْوِيرِهِ بِما يَنْبَغِي لِأنَّ إزالَةَ المانِعِ قَبْلَ إيجادِ المُقْتَضِي عَيْنُ الحِكْمَةِ: {رَبَّنا} أيِ المُحْسِنَ إلَيْنا {لا تُزِغْ قُلُوبَنا} أيْ عَنِ الحَقِّ.
ولَمّا كانَ صَلاحُ القَلْبِ [صَلاحَ الجُمْلَةِ] و [فَسادُهُ] فَسادَها وكانَ ثَباتُ الإنْسانِ عَلى سُنَنِ الِاسْتِقامَةِ مِن غَيْرِ عِوَجٍ أصْلًا مِمّا لَمْ يُجْرِ بِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى عادَتَهُ لِغَيْرِ المَعْصُومِينَ قالَ نازِعًا الجارَّ مُسْنِدًا الفِعْلَ إلى ضَمِيرِ الجُمْلَةِ: {بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا} إلَيْهِ. وقالَ الحَرالِّيُّ: فَفي إلاحَةِ مَعْناهُ أنَّ هَذا الِابْتِهالَ واقِعٌ مِن أُولِي الألْبابِ لِيَتَرَقَّوْا مِن مَحَلِّهِمْ مِنَ التَّذَكُّرِ إلى ما هو أعْلى وأبْطَنُ انْتَهى. فَلِذَلِكَ
قالُوا: {وهَبْ لَنا مِن لَدُنْكَ} أيْ أمْرِكَ الخاصِّ بِحَضْرَتِكَ القُدْسِيَّةِ، الباطِنِ عَنْ غَيْرِ خَواصِّكَ {رَحْمَةً} أيْ فَضْلًا ومِنحَةً مِنكَ ابْتِداءً مِن غَيْرِ سَبَبٍ مِنّا، ونَكَّرَها تَعْظِيمًا بِأنَّ أيْسَرَ شَيْءٍ مِنها يَكْفِي المَوْهُوبَ. ولَمّا لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ شَيْءٌ أصْلًا فَكانَ كُلُّ عَطاءٍ مِن فَضْلِهِ قالُوا وقالَ الحَرالِّيُّ: ولَمّا كانَ الأمْرُ اللَّدُنِيُّ لَيْسَ مِمّا في فِطَرِ الخَلْقِ وجِبِلّاتِهِمْ وإقامَةِ حِكْمَتِهِمْ، وإنَّما هو مَوْهِبَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى بِحَسَبِ العِنايَةِ خَتَمَ بِقَوْلِهِ: {إنَّكَ أنْتَ الوَهّابُ} وهي صِيغَةُ مُبالَغَةٍ مِنَ الوَهْبِ والهِبَةِ، وهي العَطِيَّةُ سَماحًا مِن غَيْرِ قَصْدٍ مِنَ المَوْهُوبِ انْتَهى.
.. {رَبَّنا إنَّكَ جامِعُ} قالَ الحَرالِّيُّ: مِنَ الجَمْعِ، وهو ضَمُّ ما شَانُهُ الِافْتِراقُ والتَّنافُرُ لُطْفًا أوْ قَهْرًا انْتَهى.
{النّاسِ} أيْ كُلِّهِمْ {لِيَوْمٍ} أيْ يُدانُونَ فِيهِ {لا رَيْبَ فِيهِ} ثُمَّ عَلَّلُوا نَفْيَ الرَّيْبِ بِقَوْلِهِمْ عادِلِينَ عَنِ الخِطابِ آتِينَ بِالِاسْمِ الأعْظَمِ لِأنَّ المَقامَ لِلْجَلالِ: {إنَّ اللَّهَ} أيِ المُحِيطَ بِصِفاتِ الكَمالِ {لا يُخْلِفُ} ولَمّا كانَ نَفْيُ الخُلْفِ في زَمَنِ الوَعْدِ ومَكانِهِ أبْلَغَ مِن نَفْيِ خِلافِهِ نَفْسِهِ عَبَّرَ بِالمِفْعالِ فَقالَ: {المِيعادَ} وقالَ الحَرالِّيُّ: هو مِفْعالٌ مِنَ الوَعْدِ، وصِيغَ لِمَعْنى تَكَرُّرِهِ ودَوامِهِ، والوَعْدُ العَهْدُ في الخَيْرِ انْتَهى (نظم الدرر)
قال ابن عاشور:
وقَوْلُهُ: {بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا} تَحْقِيقٌ لِلدَّعْوَةِ عَلى سَبِيلِ التَّلَطُّفِ؛ إذْ أسْنَدُوا الهُدى إلى اللَّهِ تَعالى، فَكانَ ذَلِكَ كَرَمًا مِنهُ، ولا يَرْجِعُ الكَرِيمُ في عَطِيَّتِهِ، وقَدِ اسْتَعاذَ النَّبِيءُ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ السَّلْبِ بَعْدَ العَطاءِ …..
وقَوْلُهُ: {وهَبْ لَنا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً} طَلَبُوا أثَرَ الدَّوامِ عَلى الهُدى وهو الرَّحْمَةُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، ومَنعَ دَواعِي الزَّيْغِ والشَّرِّ. وجُعِلَتِ الرَّحْمَةُ مِن عِنْدِ اللَّهِ؛ لِأنَّ تَيْسِيرَ أسْبابِها وتَكْوِينَ مُهَيِّئاتِها بِتَقْدِيرِ اللَّهِ؛ إذْ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَكانَ الإنْسانُ مُعَرَّضًا لِنُزُولِ المَصائِبِ والشُّرُورِ في كُلِّ لَمْحَةٍ …. والقَصْرُ في قَوْلِهِ إنَّكَ أنْتَ الوَهّابُ لِلْمُبالَغَةِ، لِأجْلِ كَمالِ الصِّفَةِ فِيهِ تَعالى؛ لِأنَّ هِباتِ النّاسِ بِالنِّسْبَةِ لِما أفاضَ اللَّهُ مِنَ الخَيْراتِ شَيْءٌ لا يُعْبَأُ بِهِ. وفي هَذِهِ الجُمْلَةِ تَاكِيدٌ بِـ ”إنَّ“ وبِالجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، وبِطَرِيقِ القَصْرِ.
وقَوْلُهُ: {رَبَّنا إنَّكَ جامِعُ النّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} اسْتَحْضَرُوا عِنْدَ طَلَبِ الرَّحْمَةِ أحْوَجَ ما يَكُونُونَ إلَيْها، وهو يَوْمُ تَكُونُ الرَّحْمَةُ سَبَبًا لِلْفَوْزِ الأبَدِيِّ، فَأعْقَبُوا بِذِكْرِ هَذا اليَوْمِ دُعاءَهم عَلى سَبِيلِ الإيجازِ، كَأنَّهم قالُوا: {وهَبْ لَنا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً}، وخاصَّةً يَوْمَ تَجَمُّعِ النّاسِ انتهى
قال أبو حيان:
{وهَبْ لَنا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً} سَألُوا بِلَفْظِ الهِبَةِ المُشْعِرَةِ بِالتَّفَضُّلِ والإحْسانِ إلَيْهِمْ مِن غَيْرِ سَبَبٍ ولا عَمَلٍ ولا مُعاوَضَةٍ؛ لِأنَّ الهِبَةَ كَذَلِكَ تَكُونُ، وخَصُّوها بِأنَّها مِن عِنْدِهِ. انتهى (البحر المحيط)
قال أبو السعود:
{إنَّكَ أنْتَ الوَهّابُ} تَعْلِيلٌ لِلسُّؤالِ أوْ لِإعْطاءِ المَسْؤُولِ، و “أنْتَ” إمّا مُبْتَدَأٌ أوْ فَصْلٌ أوْ تَاكِيدٌ لِاسْمِ إنَّ، و إطْلاقُ الوَهّابِ لِيَتَناوَلَ كُلَّ مَوْهُوبٍ، وفِيهِ دِلالَةٌ عَلى أنَّ الهُدى والضَّلالَ مِن قِبَلِهِ تَعالى، وأنَّهُ مُتَفَضِّلٌ بِما يُنْعِمُ بِهِ عَلى عِبادِهِ مِن غَيْرِ أنْ يَجِبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
تقاة.
{رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْم لَّا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران (9)]
{رَبَّنا إنَّكَ جامِعُ النّاسِ لِيَوْمٍ} أيِ: الحِسابِ يَوْمَ أوِ الجَزاءِ يَوْمَ، حُذِفَ المُضافُ وأُقِيمَ مَقامَهُ المُضافُ إلَيْهِ تَهْوِيلًَا لَهُ وتَفْظِيعًَا لِما يَقَعُ فِيهِ.
{لا رَيْبَ فِيهِ} أيْ: في وُقُوعِهِ ووُقُوعِ ما فِيهِ مِنَ الحَشْرِ والحِسابِ والجَزاءِ، ومَقْصُودُهم بِهَذا عَرْضُ كَمالِ افْتِقارِهِمْ إلى الرَّحْمَةِ، وأنَّها المَقْصِدُ الأسْنى عِنْدَهُمْ، و التَّاكِيدُ لِإظْهارِ ما هم عَلَيْهِ مِن كَمالِ الطُّمَانِينَةِ وقُوَّةِ اليَقِينِ بِأحْوالِ الآخِرَةِ.
{إنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ المِيعادَ} تَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ المُؤَكَّدَةِ، أوْ لِانْتِفاءِ الرَّيْبِ والتَّاكِيدِ لِما مَرَّ، و إظْهارُ الِاسْمِ الجَلِيلِ مَعَ الِالتِفاتِ لِإبْرازِ كَمالِ التَّعْظِيمِ والإجْلالِ النّاشِئِ مِن ذِكْرِ اليَوْمِ المَهِيبِ الهائِلِ، بِخِلافِ ما في آخِرِ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ فَإنَّهُ مَقامُ طَلَبِ الإنْعامِ كَما سَيَاتِي و لِلْإشْعارِ بِعِلَّةِ الحُكْمِ، فَإنَّ الأُلُوهِيَّةَ مُنافِيَةٌ لِلْإخْلافِ. انتهى (تفسير أبي السعود)
قال القاسمي:
{رَبَّنا إنَّكَ جامِعُ النّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ المِيعادَ} وهَذا مِن تَتِمَّةِ كَلامِ الرّاسِخِينَ في العِلْمِ، وذَلِكَ لِأنَّهم لَمّا طَلَبُوا مِنَ اللَّهِ تَعالى أنْ يَصُونَهم عَنْ الزَّيْغِ، وأنْ يَخُصَّهم بِالهِدايَةِ والرَّحْمَةِ، فَكَأنَّهم قالُوا: لَيْسَ الغَرَضُ مِن هَذا السُّؤالِ ما يَتَعَلَّقُ بِمَصالِحَ الدُّنْيا، فَإنَّها مُنْقَضِيَةٌ مُنْقَرِضَةٌ. وإنَّما الغَرَضُ الأعْظَمُ مِنهُ: ما يَتَعَلَّقُ بِالآخِرَةِ فَإنَّها القَصْدُ والمَآلُ. فَإنّا نَعْلَمُ أنَّكَ يا إلَهَنا جامِعُ النّاسِ لِلْجَزاءِ في يَوْمِ القِيامَةِ، ونَعْلَمُ أنَّ وعْدَكَ لا يَكُونُ خُلْفًا، فَمَن زاغَ قَلْبُهُ بَقِيَ هُناكَ في العَذابِ أبَدًا، ومَن مَنَحْتَهُ الرَّحْمَةَ والهِدايَةَ بَقِيَ هُناكَ في السَّعادَةِ والكَرامَةِ أبَدًا. فالغَرَضُ الأعْظَمُ مِن ذَلِكَ الدُّعاءِ؛ ما يَتَعَلَّقُ بِالآخِرَةِ. (محاسن التأويل)
قال السعدي:
ثم أخبر تعالى عن الراسخين في العلم أنهم يدعون ويقولون {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} أي: لا تملها عن الحق جهلا وعنادا منا، بل اجعلنا مستقيمين هادين مهتدين، فثبتنا على هدايتك وعافنا مما ابتليت به الزائغين {وهب لنا من لدنك رحمة} أي: عظيمة توفقنا بها للخيرات وتعصمنا بها من المنكرات {إنك أنت الوهاب} أي: واسع العطايا والهبات، كثير الإحسان الذي عم جودك جميع البريات.
{ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إنك لا تخلف الميعاد} فمجازيهم بأعمالهم حسنها وسيئها، وقد أثنى الله تعالى على الراسخين في العلم بسبع صفات هي عنوان سعادة العبد: إحداها: العلم الذي هو الطريق الموصل إلى الله، المبين لأحكامه وشرائعه، الثانية: الرسوخ في العلم وهذا قدر زائد على مجرد العلم، فإن الراسخ في العلم يقتضي أن يكون عالما محققا، وعارفا مدققا، قد علمه الله ظاهر العلم وباطنه، فرسخ قدمه في أسرار الشريعة علما وحالا وعملا، الثالثة: أنه وصفهم بالإيمان بجميع كتابه ورد لمتشابهه إلى محكمه، بقوله {يقولون آمنا به كل من عند ربنا} الرابعة: أنهم سألوا الله العفو والعافية مما ابتلي به الزائغون المنحرفون، الخامسة: اعترافهم بمنة الله عليهم بالهداية وذلك قوله {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} السادسة: أنهم مع هذا سألوه رحمته المتضمنة حصول كل خير واندفاع كل شر، وتوسلوا إليه باسمه الوهاب
السابعة: أنه أخبر عن إيمانهم وإيقانهم بيوم القيامة وخوفهم منه، وهذا هو الموجب للعمل الرادع عن الزلل انتهى تفسير السعدي
قال ابن عثيمين:
ويقولون أيضًا: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} والدعاء يصدر غالبًا بالرب؛ لأن الدعاء يستلزم يعني يتطلب الإجابة، والإجابة من الأفعال، والأفعال علاقتها بالربوبية أكثر من علاقتها بالألوهية، ولهذا غالب الأدعية يأتي مصدرًا بالرب، ربنا.
{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} {لَا تُزِغْ} هذه جملة دعائية وإن كانت بصيغة النهي
وقوله: {لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} سُلط الفعل على القلب؛ لأن القلب عليه مدار العمل
وقوله: {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} هذه الجملة لا يُراد بها الافتخار، وإنما يُراد بها التوسل بالنعم السابقة إلى النعم اللاحقة، فكأنهم يقولون: ربنا إنك مَنَنْت علينا بالهداية أولًا فنسألك أن تمن علينا بثبوت هذه الهداية فلا تزغها، فيكون في هذا الدعاء ثناء على الله عز وجل بماذا؟ بالهداية السابقة، هم لو قالوا: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} كفى، لكن قالوا: {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} ليتوسلوا بنِعم الله السابقة إلى نعمه اللاحقة، وليثنوا على الله عز وجل بنعمه السابقة، وأنه عز وجل أهل للفضل والإنعام. {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} هداية دلالة ولَّا توفيق؟
{وَهَبْ لَنَا} يعني: أعطنا {مِنْ لَدُنْكَ} أي: من عندك، وأضافوا هذه الهبة إلى الله لئلا يكون لأحد عليهم مِنة سواه، هذا من وجه؛ ولأنها إذا كانت من عند الله -وهو أكرم الأكرمين- صارت هبة عظيمة
{إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران (8)] الجملة هنا استئنافية للتعليل والتوسل، يعني أننا إنما طلبنا منك الهبة هبة رحمة؛ لأنك أنت الوهاب انتهى من تفسير ابن عثيمين
كلام بديع لابن تيمية يبين أقسام الرحمة:
(7) – {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}
فلله رحمة قد عمت الخلق؛ برهم، وفاجرهم، سعيدهم، وشقيهم، ثم له رحمة خص بها المؤمنين خاصة؛ وهي رحمة الإيمان، ثم له رحمة خص بها المتقين؛ وهي رحمة الطاعة لله تعالى، ولله رحمة خص بها الأولياء نالوا بها الولاية، وله رحمة خص بها الأنبياء نالوا بها النبوة، وقال الراسخون في العلم: {وهب لنا من لدنك رحمة}. [المجموع من تفسير ابن تيمية: (2) / (34)]