50.لطائف التفسير:
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم. ونوح وعبدالخالق وموسى الصوماليين.
مجموعة ابراهيم البلوشي وأبي عيسى البلوشي وفيصل الشامسي وفيصل البلوشي
وهشام السوري وعبدالله المشجري
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان رحمه الله ووالديهم ووالدينا)
———–‘———–‘
هل لتكرار التوبة لطيفة؟
كررت ثلاث مرات وفي الثالثة عقبها رب العزة بقوله (ليتوبوا)
قال تعالى:
(لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيم [117] (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [سورة التوبة 118]
——–‘——‘——-
بعد قراءة كلام السعدي -رحمه الله- في تفسيره:
*في الآية الأولى:*
– “لقد تاب”: أي مَنَّ الله بالتوبة على النبي -صلى الله عليه وسلم- والمهاجرين والأنصار الذين خرجوا معه لقتال الأعداء في وقعة “تبوك”.
– “ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ”: أي قبل توبتهم.
*في الآية الثانية:*
– “وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا”: أي {و} كذلك لقد تاب الله {عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} عن الخروج مع المسلمين، في تلك الغزوة.
– “ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ”: أي أذن في توبتهم ووفقهم لها.
-” لِيَتُوبُوا”: أي لتقع منهم، فيتوب الله عليهم.
———
وكذلك تاب الله على الثلاثة الذين خُلِّفوا من الأنصار -وهم كعب بن مالك وهلال بن أُميَّة ومُرَارة بن الربيع- تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحزنوا حزنًا شديدًا، حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بسَعَتها غمًّا وندمًا بسبب تخلفهم، وضاقت عليهم أنفسهم لِمَا أصابهم من الهم، وأيقنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، وفَّقهم الله سبحانه وتعالى إلى الطاعة والرجوع إلى ما يرضيه سبحانه. إن الله هو التواب على عباده، الرحيم بهم. انتهى من التفسير الميسر
—————–
سئل شيخ الإسلام عن معنى قوله تعالى: {لَقَد تَّابَ الله على النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} الآية [التوبة: 117]. والتوبة إنما تكون عن شيء يصدر من العبد، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الكبائر والصغائر.
فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية:
الحمد لله، الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصومون من الإقرار على الذنوب، كبارها وصغارها، وهم بما أخبر الله به عنهم من التوبة يرفع درجاتهم، ويعظم حسناتهم فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وليست التوبة نقصًا، بل هي من أفضل الكمالات، وهي واجبة على جميع الخلق، كما قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ على الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 72 – 73] فغاية كل مؤمن هي التوبة، ثم التوبة تتنوع كما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين.
والله تعالى قد أخبر عن عامة الأنبياء بالتوبة والاستغفار: عن آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى وغيرهم. فقال آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، وقال نوح: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47]، وقال الخليل: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41]، وقال هو وإسماعيل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ علانَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128]، وقال موسى: {أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إليكَ
[الأعراف: 155 – 156]، وقال تعالى: {َلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إليكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143].
وقد ذكر الله سبحانه توبة داود وسليمان، وغيرهما من الأنبياء والله تعالى: {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، وفي أواخر ما أنزل الله على نبيه: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [سورة النصر].
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في افتتاح الصلاة ” اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الخطايا كما ينقي الثوب الأبيض من الدَّنَس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والبَرَد والماء البارد”، وفي الصحيح أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح ” اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت “، وفي الصحيح أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول “اللهم اغفر لي ذنبي كله، دِقَّه وجِلَّه، علانيته وسره، أوله وآخره “، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول “اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هَزْلي وجِدِّي، وخطئي وعَمْدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت “.
ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة.
وقد قال الله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]، فتوبة المؤمنين واستغفارهم هو من أعظم حسناتهم، وأكبر طاعاتهم، وأجل عباداتهم التي ينالون بها أجل الثواب، ويندفع بها عنهم ما يدفعه من العقاب.
فإذا قال القائل: أي حاجة بالأنبياء إلى العبادات والطاعات؟ كان جاهلا؛ لأنهم إنما نالوا ما نالوه بعبادتهم وطاعتهم، فكيف يقال: إنهم لا يحتاجون إليها، فهي أفضل عبادتهم وطاعتهم.
وإذا قال القائل: فالتوبة لا تكون إلا عن ذنب، والاستغفار كذلك، قيل له: الذنب الذي يضر صاحبه هو ما لم يحصل منه توبة، فأما ما حصل منه توبة، فقد يكون صاحبه بعد التوبة أفضل منه قبل الخطيئة، كما قال بعض السلف: كان داود بعد التوبة أحسن منه حالاً قبل الخطيئة، ولو كانت التوبة من الكفر والكبائر، فإن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم خيار الخليقة بعد الأنبياء، وإنما صاروا كذلك بتوبتهم مما كانوا عليه من الكفر والذنوب، ولم يكن ما تقدم قبل التوبة نقصاً ولا عيباً، بل لما تابوا من ذلك وعملوا الصالحات كانوا أعظم إيمانا، وأقوي عبادة وطاعة ممن جاء بعدهم، فلم يعرف الجاهلية كما عرفوها.
ولهذا قال عمر بن الخطاب: إنما تُنْقَض عُرَي الإسلام عُرْوَة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية.
وقد قال اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان: 68 ـ 70].
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن اللّه يحاسب عبده يوم القيامة، فيعرض عليه صغار الذنوب ويخبئ عنه كبارها فيقول: فعلت يوم كذا كذا وكذا؟ فيقول: نعم يا رب، وهو مشفق من كبارها أن تظهر، فيقول: إني قد غفرتها لك، وأبدلتك مكان كل سيئة حسنة، فهنالك يقول: رب، إن لي سيئات ما أراها بَعْدُ.
فالعبد المؤمن إذا تاب وبدَّل اللّه سيئاته حسنات، انقلب ما كان يضره من السيئات بسبب توبته حسنات ينفعه اللّه بها، فلم تبق الذنوب بعد التوبة مضرة له، بل كانت توبته منها من أنفع الأمور له، والاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية، فمن نسي القرآن ثم حَفِظَه خير من حِفْظِه الأول لم يضره النسيان، ومن مرض ثم صح وقوي لم يضره المرض العارض.
واللّه تعالى يبتلي عبده المؤمن بما يتوب منه؛ ليحصل له بذلك من تكميل العبودية والتضرع، والخشوع للّه والإنابة إليه، وكمال الحذر في المستقبل والاجتهاد في العبادة ما لم يحصل بدون التوبة كمن ذاق الجوع والعطش، والمرض والفقر والخوف، ثم ذاق الشِّبَع والرِّي والعافية والغني والأمن، فإنه يحصل له من المحبة لذلك وحلاوته ولذته، والرغبة فيه وشكر نعمة اللّه عليه، والحذر أن يقع فيما حصل أولا ما لم يحصل بدون ذلك.
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
وينبغي أن يعرف أن التوبة لابد منها لكل مؤمن، ولا يكمل أحد ويحصل له كمال القرب من اللّه، ويزول عنه كل ما يكره إلا بها.
ومحمد صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق وأكرمهم على اللّه، وهو المقدم على جميع الخلق في أنواع الطاعات، فهو أفضل المحبين للّه، وأفضل المتوكلين على اللّه، وأفضل العابدين له، وأفضل العارفين به، وأفضل التائبين إليه، وتوبته أكمل من توبة غيره؛ ولهذا غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وبهذه المغفرة نال الشفاعة يوم القيامة، كما ثبت في الصحيح “أن الناس يوم القيامة يطلبون الشفاعة من آدم، فيقول: إني نهيت عن الأكل من الشجرة فأكلت منها، نفسي، نفسي، نفسي. ويطلبونها من نوح فيقول: إني دعوت على أهل الأرض دعوة لم أومر بها، نفسي، نفسي، نفسي. ويطلبونها من الخليل، ثم من موسى، ثم من المسيح فيقول: اذهبوا إلى محمد، عَبْد غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال: فيأتوني، فأنطلق، فإذا رأيت ربي خررت له ساجداً، فأحمد ربي بمحامد يفتحها على لا أحسنها الآن، فيقول: أي محمد، ارفع رأسك، وقل تُسْمَع، وسل تُعْطَ، واشفع تشفع، فأقول: أي رب، أمتي، فيحدّ لي حداً فأدخلهم الجنة “.
فالمسيح صلوات الله عليه وسلامه دلهم على محمد صلى الله عليه وسلم، وأخبر بكمال عبوديته للّه، وكمال مغفرة اللّه له؛ إذ ليس بين المخلوقين والخالق نسب إلا محض العبودية والافتقار من العبد، ومحض الجود والإحسان من الرب عز وجل.
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال “لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول اللّه؟ قال: ولا أنا، إلا أن يَتَغَمَّدَنِي اللّه برحمة منه وفضل”.
وثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول “يأيها الناس، توبوا إلى ربكم، فو الذي نفسي بيده، إني لأستغفر اللّه وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة”، وثبت عنه في الصحيح أنه قال “إنه لَيُغَانُ على قلبي، وإني لأستغفر اللّه في اليوم مائة مرة”، فهو صلى الله عليه وسلم لكمال عبوديته للّه، وكمال محبته له، وافتقاره إليه، وكمال توبته واستغفاره، صار أفضل الخلق عند اللهّ، فإن الخير كله من اللّه، وليس للمخلوق من نفسه شيء، بل هو فقير من كل وجه، واللّه غني عنه من كل وجه، محسن إليه من كل وجه، فكلما ازداد العبد تواضعاً وعبودية ازداد إلى اللّه قرباً ورفعة، ومن ذلك توبته واستغفاره.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال “كل بني آدم خَطَّاء، وخير الخطائين التوابون ” رواه ابن ماجه والترمذي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى – الجزء الخامس عشر.
——-‘——-‘—–
وهذا بحث عن معاني التوبة في القرآن لبعض الباحثين:
يدل لفظ (التوبة) لغة على الرجوع، يقال: تاب من ذنبه، أي: رجع عنه، ويتوب إلى الله توبة ومتاباً، فهو تائب. والتوب: التوبة. قال الله تعالى: {وقابل التوب} (غافر:3)، أي: التوبة. ويقال: (التائب) لباذل التوبة، ولقابل التوبة، فالعبد تائب إلى الله، والله تائب على عبده. و (التواب) العبد الكثير التوبة، وذلك بتركه كل وقت بعض الذنوب على الترتيب حتى يصير تاركاً لجميعه، وقد يقال ذلك لله تعالى لكثرة قبوله توبة العباد.
والتوبة في الشرع: ترك العبد الذنبَ لقبحه، والندمُ على ما فرط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالأعمال بالإعادة، فمتى اجتمعت هذه الأربع فقد كملت شرائط التوبة.
وقد ورد لفظ (التوبة) في القرآن الكريم في سبعة وثمانين موضعاً، جاء في ثلاثة وستين منها بصيغة الفعل، من ذلك قوله عز وجل: {وتوبوا إلى الله جميعا} (النور:31)، وجاء في أربعة وعشرين موضعاً بصيغة الاسم، من ذلك قوله سبحانه: {إنما التوبة على الله} (النساء:17).
و (التوبة) في القرآن الكريم جاءت على معان، نذكر منها:
الأول: بمعنى الرجوع، والإنابة. من ذلك قوله تعالى: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم} (التوبة:117)، أي: رزقهم جل ثناؤه الإنابة والرجوع إلى الثبات على دينه، وإبصار الحق الذي كاد يلتبس عليهم. ونحو هذا قوله عز وجل: {ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات} (الأحزاب:73)، أي: يرجع بهم إلى طاعته وأداء الأمانات التي ألزمهم إياها حتى يؤدوها. ونحوه أيضاً قوله عز وجل: {إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا} (البقرة:160)، أي: رجعوا عما كانوا فيه، وأصلحوا أعمالهم وأحوالهم، وبينوا للناس ما كانوا كتموه. وأكثر ما جاء لفظ (التوبة) في القرآن الكريم على هذا المعنى. والتوبة بحسب هذا المعنى غالباً ما تتعدى بحرف الجر (إلى)، قال تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعا} (النور:31)، وقال سبحانه: {إني تبت إليك} (الأحقاف:15).
الثاني: بمعنى التجاوز والعفو. من ذلك قوله عز وجل: {فتاب عليكم} (البقرة:187)، أي: عفا سبحانه عن ذنوبكم، وعظيم ما ارتكبتم، وصفح عن جُرْمكم. ومن هذا القبيل قول الباري سبحانه: {وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم} (المائدة:71)، أي: تجاوز عما كانوا فيه من المعاصي. وعلى هذا المعنى أيضاً قوله تعالى: {فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم} (المجادلة:13)، قال البغوي: تجاوز عنكم، ولم يعاقبكم بترك الصدقة. و (التوبة) بحسب هذا المعنى غالباً ما تتعدى بحرف الجر (على). وهي وفق هذا المعنى جاءت كثيرة في القرآن الكريم أيضاً.
الثالث: بمعنى الإيمان. من ذلك قوله سبحانه: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك} (هود:112)، قال البغوي: أي: استقم على دين ربك، والعمل به، والدعاء إليه كما أمرت، وأُمر من آمن معك بأن يستقيموا على الحق، الذي أُمرت به.
الرابع: بمعنى التخفيف والرخصة والإباحة. من ذلك قوله تبارك وتعالى: {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم} (البقرة:187)، قال القرطبي: يحتمل معنيين: أحدهما: قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم. والآخر: التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة. ومن هذا القبيل قوله عز وجل: {علم أن لن تحصوه فتاب عليكم} (المزمل:20)، قال البغوي: فعاد عليكم بالعفو والتخفيف. ويدخل في هذا المعنى قوله سبحانه: {أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم} (المجادلة:13)، قال ابن كثير: فوسع الله عليهم، ولم يضيق. ومنه أيضاً قوله سبحانه في كفارة القتل خطأً: {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله} (النساء:92)، قال الطبري: يعني: تجاوزاً من الله لكم إلى التيسير عليكم، بتخفيفه عنكم ما خفف عنكم من فرض تحرير الرقبة المؤمنة إذا أعسرتم بها، بإيجابه عليكم صوم شهرين متتابعين.
الخامس: بمعنى التوفيق للدخول في الإسلام، وعليه قوله تعالى: {ويتوب الله على من يشاء} (التوبة:15)، قال الطبري: أي: يوفق سبحانه من يشاء من المحاربين لدينه للدخول في الإسلام، ويزينه في قلوبهم ويكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، والآية جاءت في سياق قوله عز وجل: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين} (التوبة:14).
السادس: التوبة بمعنى الرحمة. جاء على هذا المعنى قوله عز وجل: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم} (آل عمران:128)، أي: ليس لك من الحكم شيء في عبادي، إلا ما أمرتك به فيهم، أو أتوب عليهم برحمتي، فإن شئت فعلت، أو أعذبهم بذنوبهم.
السابع: التوبة بمعنى قبول التوبة، جاء على هذا المعنى قوله سبحانه: {ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا} (الفرقان:71)، أي: فإن الله يقبل توبته. هذا ما ذكره ابن كثير في هذه الآية. وقال البغوي: المعنى: يعود إليَّ بعد الموت، فالتوبة الأولى، وهو قوله: {ومن تاب} رجوع عن الشرك، والثاني رجوع إلى الله للجزاء والمكافأة.
وحاصل القول: إن لفظ (التوبة) جاء في القرآن الكريم على عدة معان، وأكثر ما جاء بمعنى (الرجوع)، و (الإنابة)، وهو الأصل في معناه اللغوي، وجاء بدرجة أقل بمعنى (التجاوز)، و (العفو)، وجاء على قلة بمعنى (الرخصة)، و (التخفيف)، وورد أيضاً بمعان فرعية، سبق الإشارة إليها.