51. لطائف التفسير:
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان رحمه الله ووالديهم ووالدينا)
———‘——-‘——–
51: لطيفة:
قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا)
[سورة النساء 66]
حب الوطن طبيعة وغريزة:
حتى أن الله عزوجل عطفه على القتل؛ فمفارقة الوطن قريب في الشدة من القتل.
قال ابن الجوزي في مثير العزم الساكن إلى أشرف ا?ماكن
“ومما يؤكد دليل حب الوطن قوله تعالى: {ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم} فسوى بين القتل والخروج من ا?وطان .. انتهى
والإسلام دين الفطرة السليمة والله سبحانه وتعالى يقول ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ))
ومحبة الوطن طبيعة طبع الله النفوس عليها ولا يخرج الإنسان من وطنه إلا إذا اضطرته أمور للخروج منه
1 – مثل خروج إبراهيم ولوط عليها السلام قال سبحانه وتعالى ((قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ))
2 – أو مثل خروج موسى عليه السلام قال تعالى: (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين)
3 – أو مثل خروج يعقوب عليه السلام وأولاده من فلسطين إلى مصر للانضمام إلى يوسف عليه السلام قال تعالى ((فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين))
ولما كان الخروج من الوطن قاسيا على النفس صعبا عليها فقد كان فضائل المهاجرين من الصحابة إنهم ضحوا بأوطانهم قي سبيل الله فللمهاجرين على الأنصار أفضلية ترك الوطن مما يدل على إن ترك الوطن ليس بالأمر السهل على النفس وقد مدحهم الله سبحانه على ذلك فقال تعالى: ((لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ))
وعليه فإن الأصل في الإنسان أن يحب وطنه وتشبث بالعيش فيه ولا يفارقه رغبه عنه ومع ذلك فإن خرج هذا انقطاع الحنين والحب للوطن والتعلق بالعودة إليه , كما كان (بلال رضي الله عنه يتمنى الرجوع إلى وطنه مكة)
يقول الأصمعي: قالت الهند: ثلاث خصال في ثلاثة أصناف من الحيوانات الإبل تحن إلى أوطانها وإن كان عهدها بها بعيدا والطير إلى وكره وأن كان موضعه مجدبا والإنسان إلى وطنه وإن كان غيره أكثر نفعا)
ومن العقوبات الشرعية “التغريب”.
———‘——-
الوطن في القرآن:
الوطن في اللغة
إن كلمة (وطن) عربية خالصة … يقول ابن فارس -في المقاييس- “الواو والطاء والنون: كلمة صحيحة، فالوطن محل الإنسان، وأوطنت الأرض: اتخذتها وطناً … ، ويزيد الرازي -في المختار- فيقول: “وأوطن الأرض ووطنها، واستوطنها، واتَّطنها أي اتخذها وطنا”.
مفهوم الوطن في القرآن
وكلمة “وطن” وإن لم ترد في القرآن -بصيغتها الثلاثية هذه- فإن مدلولها أو مفهومها الأساسي أو الجوهري ورد بيقين مع تنوع في الصيغ التعبيرية أو اللفظية:
1 – ورد مفهوم (الوطن) -في القرآن- في صيغة (الديار) و (الدار):
(أ) “و الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم”.
(ب) “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم”.
(ج) “قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا” …
فالديار المنوه عنها، والمطلوب الدفاع عنها -هاهنا- هي (الأوطان) بلا ريب، وإلا فماذا تكون؟!.
2 – ورد مفهوم الوطن في القرآن، في (صيغة الأرض المخصوصة) ومن ذلك قول الله جل ثناؤه:
(أ) “وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها” … والأرض المخصوصة المقصودة -هنا- هي مكة-: وطن النبي الأول: ميلاداً ونشأة وشبابا وزواجاً وبعثة وبلاغا.
(ب) “الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر”.
والأرض المخصوصة المقصودة في هذا النص هي: (الوطن) الذي مكن الله فيه لقوم آمنوا به، وتعاونوا على تطبيق منهجه شعائر وشرائع.
ومعنى (التمكين في الأرض) -أي الوطن- في هذه الآية المكية، مبسوط ومشروح في الآية المدنية: “وعد الله آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا”.
هنا مفهومان متعاضدان: مفهوم: (الاستخلاف في الأرض) … ومفهوم (التمكين للدين) وهما مفهومان لا يتصوران -لا عقلا ولا واقعا- إلا في أرض مخصوصة وهي التراب أو المكان، أو (الوطن) الذي يتحقق فيه الاستخلاف والتمكين.
وقد اقترن حب الأرض في القرآن الكريم بحب النفس في الآية التي أخذنا منها اللطيفة تعالى: ((وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ))
واقترن حب الوطن في القرآن بالدين: ((لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ))
هذا يدل على تأثير الأرض , وعلى أن طبيعة الإنسان التي طبعه الله
عليها حب الوطن , والديار ولكن لهذا الحب حدودا يجب ألا يتجاوزها لأن فوق هذا الحب حب آخر أولى منه وأهم وهو حب العقيدة والدين فإذا ما تعارض حب الوطن مع الدين وجب حينئذ تقديم الأعلى وهو الدين وقد يهاجر المسلم من أرضه فرارا بدينه حين لا يستطيع إظهاره , والمحافظة عليه.
قال صاحب كتاب حب الوطن معنى ومبنى:
وحب الوطن يعني: الحفاظ على الحق العام، وقد بيَّن النبي – صلى الله عليه وسلم – أن الناس شركاءُ في أمورٍ، لا يجوز لأحد الاستئثارُ بها، أو الاعتداء عليها.
قال – صلى الله عليه وسلم -: ((الناس شركاء في ثلاثة: في الكلأ، والماء، والنار))؛ رواه أحمد وأبو داود، ورجاله ثقات.
وقال: ((وإماطة الأذى عن الطرق صدقة)).
وقال: ((أعطوا الطريق حقه)).
وقال: ((اتَّقوا اللاعِنَينِ؛ الذي يتخلَّى في طريق الناس أو ظلِّهم)).
حب الوطن في الإسلام: هو محبة الفرد لوطنه وبلده، وتقوية الرابطة بين أبناء الوطن الواحد، وقيامه بحقوق وطنه المشروعة في الإسلام، ووفاؤه بها.
وحب الوطن في الإسلام: لا يعني: العصبيةَ، التي يُراد بها تقسيمُ الأمة إلى طوائفَ متناحرةٍ، متباغضة، متنافرة، يَكِيد بعضها لبعض، وفي الحديث: ((مَن قُتل تحت راية عُمِّيَّة، ينصر العصبية، ويغضب للعصبية، فقتلتُه جاهليةٌ)).
حب الوطن في الإسلام: لا يعني: اتِّباعَ القومِ أنَّى ساروا، ونصرَهم على كل حال؛ بل يعني: العدلَ والإنصاف.
وعن عبَّاد بن كثير الشامي، عن امرأةٍ منهم يقال لها: فسيلة، قالت سمعت أبي يقول: سألت النبي – صلى الله عليه وسلم – فقلت: يا رسول الله، أمِنَ العصبيةِ أن يحب الرجلُ قومَه؟ قال: ((لا، ولكن من العصبية أن يُعِينَ الرجلُ قومَه على الظلم))؛ رواه أحمد وابن ماجه.
وحب الوطن في الإسلام: لا يعني: الانفصال عن جسد الأمة الإسلامية، أو نسيان مبدأ الإنسانية، فلا ننصر مظلومًا، ولا نغيث ملهوفًا، ولا نعين مكروبًا، ما دام أنه ليس في حدود الوطن، والنبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((مَثَلُ المؤمنين في تراحمهم وتوادِّهم وتعاطفهم مثلُ الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ تَداعَى له سائر الجسد بالسهر والحمى))؛ متفق عليه.
إن حدود الوطن التي تلزم التضحية في سبيل حريته وخيره، لا تقتصر على حدود قطعة الأرض التي يولد عليها المرء؛ بل إن الوطن يشمل القطر الخاص أولاً، ثم يمتد إلى الأقطار الإسلامية الأخرى.
فَأَيْنَمَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فِي … بَلَدٍ … عَدَدْتُ ذَاكَ الحِمَى مِنْ صُلْبِ أَوْطَانِي
إن المسلم يحب وطنه، ويعمل كل خير لبلده، ويتفانى في خدمته، ويضحي للدفاع عنه.
وإن المسلم يعمل للأمة، ويحزن لحزنها، ويفرح لفرحها، ويدافع عنها، ويسعى لوحدتها.
وإن المسلم يقدِّم الأقرب فالأقرب، ولا ينسى من هو بعيد.
وكل مسلم على ثغر، فلْيحذر أن يُؤتى وطنُه، أو تؤتى أُمتُه مِن قِبَله.
بِلاَدِي هَوَاهَا فِي لِسَانِي وَفِي دَمِي … يُمَجِّدُهَا قَلْبِي وَيَدْعُو لَهَا فَمِي
————
الوطن وحبه في السنة
عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقدم من سفر فأبصر درجات المدينة أوضع ناقته أي اسر عبها واذا كانت دابه حركها من حبها)) أخرجه البخاري
قال ابن حجر في الفتح: ((فيه دلاله على فضل المدينة وعلى مشروعية حب الوطن والحنين إليه)).
وفي الحديث الآخر: “والله إني لأخرج منك، وإني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله، وأكرمها على الله، وإنك لأحب أرض الله إليّ، ولولا أنّ أهلك أخرجوني منك قهراً ما خرجت من بلادي”.
بلادي وإن جارت علي عزيزة
وأهلي وإن ضنوا علي كرام
وفي المدينة المنورة يعاود الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحبه الكرام الحنين حيناً بعد حين، والشوق مرة بعد مرة، حتى يفزع إلى ربه بالدعاء قائلا: “اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة”.
يقول بلال الذي كان يهتف في دار الهجرة بالحنين إلى مكة في أبيات تسيل رقة وتقطر حلاوة:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة
وهل يبدون لي شامة وطفيل
تنبيه: قول النبي صلى الله عليه وسلم (لولا أن قومك أخرجوني ما خرجت) ورد من حديث ابن عباس وفيه عبدالله بن خثيم، وورد من حديث الزهري عن أبي سلمة عن عبدالله بن عدي بن الحمراء. وورد عن أبي هريرة لكن رجح الأئمة أن الصواب أنه حديث عبدالله بن عدي بن الحمراء. وراجع علل ابن أبي حاتم والدارقطني، وتحقيق الكشف لصاحبنا اليماني. ومن صحح حديث عبدالله بن عدي بن الحمراء ابن عبدالبر نقله عنه ابن حجر في الفتح. وألزم الدارقطني به الشيخين كما في تخريج الكشاف.
—–
من لا خير فيه لأهله فلا خير فيه لوطنه:
أن إحسان الانتماء للوطن يتوقف قدر كبير منه على تلقين الأبناء ألألفه والولاء في ضل الخلية الأولى للمجتمع وهي الأسرة وهذا يعكس اهتمام الإسلام بها مقدرا من خلال ذلك الاهتمام أن من لا خير فيه لأهله فلا خير فيه لوطنه ومن لم يتعود القيام بواجب الانتماء بعد الإسلام لأبيه وأمه فلن يرجى منه القيام به تجاه وطنه.
حقوق الوطن
أن ما نقدمه اليوم للوطن لا يعدو في الواقع إن يكون قضاء لدين ووفاء لسابق فضل مع ما يحمله هذا القضاء وذاك الوفاء من عود بالخير على كل فرد في المجتمع.
من حقوق الوطن علينا:
أولا: حق الانتماء للوطن والفخر به
ثانيا: التكاتف بين افراد المجتمع
وهذه صفات المجتمع المسلم التازر والتعاون فيما بينهم ولن يجد العدو بإذن الله حينئذ ثغره.
ثالثا: العمل: كل مواطن في البلد هو في الحقيقه جندي من جنوده ومنهم رجال الأمن وحراس الحدود والثغور ومكافحة المخدرات وحراس الأمن الفكري (مراقبي المطبوعات) كل هؤلاء جنود الوطن وهم على ثغور مهمة فيه يرعونه ويحتسبون الأجر وثواب في المحافظة على هذا الواجب العظيم
رابعا: الدفاع عن الوطن:
والدفاع عن هذا الوطن لا يعني حمل السلاح والمواجهة العسكرية فقط , بل يتجاوز ذلك ليشمل معه كل إسهام يخدم الوطن ويترتب عليه إصلاح في الدين والدنيا فتقويه أواصر المجتمع وتفنيد الشبه والتصدي للشائعات ومواجهتها بإبطالها وبمزيد من التلاحم والدفع عن أعراض الولاة والعلماء والبلد عموما والتعاون مع أبناء الوطن فيما يخدم رفعة البلد ويرقى به ويصلح أحواله وينأى به عن كل ما يضر به هو لا شك أداء لصورة من صور الدفاع عن الوطن.
وقد قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قتل دون ماله فهو شهيد)) ومن أغلى الأموال الأرض التي نسكنها ونحيا عليها
وراجع (التحفة المختصرة المرضيّة في مكانة الحاكم وواجب الرعية).