56 جامع الأجوبة الفقهية ص106، 107
بإشراف سعيد الجابري وناصر الكعبي وسيف بن دورة الكعبي
ومشاركة مجموعة ناصر الكعبي وناصر الريسي
————-
مسألة : اختلاف العلماء في نجاسة الحمار الأهلي والبغل.
—-“—-“—-“—-“—-
♢-والكلام على هذه المسألة في ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف الحمار الأهلي والبغل.
المطلب الثاني: حكم الحمار الأهلي والبغل؟
المطلب الثالث: نصوص بعض أهل العلم في المسألة.
♢-المطلب الأول: تعريف الحمار الأهلي والبغل.
♢-الحمار الأهلي: هو المعروف الذي يأنس به الناس ويستخدمونه في مركبهم ويألفهم؛ بخلاف الحمار الوحشي الذي لا يألف الناس. وجمعه؛ حمير وحمر وأحمرة. وربما قالوا للأتان: حمارة. وتصغيره حمير، وكنية الحمار أبو صابر وأبو زياد.
♢-قال بعض أهل العلم :
الحمار مثل في الذم الشنيع والشتيمة، ومن استحياشهم لذكر اسمه أنهم يكنون عنه، ويرغبون عن التصريح به، فيقولون: الطويل الأذنين، كما يكنون عن الشيء المستقذر. وقد عد من مساوي الآداب، أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم ذوي مروأة، ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافا، وإن بلغت به الرحلة الجهد. انتهى. [ينظر: حياة الحيوان الكبرى للدميري (1/338-339)].
♢-قلت : (سعيد الجابري ) وأما ما نقلت عن قول بعض أهل العلم: الحمار مثل في الذم الشنيع والشتيمة….)
أن مثل هذا اللقب كان مألوفا عند العرب، بل كانوا يجعلونه من الأسماء التي يسمي أحدهم بها بنيه! وليس فقط لقبا، ومنه اسم الصحابي عياض بن حمار، و عبد الله بن جحش ، وغيرهما، وإنما كان ينظر في ذلك لمعان غير التي يتوهمها أهل زماننا،
ومن ذلك ما لقب به الخليفة الأموي مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، فقد لقب مروان الحمار ! لصبره، وجلده.
قال الحافظ بدر الدين العيني رحمه الله :
قوله وكان يلقب حمارا : لعله كان لا يكره ذلك اللقب وكان قد اشتهر به.
(عمدة القاري)(٢٣ / ٢٧٠) وقد كان صحابي يلقب حمارا : فقد ثبت هذا في البخاري وغيره.
عن عمر بن الخطاب أن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارا وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب فأتي به يوما فأمر به فجلد فقال رجل من القوم اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله.
(رواه البخاري)(٦٣٩٨)
♢-أما البغل: فهو ابن الفرس من الحمار ، وجمعه أبغال، وبغال. والواحدة بغلة، وجمعها بغال أيضا.
[المعجم الوسيط ص64].
♢-وكنيته: أبو الأشحج، وأبو الحرون، وأبو الصفر، وأبو قضاعة، وأبو قموص، وأبو كعب، وأبو مختار، وأبو ملعون.
ويقال له: ابن ناهق. وفي الأمثال: قيل للبغل: من أبوك؟ قال: الفرس خالي. يضرب للمخلط فى أمره.
وقالوا: أعقر من بغل» و «أعقم من بغلة».
وهو مركب من الفرس والحمار، ولذلك صار له صلابة الحمار، وعظم آلات الخيل. وشحيجه -أي: صوته- مولّد من صهيل الفرس، ونهيق الحمار. وهو عقيم لا يولد له. وشر الطباع ما تجاذبته الأعراق المتضادة، فإذا كان الذكر حمارا كان شديد الشبه بالفرس، وإذا كان الذكر حصانا كان شديد الشبه بالحمار. ومن العجب أن كل عضو منه يكون بين الفرس والحمار، وكذلك أخلاقه: ليس له ذكاء الفرس، ولا بلادة الحمار، وله صبر الحمار، وقوة الفرس، ويوصف برداءة الأخلاق والتلون لأجل التركيب؛ وينشد في ذلك قوله :
خلق جديد كل يو … م مثل أخلاق البغال
لكنه مع ذلك يوصف بالهداية فى كل طريق يسلكه مرة واحدة.
ومن حُكْمه؛ أنه حيوان عقيم ليس له نسل ولا نماء، ولا يذكّى، ولا يزكّى. ويحرم أكل المتولد منها بين الحمار الأهلي والفرس.
♢-[ينظر: حياة الحيوان الكبرى للدميري (1/200-209)].
♢-المطلب الثاني: حكم الحمار الأهلي والبغل ؟
تحرير محل النزاع:
أجمع أهل العلم على أنَّ روث الحمار الأهلي والبغل، وبوله ودمه ولحمه: نجسة؛ لقوله ﷺ في الحمار: إنَّه رجس” وقال عن روثه: إنَّه رجس.
[توضيح الأحكام من بلوغ المرام للبسام(1/175)].
♢- واختلفوا في بدنه وما يفرزه من عرق، وفي فمه وما يخرج منه من ريقٍ وسؤره، وأنفه وما يخرج منه من مخاط، هل هي نجسة أم طاهرة؟
وذلك على قولين:
♢-القول الأول : أنهما طاهران (بدنهما وريقهما ومخاطهما وعرقهما وسؤرهما وشعورهما).
وهذا مذهب جمهور أهل العلم كأبي حنيفة ومالك والشافعي، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها بعض أصحابه؛ قال في المغني: والصحيح طهارة البغل والحمار، قال في الإنصاف: وهو الصحيح والأقوى دليلاً .
وهو اختيار الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله-، ورجحه الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وابن سعدي وابن عثيمين -رحمهم الله جميعاً-.
♢- واستدلوا على ذلك بما يلي:
1- قوله تعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة}.
♢- وجه الدلالة: أن الله عز وجل ذكر هذه الحيوانات في مقام الامتنان على عباده، في حل ركوبها واتخاذها زينة، ولو كانت نجسة لما أباحها لهم.
2- أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- هو وأصحابه كانوا يركبونهما، ومع هذا لم يأمر بالتوقِّي من هذه الفضلات منهما، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
3- أنَّه ﷺ قال عن الهرَّة : إنَّها ليست بنجس؛ إنَّها من الطوافين عليكم، وهذه العلَّة موجودة في الحمار والبغل وأكثر؛ فإنَّ ركوبهما واستعمالهما أكثر لصوقًا وأمس حاجةً من الهِرَّة، فإذا عفي عن الهرَّة لتطوفها، فهو في الحمار والبغل أولى.
4- القاعدة الشرعية الكليَّة الكبرى: وهي المشقَّة تجلب التيسير؛ فمشقَّة ركوب الحمار والبغل والحمل عليهما تندرج تحت هذه القاعدة.
5- الأصل في الأعيان الطهارة، ولا يحكم بنجاسة شيء إلا بدليل صحيح صريح، ولا دليل هنا.
♢-القول الثاني : نجاستها.
وهذا مذهب الإمام أحمد في المشهور عنه، وتبعه على ذلك أصحابه؛ قال المرداوي -رحمه الله-: (والبغل والحمار الأهلي نجسة)، هذا المذهب في الجميع، وعليه جماهير الأصحاب.
[الإنصاف (1/245)].
♢- واستدلوا على ذلك بما يلي:
1- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: صبحنا خيبر بكرة،… وفيه: فأصبنا من لحوم الحمر فنادى منادي النبي ﷺ إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس. (متفق عليه).
♢- وجه الدلالة: قالوا: إن الرجس هو النجس؛ فعموم الحديث يقتضي نجاسة كل شيءٍ منه.
♢- ونوقش: بأن الخلاف ليس في لحوم الحمر الأهلية وإنما في أبدانها حال الحياة، والضمير في قوله: فإنها رجس عائد إلى اللحوم، وليس إلى الحمر، ونجاسة اللحوم لا يستلزم نجاسة الحيوان حال الحياة، لأن الحمار لا تحله التذكية، فإذا ذبح كان ميتة، ونجاسة الميتة معلوم من الشرع بالضرروة. ولذلك قال الرسول ﷺ ما قال لما قيل له: يا رسول الله أكلت الحمر، ولذلك أكفئت القدور بعد أن طبخت.
ويحتمل أن قوله: إنها رجس: أي حرام، فلم يتعرض الحديث للنجاسة، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة:90]
أي حرام، وإلا فالميسر لا يقال: إنه نجس، وكذلك الأنصاب والأزلام،
والجواب الأول أقوى؛ لأن الغالب في إطلاق لفظة رجس على الحيوان إنما يراد بها أنه نجس، وإن كانت تطلق على غير المأكول والمشروب ويراد بها الحرام أحياناً، والله أعلم. [موسوعة أحكام الطهارة للدبيان (13/96)].
2- قالوا: إنه حيوان حرم أكله لا لحرمته، مع إمكان التحرز منه غالباً أشبه الكلب في النجاسة.
♢-ونوقش: بأن الكلب ورد فيه نص على نجاسة سؤره، ووجوب غسل الإناء من ولوغه سبعاً، وحرم اقتناؤه إلا لحاجة، بخلاف الحمار فإنه يجوز اقتناؤه للزينة، ولم يرد نص في غسل الإناء من ولوغه، ولم نؤمر بغسل ما أصاب ثيابنا من عرقه ولعابه، فأين وجه الشبه بين المقيس والمقيس عليه.
♢- وأما القول بأنه يمكن التحرز منه في الغالب ففيه نظر، إذ لا يمكن لراكبه التحرز من عرقه فبدنه يلامس بدن الراكب، فيعرق بدن الحمار خاصة في البلاد الحارة، فيصيب ثياب الراكب وبدنه ولا بد. [موسوعة أحكام الطهارة للدبيان (13/97-98)].
3- قالوا: الأصل أنَّ كلَّ حيوان محرَّم فهو نجس خبيث، هو وجميع أجزائه.
♢-ويناقش: بأن هذا الأصل لا يسلم به، فكم من حيوان محرم الأكل وهو طاهر في الحياة. ولو سلم لهذا الأصل؛ فيقال: إن الأدلة الصحيحة الصريحة دلت على طهارتهما.
♢-قلت (ناصر الريسي): والراجح -والله أعلم- هو القول الأول -طهارة بدنهما وريقهما ومخاطهما وعرقهما وشعورهما-؛ وذلك للأدلة المتقدمة السالمة من المناقشة، وكذلك مشقة التحرز منها؛ ولا سيما أن الحمر الأهلية والبغال كانت في عهد النبوة من أهم وسائل التنقل للناس لفقرهم وضيق عيشهم، ومعلوم أنها تعرق – خاصة في المناطق الحارة كنجد والحجاز- ويبتلى الإنسان بريقها ومخاطها…، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بغسلها أو اجتناب ملامستها.
♢-المطلب الثالث: نصوص بعض أهل العلم في المسألة.
♢-قال ابن قدامة رحمه الله : والصحيح عندي طهارة البغل والحمار؛ لأن النبي صل الله عليه وسلم كان يركبهما، ويُركبان في زمنه، وفي عصر الصحابة، فلو كان نجساً لبين لهم النبيﷺ ذلك، وأما الحمار الوحشي والبغل منه فطاهر مأكول”. [المغني (1/70)].
♢-قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله-: إِنها طاهرة في الحياة ولا ينجس منها إِلا البول والروث والدم، وهذا القول هو الأَليق بالشريعة المحمدية شريعة اليسر والبعد عن الحرج والمشقة. والجواب عن قوله في لحوم الحمر (إِنَّهَا رجْسٌ ) أَن الضمير عائد على اللحوم ولا يلزم من تنجيس اللحوم تنجيس الحمر”. [فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ (2/96)].
♢-وقال العلامة ابن سعدي رحمه الله-: الصحيح الذي لا ريب فيه أنَّ البغل والحمار طاهران في الحياة كالهِرِّ، فيكون ريقهما وعرقهما وشعرهما طاهرًا.
[توضيح الأحكام من بلوغ المرام للبسام(1/176)]
♢-وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في الشرح الممتع بعد أن ذكر كلام ابن قدامة المتقدم: وعلى هذا :فسؤرهما أي الحمار الأهلي والبغل -وعرقهما وريقهما وما يخرج من أنفهما طاهر، وهذا يؤيد ما سبق أن ذكرناه في حديث أبي قتادة في الهرة، فإن الحمار بلا شك من الطوافين علينا، ولا سيما أهل الحمر الذين اعتادوا ركوبها، فالتحرز شاق منها.[الشرح الممتع (1/463)]
♢- وقال رحمه الله: والبغل: دابَّة تتولَّد من الحمار إِذا نَزَا على الفرس. وتعليل ذلك: تغليب جانب الحظر؛ لأن هذا البغل خُلِقَ من الفرس والحمار الأهليِّ، على وجه لا يتميَّز به أحدهما عن الآخر؛ فلا يمكن اجتناب الحرام إِلا باجتناب الحلال. فإِن كان من حمار وحشيٍّ، كما لو نزا حمارٌ وحشيٌّ على فرس، فإِن هذا البغل طاهرٌ، لأن الوحشيَّ طاهرٌ، والفرسَ طاهرٌ، وما يتولَّدُ من الطاهر فهو طاهر”. [الشرح الممتع (1/461)].
♢-وقال الشيخ عطية سالم رحمه الله في تعليل طهارة الحمار الأهلي: … لأنه مستأهل، وطواف علينا ومخالط لنا، ونستعمله، وأقوى ما استدل به من قال بطهارته في الحياة أنه قال: نحن نركب الحمير، وكان للرسول صلى الله عليه وسلم حمار يسمى عفيراً، وكان يرسله إذا أراد بعض الأشخاص، فيذهب ويطرق الباب برأسه ثم يعود، أو يقول للرجل: اركبه وتوجه يدلك على الطريق. وأرشد الحيوانات كلها بالطريق الحمار؛ فإنه يعرف الطريق أكثر من الإنسان، فلو مشيت به في طريق ثم أردت أن تعود فإنك لو رجعت وحدك يمكن أن تنسى الطريق، لكن لو ركبته يدلك، فلذا يقولون: أذكى الحيوانات في معرفة الطرق الحمر. والناس يركبون الحمر، ومعروف أن الحمار يعرق، والعرق ينضح من داخل جسمه، خاصة في المناطق الحارة مثل الحجاز والمدينة، ولما كان أهلياً ويستعمل ويركبونه، ولم ينههم عنه صلى الله عليه وسلم عرفنا أنه طاهر، وعرقه إذا خالط الثياب لا ينجسها، بل إذا ركبه الإنسان وخالط جسمه وهو رطب أو مبلل فإنه لا يتنجس. فعرق الحمار ولعابه طاهران، وهذا بإجماع المسلمين، ولكن الذي حرم لحمه. وإذا مات الحمار فإنه إذا دبغ جلده طَهُرَ”. [شرح بلوغ المرام /الشاملة].
انتهى …
[ينظر: توضيح الأحكام من بلوغ المرام للبسام، وتيسير العلام شرح عمدة الأحكام، وبدائع الصنائع للكاساني، وحاشية ابن عابدين، والتاج والإكليل، حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير، والمجموع شرح المهذب للنووي، والمغني لابن قدامة، والإنصاف للمرداوي، وحاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع (1/367)، والموسوعة الفقهية الكويتية (24/103)، وموسوعة أحكام الطهارة للدبيان (13/95-98)، وفتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ (2/96)].
—“—-“—-“—-“—-“—
♢-جواب سعيد الجابري :
♢-وأما سؤر الحمر الاهلية فذهب الحنفية: طهارة لعاب البغل والحمار قطعا، والشك في الطهورية.
(الفقه الإسلامي وأدلته )
♢- وجاء عن أحمد أن سؤرها نجس.
كما نقله صاحب الجامع الصحيح للسنن والمسانيد
♢-وقال الشيخ عبدالمحسن العباد في شرح سنن أبي داود: لأن الحمر الأهلية تركب وهي مع ذلك لا تؤكل.
—“—-“—-“—-“—-“—
♢- جواب سيف بن دورة الكعبي :
♢-قال الصنعاني في سبل السلام : فتحريم الحمر والخمر الذي دلت عليه النصوص لا يلزم منه نجاستهما، بل لا بد من دليل آخر عليه، وإلا بقيتا على الأصل المتفق عليه من الطهارة، فمن ادعى خلافه؛ فالدليل عليه. انتهى وهو ترجيح بعض مشايخنا كذلك.
وقد سبق نقاش مسألة سؤر الحمار والبغل في جامع الأجوبة الفقهية رقم 35 في حكم سؤر الهرة والسباع والحمار والبغل، وسؤر ما يؤكل لحمه، وسؤر الخيل.