56.لطائف التفسير
جمع سيف بن دورة الكعبي
وشارك مسعود الحبسي وإبراهيم السعدي وأبو صالح حازم ونورس الهاشمي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ووالديهم ووالدينا)
—–‘—–‘——
قال تعالى: (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)
[سورة الواقعة 79]
قال ابن القيم 3/ 120 بدائع التفسير: ودلت الآية بإشارتها وإيمائها على أنه لا يدرك معانيه ولا يفهمه إلا القلوب الطاهرة، وحرام على القلب المتلوث بنجاسة البدع والمخالفات أن ينال معانيه، وأن يفهمه كما ينبغي.
هل هناك آيات أخرى يفهم منها الطهارة المعنوية أو الخبث المعنوي؟
——‘——‘—–
فهذا بحث وقفت عليه في الشبكة:
الحمد لله
الطهارة قسمان: طهارة حسية، وطهارة معنوية، والنجاسة قسمان: نجاسة حسية، ونجاسة معنوية.
فالطهارة الحسية: هي الطهارة من الحدث والخبث (النجاسة).
والنجاسة الحسية: هي الأعيان التي حكم الشرع بنجاستها وقذارتها، ومنها ما نجاسته مغلظة، وهو الكلب، ومنها ما نجاسته مخففة: كبول الصبي الرضيع، ومنها ما نجاسته متوسطة، كنجاسة البول والدم والميتة.
والكلام عن الطهارة والنجاسة الحقيقية هو محور اهتمام الفقهاء في كتبهم.
وأما الطهارة والنجاسة المعنوية فليست محل اهتمام أهل الفقه، ولذلك لا يذكرونها إلا نادرا على سبيل الاستطراد.
والطهارة المعنوية: هي طهارة المؤمن من الشرك والكفر، والنجاسة المعنوية: هي نجاسة الكفر والفسوق والعصيان.
ومن النصوص الشرعية الدالة على الطهارة والنجاسة المعنوية:
قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [التوبة / 103]
قال الطبري: ” يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ خُذْ مِنْ أَمْوَالِ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ فَتَابُوا مِنْهَا صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ مِنْ دَنَسِ ذُنُوبِهِمْ (وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) تُنَمِيهِمْ وَتَرْفَعُهُمْ عَنْ خَسِيسِ مَنَازِلِ أَهْلِ النِّفَاقِ، إِلَى مَنَازِلِ أَهْلِ الإِخْلاَصِ “. انتهى ” تفسير الطبري” [11/ 659].
وقال عن قوم لوط: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ، إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) [النمل / 56]
أي عن المعاصي والقبائح.
وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ، فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) [التوبة / 28]
قال ابن القيم: ” وقد وسم الله سبحانه الشرك، والزنا، واللواطة، بالنجاسة والخبث في كتابه دون سائر الذنوب وإن كانت مشتملة على ذلك، لكن الذي وقع في القرآن قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ)، وقوله تعالى في حق اللوطية: (وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ).
وقالت اللوطية: (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ)، فأقروا مع شركهم وكفرهم أنهم هم الأخباث الأنجاس، وأن لوطا وآله مطهرون من ذلك باجتنابهم له.
قال تعالى في حق الزناة: (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات).
فأما نجاسة الشرك فهي نوعان: نجاسة مغلظة، ونجاسة مخففة.
فالمغلظة: الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله عز وجل.
والمخففة: الشرك الأصغر، كيسير الرياء، والتصنع للمخلوق، والحلف به، وخوفه، ورجائه …
والمقصود: أن النجاسة تارة تكون محسوسة ظاهرة، وتارة تكون معنوية باطنة “. انتهى ” إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان ” [1/ 59]
وقال الشيخ ابن عثيمين: ” الطهارة معناها: النظافة والنزاهة، وهي في الشرع على نوعين: طهارة معنوية، وطهارة حسية.
أما الطهارة المعنوية: فهي طهارة القلوب من الشرك والبدع في عبادة الله، ومن الغل، والحقد، والحسد، والبغضاء، والكراهة، وما أشبه ذلك في معاملة عباد الله الذين لا يستحقون هذا ….
ولهذا وصف الله عز وجل المشركين بأنهم نجس، فقال تعالى: (أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ)، ونفى النبي صلى الله عليه وسلم النجاسة عن المؤمن، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن لا ينجس)، وهذا هو الذي ينبغي للمؤمن أن يعتني به عناية كبيرة ليطهر قلبه منه “. انتهى ” فقه العبادات ” صـ 97.
وقال الشيخ صالح الفوزان: ” الطهارة المعنوية: هي الطهارة من الشرك، والطهارة من البدع، والطهارة من الذنوب، قال تعالى: (إنهم أناس يتطهرون) فالطهارة هنا معنوية وهي النزاهة عن المعاصي والذنوب.
والشرك نجاسة، قال تعالى: (إنما المشركون نجس) نجاسة معنوية، والتوحيد طهارة معنوية ” انتهى من الشرح المختصر على زاد المستقنع (1/ 52). والله أعلم. انتهى البحث
وهذا جزء فيه جمل حول موضوعنا:
والسبب الثالث في أهمية القلب أن طهارته شرط دخول الجنة، لذا ذم الله خبثاء القلوب فقال: {أُولِئك الّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ في الدُّنيا خِزْيٌ وَلَهُمْ في الآخِرَةِ عَذابٌ عَظيْمٌ} [المائدة: 41]، والآية دليل دامغ على أن من لم يطهِّر قلبه فلا بد أن يناله الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة، ولهذا حرَّم الله سبحانه الجنة على من كان في قلبه مثقال ذرة من خبث، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر».
ولا يدخلها أحد إلا بعد كمال طيبه وطهره، لأنها دار الطيبين، ولذا يُقال لهم وهم على مشارف الجنة: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73].
ويُبشَّرون عند موتهم دون غيرهم على لسان الملائكة: {الّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الجنَّةَ بِمَا كُنْتمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32].
قال ابن القيِّم: ” فالجنة لا يدخلها خبيث، ولا مَن فيه شيء من الخبث، فمن تطهَّر في الدنيا ولقي الله طاهراً من نجاساته دخلها بغير معوِّق، ومن لم يتطهر في الدنيا؛ فإن كانت نجاسته عينية كالكافر لم يدخلها بحال، وإن كانت نجاسته كسبية عارضة دخلها بعد ما يتطهر فى النار من تلك النجاسة، ثم يخرج منها حتى إن أهل الإيمان إذا جازوا الصراط حُبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيهَذَّبون وينقَّون من بقايا بقيت عليهم قصرت بهم عن الجنة، ولم توجب لهم دخول النار، حتى إذا هُذِّبوا ونقوا أُذِن لهم في دخول الجنة “.
من أجل ذلك جاء الأمر جازما للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4].
قال ابن القيِّم: ” وجمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم على أن المراد بالثياب ها هنا القلب، والمراد بالطهارة إصلاح الأعمال والأخلاق “.
النجاسة الكبرى
قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 9]
فعبَّر سبحانه وتعالى عن نجاستهم بالمصدر للمبالغة؛ وكأنهم عين النجاسة لأن خبائث الباطن أولى بالاجتناب وهل أخبث من الشرك؟! فإن خبائث القلب مع خبثها في الحال مهلكات في المآل، ومعنى آخر: هو أن الطهارة والنجاسة غير مقصورة على الظاهر، فالمشرك قد يكون نظيف الثوب مغسول البدن ولكنه نجس القلب، وهذا الذي ذهب إليه أهل المذاهب الأربعة إلى أن الكافر ليس بنجس الذات لأن الله سبحانه أحلّ طعامهم، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك من فعله وقوله، فأكل في آنيتهم، وشرب منها، وتوضأ فيها، وأنزلهم في مسجده.
وإضافة إلى هذا؛ فالنجاسات المعنوية ليست على درجة واحدة بل تتفاوت، وليس محلها قلوب الكفار فحسب، بل قد توجد في قلوب المسلمين، فالغضب والكبر والحسد وغيرها من أمراض القلوب نجاسة، وإذا كان صلى الله عليه وسلم قد قال: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة»، فإن أبا حامد الغزالي [ت: 505] قد تأمل في هذا الحديث تأملا قد يكون بعيدا عن الظاهر لكنه ذو دلالة فقال:
” والقلب بيت هو منزل الملائكة، ومهبط أثرهم، ومحل استقرارهم، والصفات الرديئة مثل الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب وأخواتها كلاب نابحة، فأنى تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب، ونور العلم لا يقذفه الله تعالى في القلب إلا بواسطة الملائكة، وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء، وهكذا ما يرسل من رحمة العلوم إلى القلوب إنما تتولاها الملائكة الموكلون بها، وهم المقدسون المطهرون المبرءون عن الصفات المذمومات، فلا يلاحظون إلا طيبا، ولا يعمرون بما عندهم من خزائن رحمة الله إلا طيبا طاهرا “.
—
قد اتفق الفقهاء رحمهم الله على أن الماء المطلق رافع للحدث مزيل للنجاسة؛ لقوله تعالى: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ) سورة الأنفال11
فطهرهم رب العزة ظاهرا فقويت القلوب
وقال الله في المنافقين: سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ سورة التوبة95.
وقال الله عز وجل: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) سورة التوبة125.
ومن الأمور أيضاً أعمال الرجس، (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) سورة الحج30
وقال تعالى (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ)
[سورة البقرة 108]
فهذه الآيات فيها ذم إرادة خبث الكفر على طهارة الإيمان
وقال تعالى:
(وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)
[سورة ا?نفال 34 – 40]
فوصفهم رب العزة بالخبث ووصف أهل الإيمان بالطيب
وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)
[سورة البقرة 267]
فذم رب العزة من ينفق من ماله الخبيث. فانفاق الخبيث ينعكس على القلب.
وقال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَائِكَ مَا يَاكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)
[سورة البقرة 172 – 174]
فيه ذكر الطيبات ثم ذكر رب العزة المحرمات
وفيه ذكر خبث الثمن القليل مقابل التحريف.
فهذا يدل على خبث القلوب.
قال تعالى (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَائِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَاتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبالْمُتَطَهِّرِينَُّ)
[سورة البقرة 221 – 222]
في هذه الآيات ذكر الله عزوجل طهارة أهل الإيمان في باب النكاح لأن عندهم التوحيد ولو كان المشرك في الظاهر أجمل فلا تغتر.
وفي سورة النور بين رب العزة في دفاعه عن عائشة مما اتهمت به في الإفك أن الخبيثات للخبيثين والطيبات للطيبين.
قال تعالى: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَائِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)
[سورة النور 26]
وإنما كررت الكلمات للتدليل أن الخبث هذا مطلب الخبيثات كما هو مطلب الخبيثين. فكل منهم يطلب خبيث مثله.
فلم تقتصر الآيات على بعض الجملة (الخبيثات للخبيثين) ختى ذكرت معها (والخبيثون للخبيثات)
وأن الطهارة مطلب الطيبات كما هي مطلب الطيبين. فلم تقتصر الآية على ذكر أن (الطيبات للطيبين) بل ذكر معها (والطيبون للطيبات).
أما الأحاديث في الخبث المعنوي فتحتاج تتبع فمن ذلك:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يكون في آخر هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، قالت: قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا ظهر الخبث))
وسيأتي في آخر المبحث نقل كلام لابن تيمية وابن القيم يبينان أثر خبث القلب على الصورة والظاهر.
——–‘——‘——
قوله تعالى (وثيابك فطهر) فقد ذكر في أحد المعنيين الطهارة المعنوية والله أعلم
——-”——
قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) آل عمران/ 42.
قال ابن جرير الطبري: ” وَقَوْلُهُ: (وَطَهَّرَكِ) يَعْنِي: طَهَّرَ دِينَكِ مِنَ الرِّيَبِ وَالأَدْنَاسِ الَّتِي فِي أَدْيَانِ نِسَاءِ بَنِي آدَمَ “. ” تفسير الطبري” [5/ 392].
وقال تعالى لنساء النبي صلى الله عليه وسلم: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ، وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى، وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ، وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) [الأحزاب / 33]
والمراد بها الطهارة المعنوية.
وقال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [التوبة / 103]
و عن الخبث المعنوي
قوله تعالى (أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَس) وسبق
——-
قال السعدي كما في تيسير الكريم الرحمن:
{لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: (108)] {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} أي: لا تصل في ذلك المسجد الذي بني ضرارا أبدا. فاللّه يغنيك عنه، ولست بمضطر إليه.
{لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} ظهر فيه الإسلام في ” قباء ” وهو مسجد ” قباء ” أسس على إخلاص الدين للّه، وإقامة ذكره وشعائر دينه، وكان قديما في هذا عريقا فيه، فهذا المسجد الفاضل {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} وتتعبد، وتذكر اللّه تعالى فهو فاضل، وأهله فضلاء، ولهذا مدحهم اللّه بقوله: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} من الذنوب، ويتطهروا من الأوساخ، والنجاسات والأحداث.
ومن المعلوم أن من أحب شيئا لا بد أن يسعى له ويجتهد فيما يحب، فلا بد أنهم كانوا حريصين على التطهر من الذنوب والأوساخ والأحداث، ولهذا كانوا ممن سبق إسلامه، وكانوا مقيمين للصلاة، محافظين على الجهاد، مع رسول اللّه ? وإقامة شرائع الدين، وممن كانوا يتحرزون من مخالفة اللّه ورسوله.
وسألهم النبي ? بعد ما نزلت هذه الآية في مدحهم عن طهارتهم، فأخبروه أنهم يتبعون الحجارة الماء، فحمدهم على صنيعهم.
{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} الطهارة المعنوية، كالتنزه من الشرك والأخلاق الرذيلة، والطهارة الحسية كإزالة الأنجاس ورفع الأحداث
قال السعدي كما في: تيسير الكريم الرحمن — السعدي:
{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: (125)]
{وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} أي: أوحينا إليهما، وأمرناهما بتطهير بيت الله من الشرك، والكفر والمعاصي، ومن الرجس والنجاسات والأقذار، ليكون {لِلطَّائِفِينَ} فيه {وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أي: المصلين، قدم الطواف، لاختصاصه بالمسجد [الحرام]، ثم الاعتكاف، لأن من شرطه المسجد مطلقا، ثم الصلاة، مع أنها أفضل، لهذا المعنى. وأضاف الباري البيت إليه لفوائد، منها: أن ذلك يقتضي شدة اهتمام إبراهيم وإسماعيل بتطهيره، لكونه بيت الله، فيبذلان جهدهما، ويستفرغان وسعهما في ذلك. ومنها: أن الإضافة تقتضي التشريف والإكرام، ففي ضمنها أمر عباده بتعظيمه وتكريمه. ومنها: أن هذه الإضافة هي السبب الجاذب للقلوب إليه.
—-
قلت سيف بن دورة الكعبي:
هذا بحث فيه بيان تأثير خبث القلب وطيبه على شين الصورة وجمالها:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في “الاستقامة” (1/ 364):
وهذا الحسن والجمال الذي يكون عن الأعمال الصالحة في القلب يسري إلى الوجه، والقبح والشين الذي يكون عن الأعمال الفاسدة في القلب يسري إلى الوجه، كما تقدم. ثم إن ذلك يقوى بقوة الأعمال الصالحة والأعمال الفاسدة؛ فكلما كثُر البر والتقوى قوى الحسن والجمال، وكلما قوى الإثم والعدوان قوى القبح والشين، حتى ينسخ ذلك ما كان للصورة من حسن وقبح. فكم ممن لم تكن صورته حسنة ولكن من الأعمال الصالحة ما عظم به جماله وبهاؤه، حتى ظهر ذلك على صورته.
ولهذا ظهر ذلك ظهوراً بينا عند الإصرار على القبائح في آخر العمر عند قرب الموت، فنرى وجوه أهل السنة والطاعة كلما كبروا ازداد حسنها وبهاؤها، حتى يكون أحدهم في كبره أحسن وأجمل منه في صغره، ونجد وجوه أهل البدعة والمعصية كلما كبروا عظم قبحها وشينها، حتى لا يستطيع النظر إليها من كان منبهرا بها في حال الصغر لجمال صورتها.
وهذا ظاهر لكل أحد فيمن يعظم بدعته وفجوره، مثل الرافضة وأهل المظالم والفواحش، من الترك ونحوهم، فإن الرافضي كلما كبر قَبُحَ وجهه وعظم شينه، حتى يقوى شبهه بالخنزير، وربما مسخ خنزيراً وقرداً، كما قد تواتر ذلك عنهم. ونجد المردان من الترك ونحوهم قد يكون أحدهم في صغره من أحسن الناس صورة، ثم إن الذين يكثرون الفاحشة تجدهم في الكبر أقبح الناس وجوهاً. حتى إن الصنف الذي يكثر ذلك فيهم، من الترك ونحوهم، يكون أحدهم أحسن الناس صورة في صغره، وأقبح الناس صورة في كبره، وليس سبب ذلك أمراً يعود إلى طبيعة الجسم، بل العادة المستقيمة تناسب الأمر في ذلك، بل سببه ما يغلب على احدهم من الفاحشة والظلم، فيكون مخنثا ولوطيا وظالما وعونا للظلمة، فيكسوه ذلك قبح الوجه وشينه.
ومن هذا أن الذين قَوِيَ فيهم العدوان مسخهم الله قردة وخنازير من الأمم المتقدمة. وقد ثبت في الصحيح أنه سيكون في هذه الأمة أيضا من يُمسخ قردة وخنازير، فإن العقوبات والمثوبات من جنس السيئات والحسنات، كما قد بُيِّن ذلك في غير موضع.
وأما ابن القيم رحمه الله – فيقول في “مفتاح دار السعادة” (2/ 179):
وتأمل حكمتَهُ تعالى في مسخِ مَن مَسَخَ من الأُمم في صُورٍ مختلفَةٍ مناسبَةٍ لتلكَ الجرائم؛ فإنها لما مُسِخت قلوبُهم وصارت على قلوبِ تلك الحيواناتِ وطِباعِها اقتضت الحكمَةُ البالغةُ أنْ جُعِلت صُورُهم على صُورِها لتتمَّ المناسَبَةُ ويكمُل الشَّبهُ، وهذا غايةُ الحكمَةِ.
واعْتَبِر هذا بمن مُسِخوا قِردةً وخنازير، كيف غَلَبت عليهم صفاتُ هذه الحيوانات وأخلاقُها وأعمالُها.
ثم إن كنتَ من المتوسِّمين فاقرأ هذه النُّسخَةَ من وجوهِ أشباهِهم ونُظرائهم، كيفَ تراها باديةً عليها؟ وإن كانت مستورةً بصورَةِ الإنسانيّة فاقرأ نسخة القردة من صُورِ أهلِ المكرِ والخديعةِ والفسقِ الذين لا عُقول لهم، بل هم أخفُّ الناسِ عُقولاً وأعظمُهم مكراً وخداعاً وفسقاً.
فإن لم تقرأ نُسخَة القِرَدةِ من وجوهِم فلست من المتوسِّمين، واقرأ نسخَةَ الخنازيرِ من صوَرِ أشبهاهم ولا سيَّما أعداءُ خيارِ خَلْقِ الله بعدَ الرُّسُلِ وهم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ هذه النُّسخَةَ ظاهرَةٌ على وجوهِ الرَّافضَةِ يقرأُها كلُّ مؤمنٍ كاتبٍ وغير كاتبٍ، وهي تظهرُ وتَخفى بحسبِ خِنزيريّةِ القلبِ وخُبثهِ؛ فإن الخنزير أخبث الحيوانات وأردؤها طباعاً، ومن خاصيَّتهِ أنَّه يَدَعُ الطيِّباتِ فلا يأكلُها، ويقومُ الإنسانُ عن رجيعه فيُبادرُ إليه.
فتأمَّلْ مُطابَقَةَ هذا الوصفِ لأعداءِ الصَّحابَةِ كيفَ تجدُهُ مُنطبقاً عليهم؟ فإنَّهم عَمَدوا إلى أطيَبِ خَلقِ اللهِ وأطهرهم فعادوهم وتبرَّؤوا منهم، ثم والَوا كُلَّ عدوٍّ لهم من النَّصارى واليهودِ والمُشركينَ، فاستَعانوا في كلِّ زمانٍ على حربِ المؤمنينَ الموالين لإصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بالمشركين والكفَّارِ وصرَّحوا بأنَّهم خيرٌ منهم.
فأيُّ شبَهِ ومُناسَبةٍ أولى بهذا الضَّربِ منَ الخنازير؟! فإنْ لم تقرأ هذه النُّسخَةَ من وجوههم فلستَ من المتوسِّمين.
وأمَّا الأخبارُ التي تكادُ تبلغُ حدَّ التَّواترِ بمَسخِ مَن مُسخَ منهم عندَ الموتِ خِنزيراً فأكثرُ مِن أن تُذكرَ هاهُنا، وقد أفرَدَ لها الحافظُ محمد بن عبد الواحد المقدسيّ كتاباً.
وقال رحمه الله في “إغاثة اللهفان” (2/ 126):
والمقصود: أن النجاسة تارةً تكون محسوسة ظاهرة، وتارة تكونُ معنويةً باطنة، فيغلب على الروح والقلب الخبث والنجاسة، حتى إن صاحب القلب الحي لَيَشَمُّ من تلك الروح والقلب رائحة خبيثة يتأذى بها، كما يتأذى من شَمَّ رائحة النّتْن، ويظهر ذلك كثيراً في عَرَقِهِ، حتى يجد لرائحة عرقِهِ نَتْناً، فإن نَتْن الروح والقلب يتصل بباطن البدن أكثر من ظاهره، والعَرق يفيض من الباطن، ولهذا كان الرجل الصالح طيب العرق، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب الناس عرقاً، قالت أم سُلَيم – وقد سألها عليه الصلاة والسلام – عنه؛ وهي تلتقطه؟ -: هو من أطيب الطيب.
فالنفس النجسة الخبيثة يقوى خُبثها ونجاستها؛ حتى يبدوَ على الجسد، والنفس الطيبة بضدها، فإذا تجردت وخرجت من البدن وُجِدَ لهذه كأطيب نَفْحَة مسك وُجدت على وجه الأرض، ولتلك كأنتن ريح جِيفة وجدت على وجه الأرض.
وقال رحمه الله في “روضة المحبين” (1/ 222):
ترى الرجلَ الصالح المحسن ذا الأخلاق الجميلة من أحلى الناس صورة وإن كان أسودَ أو غيرَ جميل، ولا سيما إذا رُزِق حظاً من صلاة الليل فإنها تنوّر الوجه وتحسّنه.
وقد كان بعضُ النساء تُكثر صلاة الليل، فقل لها في ذلك، فقالت: إنها تُحسّن الوجه، وأنا أحب أن يحسنَ وجهي. ومما يدل على أن الجمال الباطنَ أحسنُ من الظاهر أن القلوب لا تنفك عن تعظيم صاحبه ومحبته والميل إليه.
وأما الجمال الظاهر فزينة خص الله بها بعضَ الصور عن بعض، وهي من زيادة الخلق التي قال الله تعالى فيها: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} قالوا: هو الصوت الحسن، والصورة الحسنة.
وكما أن الجمال الباطن من أعظم نعم الله تعالى على عبده، فالجمال الظاهر نعمة منه أيضا على عبده يوجب شكرا، فإن شكره بتقواه وصيانته؛ ازداد جمالا على جماله، وإن استعمل جماله في معاصيه سبحانه؛ قلبه له شيئا ظاهرا في الدنيا قبل الآخرة، فتعود تلك المحاسن وحشة وقبحاً وشينا، وينفر عنه من رآه، فكل من لم يتق الله عز و جل في حسنه وجماله انقلب قبحاً وشيناً يشينه به بين الناس، فحسن الباطن يعلو قبح الظاهر ويستره، وقبح الباطن يعلو جمال الظاهر ويستره.
وقال رحمه الله أيضاً في “إغاثة اللهفان” (2/ 476):
قال بعض أهل العلم: إذا اتَّصف القلبُ بالمكر والخديعة والفسق، وانصبغ بذلك صِبغةً تامةً: صار صَاحبه على خُلُق الحيوان الموصوف بذلك من القردة والخنازير وغيرهما، ثم لا يزال يتزايد ذلك الوصف فيه حتى يبدوَ على صَفَحَات وَجْهِه بُدُوّاً خفيّا، ثم يقوى ويتزايد حتى يصير ظاهراً على الوجه، ثم يقوى حتى يقلبَ الصورة الظاهرة كما قلب الهيئة الباطنة، ومَن له فِراسة تامة يرى على صور الناس مَسخاً من صور الحيوانات التي تَخلّقوا بأخلاقها في الباطن، فقلَّ أن ترى مُحتالاً مكاراً مخادعاً خَتَّاراً؛ إلا وعلى وجهه مَسْخةُ قرد، وقلَّ أن ترى رافضيَّاً؛ إلا وعلى وجهه مَسْخةُ خنزير، وقلَّ أن ترى شرِهاً نَهِماً، نفسُه نفسٌ كَلْبيّة إلا وعلى وجهه مَسْخةُ كلب، فالظاهر مرتبط بالباطن أتمَّ ارتباط، فإذا استحكمت الصفات المذمومة في النفس قويت على قلب الصورة الظاهرة.
ولهذا خوّف النبيُّ صلى الله عليه وسلم من سابَق الإمام في الصلاة بأن يجعل الله صورته صورة حمار؛ لمشابهته للحمار في الباطن؛ فإنه لم يستفد بمسابقة الإمام إلا فسادَ صلاته، وبطلان أجره، فإنه لا يُسَلِّم قبله، فهو شبيه بالحمار في البلادة وعدم الفِطْنَة.
—
وهذا سؤال من ابن القيم لشيخه ابن تيمية له تعلق بموضوعنا:
حول حديث (اللهم طهرني من خطاياي بالماء والثلج والبرد) , وإليكم السؤال والجواب عليه.
قال ابن القيم سألت – شيخَ الإسلام عن معنى دعاءِ النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم طهرني من خطاياي بالماء والثلج والبرد).
كيف يطهر الخطايا بذلك؟ وما فائدة التخيصيص بذلك؟ وقوله في لفظ آخر (والماء البارد) والحار أبلغ في الإنقاء؟
فقال: الخطايا توجب للقلب حرارةً ونجاسةً وضعفاً , فيرتخي القلب وتضطرم فيه نار الشهوة وتنجسه , فإن الخطايا والذنوب بمنزلة الحطب الذي يمد النار ويوقدها ولهذا كلما كثرت الخطايا اشتدت نار القلب وضعفه , والماءُ يَغْسِلُ الخبثُ ويطفئُ النارَ , فإن كان بارداً أورث الجسم صلابةً وقوة , فإن كان معه ثلج وبرد كان أقوى في التبريد وصلابة الجسم وشدته , فكان أذهب لأثر الخطايا. هذا معنى كلامه وهو محتاج إلى مزيد من الشرح.
فاعلم أن ههنا أربعة أمور: أمران حسيان , وأمران معنويان: فالنجاسةُ التي تزولُ بالماء هي ومزيلها حسيان , وأثر الخطايا التي تزول بالتوبة والاستغفار هي ومزيلها معنويان , وصلاح القلب وحياته ونعيمه لا يتم إلا بهذا وهذا. قذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كل شطرٍ قسماً نبه به على القسم الآخر. فتضمن كلامه الأقسام الأربعة في غاية الاختصار , وحسن البيان. كما في حديث الدعاء بعد الوضوء (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين)
فإنه يتضمن ذكر الأقسام الأربعة: ومن كمال بيانه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم , وتحقيقه لما يخبر به , ويأمر به: تمثيله الأمر المطلوب المعنوي بالأمر المحسوس. وهذا كثير في كلامه كقوله في حديث علي بن أبي طالب (سل الله الهدى والسداد. واذكر بالهدى هدايتك الطريق , وبالسداد سداد السهم)
هذا من أبلغ التعليم والنصح , حيث أمره أن يذكر إذا سأل الله الهدى إلأى الطريق رضاه وجنته: كونه مسافراً , وقد ضل الطريق وفلا يدري أين يتوجه , فطلع له رجل خبير بالطريق عالم بها , فسأله أن يدله على الطريق , فهكذا شأن الطريق الآخرة تمثيلاً لها بالطريق المحسوس للمسافر , وحاجة المسافر إلى الله سبحانه وتعالى: إلى أن يهديه تلك الطريق , أعظم من حاجة المسافر إلأى بلد من يدله على الطريق الموصل إليها. وكذلك السداد , وهو إصابة القصد قولاً وعملاً , فمثله مثل رامي السهم , إذا وقع سهمه في نفسالشيء الذي رماه , فقد سدد سهمه وأصاب ولم يقع باطلاً فهكذا المصيب للحق في قوله وعمله بمنزلة المصيب في رميه , وكثيراً ما يقرن في القرآن هذا وهذا , فمنه قوله تتعالى ( … وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى … ) البقرة197
أمر الحاج بأن يتزودوا لسفرهم , ولا يسافروا بغير زاد , ثم نبههم على زاد سفر الآخرة , وهو التقوى. فكما أنه لايصل المسافر إلى مقصده إلا بزاد يبلغه إياه , فكذلك المسافر إلى الله تعالى والدار الآخرة لا يصل إلا بزادٍ من التقوى , فجمع بين الزادين ومنه قوله تعالى (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى … ) الأعراف26.
فجمع بين الزينتين ” زينة البدن باللباس , زينة القلب بالتقوى , زينة الظاهر والباطن , وكمال الظاهر والباطن. ومنه قوله تعالى ( … فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) طه123.
فنفى عنه الضلال , الذي هو عذاب القلب والروح , والشقاء الذي هو عذاب البدن والروح أيضاً , فهو منعم القلب والبدن بالهدى والفلاح , ومنه قوله امرأة العزيزِ عن يوسف عليه السلام لما أرته النسوة اللائمات لها في حبه ( … فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ … يوسف32 , فأرتهن جماله الظاهر. ثم قالت ( … وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَِ … يوسف32
فأخبرت عن جماله الباطن بعفته , فأخبرتهن بجمال باطنه , وأرتهن جمال ظاهره فنبه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بقوله (اللهم طهرني من خطاياي بالماء والثلج والبرد).
على شدة حاجة البدن والقلب إلى ما يطهرهما وببردهما ويقويهما , وضتمن دعاؤه شؤال هذا وهذا. والله تعالى أعلم
وقريب من هذا: أنه صلى الله تعالى وآله وسلم (كان إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك).
وفي هذا من السر والله أعلم. أن النجو يُثقل البدن ويؤذيه باحتباسه , والذنوب تثقل القلب وتؤذيه باحتباسهما فيه , فهما مؤذيان مضران للبدن والقلب , فحمد الله عند خروجه على خلاصه من هذا المؤذي لبدنه , وخفة البدن وراحته , وسأل أن يخصله من المؤذي الآخر ويريح قلبه ويخففه.
وأسرار كلماته وأدعيته صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فوق ما يخطر بالبال
من كتاب إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان ج1 ص52 – 54.