5) [الأحكام الفقهية الخاصة بزكاة الفطر] باختصار
المسألة الأولى:
تجب زكاة الفطر على المسلم الحيِّ، سواء كان ذكرًا أو أنثى، صغيرًا أو كبيرًا، حُرًّا أو عبدًا، لِما صحَّ عن ابن عمر ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: ((فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى العَبْدِ وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ))، وإلى وجوبها على هؤلاء ذهب عامة فقهاء الأمصار مِن السَّلف الصالح فمَن بعدهم.
المسألة الثانية:
الجَنين الذي لا زال في بطن أمِّه لا يجب إخراج زكاة الفطر عنه، وإنَّما يُستحب باتفاق المذاهب الأربعة، نقله عنهم العلامة ابنُ مفلحٍ ــ رحمه الله ــ وغيره، وقد كان السَّلف الصالح يخرجونها عنهم، فصحَّ عن التابعي الجليل أبي قِلابة ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: ((كَانَ يُعْجِبُهُمْ أَنْ يُعْطُوا زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، حَتَّى عَلَى الْحَبَلِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ)).
المسألة الثالثة:
المجنون يجب إخراج زكاة الفطر عنه، لدخوله في عموم قوله: ((فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حُرٍّ، أَوْ عَبْدٍ، أَوْ رَجُلٍ، أَوِ امْرَأَةٍ، صَغِيرٍ، أَوْ كَبِيرٍ))، وهو مذهب الأئمة الأربعة والظاهرية، وغيرهم.
المسألة الرابعة:
المسلم الفقير له حالان:
الحال الأوَّل: أنْ يكون مُعدمًا لا شيء عنده، وهذا لا تجب عليه زكاة الفطر باتفاق أهل العلم، نقله عنهم الحافظ ابن المنذر ــ رحمه الله ــ.
الحال الثاني: أنْ يملك طعامًا يزيد على ما يكفيه ويكفي مَن تلزمه نفقته مِن الأهل والعيال ليلة العيد ويومه أو ما يقوم مقامه مِن نقود، وهذا تجب عليه زكاة الفطر عند أكثر أهل العلم ــ رحمهم الله ــ.
المسألة الخامسة:
زكاة الفطر عند أكثر الفقهاء تُخرَج مِن غالب قُوت البلد الذي يُعمل فيه بالكيل بالصاع، سواء كان تمرًا، أو شعيرًا، أو زبيبًا، أو بُرًّا، أو ذُرة، أو دُخنًا، أو عدسًا، أو فولًا، أو لوزًا، أو حُمُّصًا، أو كُسكسًا، أو أُرْزًا، أو غير ذلك، ومِقدار ما يُخرَج في هذه الزكاة: صاعٌ، والصَّاع كَيل معروف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقبلَه وبعدَه، وهو بالوزن المعاصر ما بين الكيلوين وأربع مئة جرام إلى الثلاثة.
المسألة السادسة:
يجوز أنْ تُخرَج زكاة الفطر قبل العيد بيوم أو يومين، لِما صحَّ عن التابعي نافعٍ مولى ابنِ عمرَ ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: ((وَكَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ))، والأفضل باتفاق أهل العلم أنْ تُخرَج يوم الفطر بعد صلاة فجْره وقبل صلاة العيد، لِما صحَّ عن ابن عمر ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: ((فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الفِطْرِ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ))، وذَكر الإمام مالكُ بنُ أنسٍ ــ رحمه الله ــ في كتابه “الموطأ”: ((أَنَّهُ رَأَى أَهْلَ الْعِلْمِ يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يُخْرِجُوا زَكَاةَ الْفِطْرِ، إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ، قَبْلَ أَنْ يَغْدُوا إِلَى الْمُصَلَّى))، ولْيَحْذَرِ المسلم مِن تأخيرها حتى تنتهيَ صلاة العيد، فقد ثبت عن ابن عباس ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: ((فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ))، ومَن أخَّرَها عمدًا حتى انقضى يومُ العيد فقد أثِمَ، وكان مُرتكبًا لِمحرَّم باتفاق أهل العلم، نَسبه إليهم الفقيهان ابنُ رُشدٍ الحفيد المالكي، وابن رَسلانَ الشافعي ــ رحمهما الله ــ، ومَن أخَّرَها نسيانًا أو جهلًا أو بسبب عُذرٍ حتى انتهت صلاة العيد ويومه، كمَن يكون في سَفرٍ وليس عنده ما يُخرِجه أو لم يَجد مَن تُخرَج إليه، أو اعتمد على أهله أنْ يُخرِجوها واعتمدوا هُم عليه، فإنَّه يُخرِجها متى تيسَّر له ذلك واستطاع، ولا إثْمَ عليه.
المسألة السابعة:
لا يجوز أنْ تُخرَج زكاة الفطر مِن الُّنقود، بل يَجب أنْ تُخرَج مِن الطعام، لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم فرَضها طعامًا، فلا يجوز العُدول عمَّا فرض إلى غيره، والدراهم والدنانير قد كانت موجودة في عهده صلى الله عليه وسلم، وعهد أصحابه ــ رضي الله عنهم ــ مِن بعده، ومع ذلك لم يُخرجوها إلا مِن الطعام، وخيرُ الهَدي هَدي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد صحَّ عن ابن عمر ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: ((فَرَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ))، وصحَّ عن أبي سعيدٍ ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: ((كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ))، ومَن أخرجها نقودًا بدَل الطعام لم تُجزئه عند أكثر الفقهاء ــ رحمهم الله ــ، مِنهم: مالكٌ والشافعي وأحمد، ومَن أخرجها طعامًا أجزأته عند جميع العلماء، وبرِئت ذِمَّته، والحمد لله أوَّلَا وآخِرًا، وظاهرًا وباطنًا، وعلى كل حال.
المسألة الثامنة:
تُصرَف زكاة الفطر لفقراء المسلمين بالإجماع، نقله الفقيه ابن رشد المالكي ــ رحمه الله ــ، ولا يجوز أنْ تُعطى لغير المسلمين حتى ولو كانوا فقراء، وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء ــ رحمهم الله ــ، مِنهم: مالكٌ والليث والشافعي وأحمد وأبو ثور، ومِمَّا يدُل على أنَّ الفقراء والمساكين مَصرِف لزكاة الفطر ما ثبت عن ابن عباس ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: ((فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ)).
المسألة التاسعة:
يُخرِج الرَّجل زكاة الفطر عن نفسه وعمَّن يَمُون مِن أهله ويُنْفِق عليهم مِن زوجة وأبناء وبنات وغيرهم تبعًا للنفقة، وقد صحَّ عن أسماء بنت أبي بكر ــ رضي الله عنها ــ: ((أَنَّهَا كَانَتْ تُخْرِجُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ مَنْ تَمُونُ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ))، وصح عن ابن عمر ــ رضي الله عنه ــ: ((أَنَّهُ كَانَ يُعْطِي صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ جَمِيعِ أَهْلِهِ صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ، عَمَّنْ يَعُولُ))، وإذا كان الرَّجل يعيش في بلد ومَن يُنْفِق عليهم يعيشون في بلد آخَر، فالأفضل أنْ يُخرِج عن نفسه حيث يَسكن، ويُخرِجون هُم حيث يسكنون.
المسألة العاشرة:
قال العلامة الفقيه صالح الفوزان ــ سلَّمه الله ــ: فصدقة الفطر لها مكانٌ تُخرَج فيه، وهو البلد الذي يُوافي تمام الشهر والمسلم فيه، ولها أهلٌ تُصرَف فيهم، وهُم مساكين ذلك البلد، ولها نوعٌ تُخرَج منه، وهو الطعام، فلا بُدَّ مِن التقيُّد بهذه الاعتبارات الشرعية، وإلا فإنّها لا تكون عبادة صحيحة، ولا مُبرِئة لِلذِّمِّة، وقد اتفق الأئمة الأربعة على وجوب إخراج صدقة الفطر في البلد الذي فيه الصائم مادام فيه مُستحقون لها، فالواجب التقيُّد بذلك، وعدم الالتفات إلى مَن يُنادُون بخلافه، لأنَّ المسلم يحرص على براءة ذِمَّته، والاحتياط لدينه. اهـ.
هذا وأسأل الله تعالى أنْ يرزقنا توبة نصوحًا، وأجرًا متزايدًا، وقلوبًا تخشع لِذكره، وإقبالًا على طاعتة، وبُعدًا عن المعاصي وأماكنها وقنواتها ودعاتها، اللهم ارفع الضر عن المتضررين مِن المسلمين في كل أرض، وأعذنا وإيَّاهُم مِن الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم تقبَّل صيامنا وقيامنا وسائر طاعاتنا، واجعلنا مِمَّن صام وقام رمضان إيمانًا واحتسابًا فغَفَرت له ما تقدَّم مِن ذنبه، وأعنَّا على ذِكرك وشُكرك وحُسن عبادتك، وارحم موتانا، وأكرمهم بالنعيم في قبوره، ورضوانك والجنَّة، وأصلح أهلينا، واجعلهم مِن عبادك الصالحين، إنَّك يا ربَّنا لسميع الدعاء.
[الأحكام الفقهية الخاصة بزكاة الفطر- خطبة الجمعة للشيخ عبد القادر الجنيد]
6) مقال بعنوان: ” تنبيه الصُّوام بأن إخراج زكاة الفطر نقودًا لا يُجزئ ولا يجوز “.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد، أيها الفضلاء النبهاء – أكرمكم الله بالاستمساك بالسُّنة النبوية إلى الممات -:
فلقد شاع عند جموع عديدة مِن عوام المسلمين – سدَّدهم الله وسلَّمهم -:
[إخراج زكاة الفطر نقودًا].
فيُقَوِّمُون مقدار ونوع الطعام المُخْرَج في زكاة الفطر بالنَّقد، ثم يُخرجون قيمته بعملة بلدهم مِن دراهم أو دنانير أو ريالات أو جنيهات أو دولارات أو غيرها مِن العُملات، ثم يُعطونها للفقراء والمساكين.
وهذا الفعل لا يجوز، ولا يُجزئ، عند أكثر العلماء – رحمهم الله تعالى -.
بل قال القاضي عياض اليحصبي المالكي – رحمه الله – في كتابه “إكمال المعلم بفوائد مسلم” (3/ 482): ولم يُجِز عامة العلماء إخراج القيمة في ذلك، وأجازه أبو حنيفة. اهـ
وقال عون الدين ابن هبيرة الشيبانيّ الحنبلي – رحمه الله – في كتابه “الإفصاح” (1/ 214):
واتفقوا على أنه لا يجوز إخراج القيمة في زكاة الفطر، إلا أبا حنيفة، فإنه قال: يجوز. اهـ
ويدُلُّ على صِحِّة هذا القول، وأنه الحق والصَّواب، أمور:
الأول: ما أخرجه البخاري (1503)، ومسلم (984)، عن ابن عمر – رضي الله عنه – أنه قال:
((فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى العَبْدِ وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ)).
وفي لفظ آخر للبخاري (1507)، ومسلم (984):
((أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَكَاةِ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ)).
ووجه الاستدلال مِن هذا الحديث:
أن النبي صلى الله عليه وسلم فَرَض وأَمَر أن تُخْرَج زكاة الفطر مِن الطعام، وليس قيمتها مِن النقود، فمَن خالفه فأخرج نقودًا فقد ترك ما أَمَر به صلى الله عليه وسلم، وفَرَض.
الثاني: ما ثبت عند أبي داود (1609)، وابن ماجه (1827)، وغيرهما، عن ابن عباس – رضي الله عنه -أنه قال:
((فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ)).
ووجه الاستدلال من هذا الحديث:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطرة طُعمة للمساكين، والطُعمة تكون بما يُطْعَم ويُؤكل، وإخراجها نقودًا يُعطِّل ما فرضه صلى الله عليه وسلم، إذ الفقير قد يصرفها في طعام، أو مكالمة هاتف، أو دُخان، أو لباس، أو لعبة، أو دخول سينماء، أو غير ذلك.
الثالث: أن إخراج الطعام هو المعمول به في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وزمن الخلفاء الأربعة الراشدين المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، ومَن في زمنهم وبَعد زمنهم مِن الصحابة – رضي الله عنهم -.
ولا يُعلم عن أحد منهم – رضي الله عنهم – أنه عَدَل عن الطعام فأخرج بدله نقودًا.
وقد أخرج البخاري (1506)، ومسلم (985)، عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – أنه قال:
((كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ)).
وفي لفظ لمسلم:
((كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا، عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، حُرٍّ وَمَمْلُوكٍ، مِنْ ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، فَلَمْ نَزَلْ نُخْرِجُهُ كَذَلِكَ، حَتَّى كَانَ مُعَاوِيَةُ: فَرَأَى أَنَّ مُدَّيْنِ مِنْ بُرٍّ تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، فَأَمَّا أَنَا فَلَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَذَلِكَ)).
وفِعل وتتابع الصحابة – رضي الله عنهم – على إخراجها مِن الطعام مع وجود الدراهم والدنانير، ومعرفتهم باحتياج الفقراء الشديد إلى النقود، دليل على أنها لا تُخْرَج إلا مِن الطعام.
ولا ريب عند كل مؤمن بالله واليوم الآخر أنّ خير الهدي هدي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهدي أصحابه – رضي الله عنهم -.
الرابع: ما قاله القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي – رحمه الله – في كتابه “الإشراف على نكت مسائل الخلاف” (1/ 391): ولأنه – عليه السلام – فرض زكاة الفطر صاعًا مِن تمر، أو صاعًا مِن شعير، أو صاعًا مِن زبيب، ففيه دليلان:
أحدهما: أن التعيين يُفيد الانحتام.
والثاني: أنه نصَّ على مُسميات مختلفات، وأقوات متباينة، فلو كان الاعتبار بالقيمة لم يكن لذلك معنى، ولكان يكفي النص على واحد دون غيره؛ ولأن إخراج القيمة تؤدي إلى إسقاط النصوص. اهـ
ويقصد بالانحتام: الوجوب.
وقال الفقيه الشافعي أبو سليمان الخطابي البستي – رحمه الله – في كتابه “معالم السنن” (2/ 51):
وفي الحديث دليل على أن إخراج القيمة لا يجوز، وذلك لأنه ذكر أشياء مختلفة القِيَم، فدل أن المراد بها الأعيان لا قيمتها. اهـ
الخامس: أن زكاة الفطر من الشعائر الظاهرة في بلاد المسلمين عند ختام رمضان، تُرى في أسواقهم، وطرقاتهم، ويتسامعون بها، ويراها الصغير والكبير، والذكر والأنثى، وإخراجها نقودًا يفضي إلى خفائها، وجهل الناس بأحكامها، واستهانتهم بها.
السادس: أن القائل بجواز إخراج زكاة الفطر نقودًا لا نصَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم معه يؤيد قوله، بخلاف مَن قال: لا تُخرج إلا من الطعام، وأخرجها طعامًا، فعنده أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وآثار الصحابة – رضي الله عنهم -، تدل على صحة قوله، وصواب فعله.
وفي الختام أقول لمن يُخرج زكاة الفطر نقودًا – فقهه الله بدينه وشرعه -:
أولًا: إنَّ زكاة الفطر عبادة واجبة بنص السُّنَّة النبوية، فلتخرجها بالطريقة التي توافق السُّنَّة، ونُصّ عليها فيها، وهي إخراجها طعامًا لا نقودًا، حتى تضمن صواب وإجزاء فعلك، وأنه مقبول عند ربك سبحانه.
ثانيًا: إنْ أخرجت زكاة الفطر طعامًا فستخرجها باطمئنان وراحة نفس، لأن معك نصوصًا شرعية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه – رضي الله عنهم -، تُصَوِّب فعلك، وأنه مجزئ.
ثالثًا: اتفق الفقهاء – رحمهم الله – على أنّ مَن أخرج زكاة الفطر طعامًا فقد أجزأته، وبرئت ذمته.
وأما مَن أخرجها نقودًا فلا تجزئه، ولم تبرأ ذمته عند أكثر العلماء.
وقال قِلَّة: تُجزئه.
ولا نصَّ معهم، لا مِن السُّنَّة النبوية، ولا عن أحد مِن الصحابة – رضي الله عنهم -.
فهل تسلك المنصوص عليه في السُّنَّة النبوية، والمتفق بين العلماء على أنه لا خلاف في صوابه، فتضمن الإجزاء، وتطمئن لإخراجك؟
أمْ تفعل المُخْتَلَف فيه، فلا تطمئن بعده لصحة عبادتك، وإجزاء فعلك، وبراءة ذمتك؟.
رابعًا: إنْ قالت نفسٌ: ” إن إخراج النقود أنفع للفقراء “.
فَلْيُقَل لها:
إنَّ العمل بالشرع الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم هو الأنفع للنفس والفقير، وقد فُرضت فيه زكاة الفطر طعامًا لا نقودًا.
والله – عزّ وجلّ – أعلم منا بالأنفع لعباده الفقراء، إذ يَعلم احتياجهم إلى النقود قبل خلقهم، وفي أيّ زمن وجِدوا، ولم يفرضها لهم إلا مِن الطعام.
وقد كان الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وزمن أصحابه – رضي الله عنهم -، في حاجة شديدة للنقود، والفقراء والمساكين بينهم وحولهم كُثر، ومع ذلك لم يُخرجوها لهم إلا مِن الطعام، ولم يُنقل عنهم إلا الطعام. [كتبه: عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد].
—–
—–
—–
ثانيًا: المسائل المتعلقة بعاشوراء (ينتظم الحديث فيه في ثلاثة أمور):
1) [يوم عاشوراء، صيامه، وبدعه، والمخالفين للشريعة فيه، وما يُستفاد مِن أحاديثه]
صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: ((أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ صِيَامُ شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ)).
صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: ((صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ)).
وصحَّ عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ أنَّه سُئل عن صوم يوم عاشوراء فقال: ((مَا عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ يَوْمًا يَطْلُبُ فَضْلَهُ عَلَى الْأَيَّامِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ)).
وصحَّ عن الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ ــ رضي الله عنها ــ أنَّها قالت: ((أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ الَّتِي حَوْلَ الْمَدِينَةِ: «مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا، فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ» فَكُنَّا، بَعْدَ ذَلِكَ نَصُومُهُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا الصِّغَارَ مِنْهُمْ، وَنَذْهَبُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَنَصْنَعُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ، فَنَذْهَبُ بِهِ مَعَنَا، فَإِذَا سَأَلُونَا الطَّعَامَ، أَعْطَيْنَاهُمُ اللُّعْبَةَ تُلْهِيهِمْ حَتَّى يُتِمُّوا صَوْمَهُمْ)).
وإنْ كان دخول شهر الله المُحرَّم ثابتًا، فيُستحب أنْ يُصام مع يوم عاشوراء يوم التاسع مُخالفة لليهود، حيث يقتصرون على صيام العاشر فقط، لِمَا صحَّ عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ أنَّه قال: ((صَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ»)).
وصحَّ عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ أنَّه قال: ((خَالِفُوا الْيَهُودَ وَصُومُوا التَّاسِعَ وَالْعَاشِرَ)).
وإنْ كان دخول الشهر مشكوكًا فيه، فيُستحب أنْ يُصام ثلاثة أيَّام، يومُ العاشر، ويومًا قبله وهو التاسع، ويومًا بعده وهو الحادي عشر، ليتحقق
2) [في حكم الاقتصار على صوم التاسع من المحرَّم]
فمذهب جماهير العلماء من السلف والخلف أنَّ عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرَّم ((1) -[انظر: «شرح النووي على مسلم» ((8) / (12)).])
وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية، ويشهد له التصريحُ الوارد في حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: «أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَوْمِ عَاشُورَاءَ يَوْمُ عَاشِرٍ» ((2) -[أخرجه الترمذيُّ في «أبواب الصوم» باب ما جاء عاشوراء: أَيُّ يَومٍ هو ((755))، من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الترمذي» ((1) / (399))، وأخرجه البزَّار ((1) / (492)) من حديث عائشة رضي الله عنها، وصحَّحه ابن حجرٍ [انظر: «السلسلة الضعيفة» ((8) / (311))].])
وعنه رضي الله عنهما أنه كان يقول: «خَالِفُوا اليَهُودَ، صُومُوا التَّاسِعَ وَالْعَاشِرَ» ((3) -[أخرجه البيهقيُّ في «السنن الكبرى» ((8404))، وصحَّحه الألبانيُّ في «جلباب المرأة المسلمة» ((177)).]
، كما يدلُّ عليه ظواهرُ الأحاديث الواردة في بيان حُكم صيام عاشوراء وفضلِه، وهو الراجح.
ومن رأى أنَّ عاشوراء هو اليوم التاسع فقد أشكل عليه قولُ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما المذكور في السؤال، والذي ظاهرُه أنَّ يوم عاشوراء هو اليوم التاسع، وقد أجاب عن هذا الإشكال ابنُ حجرٍ -رحمه الله- بقوله: «قال الزين بن المنَيِّر: قولُه: «إِذَا أَصْبَحْتَ مِنْ تَاسِعه فَأَصْبِحْ» ((4) -[أخرجه الطحاويُّ في «شرح معاني الآثار» ((3287)).])
يُشعر بأنه أراد العاشرَ لأنه لا يصبح صائمًا بعد أن أصبح من تاسعه إلاَّ إذا نوى الصومَ من الليلة المقبلة وهو الليلة العاشرة، قلت [ابن حجر]: ويقوِّي هذا الاحتمالَ ما رواه مسلمٌ -أيضًا- من وجهٍ آخر عن ابن عبَّاسٍ «أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» فمات قبل ذلك» ((5) -[أخرجه مسلمٌ في «الصيام» ((1134)).])
فإنه ظاهرٌ في أنه صلَّى الله عليه وسلَّم كان يصوم العاشرَ، وهمَّ بصوم التاسع فمات قبل ذلك، ثمَّ ما همَّ به مِن صوم التاسع يَحتمل معناه: أنه لا يَقتصر عليه بل يضيفه إلى اليوم العاشر: إمَّا احتياطًا له
وإمَّا مخالفةً لليهود والنصارى وهو الأرجح، وبه يُشعر بعضُ روايات مسلمٍٍ» ((7) -[«فتح الباري» لابن حجر ((4) / (245)).]).
[والمراد بالاحتياط -في هذا المقام- ما نقله ابن القيِّم -رحمه الله- في «زاد المعاد» ((2) / (76)) عن بعض أهل العلم من قوله: «قد ظهر أنَّ القصد مخالفةُ أهل الكتاب في هذه العبادة مع الإتيان بها، وذلك يحصل بأحد أمرين: إمَّا بنقل العاشر إلى التاسع، أو بصيامهما معا. وقوله: «إِذَا كَانَ العَامُ المُقْبِلُ صُمْنَا التَّاسِعَ» يحتمل الأمرين. فتوفِّي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قبل أن يتبيَّن لنا مرادُه، فكان الاحتياط صيامَ اليومين معًا».])،
وعليه يتبيَّن -بوضوحٍ- أنَّ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما لم يجعل عاشوراء هو اليومَ التاسع، وإنما أرشد السائلَ إلى صيام التاسع مع العاشر، وهو ما يدلُّ عليه مجموعُ أحاديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، ويعكس صحَّةَ هذا الفهمِ ما ذكره ابنُ القيِّم -رحمه الله- في مَعْرِض توضيح أنَّ آثارَ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما تتَّفق ولا تختلف، بل يصدِّق بعضُها بعضًا حيث قال -رحمه الله-: «فمن تأمَّل مجموعَ روايات ابن عبَّاسٍ تبيَّن له زوالُ الإشكال وسَعَةُ علمِ ابن عبَّاسٍ، فإنه لم يجعل عاشوراءَ هو اليومَ التاسعَ، بل قال للسائل: صُمِ اليومَ التاسع، واكتفى بمعرفة السائل أنَّ يوم عاشوراء هو اليوم العاشر الذي يعدُّه الناسُ كلُّهم يومَ عاشوراء، فأرشد السائلَ إلى صيام التاسع معه، وأخبر أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يصومه كذلك. فإمَّا أنْ يكون فِعْلُ ذلك هو الأَوْلى، وإمَّا أن يكون حملُ فعلِه على الأمر به وعزمِه عليه في المستقبل، ويدلُّ على ذلك أنه هو الذي روى: «صُومُوا يَوْمًا قَبْلَهُ وَيَوْمًا بَعْدَهُ» ((8) -[أخرجه أحمد ((2154)) بلفظ: «صُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا أَوْ بَعْدَهُ يَوْمًا»، قال الألبانيُّ في «السلسلة الضعيفة» ((9) / (288)): «وذِكرُ اليوم الذي بعده منكرٌ فيه».])،
وهو الذي روى: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ يَوْم العَاشِرِ» (-[تقدَّم تخريجه.]).
وكلُّ هذه الآثار عنه يصدِّق بعضُها بعضًا ويؤيِّد بعضُها بعضًا» ((10) -[«زاد المعاد» لابن القيِّم ((2) / (75)).]).
لذلك كان من الخطإ البيِّن الاقتصارُ على صيام يوم التاسع فقط، إذ الواجب دفعُ التعارض وحملُ كلام ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما على التوافق -كما تقدَّم-، وذلك بفقهِ ألفاظِ الأحاديث ومعرفةِ طُرُقها، قال ابنُ القيِّم -رحمه الله-: «وأمَّا إفرادُ التاسع فمِن نقصِ فهمِ الآثار وعدمِ تتبُّع ألفاظها وطُرُقها، وهو بعيدٌ من اللغة والشرع، والله الموفِّق للصواب» ((11) -[المصدر السابق ((2) / (76)).]).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.
3) [في حكم التوسعة والسرورِ في ليلة عاشوراء]
فَيَوْمُ عاشوراء من بركات شهر الله المحرَّم وهو اليوم العاشرُ منه، وإضافة الشهر إلى الله تعالى تدلّ على شرفه وفضلِه؛ لأنّ الله تعالى لا يُضيف إليه إلاّ خواصَّ مخلوقاته، قال صلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ المُحَرَّمِ» ((1) -[أخرجه مسلم في «الصيام»: ((2755))، وأبو داود في «الصوم»: ((2429))، والترمذي في «الصلاة»: ((438))، والنسائي في «قيام الليل»: ((1613))، وابن ماجه في «الصيام»: ((1742))، وأحمد: ((8158))، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.])
وحُرمة العاشِرِ منه قديمةٌ، وفضلُه عظيمٌ، ففيه أنجى اللهُ موسى عليه الصلاة والسلام وقومَه، وأغرق فرعونَ وجنودَه، فصامَهُ موسى عليه الصلاةُ والسلامُ شكرًا لله، وكانت قريشٌ في الجاهلية تصومُه، وكانت اليهودُ تصومُه كذلك، فقال لهم رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ» ((2) -[أخرجه البخاري في «الصوم»: ((2004))، ومسلم في «الصيام»: ((2656)) أبو داود في «الصيام»: ((2444))، وابن ماجه في «الصيام»: ((1734)) الحميدي في «مسنده»: ((543))، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.])
فصامه رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم وأَمَرَ بصيامِه، وكان صيامُه واجبًا على أقوى الأقوال وأرجحِها، ثمّ صار مستحبًّا بعد فرض صيام شهر رمضان، ويستحبُّ صومُ التاسعِ معه، مخالفةً لليهود في إفراد العاشر، وفضلُه العظيم تكفير السَّنَة الماضية، فهذا هو الثابت في السُّنَّة المطهّرة، ولا يُشرع في هذا اليوم شيءٌ غيرُ الصيام.
أمّا محدثاتُ الأمور التي ابتدعَتْهَا الرافضةُ
من التعطّش والتحزّن ونحوِ ذلك من البدع، فاتخذوا هذا اليومَ مأتمًا، ومن قابلهم الناصبة
بإظهار الفرح والسرور في هذا اليوم وتوسيع النفقات فيه، فلا أصلَ لهؤلاء وهؤلاء يمكن الاعتماد عليه، إلاّ أحاديث مُختلَقَة وُضعتْ كذبًا على النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أو ضعيفة لا تقوى على النهوض.
وقد بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ذلك بقوله: «مِثْلُ ما أحدثه بعضُ أهلِ الأهواء في يوم عاشوراء، من التعطّش والتحزّن والتجمّع، وغيرِ ذلك من الأمور المحدثة التي لم يُشَرِّعْهَا اللهُ تعالى ولا رسولُه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم ولا أحدٌ من السلف ولا من أهلِ بيتِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم ولا من غيرهم … وكانت هذه مُصيبةً عند المسلمين -أي: قتلَ الحسين رضي الله عنه- يجب أن تُتَلَقَّى بما تُتَلَقَّى به المصائب من الاسترجاع المشروع، فأحدثَتْ بعضُ أهل البدع في مثل هذا اليوم خلافَ ما أَمَرَ اللهُ به عند المصائب، وَضَمُّوا إلى ذلك الكذبَ والوقيعةَ في الصحابة البُرَأَىءِ من فتنة الحُسَين رضي الله عنه وغيرِها أمورًا أخرى ممَّا يكرهُهُ الله ورسوله .. وأمّا اتخاذ أمثال أيام المصائب مآتم فهذا ليس في دين المسلمين بل هو إلى دين الجاهلية أقرب» إلى أن قال -رحمه الله-: «وأحدثَتْ بعضُ الناس فيه أشياءَ مستنِدةً إلى أحاديثَ موضوعةٍ لا أصلَ لها مثلَ: فضلُ الاغتسالِ فيه، أو التكحّلُ، أو المصافحةُ، وهذه الأشياء ونحوُها من الأمور المبتدَعَة كلُّها مكروهةٌ، وإنما المستحبّ صومه .. والأشبه أنّ هذا الوضع لَمَّا ظهرت العصبية بين الناصبة والرافضة فإنّ هؤلاء اتخذوا يوم عاشوراء مأتمًا، فوضع أولئك فيه آثارًا تقتضي التوسّع فيه واتخاذه عيدًا، وكلاهما باطل» ((5) -[«اقتضاء الصراط المستقيم» لابن تيمية: ((2) / (129) – (133)).]).
-[الرافضة: فرقة من الشيعة الكبرى، بايعوا زيد بن علي ثمّ قالوا له: تبرّأ من الشيخين (أبي بكر وعمر رضي الله عنهما) فأبى فتركوه ورفضوه، أي: قاطعوه وخرجوا من بيعته، ومن أصولهم: الإمامة، والعصمة، والمهدية، والتقية، وسب الصحابة وغيرها.])
(-[الناصبة: هم الذين يبغضون عليًّا وأصحابه، انظر: «مجموع الفتاوى»: ((25) / (301)).])
وإذا عُلم اقتصار مشروعيةِ هذا اليوم في الصيام فقط فلا يجوز تلبيةُ دعوة من اتخذه مأتمًا، ولا من اتخذه عيدًا؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يغيّرَ من شريعة الله شيئًا لأجل أحدٍ أو يزيدَ عليها ويستدركَ.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا. انتهى