: (5) بيان الوسيلة في آيات القرآن الكريمة
جمع سيف بن دورة الكعبي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف الشيخ د. سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إماراتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
سوره إبراهيم:
قال تعالى
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) سوره إبراهيم
قال ابن القيم:
وَلَمْ يَقُلْ: فَإنَّكَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، لِأنَّ المَقامَ مَقامُ اسْتِعْطافٍ وتَعْرِيضٍ بِالدُّعاءِ، أيْ إنْ تَغْفِرْ لَهم وتَرْحَمْهُمْ، بِأنْ تُوَفِّقَهم لِلرُّجُوعِ مِنَ الشِّرْكِ إلى التَّوْحِيدِ، ومِنَ المَعْصِيَةِ إلى الطّاعَةِ، كَما في الحَدِيثِ «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإنَّهم لا يَعْلَمُونَ».
وَفِي هَذا أظْهَرُ الدِّلالَةِ عَلى أنَّ أسْماءَ الرَّبِّ تَعالى مُشْتَقَّةٌ مِن أوْصافٍ ومَعانٍ قامَتْ بِهِ، وأنَّ كُلَّ اسْمٍ يُناسِبُ ما ذُكِرَ مَعَهُ، واقْتَرَنَ بِهِ، مِن فِعْلِهِ وأمْرِهِ، واللَّهُ المُوَفِّقُ لِلصَّوابِ.
قال القاسمي:
{رَبِّ إنَّهُنَّ أضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ} أيْ: كُنْ سَبَبًا في إضْلالِهِمْ. كَما يُقالُ فَتَنَتْهُمُ اَلدُّنْيا وغَرَّتْهم، إشارَةً إلى أنَّهُ اِفْتَتَنَ بِالأصْنامِ خَلائِقَ لا تُحْصى. والجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِدُعائِهِ. وإنَّما صَدَّرَهُ بِالنِّداءِ إظْهارًا لِاعْتِنائِهِ بِهِ، ورَغْبَتِهِ في اِسْتِجابَتِهِ: {فَمَن تَبِعَنِي} أيْ: عَلى مِلَّتِي وكانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا مِثْلِي: {فَإنَّهُ مِنِّي ومَن عَصانِي} أيْ: فَخالَفَ مِلَّتِي: {فَإنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أيْ: فَإنَّكَ ذُو اَلْأسْماءِ اَلْحُسْنى، والمَجْدِ اَلْأسْمى، اَلْغَنِيُّ عَنِ اَلنّاسِ أجْمَعِينَ. وتَخْصِيصُ اَلِاسْمَيْنِ إشارَةٌ إلى سَبْقِ اَلرَّحْمَةِ.
قال ابن كثير:
يَذْكُرُ تَعَالَى فِي هَذَا الْمَقَامِ مُحْتَجًّا عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، بِأَنَّ الْبَلَدَ الْحَرَامَ مَكَّةَ إِنَّمَا وُضِعَتْ أَوَّلَ مَا وُضِعَتْ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي كَانَتْ عَامِرَةً بِسَبَبِهِ، آهِلَةً تَبَرَّأَ مِمَّنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ دَعَا لِمَكَّةَ بِالْأَمْنِ فَقَالَ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [الْعَنْكَبُوتِ: (67)]، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي ((1)) بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آلِ عِمْرَانَ: (96)، (97)]، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} فَعَرَّفَهُ كَأَنَّهُ دَعَا بِهِ بَعْدَ بِنَائِهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [إِبْرَاهِيمَ: (39)]، وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ أَكْبَرُ مِنْ إِسْحَاقَ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَمَّا حِينُ ذَهَبَ بِإِسْمَاعِيلَ وَأُمِّهِ وَهُوَ رَضِيعٌ إِلَى مَكَانِ مَكَّةَ، فَإِنَّهُ دَعَا أَيْضًا فَقَالَ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [الْبَقَرَةِ: (126)]، كَمَا ذَكَرْنَاهُ هُنَالِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مُسْتَقْصًى مُطَوَّلًا.
وَقَالَ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ} يَنْبَغِي لِكُلِّ دَاعٍ أَنْ يَدْعُوَ لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْهِ وَلِذُرِّيَّتِهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ افْتَتَنَ بِالْأَصْنَامِ خَلَائِقُ مِنَ النَّاسِ وَأَنَّهُ بَرِئٌ مِمَّنْ عَبَدَهَا، وَرَدَّ أَمْرَهُمْ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ كَمَا قَالَ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الْمَائِدَةِ: (118)]، وَلَيْسَ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنَ الرَّدِّ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا تَجْوِيزُ وُقُوعِ ذَلِكَ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ بَكْرَ بْنَ سَوَادة حَدَّثَهُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَير عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – تَلَا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقَوْلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وَرَفْعَ يَدَيْهِ، [ثُمَّ] قَالَ: “اللَّهُمَّ أُمَّتِي، اللَّهُمَّ أُمَّتِي، اللَّهُمَّ أُمَّتِي”، وَبَكَى فَقَالَ اللَّهُ: [يَا جِبْرِيلُ] اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ -وَرَبُّكَ أَعْلَمُ وَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – مَا قَالَ، [قَالَ] فَقَالَ اللَّهُ: اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ لَهُ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ
قال ابن الجوزي:
{وَمَن عَصانِي فَإنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فِيهِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ:
أحَدُها: ومَن عَصانِي ثُمَّ تابَ فَإنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، قالَهُ السُّدِّيُّ.
والثّانِي: ومَن عَصانِي فِيما دُونَ الشِّرْكِ، قالَهُ مُقاتِلُ بْنُ حَيّانَ.
والثّالِثُ: ومَن عَصانِي فَكَفَرَ فَإنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أنْ تَتُوبَ عَلَيْهِ فَتَهْدِيَهُ إلى التَّوْحِيدِ، قالَهُ مُقاتِلُ بْنُ سُلَيْمانَ. وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ دَعا بِهَذا قَبْلَ أنْ يُعْلِمَهُ اللَّهُ تَعالى أنَّهُ لا يَغْفِرُ الشِّرْكَ كَما اسْتَغْفَرَ لِأبِيهِ.
قال الشوكاني:
قَوْلُهُ: وإذْ قالَ إبْراهِيمُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ: أيِ اذْكُرْ وقْتَ قَوْلِهِ، ولَعَلَّ المُرادَ بِسِياقِ ما قالَهُ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ في هَذا المَوْضِعِ – بَيانُ كُفْرِ قُرَيْشٍ بِالنِّعَمِ الخاصَّةِ بِهِمْ، وهي إسْكانُهم مَكَّةَ بَعْدَ ما بَيَّنَ كُفْرَهم بِالنِّعَمِ العامَّةِ، وقِيلَ: إنَّ ذِكْرَ قِصَّةِ إبْراهِيمَ هاهُنا لِمِثالِ الكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وقِيلَ: لِقَصْدِ الدُّعاءِ إلى التَّوْحِيدِ، وإنْكارِ عِبادَةِ الأصْنامِ {رَبِّ اجْعَلْ هَذا البَلَدَ آمِنًا} المُرادُ بِالبَلَدِ هُنا مَكَّةُ: دَعا إبْراهِيمُ رَبَّهُ أنْ يَجْعَلَهُ آمِنًا: أيْ ذا أمْنٍ، وقَدَّمَ طَلَبَ الأمْنِ عَلى سائِرِ المَطالِبِ المَذْكُورَةِ بَعْدَهُ، لِأنَّهُ إذا انْتَفى الأمْنُ لَمْ يَفْرَغِ الإنْسانُ لِشَيْءٍ آخَرَ مِن أُمُورِ الدِّينِ والدُّنْيا، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الآيَةِ في البَقَرَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: (126)] والفَرْقُ بَيْنَ ما هُنا وما هُنالِكَ أنَّ المَطْلُوبَ هُنا مُجَرَّدُ الأمْنِ لِلْبَلَدِ، والمَطْلُوبَ هُنالِكَ البَلَدِيَّةُ والأمْنُ {واجْنُبْنِي وبَنِيَّ أنْ نَعْبُدَ الأصْنامَ}، يُقالُ جَنَّبْتُهُ كَذا وأجْنَبْتُهُ وجَنَّبْتُهُ، أيْ: باعَدْتُهُ عَنْهُ، والمَعْنى: باعِدْنِي، وباعِدْ بَنِيَّ عَنْ عِبادَةِ الأصْنامِ، قِيلَ: أرادَ بَنِيهِ مِن صُلْبِهُ وكانُوا ثَمانِيَةً، وقِيلَ: أرادَ مَن كانَ مَوْجُودًا حالَ دَعْوَتِهِ مِن بَنِيهِ وبَنِي بَنِيهِ، وقِيلَ: أرادَ جَمِيعَ ذُرِّيَّتِهِ ما تَناسَلُوا، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ ما قِيلَ مِن أنَّهُ لَمْ يَعْبُدْ أحَدٌ مِن أوْلادِ إبْراهِيمَ صَنَمًا، والصَّنَمُ هو التِّمْثالُ الَّذِي كانَتْ تَصْنَعُهُ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ مِنَ الأحْجارِ ونَحْوِها فَيَعْبُدُونَهُ.
{رَبِّ إنَّهُنَّ أضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ} أسْنَدَ الإضْلالَ إلى الأصْنامِ مَعَ كَوْنِها جَماداتٍ لا تَعْقِلُ، لِأنَّها سَبَبٌ لِضَلالِهِمْ فَكَأنَّها أضَلَّتْهم، وهَذِهِ الجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِدُعائِهِ لِرَبِّهِ، ثُمَّ قالَ: فَمَن تَبِعَنِي أيْ مَن تَبِعَ دِينِي مِنَ النّاسِ فَصارَ مُسْلِمًا مُوَحِّدًا فَإنَّهُ مِنِّي أيْ مِن أهْلِ دِينِي: جَعَلَ أهْلَ مِلَّتِهِ كَنَفْسِهِ مُبالَغَةً ومَن عَصانِي فَلَمْ يُتابِعْنِي ويَدْخُلْ في مِلَّتِي فَإنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قادِرٌ عَلى أنْ تَغْفِرَ لَهُ، قِيلَ: قالَ هَذا قَبْلَ أنْ يَعْلَمَ أنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ كَما وقَعَ مِنهُ الِاسْتِغْفارُ لِأبِيهِ وهو مُشْرِكٌ، كَذا قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ، وقِيلَ: المُرادُ عِصْيانُهُ هُنا فِيما دُونَ الشِّرْكِ، وقِيلَ: إنَّ هَذِهِ المَغْفِرَةَ مُقَيَّدَةٌ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الشِّرْكِ.
قال ابن جزي:
{وَمَنْ عَصَانِي} يعني من عصاه بغير الكفر وبالكفر ثم تاب منه، فهو الذي يصح أن يدعى له بالمغفرة ولكنه ذكر اللفظ بالعموم لما كان عليه السلام من الرحمة للخلق وحسن الخلق.
قال السعدي:
أي: {و} اذكر إبراهيم عليه الصلاة والسلام في هذه الحالة الجميلة، إذ قَال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ} أي: الحرم {آمِنًا} فاستجاب الله دعاءه شرعا وقدرا، فحرمه الله في الشرع ويسر من أسباب حرمته قدرا ما هو معلوم، حتى إنه لم يرده ظالم بسوء إلا قصمه الله كما فعل بأصحاب الفيل وغيرهم.
ولما دعا له بالأمن دعا له ولبنيه بالأمن فقال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} أي: اجعلني وإياهم جانبا بعيدا عن عبادتها والإلمام بها، ثم ذكر الموجب لخوفه عليه وعلى بنيه بكثرة من افتتن وابتلي بعبادتها فقال: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ) أي: ضلوا بسببها، {فَمَنْ تَبِعَنِي} على ما جئت به من التوحيد والإخلاص لله رب العالمين {فَإِنَّهُ مِنِّي} لتمام الموافقة ومن أحب قوما وتبعهم التحق بهم.
{وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وهذا من شفقة الخليل عليه الصلاة والسلام حيث دعا للعاصين بالمغفرة والرحمة من الله والله تبارك وتعالى أرحم منه بعباده لا يعذب إلا من تمرد عليه.
—————–
قال تعالى:
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا
الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) سوره إبراهيم
—–
قال ابن كثير:
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا دُعَاءٌ ثَانٍ بَعْدَ الدُّعَاءِ الْأَوَّلِ الَّذِي دَعَا بِهِ عِنْدَمَا وَلَّى عَنْ هَاجَرَ وَوَلَدِهَا، وَذَلِكَ قَبْلَ بِنَاءِ الْبَيْتِ، وَهَذَا كَانَ بَعْدَ بِنَائِهِ، تَاكِيدًا وَرَغْبَةً إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} * * *
وَقَوْلُهُ: {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: “الْمُحَرَّمِ” أَيْ: إِنَّمَا جَعَلْتَهُ مُحَرَّمًا لِيَتَمَكَّنَ أَهْلُهُ مِنْ إِقَامَةِ الصلاة عنده.
{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَوْ قَالَ: “أَفْئِدَةَ النَّاسِ” لَازْدَحَمَ عَلَيْهِ فَارِسُ وَالرُّومُ وَالْيَهُودُ ((1)) وَالنَّصَارَى وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ، وَلَكِنْ قَالَ: {مِنَ النَّاسِ} فَاخْتَصَّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ. * * *
وَقَوْلُهُ: {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} أَيْ: لِيَكُونَ ذَلِكَ عَوْنًا لَهُمْ عَلَى طَاعَتِكَ وَكَمَا أَنَّهُ {وَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} فَاجْعَلْ لَهُمْ ثِمَارًا يَاكُلُونَهَا. وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} [الْقَصَصِ: (57)] وَهَذَا مِنْ لُطْفِهِ تَعَالَى وَكَرَمِهِ وَرَحْمَتِهِ وَبَرَكَتِهِ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ مَكَّةَ شَجَرَةٌ مُثْمِرَةٌ، وَهِيَ تُجْبَى إِلَيْهَا ثَمَرَاتُ مَا حَوْلَهَا، اسْتِجَابَةً لِخَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
قال القرطبي (ليقيموا الصلاة):
كَأَنَّهُ رَغِبَ إلى الله [أن يأتمنهم (و] أن يُوَفِّقَهُمْ لِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ
قال القاسمي:
{أسْكَنْتُ} أيْ: ما أسْكَنْتُهم هَذا اَلْوادِيَ إلّا لِيُقِيمُوا اَلصَّلاةَ عِنْدَ بَيْتِكَ اَلْمُحَرَّمِ ويُعَمِّرُوهُ بِذِكْرِكَ وعِبادَتِكَ وحْدَكَ. وتَكْرِيرُ اَلنِّداءِ وتَوْسِيطُهُ؛ لِإظْهارِ كَمالِ اَلْعِنايَةِ بِإقامَةِ اَلصَّلاةِ.
قال أبو السعود:
وفي دُعائِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن مُراعاةِ حُسْنِ الأدَبِ، والمُحافَظَةِ عَلى قَوانِينَ الضَّراعَةِ، وعَرْضِ الحاجَةِ، واسْتِنْزالِ الرَّحْمَةِ، واسْتِجْلابِ الرَّافَةِ ما لا يَخْفى، فَإنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِذِكْرِ كَوْنِ الوادِي غَيْرَ ذِي زَرْعٍ بَيِّنَ كَمالَ افْتِقارِهِمْ إلى المَسْؤُولِ، وبِذِكْرِ كَوْنِ إسْكانِهِمْ عِنْدَ البَيْتِ المُحَرَّمِ أشارَ إلى أنَّ جِوارَ الكَرِيمِ يَسْتَوْجِبُ إفاضَةَ النَّعِيمِ. وبِعَرْضِ كَوْنِ ذَلِكَ الإسْكانِ مَعَ كَمالِ إعْوازِ مَرافِقِ المَعاشِ لِمَحْضِ إقامَةِ الصَّلاةِ، وأداءِ حُقُوقِ البَيْتِ، مَهَّدَ جَمِيعَ مَبادِئِ إجابَةِ السُّؤالِ، ولِذَلِكَ قُرِنَتْ دَعْوَتُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِحُسْنِ القَبُولِ
قال ابن عاشور:
وأُضِيفَ الرَّبُّ هُنا إلى ضَمِيرِ الجَمْعِ خِلافًا لِسابِقِيهِ؛ لِأنَّ الدُّعاءَ الَّذِي افْتُتِحَ بِهِ فِيهِ حَظٌّ لِلدّاعِي ولِأبْنائِهِ، ولَعَلَّ إسْماعِيلَ – عَلَيْهِ السَّلامُ – حاضِرٌ مَعَهُ حِينَ الدُّعاءِ كَما تَدُلُّ لَهُ الآيَةُ الأُخْرى {وإذْ يَرْفَعُ إبْراهِيمُ القَواعِدَ مِنَ البَيْتِ وإسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إنَّكَ أنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} [البقرة: (127)] إلى قَوْلِهِ {واجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: (128)]، وذَلِكَ مِن مَعْنى الشُّكْرِ المَسْؤُولِ هُنا.
قال البيضاوي: {رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ}
وَقِيلَ لامُ الأمْرِ والمُرادُ هو الدُّعاءُ لَهم بِإقامَةِ الصَّلاةِ كَأنَّهُ طَلَبَ مِنهُمُ الإقامَةَ وسَألَ مِنَ اللَّهِ تَعالى أنْ يُوَفِّقَهم لَها.
تفسير السعدي:
وذلك أنه أتى بـ “هاجر” أم إسماعيل وبابنها إسماعيل عليه الصلاة والسلام وهو في الرضاع، من الشام حتى وضعهما في مكة وهي -إذ ذاك- ليس فيها سكن، ولا داع ولا مجيب، فلما وضعهما دعا ربه بهذا الدعاء فقال -متضرعا متوكلا على ربه: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} أي: لا كل ذريتي لأن إسحاق في الشام وباقي بنيه كذلك وإنما أسكن في مكة إسماعيل وذريته، وقوله: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} أي: لأن أرض مكة لا تصلح للزراعة.
{رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاة} أي: اجعلهم موحدين مقيمين الصلاة لأن إقامة الصلاة من أخص وأفضل العبادات الدينية فمن أقامها كان مقيما لدينه، {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} أي: تحبهم وتحب الموضع الذي هم ساكنون فيه.
فأجاب الله دعاءه فأخرج من ذرية إسماعيل محمدا صلى الله عليه وسلم حتى دعا ذريته إلى الدين الإسلامي وإلى ملة أبيهم إبراهيم فاستجابوا له وصاروا مقيمي الصلاة.
وافترض الله حج هذا البيت الذي أسكن به ذرية إبراهيم وجعل فيه سرا عجيبا جاذبا للقلوب، فهي تحجه ولا تقضي منه وطرا على الدوام، بل كلما أكثر العبد التردد إليه ازداد شوقه وعظم ولعه وتوقه، وهذا سر إضافته تعالى إلى نفسه المقدسة.
{وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} فأجاب الله دعاءه، فصار يجبي إليه ثمرات كل شيء، فإنك ترى مكة المشرفة كل وقت والثمار فيها متوفرة والأرزاق تتوالى إليها من كل جانب.
———–
قال تعالى
{رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ((39))}
سوره إبراهيم
قال الطبري:
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن استشهاد خليله إبراهيم إياه على ما نوى وقصد بدعائه وقيله {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} … الآية، وأنه إنما قصد بذلك رضا الله عنه في محبته أن يكون ولده من أهل الطاعة لله، وإخلاص العبادة له على مثل الذي هو له، فقال: ربنا إنك تعلم ما تخفي قلوبنا عند مسألتنا ما نسألك، وفي غير ذلك من أحوالنا، وما نعلن من دعائنا، فنجهر به وغير ذلك من أعمالنا، وما يخفى عليك يا ربنا من شيء يكون في الأرض ولا في السماء، لأن ذلك كله ظاهر لك متجل باد، لأنك مدبره وخالقه، فكيف يخفى عليك.
القول في تأويل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ((39))}
يقول: الحمد لله الذي رزقني على كبر من السنّ ولدا إسماعيل وإسحاق {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} يقول: إن ربي لسميع دعائي الذي أدعوه به، وقولي {اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} وغير ذلك من دعائي ودعاء غيري، وجميع ما نطق به ناطق لا يخفى عليه منه شيء.
قال ابن تيمية:
وأمّا قَوْلُ إبْراهِيمَ {إنّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ} فالمُرادُ بِالسَّمْعِ هاهُنا السَّمْعُ الخاصُّ وهُوَ سَمْعُ الإجابَةِ والقَبُولِ لا السَّمْعُ العامُّ؛ لِأنَّهُ سَمِيعٌ لِكُلِّ مَسْمُوعٍ. وإذا كانَ كَذَلِكَ فالدُّعاءُ: دُعاءُ العِبادَةِ ودُعاءُ الطَّلَبِ وسَمْعُ الرَّبِّ تَعالى لَهُ إثابَتُهُ عَلى الثَّناءِ وإجابَتُهُ لِلطَّلَبِ فَهُوَ سَمِيعُ هَذا وهَذا
تفسير ابن تيمية
قال ابن عطية:
مَقْصِدُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَلامُ التَنْبِيهُ عَلى اخْتِصارِهِ في الدُعاءِ، وتَفْوِيضِهِ إلى ما عَلِمَ اللهُ مِن رَغائِبِهِ وحِرْصِهِ عَلى هِدايَةِ بَنِيهِ والرِفْقِ بِهِمْ، وغَيْرِ ذَلِكَ. ثُمَّ انْصَرَفَ إلى الثَناءِ عَلى اللهِ تَعالى بِأنَّهُ عَلّامُ الغُيُوبِ، وإلى حَمْدِهِ عَلى هِباتِهِ، وهَذِهِ مِنَ الآياتِ المُعْلِمَةِ أنَّ عِلْمَ اللهِ تَعالى بِالأشْياءِ هو عَلى التَفْصِيلِ التامِّ.
قال البقاعي:
ولَمّا فَرَغَ مِنَ الدُّعاءِ بِالأهَمِّ مِنَ الإبْقاءِ عَلى الفِطْرَةِ الأُولى المُشَوِّقَةِ لِلْعَزائِمِ إلى العُكُوفِ في دارَةِ الأُنْسِ، ومِنَ الكِفايَةِ لَهُمُ المَعاشُ، المُنْتِجُ لِلشُّكْرِ بِإنْفاقِ الفَضْلِ، وتَبَيَّنَ مِن ذَلِكَ أنَّهم خالَفُوا أعْظَمَ آبائِهِمْ في جَمِيعِ ما قَصَدَهُ [لَهُمْ] مِنَ المَصالِحِ، أتْبَعُهُ ما يَحُثُّ عَلى الإخْلاصِ في ذَلِكَ وغَيْرِهِ لَهُ ولِغَيْرِهِ لِيَكُونَ أنْجَحَ لِلْمُرادِ بِضَمانِ الإسْعادِ ولا سِيَّما مَعَ تَكْرِيرِ النِّداءِ الدّالِّ عَلى مَزِيدِ التَّضَرُّعِ فَقالَ: ”رَبَّنا“ أيْ أيُّها المُحْسِنُ إلَيْنا المالِكِ لِجَمِيعِ أُمُورِنا {إنَّكَ تَعْلَمُ ما} أيْ جَمِيعِ ما {نُخْفِي وما نُعْلِنُ} ثُمَّ أشارَ إلى عُمُومِ عِلْمِهِ فَقالَ: {وما يَخْفى عَلى اللَّهِ} أيِ الَّذِي أحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ قُدْرَةً وعِلْمًا. وبالَغَ في النَّفْيِ فَقالَ: {مِن شَيْءٍ} مِن ذَلِكَ ولا غَيْرِهِ {فِي الأرْضِ} ولَمّا كانَ في سِياقِ المُبالَغَةَ، أعادَ النّافِي تَاكِيدًا فَقالَ: {ولا في السَّماءِ} أيْ فَهو غَيْرُ مُحْتاجٍ إلى التَّعْرِيفِ بِالدُّعاءِ، فالدُّعاءُ إنَّما هو لِإظْهارِ العُبُودِيَّةِ، واسْمُ الجِنْسِ شامِلٌ لِما فَوْقَ الواحِدِ، ومِن فَوائِدِ التَّعْبِيرِ بِالإفْرادِ الدَّلالَةِ عَلى أنَّ [مَن] كانَ مُحِيطًا [بِكُلِّ ما في المُتَقابِلَيْنِ مِن غَيْرِ أنْ يَحْجُبَهُ أحَدُهُما عَنِ الآخَرِ، كانَ مُحِيطًا] بِغَيْرِهِما كَذَلِكَ مِن غَيْرِ فَرْقٍ.
قال القاسمي:
قالَ اَلزَّمَخْشَرِيُّ: اَلْمَعْنى: إنَّكَ أعْلَمُ بِأحْوالِنا وما يُصْلِحُنا وما يُفْسِدُنا مِنّا. وأنْتَ أرْحَمُ بِنا مِنّا بِأنْفُسِنا ولَها، فَلا حاجَةَ إلى اَلدُّعاءِ والطَّلَبِ. وإنَّما نَدْعُوكَ إظْهارًا لِلْعُبُودِيَّةِ لَكَ، وتَخَشُّعًا لِعَظَمَتِكَ، وتَذَلُّلًا لِعِزَّتِكَ، وافْتِقارًا إلى ما عِنْدَكَ، واسْتِعْجالًا لِنَيْلِ أيادِيكَ، ووَلَهًا إلى رَحْمَتِكَ. وكَما يَتَمَلَّقُ اَلْعَبْدُ بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِهِ رَغْبَةً في إصابَةِ مَعْرُوفِهِ، مَعَ تَوَفُّرِ اَلسَّيِّدِ عَلى حُسْنِ اَلْمِلْكَةِ.
وعَنْ بَعْضِهِمْ: أنَّهُ رَفَعَ حاجَتَهُ إلى كِرِيمٍ فَأبْطَأ عَلَيْهِ اَلنَّجْحَ، فَأرادَ أنْ يَذْكُرَهُ فَقالَ: مِثْلُكَ لا يُذْكَرُ اسْتِقْصارًا ولا تَوَهُّمًا لِلْغَفْلَةِ عَنْ حَوائِجِ اَلسّائِلِينَ، ولَكِنَّ ذا اَلْحاجَةِ لا تَدَعُهُ حاجَتُهُ أنْ لا يَتَكَلَّمَ فِيها. اِنْتَهى.
وجُوِّزَ في قَوْلِهِ تَعالى: {وما يَخْفى عَلى اللَّهِ مِن شَيْءٍ} إلخ، أنْ يَكُونَ مِن كَلامِهِ تَعالى، تَصْدِيقًا لِإبْراهِيمَ، أوْ مِن كَلامِهِ عَلَيْهِ اَلسَّلامُ.
قال الآلوسي:
وتَقْدِيمُ {ما نُخْفِي} عَلى (ما نُعْلِنُ) لِتَحْقِيقِ المُساواةِ بَيْنَهُما في تَعَلُّقِ العِلْمِ عَلى أبْلَغِ وجْهٍ فَكانَ تَعَلُّقُهُ بِما يُخْفى أقْدَمَ مِنهُ بِما يُعْلَنُ أوْ لِأنَّ مَرْتَبَةَ السِّرِّ والخَفاءِ مُتَقَدِّمَةٌ عَلى مَرْتَبَةِ العَلَنِ إذْ ما مِن شَيْءٍ يُعْلَنُ إلّا وهو قَبْلَ ذَلِكَ خَفِيٌّ فَتَعَلُّقُ عِلْمِهِ تَعالى بِحالَتِهِ الأُولى أقْدَمُ مِن تَعَلُّقِهِ بِحالَتِهِ الثّانِيَةِ وجَعَلَ بَعْضُهم (ما) مَصْدَرِيَّةً والتَّقْدِيمَ والتَّاخِيرَ لِتَحْقِيقِ المُساواةِ أيْضًا ومِن هُنا قِيلَ: أيْ تَعْلَمُ سِرَّنا كَما تَعْلَمُ عَلَنَنا.
والمَقْصُودُ مِن فَحْوى كَلامِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّ إظْهارَ هَذِهِ الحاجاتِ وما هو مِن مَبادِيها وتَتِمّاتِها لَيْسَ لِكَوْنِها غَيْرَ مَعْلُومَةٍ لَكَ بَلْ إنَّما هو لِإظْهارِ العُبُودِيَّةِ والتَّخَشُّعِ لِعَظَمَتِكَ والتَّذَلُّلِ لِعِزَّتِكَ وعَرْضِ الِافْتِقارِ لِما عِنْدَكَ والِاسْتِعْجالِ لِنِيلِ أيادِيكَ وقِيلَ: أرادَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّكَ أعْلَمُ بِأحْوالِنا ومَصالِحِنا وأرْحَمُ بِنا مِن أنْفُسِنا فَلا حاجَةَ لَنا إلى الطَّلَبِ لَكِنْ نَدْعُوكَ لِإظْهارِ العُبُودِيَّةِ إلى آخِرِهِ
قال الشوكاني:
{إنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ} أيْ لَمُجِيبُ الدُّعاءِ، مِن قَوْلِهِمْ: سَمِعَ كَلامَهُ إذا أجابَهُ واعْتَدَّ بِهِ وعَمِلَ بِمُقْتَضاهُ، وهو مِن إضافَةِ الصِّفَةِ المُتَضَمِّنَةِ لِلْمُبالَغَةِ إلى المَفْعُولِ، والمَعْنى: إنَّكَ لَكَثِيرُ إجابَةِ الدُّعاءِ لِمَن يَدْعُوكَ.
———–
قال تعالى
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) سوره إبراهيم
قال ابن عطية:
وقَوْلُهُ: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَلاةِ ومِن ذُرِّيَّتِي}. دَعا إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَلامُ في أمْرٍ كانَ مُثابِرًا عَلَيْهِ، مُتَمَسِّكًا بِهِ، ومَتى دَعا الإنْسانُ في مِثْلِ هَذا فَإنَّما القَصْدُ إدامَةُ ذَلِكَ الأمْرِ واسْتِمْرارِهِ
قال ابن جزي:
{رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ} إن أراد بالدعاء الطلب والرغبة فمعنى القبول: الاستجابة، وإن أراد بالدعاء العبادة، فالقبول على حقيقته.
قال البقاعي:
ولَمّا تَمَّ الحَمْدُ عَلى النِّعْمَةِ بَعْدَ الدُّعاءِ بِالتَّخَلِّي مِن مُنافِي السَّعادَةِ وخَتْمِهِ بِالحَمْدِ عَلى إجابَةِ الدُّعاءِ، انْتَهَزَ الفُرْصَةَ في إتْباعِهِ الدُّعاءَ بِالتَّحَلِّي بِحِلْيَةِ العِبادَةِ الَّتِي أخْبَرَ أنَّها قَصْدُهُ بِإسْكانِهِ مِن ذُرِّيَّتِهِ ثُمَّ إقامَتُها، إشارَةً إلى صُعُوبَتِها عَلى النَّفْسِ إلّا بِمَعُونَةِ اللَّهِ فَقالَ: {رَبِّ} أيْ أيُّها المُوجِدُ لِي المالِكَ لِأمْرِي {اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ} أيْ هَذا النَّوْعُ الدّالُّ عَلى غايَةِ الخُضُوعِ، دائِمُ الإقامَةِ لَها، وكَأنَّ اللَّهَ تَعالى أعْلَمَهُ بِأنَّهُ يَكُونُ مِن ذُرِّيَّتِهِ مَن يَكْفُرُ فَقالَ أدَبًا: {ومِن ذُرِّيَّتِي}
ولَمّا كانَتْ أعْظَمَ الأرْكانِ بَعْدَ الإيمانِ، أفْرادَ [الضَّمِيرَ] لِلدُّعاءِ بِها مُتَمَلِّقًا لِلَّهِ تَعالى بِما عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَمْ يُنْعِمْها عَلى أحَدٍ كانَ في ذَلِكَ الزَّمانِ غَيْرُهُ، كَما أشارَ إلى ذَلِكَ بِاسْمِ الرَّبِّ، [ثُمَّ زادَ] في التَّضَرُّعِ بِقَوْلِهِ: ”رَبَّنا“ أيْ أيُّها المُحْسِنُ إلَيْنا، وجَمَعَ الضَّمِيرَ المُضافَ إلَيْهِ بِالنَّظَرِ إلى مَن تَبِعَهُ مِن ذُرِّيَّتِهِ لِأنَّ ما بَعْدَهُ كَلامٌ آخَرُ، أيْ رَبِّ ورَبَّ مَن وفَّقْتَهُ بِتَرْبِيَتِكَ وإحْسانِكَ لِإقامَةِ الصَّلاةِ مِن ذُرِّيَّتِي {وتَقَبَّلْ دُعاءِ} كُلُّهُ بِذَلِكَ وغَيْرُهُ، بِأنْ تَجْعَلَهُ مَقْبُولًا جَعَلَ مِن كَأنَّهُ راغِبٌ فِيهِ مُفَتَّنٌ بِهِ.
قال ابن عاشور:
ودُعاؤُهُ بِتَقَبُّلِ دُعائِهِ ضَراعَةٌ بَعْدَ ضَراعَةٍ.
وحُذِفَتْ ياءُ المُتَكَلِّمِ في (دُعاءِ) في قِراءَةِ الجُمْهُورِ تَخْفِيفًا كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى {وإلَيْهِ مَتابِ}
قال أبوالسعود:
وتَوْحِيدُ ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ مَعَ شُمُولِ دَعْوَتِهِ لِذَرِّيَّتِهِ أيْضًا، حَيْثُ قالَ: {وَمِن ذُرِّيَّتِي} أيْ: بَعْضِهِمْ مِنَ المَذْكُورِينَ، ومَن يَسِيرُ سِيرَتَهُما مِن أوْلادِهِما لِلْإشْعارِ بِأنَّهُ المُقْتَدى في ذَلِكَ، وذَرِّيَّتُهُ أتْباعٌ لَهُ، وإنْ ذَكَرَهم بِطَرِيقِ الِاسْتِطْرادِ، لا كَما في قَوْلِهِ: {رَبَّنا إنِّي أسْكَنْتُ} … إلَخْ. فَإنَّ إسْكانَهُ مَعَ عَدَمِ تَحَقُّقِهِ بِلا مُلابَسَةٍ لِمَن أسْكَنَهُ، إنَّما هو مَذْكُورٌ بِطَرِيقِ التَّمْهِيدِ لِلدُّعاءِ، الَّذِي هو مَخْصُوصٌ بِذُرِّيَّتِهِ، وإنَّما خَصَّ هَذا الدُّعاءَ بِبَعْضِ ذُرِّيَّتِهِ، لِعِلْمِهِ مِن جِهَةِ اللَّهِ تَعالى أنَّ بَعْضًا مِنهم لا يَكُونُ مُقِيمَ الصَّلاةِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: {رَبَّنا واجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ومِن ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} {رَبَّنا وتَقَبَّلْ دُعاءِ} أيْ: دُعائِيَ هَذا، المُتَعَلِّقَ بِجَعْلِي، وجَعْلِ بَعْضِ ذُرِّيَّتِي مُقِيمِي الصَّلاةِ، ثابِتِينَ عَلى ذَلِكَ، مُجْتَنِبِينَ عَنْ عِبادَةِ الأصْنامِ. ولِذَلِكَ جِيءَ بِضَمِيرِ الجَماعَةِ.
قال السعدي:
ثم دعا لنفسه ولذريته، فقال: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ.
———–
قال تعالى
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) سوره إبراهيم
قال أبو السعود:
{رَبَّنا اغْفِرْ لِي} أيْ: ما فَرَطَ مِنِّي مِن تَرْكِ الأوْلى في بابِ الدِّينِ، وغَيْرَ ذَلِكَ مِمّا لا يَسْلَمُ مِنهُ البَشَرُ.
{وَلِوالِدَيَّ} وقُرِئَ: بِالتَّوْحِيدِ ولِأبَوِيَّ. وهَذا الِاسْتِغْفارُ مِنهُ عَلَيْهِ السَّلامُ ……
{وَلِلْمُؤْمِنِينَ} كافَّةً مِن ذُرِّيَّتِهِ وغَيْرِهِمْ. ولِلْإيذانِ بِاشْتِراكِ الكُلِّ في الدُّعاءِ بِالمَغْفِرَةِ؛ جِيءَ بِضَمِيرِ الجَماعَةِ.
{يَوْمَ يَقُومُ الحِسابُ} أيْ: يَثْبُتُ، ويَتَحَقَّقُ مُحاسَبَةُ أعْمالِ المُكَلَّفِينَ عَلى وجْهِ العَدْلِ. اسْتُعِيرَ لَهُ مِن ثُبُوتِ القائِمِ عَلى الرِّجْلِ بِالِاسْتِقامَةِ، ومِنهُ قامَتِ الحَرْبُ عَلى ساقٍ، والمُرادُ: تَهْوِيلُهُ. وقِيلَ: أُسْنِدَ إلَيْهِ قِيامُ أهْلِهِ مَجازًا، أوْ حُذِفَ المُضافُ كَما فِي: واسْألِ القَرْيَةَ. واعْلَمْ أنَّ ما حُكِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ الأدْعِيَةِ والأذْكارِ، وما يَتَعَلَّقُ بِها لَيْسَ بِصادِرٍ عَنْهُ عَلى التَّرْتِيبِ المَحْكِيِّ، ولا عَلى وجْهِ المَعِيَّةِ، بَلْ صَدَرَ عَنْهُ في أزْمِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ حُكِيَ مُرَتَّبًا لِلدَّلالَةِ عَلى سُوءِ حالِ الكَفَرَةِ بَعْدَ ظُهُورِ أمْرِهِ في المِلَّةِ، وإرْشادِ النّاسِ إلَيْها، والتَّضَرُّعِ إلى اللَّهِ تَعالى لِمَصالِحِهِمُ الدِّينِيَّةِ والدُّنْيَوِيَّةِ.
قال ابن الجوزي:
قَوْلُهُ تَعالى: {رَبَّنا اغْفِرْ لِي ولِوالِدَيَّ} قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: اسْتَغْفَرَ لِأبَوَيْهِ وهُما حَيّانِ، طَمَعًا في أنْ يُهْدَيا إلى الإسْلامِ. وقِيلَ: أرادَ بِوالِدَيْهِ: آدَمَ وحَوّاءَ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، وأُبَيٌّ، والنَّخَعِيُّ، والزُّهْرِيُّ: ” ولِوَلَدَيَّ ” يَعْنِي: إسْماعِيلَ وإسْحاقَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُهُما قَبْلَ ذَلِكَ. وقَرَأ مُجاهِدٌ: ” ولِوالِدِي ” عَلَيَّ التَّوْحِيدِ. وقَرَأ عاصِمٌ الجَحْدَرِيُّ: ” ولِوُلْدِي ” بِضَمِّ الواوِ. وقَرَأ يَحْيى بْنُ يَعْمَرَ، والجَوْنِيُّ: ” ولِوَلَدِي ” بِفَتْحِ الواوِ وكَسْرِ الدّالِ عَلى التَّوْحِيدِ. {يَوْمَ يَقُومُ الحِسابُ} أيْ: يَظْهَرُ الجَزاءُ عَلى الأعْمالِ. وقِيلَ: مَعْناهُ: يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِلْحِسابِ، فاكْتُفِيَ بِذِكْرِ الحِسابِ مِن ذِكْرِ النّاسِ إذْ كانَ المَعْنى مَفْهُومًا.
قال ابن كثير:
{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: “وَلِوَالِدِي”، عَلَى الْإِفْرَادِ وَكَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْ أَبِيهِ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ عَدَاوَتُهُ لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، {وَلِلْمُؤْمِنِينَ} أَيْ: كُلِّهِمْ {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} أَيْ: يَوْمَ تُحَاسِبُ عِبَادَكَ فَتَجْزِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ، [وَاللَّهُ أَعْلَمُ]
وبين ابن تيمية أن الله عزوجل بين عذر إبراهيم في سورة التوبة (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَة وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيم)
[سورة التوبة 114] راجع مجموع الفتاوى 145/ 1
قال السعدي:
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ فاستجاب الله له في ذلك كله إلا أن دعاءه لأبيه إنما كان عن موعدة وعده إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه.
======
سورة الإسراء:
قال تعالى
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) سورة الإسراء
قال مكي:
ثم قال تعالى: {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}.
أي: وقل: يا رب اعطف عليهما برحمتك كما عطفا عليّ في صغر [ي] فرحماني وربياني صغيراً.
قال القاسمي:
وقَوْلُهُ تَعالى: {وقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا} [الإسراء: (24)] أيْ: رَبِّ! تَعَطَّفْ عَلَيْهِما بِرَحْمَتِكَ ومغْفِرَتِكَ، كَما تَعَطَّفا عَلَيَّ في صِغَرِي، فَرَحِمانِي ورَبَّيانِي صَغِيرًا حَتّى اسْتَقْلَلْتُ بِنَفْسِي، واسْتَغْنَيْتُ عَنْهُما. انتهى
قال البقاعي:
{واخْفِضْ لَهُما}؛ ولَمّا كانَ الطّائِرُ يَخْفِضُ جَناحَهُ عِنْدَ الذُّلِّ؛ اسْتَعارَ لِتَعَطُّفِهِ عَلَيْهِما؛ رَعْيًا لِحُقُوقِهِما؛ قَوْلَهُ (تَعالى): {جَناحَ الذُّلِّ}؛ أيْ: جَناحَ ذُلِّكَ؛ وبَيَّنَ المُرادَ بِقَوْلِهِ (تَعالى): {مِنَ الرَّحْمَةِ}؛ أيْ: لا مِن أجْلِ امْتِثالِ الأمْرِ؛ وخَوْفِ العارِ فَقَطْ؛ بَلْ مِن أجْلِ الرَّحْمَةِ لَهُما؛ بِألّا تَزالَ تُذَكِّرَ نَفْسَكَ بِالأوامِرِ؛ والنَّواهِي؛ وما تَقَدَّمَ لَهُما مِنَ الإحْسانِ إلَيْكَ؛ فَصارا مُفْتَقِرَيْنِ إلَيْكَ؛ وقَدْ كُنْتَ أفْقَرَ خَلْقِ اللَّهِ إلَيْهِما؛ حَتّى يَصِيرَ ذَلِكَ خُلُقًا لازِمًا لَكَ؛ فَإنَّ النَّفْسَ لَأمّارَةٌ بِالسُّوءِ؛ وإنْ لَمْ تُقَدْ إلى الخَيْرِ بِأنْواعِ الإرْغابِ؛ والإرْهابِ؛ والإمْعانِ في النَّظَرِ في حَقائِقِ الأُمُورِ؛ وعَجائِبِ المَقْدُورِ؛ ولِذَلِكَ أتْبَعَهُ قَوْلَهُ (تَعالى) – آمِرًا بِألّا يَكْتَفِيَ بِرَحْمَتِهِ الَّتِي لا بَقاءَ لَها؛ فَإنَّ ذَلِكَ لا يُكافِئُ حَقَّهُما؛ بَلْ يَطْلُبُ لَهُما الرَّحْمَةَ الباقِيَةَ -: {وقُلْ رَبِّي}؛ أيْ: أيُّها المُحْسِنُ إلَيَّ بِعَطْفِهِما عَلَيَّ؛ حَتّى رَبَّيانِي؛ وكانا يُقَدِّمانِنِي عَلى أنْفُسِهِما؛ {ارْحَمْهُما}؛ بِكَرَمِكَ؛ بِرَحْمَتِكَ الباقِيَةِ؛ وجُودِكَ؛ كَما رَحِمْتُهُما أنا بِرَحْمَتِي القاصِرَةِ؛ مَعَ بُخْلِي؛ وما فِيَّ مِن طَبْعِ اللَّوْمِ؛ {كَما رَبَّيانِي} بِرَحْمَتِهِما لِي؛ {صَغِيرًا}؛ وهَذا مَخْصُوصٌ بِالمُسْلِمِينَ؛ بِآيَةِ: {ما كانَ لِلنَّبِيِّ} [التوبة: (113)]؛ لا مَنسُوخٌ؛ ولَقَدْ أبْلَغَ – سُبْحانَهُ – في الإيصاءِ بِهِما؛ حَيْثُ بَدَأهُ بِأنْ شَفَعَ الإحْسانَ إلَيْهِما بِتَوْحِيدِهِ؛ ونَظَمَهُ في سِلْكِهِ؛ وخَتَمَهُ بِالتَّضَرُّعِ في نَجاتِهِما؛ جَزاءً عَلى فِعْلِهِما؛ وشُكْرًا لَهُما؛ وضَيَّقَ الأمْرَ في
مُراعاتِهِما؛ حَتّى لَمْ يُرَخِّصْ في أدْنى شَيْءٍ مِنَ امْتِهانِهِما؛ مَعَ مُوجِباتِ الضَّجَرِ؛ ومَعَ أحْوالٍ لا يَكادُ يَدْخُلُ الصَّبْرُ إلَيْها في حَدِّ الِاسْتِطاعَةِ؛ إلّا بِتَدْرِيبٍ كَبِيرٍ
قال ابن تيمية:
وَعَنْ قَوْلِهِ: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} وَالذُّلُّ لَا جَنَاحَ لَهُ؟ فَيُقَالُ لَهُ: لَا رَيْبَ أَنَّ الذُّلَّ لَيْسَ لَهُ جَنَاحٌ مِثْلَ جَنَاحِ الطَّائِرِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلطَّائِرِ جَنَاحٌ مِثْلَ أَجْنِحَةِ الْمَلَائِكَةِ وَلَا جَنَاحُ الذُّلِّ مِثْلَ جَنَاحِ السَّفَرِ لَكِنَّ جَنَاحَ الْإِنْسَانِ جَانِبُهُ كَمَا أَنَّ جَنَاحَ الطَّيْرِ جَانِبُهُ وَالْوَلَدُ مَامُورٌ بِأَنْ يَخْفِضَ جَانِبَهُ لِأَبَوَيْهِ؛ وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الذُّلِّ لَهُمَا لَا عَلَى وَجْهِ الْخَفْضِ الَّذِي لَا ذُلَّ مَعَهُ وَقَدْ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وَلَمْ يَقُلْ: جَنَاحَ الذُّلِّ فَالرَّسُولُ أُمِرَ بِخَفْضِ جَنَاحِهِ وَهُوَ جَانِبُهُ وَالْوَلَدُ أُمِرَ بِخَفْضِ جَنَاحِهِ ذُلًّا فَلَا بُدَّ مَعَ خَفْضِ جَنَاحِهِ أَنْ يَذِلَّ لِأَبَوَيْهِ بِخِلَافِ الرَّسُولِ فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِالذُّلِّ فَاقْتِرَانُ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى اقْتِرَانِ مَعَانِيهِ وَإِعْطَاءِ كُلِّ مَعْنًى حَقَّهُ.
ثُمَّ إنَّهُ سُبْحَانَهُ كَمَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {مِنَ الرَّحْمَةِ} فَهُوَ جَنَاحُ ذُلٍّ مِنْ الرَّحْمَةِ لَا جَنَاحُ ذُلٍّ مِنْ الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ: إذْ الْأَوَّلُ مَحْمُودٌ وَالثَّانِي مَذْمُومٌ.
«مجموع الفتاوى» (20/ 465)
قال السعدي:
{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} أي: تواضع لهما ذلا لهما ورحمة واحتسابا للأجر لا لأجل الخوف منهما أو الرجاء لمالهما، ونحو ذلك من المقاصد التي لا يؤجر عليها العبد.
{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا} أي: ادع لهما بالرحمة أحياء وأمواتا، جزاء على تربيتهما إياك صغيرا.
وفهم من هذا أنه كلما ازدادت التربية ازداد الحق، وكذلك من تولى تربية الإنسان في دينه ودنياه تربية صالحة غير الأبوين فإن له على من رباه حق التربية.
———
قال تعالى
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) سورة الإسراء
قال ابن كثير:
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ قَابُوسُ بْنُ ((1)) أَبِي ظَبْيَان، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – بِمَكَّةَ ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا}.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ كُفَّارَ أَهْلِ مَكَّةَ لَمَّا ائْتَمَرُوا بِرَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – لِيَقْتُلُوهُ أَوْ يَطْرُدُوهُ أَوْ يُوثِقُوهُ، وَأَرَادَ اللَّهُ قِتَالَ أَهْلِ مَكَّةَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ}
وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} يَعْنِي: الْمَدِينَةَ {وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} يَعْنِي: مَكَّةَ.
وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَشْهَرُ الْأَقْوَالِ.
وَقَالَ: الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} يَعْنِي: الْمَوْتَ {وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} يَعْنِي: الْحَيَاةَ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي تَفْسِيرِهَا: وَعَدَهُ رَبُّهُ لَيَنْزَعَنَّ مُلْكَ فَارِسَ، وَعِزَّ فَارِسَ، وَلَيَجْعَلَنَّهُ لَهُ، وَمُلْكَ الرُّومِ، وَعِزَّ الرُّومِ، وَلَيَجْعَلَنَّهُ لَهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ فِيهَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -، عَلِمَ أَلَّا طَاقَةَ لَهُ بِهَذَا الْأَمْرِ إِلَّا بِسُلْطَانٍ، فَسَأَلَ سُلْطَانًا نَصِيرًا لِكِتَابِ اللَّهِ، وَلِحُدُودِ اللَّهِ، وَلِفَرَائِضِ اللَّهِ، وَلِإِقَامَةِ دِينِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ السُّلْطَانَ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ جَعَلَهُ بَيْنَ أَظْهُرِ عِبَادِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَغَارَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَأَكَلَ شَدِيدُهُمْ ضَعِيفَهُمْ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: {سُلْطَانًا نَصِيرًا} حُجَّةً بَيِّنَةً.
وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ قَوْلَ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَهُوَ الْأَرْجَحُ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَ الْحَقِّ مِنْ قَهْرٍ لِمَنْ عَادَاهُ وناوأه؛ ولهذا قال [سبحانه و] تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَاسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الْحَدِيدِ: (25)] وَفِي الْحَدِيثِ: “إِنَّ اللَّهَ لَيَزَع بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ” أَيْ: لَيَمْنَعُ بِالسُّلْطَانِ عَنِ ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ وَالْآثَامِ، مَا لَا يَمْتَنِعُ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ بِالْقُرْآنِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ الْأَكِيدِ، وَالتَّهْدِيدِ الشَّدِيدِ، وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ.
قال ابن عطية:
ظاهر هذه الآية والأحسن فيها أن يكون دعاء في أن يحسن الله حالته في كل ما يتناول من الأمور ويحاول من الأسفار والأعمال وينتظر من تصرف المقادير في الموت والحياة، فهي على أتم عموم، معناه رَبِّ أصلح لي وردي في كل الأمور وصدري، وذهب المفسرون إلى أنها في غرض مخصوص، ثم اختلفوا في تعيينه، فقال ابن عباس والحسن وقتادة: أراد أَدْخِلْنِي المدينة وَأَخْرِجْنِي من مكة، وتقدم في هذا التأويل المتأخر في الوقوع، فإنه متقدم في القول لأن الإخراج من مكة هو المتقدم، اللهم إن مكان الدخول والقرار هو الأهم، وقال أبو صالح ومجاهد: أَدْخِلْنِي في أمر تبليغ الشرع وَأَخْرِجْنِي منه بالأداء التام، وقال ابن عباس: الإدخال بالموت في القبر والإخراج البعث، وما قدمت من العموم التام الذي يتناول هذا كله، أصوب (المحرر الوجيز 3/ 479)
قال القرطبي:
وَقِيلَ: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَا يُتَنَاوَلُ مِنَ الْأُمُورِ وَيُحَاوَلُ مِنَ الْأَسْفَارِ وَالْأَعْمَالِ، وَيُنْتَظَرُ مِنْ تَصَرُّفِ الْمَقَادِيرِ فِي الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ. فَهِيَ دُعَاءٌ، وَمَعْنَاهُ: رَبِّ أَصْلِحْ لي وِرْدِي في كل الأمور وقوله: (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) قَالَ الشَّعْبِيُّ وَعِكْرِمَةُ: أَيْ حُجَّةً ثَابِتَةً. وَذَهَبَ الْحَسَنُ إِلَى أَنَّهُ الْعِزُّ وَالنَّصْرُ وَإِظْهَارُ دِينِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ. قَالَ: فَوَعَدَهُ اللَّهُ لَيَنْزِعَنَّ مُلْكَ فارس والروم وغيرها فيجعله له.
قال ابن القيم بعد أن ذكر الآيات التي ورد فيها وصف الصدق لبعض الأشياء: فَهَذِهِ خَمْسَةُ أشْياءَ: مُدْخَلُ الصِّدْقِ، ومُخْرَجُ الصِّدْقِ. ولِسانُ الصِّدْقِ، وقَدَمُ الصِّدْقِ، ومَقْعَدُ الصِّدْقِ
وَحَقِيقَةُ الصِّدْقِ في هَذِهِ الأشْياءِ: هو الحَقُّ الثّابِتُ، المُتَّصِلُ بِاللَّهِ، المُوَصِّلُ إلى اللَّهِ. وهو ما كانَ بِهِ ولَهُ، مِنَ الأقْوالِ والأعْمالِ. وجَزاءُ ذَلِكَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ.
ثم بينها بالأدلة والأمثلة أحسن بيان ومما ذكر عن مدخل الصدق ومخرج الصدق:
فَمُدْخَلُ الصِّدْقِ، ومُخْرَجُ الصِّدْقِ: أنْ يَكُونَ دُخُولُهُ وخُرُوجُهُ حَقًّا ثابِتًا بِاللَّهِ، وفي مَرْضاتِهِ. بِالظَّفَرِ بِالبُغْيَةِ، وحُصُولِ المَطْلُوبِ، ضِدَّ مُخْرَجِ الكَذِبِ ومُدْخَلِهِ الَّذِي لا غايَةَ لَهُ يُوَصَلُ إلَيْها. ولا لَهُ ساقٌ ثابِتَةٌ يَقُومُ عَلَيْها. كَمُخْرَجِ أعْدائِهِ يَوْمَ بَدْرٍ. ومُخْرَجُ الصِّدْقِ كَمُخْرَجِهِ – صلى الله عليه وسلم – هو وأصْحابُهُ في تِلْكَ الغَزْوَةِ.
وَكَذَلِكَ مُدْخَلُهُ – صلى الله عليه وسلم – المَدِينَةَ: كانَ مُدْخَلُ صِدْقٍ بِاللَّهِ، ولِلَّهِ، وابْتِغاءَ مَرْضاةِ اللَّهِ. فاتَّصَلَ بِهِ التَّايِيدُ، والظَّفَرُ والنَّصْرُ، وإدْراكُ ما طَلَبَهُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، بِخِلافِ مُدْخَلِ الكَذِبِ الَّذِي رامَ أعْداؤُهُ أنْ يَدْخُلُوا بِهِ المَدِينَةَ يَوْمَ الأحْزابِ. فَإنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِاللَّهِ، ولا لِلَّهِ. بَلْ كانَ مُحادَّةً لِلَّهِ ورَسُولِهِ، فَلَمْ يَتَّصِلْ بِهِ إلّا الخِذْلانُ والبَوارُ.
وَكَذَلِكَ مُدْخَلُ مَن دَخَلَ مِنَ اليَهُودِ المُحارِبِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – حِصْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ. فَإنَّهُ لَمّا كانَ مُدْخَلَ كَذِبٍ: أصابَهُ مَعَهم ما أصابَهم.
فَكُلُّ مُدْخَلٍ مَعَهم ومُخْرَجٍ كانَ بِاللَّهِ ولِلَّهِ. فَصاحِبُهُ ضامِنٌ عَلى اللَّهِ. فَهو مُدْخَلُ صِدْقٍ، ومُخْرَجُ صِدْقٍ.
وَكانَ بَعْضُ السَّلَفِ إذا خَرَجَ مِن دارِهِ: رَفَعَ رَأسَهُ إلى السَّماءِ، وقالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ أنْ أُخْرَجَ مُخْرَجًا لا أكُونُ فِيهِ ضامِنًا عَلَيْكَ.
يُرِيدُ: أنْ لا يَكُونَ المُخْرَجُ مُخْرَجَ صِدْقٍ. ولِذَلِكَ فُسِّرَ مُدْخَلُ الصِّدْقِ ومُخْرَجُهُ: بِخُرُوجِهِ – صلى الله عليه وسلم – مِن مَكَّةَ، ودُخُولِهِ المَدِينَةَ. ولا رَيْبَ أنَّ هَذا عَلى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ. فَإنَّ هَذا المُدْخَلَ والمُخْرَجَ مِن أجَلِّ مَداخِلِهِ ومَخارِجِهِ – صلى الله عليه وسلم -. وإلّا فَمَداخِلُهُ كُلُّها مَداخِلُ صِدْقٍ، ومَخارِجُهُ مَخارِجُ صِدْقٍ. إذْ هي لِلَّهِ وبِاللَّهِ وبِأمْرِهِ، ولِابْتِغاءِ مَرْضاتِهِ.
وَما خَرَجَ أحَدٌ مِن بَيْتِهِ ودَخَلَ سُوقَهُ – أوْ مُدْخَلًا آخَرَ – إلّا بِصِدْقٍ أوْ بِكَذِبٍ، فَمُخْرَجُ كُلِّ واحِدٍ ومُدْخَلُهُ: لا يَعْدُو الصِّدْقَ والكَذِبَ. واللَّهُ المُسْتَعانُ.
قال القاسمي:
وقَدْ رَأى المَهايِمِيُّ اِرْتِباطَ اَلْآيَةِ بِما قَبْلَها في مَعْناها حَيْثُ قالَ: {وقُلْ رَبِّ أدْخِلْنِي} أيْ: في هَذِهِ اَلْعِباداتِ، فَإنَّها لا تُوَصِّلُكَ إلى اَلْمَقامِ اَلْمَحْمُودِ، إلّا إذا صَدَقَ دُخُولُكَ فِيها وخُرُوجُكَ عَنْها، ولا يَتِمُّ إلّا بِإمْدادِ اَللَّهِ بَعْدَ اِسْتِمْدادِكَ مِنهُ. وقَوْلُكَ: {رَبِّ أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} أيْ: بِمُشاهَدَتِكَ في هَذِهِ اَلْعِباداتِ، وتَخْلِيَتِي عَنِ اَلرِّياءِ والعُجْبِ، وتَصْفِيَتِي بِإخْلاصِ اَلْعَمَلِ، وإخْلاصِ طَلَبِ اَلْأجْرِ، ورُؤْيَةِ اَلْمِنَّةِ لِلَّهِ، ورُؤْيَةِ اَلتَّقْصِيرِ فِيها: {وأخْرِجْنِي} عَنْها: {مُخْرَجَ صِدْقٍ} فَلا تَسْتَعْمِلْنِي فِيما يُحْبِطُها عَلَيَّ، ولا تَرُدَّنِي عَلى نَفْسِي. وإذا غَلَبَنِي اَلشَّيْطانُ أوِ اَلنَّفْسُ أوِ اَلْخَلْقُ، أوْ ورَدَتْ عَلَيَّ شُبْهَةٌ، فاجْعَلْ لِي مِن لَدُنْكَ، لا مِن عِنْدِ فِكْرِي: {سُلْطانًا} أيْ: حُجَّةً: {نَصِيرًا} يَنْصُرُنِي عَلى ما ذُكِرَ؛ لِيُبْقِيَ عَلَيَّ عِبادَتِي فَيُوَصِّلُنِي إلى اَلْمَقامِ اَلْمَحْمُودِ. اِنْتَهى.
واللَّفْظُ اَلْكَرِيمُ مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ. ويَظْهَرُ لَنا أنَّهُ إشارَةٌ لِلْهِجْرَةِ كَما سَتَراهُ. انتهى
تنبيه: يقصد بالآية السابقة قوله تعالى:
(وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَة لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاما مَّحْمُودا)
[سورة الإسراء 79]
قال ابن عاشور:
وقَدْ عَمَّتْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ جَمِيعَ المَداخِلِ إلى ما يُقَدَّرُ لَهُ الدُّخُولُ إلَيْهِ وجَمِيعَ المَخارِجِ الَّتِي يَخْرُجُ مِنها حَقِيقَةً أوْ مَجازًا، وعَطَفَ عَلَيْهِ سُؤالَ التَّايِيدِ والنَّصْرِ في تِلْكَ المَداخِلِ والمَخارِجِ وغَيْرِها مِن الأقْطارِ النّائِيَةِ والأعْمالِ القائِمِ بِها غَيْرُهُ مِن أتْباعِهِ وأعْدائِهِ بِنَصْرِ أتْباعِهِ وخَذْلِ أعْدائِهِ.
قال السعدي:
{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} أي: اجعل مداخلي ومخارجي كلها في طاعتك وعلى مرضاتك، وذلك لتضمنها الإخلاص وموافقتها الأمر.
{وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} أي: حجة ظاهرة، وبرهانًا قاطعًا على جميع ما آتيه وما أذره.
وهذا أعلى حالة ينزلها الله العبد، أن تكون أحواله كلها خيرًا ومقربة له إلى ربه، وأن يكون له -على كل حالة من أحواله- دليلاً ظاهرًا، وذلك متضمن للعلم النافع، والعمل الصالح، للعلم بالمسائل والدلائل.
———
سورة الكهف:
قال تعالى
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) سورة الكهف
تضرعوا لله بربوبيته وسألوا الله التيسير في أمورهم والهداية
قال الطبري:
القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ((10))}
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد – صلى الله عليه وسلم – أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا) حين أوى الفتية أصحاب الكهف إلى كهف الجبل، هربا بدينهم إلى الله، فقالوا إذ أووه: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} رغبة منهم إلى ربهم، في أن يرزقهم من عنده رحمة، وقوله (وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) يقول: وقالوا: يسر لنا بما نبتغي وما نلتمس من رضاك والهرب من الكفر بك، ومن عبادة الأوثان التي يدعونا إليها قومنا، {رَشَدا} يقول: سدادا إلى العمل بالذي تحبّ …..
ثم ذكر اختلاف أهل العلم في سبب مصير هؤلاء الفِتية إلى الكهف الذي ذكره الله في كتابه، فقال بعضهم ….. فذكر الأقوال.
قال ابن القيم:
{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَة وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدا} [الكهف (10)]
* (فصل)
إذا سلم العبد من فتنة الشبهات والشهوات حصل له أعظم غايتين مطلوبتين، بهما سعادته وفلاحه وكماله. وهما الهدى، والرحمة.
قال تعالى عن موسى وفتاه:
{فَوَجَدا عَبْدًا مِن عِبادنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِن عِنْدِنا وعَلَّمْناهُ مِن لَدُنّا عِلْمًا} [الكهف: (65)].
فجمع له بين الرحمة والعلم، وذلك نظير قول أصحاب الكهف: {رَبَّنا آتِنا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً وهَيِّئْ لَنا مِن أمْرِنا رَشَدًا} [الكهف: (10)].
فإن الرشد هو العلم بما ينفع، والعمل به. والرشد والهدى إذا أفرد كل منها تضمن الآخر، وإذا قرن أحدهما. فالهدى هو العلم بالحق. والرشد هو العمل به وضدهما الغى واتباع الهوى.
وقد يقابل الرشد بالضر والشر. قال تعالى: {قُلْ إنِّي لا أمْلِكُ لَكم ضَرا ولا رَشَدًا} [الجن: (21)].
وقال مؤمنو الجن: {وَأنّا لا نَدْرِي أشَر أُرِيدَ بِمَن في الأرْضِ أمْ أرادَ بِهِمْ رَبُّهم رَشَدًا} [الجن: (10)].
فالرشد يقابل الغي، كما في قوله: {وَإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخذُوهُ سَبِيلًا، وإنْ يَروْا سَبيلَ الغى يَتَّخِذوهُ سَبِيلًا} [الأعراف: (146)].
ويقابل الضر والشر كما تقدم، وذلك لأن الغي سبب حصول الشر والضر ووقوعهما بصاحبه.
فالضر والشر غاية البغي وثمرته، كما أن الرحمة والفلاح غاية الهدى وثمرته.
فلهذا يقابل كل منهما بنقيضه وسبب نقبضه، فيقابل الهدى بالضلال، كقوله: {يُضِلُّ مَن يَشاءُ ويَهْدِي مَن يَشاء} [النحل: (93)] وقوله {إنْ تَحْرصْ عَلى هُداهم فَإنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَن يُضِلُّ} [النحل: (37)] وهو كثير.
ويقابل بالضلال والعذاب. كقوله: {فَمنِ اتَّبَعَ هُداى فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقى} [طه: (123)].
فقابل الهدى بالضلال والشقاء.
وجمع سبحانه بين الهدى والفلاح، والهدى والرحمة، كما يجمع بين الضلال والشقاء والضلال والعذاب: كقوله: {إنّ المُجْرِمِينَ في ضَلاَلٍ وسُعُرٍ} [القمر: (47)].
فالضلال ضد الهدى، والسعر العذاب، وهو ضد الرحمة.
وقال: {وَمَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعيِشَةً ضَنْكًا ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمَي} [طه: (124)].
والمقصود: أن من سلم من فتنة الشبهات والشهوات جمع له بين الهدى والرحمة، والهدى والفلاح.
قال تعالى عن أوليائه: {رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا وهَبْ لَنا مِن لَدُنْكَ رَحْمَة إنّكَ أنت الوَهّابُ} [آل عمران: (8)] ……. وذكر آيات مشابهة لهذا المعنى
قال الشنقيطي:
قَوْلُهُ تَعالى: {إذْ أوى الفِتْيَةُ إلى الكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً وهَيِّئْ لَنا مِن أمْرِنا رَشَدًا}.
ذَكَرَ جَلَّ وعَلا في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ مِن صِفَةِ أصْحابِ الكَهْفِ أنَّهم فِتْيَةٌ، وأنَّهم أوَوْا إلى الكَهْفِ، وأنَّهم دَعَوْا رَبَّهم هَذا الدُّعاءَ العَظِيمَ الشّامِلَ لِكُلِّ خَيْرٍ، وهو قَوْلُهُ عَنْهم: {رَبَّنا آتِنا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً وهَيِّئْ لَنا مِن أمْرِنا رَشَدًا} [الكهف: (10)].
وَبَيِّنَ في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ أشْياءَ أُخْرى مِن صِفاتِهِمْ وأقْوالِهِمْ؛ كَقَوْلِهِ: {إنَّهم فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وزِدْناهم هُدًى} – إلى قَوْلِهِ – {يَنْشُرْ لَكم رَبُّكم مِن رَحْمَتِهِ ويُهَيِّئْ لَكم مِن أمْرِكم مِرفَقًا} [الكهف: (13) – (16)] و إذْ في قَوْلِهِ هُنا: {إذْ أوى الفِتْيَةُ} [الكهف: (10)] مَنصُوبَةٌ بِـ اذْكُرْ مُقَدَّرًا، وقِيلَ: بِقَوْلِهِ: عَجَبًا، ومَعْنى قَوْلِهِ: {إذْ أوى الفِتْيَةُ إلى الكَهْفِ} [الكهف: (10)]، أيْ جَعَلُوا الكَهْفَ مَاوًى لَهم ومَكانَ اعْتِصامٍ.
وَمَعْنى قَوْلِهِ: {آتِنا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً}، أيْ أعْطِنا رَحْمَةً مِن عِنْدِكَ، والرَّحْمَةُ هُنا تَشْمَلُ الرِّزْقَ والهُدى والحِفْظَ مِمّا هَرَبُوا خائِفِينَ مِنهُ مِن أذى قَوْمِهِمْ، والمَغْفِرَةَ.
والفِتْيَةُ: جَمْعُ فَتًى جَمْعُ تَكْسِيرٍ، وهو مِن جُمُوعِ القِلَّةِ، ويَدُلُّ لَفْظُ الفِتْيَةِ عَلى قِلَّتِهِمْ، وأنَّهم شَبابٌ لا شِيبَ، خِلافًا لِما زَعَمَهُ ابْنُ السَّرّاجِ مِن: أنَّ الفِتْيَةَ اسْمُ جَمْعٍ لا جَمْعَ تَكْسِيرٍ، وإلى كَوْنِ … مِثْلِ الفِتْيَةِ جَمْعَ تَكْسِيرٍ مِن جُمُوعِ القِلَّةِ، أشارَ ابْنُ مالِكٍ في الخُلاصَةِ بِقَوْلِهِ:
أفْعِلَةٌ أفْعُلٌ ثُمَّ فِعْلَهْ كَذاكَ أفْعالٌ جُمُوعِ قِلَّةْ
والتَّهْيِئَةُ: التَّقْرِيبُ والتَّيْسِيرُ، أيْ يَسِّرْ لَنا وقَرِّبْ لَنا مِن أمْرِنا رَشَدًا، والرَّشَدُ: الِاهْتِداءُ والدَّيْمُومَةُ عَلَيْهِ. و مِن في قَوْلِهِ: مِن أمْرِنا فِيها وجْهانِ: أحَدُهُما أنَّها هُنا لِلتَّجْرِيدِ، وعَلَيْهِ فالمَعْنى: اجْعَلْ لَنا أمْرَنا رَشَدًا كُلَّهُ، كَما تَقُولُ: لَقِيتُ مِن زَيْدٍ أسَدًا. ومِن عَمْرٍو بَحْرًا.
والثّانِي أنَّها لِلتَّبْعِيضِ، وعَلَيْهِ فالمَعْنى: واجْعَلْ لَنا بَعْضَ أمْرِنا؛ أيْ وهو البَعْضُ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ مِن مُفارَقَةِ الكَفّارِ، رَشَدًا، حَتّى نَكُونَ بِسَبَبِهِ راشِدِينَ مُهْتَدِينَ.
قال ابن عاشور:
والمُرادُ بِالفِتْيَةِ: أصْحابُ الكَهْفِ، وهَذا مِنَ الإظْهارِ في مَقامِ الإضْمارِ؛ لِأنَّ مُقْتَضى الظّاهِرِ أنْ يُقالَ: إذْ أوَوْا، فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ لِما يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الفِتْيَةِ مِن كَوْنِهِمْ أتْرابًا مُتَقارِبِي السِّنِّ، وذَكَرَهم بِهَذا الوَصْفِ لِلْإيماءِ إلى ما فِيهِ مِنِ اكْتِمالِ خَلْقِ الرُّجُولِيَّةِ المُعَبَّرِ عَنْهُ بِالفُتُوَّةِ الجامِعِ لِمَعْنى سَدادِ الرَّايِ، وثَباتِ الجَاشِ، والدِّفاعِ عَنِ الحَقِّ، ولِذَلِكَ عَدَلَ عَنِ الإضْمارِ، فَلَمْ يَقِلْ: إذْ أوَوْا إلى الكَهْفِ.
ودَلَّتِ الفاءُ في جُمْلَةِ فَقالُوا عَلى أنَّهم لَمّا أوَوْا إلى الكَهْفِ، بادَرُوا بِالِابْتِهالِ إلى اللَّهِ.
ودَعَوُا اللَّهَ أنْ يُؤْتِيَهم رَحْمَةً مِن لَدُنْهُ، وذَلِكَ جامِعٌ لِخَيْرِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، أيْ أنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ بِرَحْمَةٍ عَظِيمَةٍ تُناسِبُ عِنايَتَهُ بِاتِّباعِ الدِّينِ الَّذِي أمَرَ بِهِ، فَزِيادَةُ مِن لَدُنْكَ لِلتَّعَلُّقِ بِفِعْلِ الإيتاءِ، تُشِيرُ إلى ذَلِكَ؛ لِأنَّ في (مِن) مَعْنى الِابْتِداءِ وفي (لَدُنْ) مَعْنى العِنْدِيَّةِ والِانْتِسابِ إلَيْهِ، فَذَلِكَ أبْلَغُ مِمّا لَوْ قالُوا: آتِنا رَحْمَةً؛ لِأنَّ الخَلْقَ كُلَّهم بِمَحَلِّ الرَّحْمَةِ مِنَ اللَّهِ، ولَكِنَّهم سَألُوا رَحْمَةً خاصَّةً وافِرَةً في حِينِ تَوَقُّعِ ضِدِّها، وقَصَدُوا الأمْنَ عَلى إيمانِهِمْ مِنَ الفِتْنَةِ، ولِئَلّا يُلاقُوا في اغْتِرابِهِمْ مَشَقَّةً وألَمًا، وأنْ لا يُهِينَهم أعْداءُ الدِّينِ فَيَصِيرُوا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الكافِرِينَ.
ثُمَّ سَألُوا اللَّهَ أنْ يُقَدِّرَ لَهم أحْوالًا تَكُونُ عاقِبَتُها حُصُولَ ما خَوَّلَهم مِنَ الثَّباتِ عَلى الدِّينِ الحَقِّ، والنَّجاةِ مِن مُناوَأةِ
المُشْرِكِينَ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ التَّقْدِيرِ بِالتَّهْيِئَةِ الَّتِي هي إعْدادُ أسْبابِ حُصُولِ الشَّيْءِ.
و (مِن) في قَوْلِهِ {مِن أمْرِنا} ابْتِدائِيَّةٌ.
والأمْرُ هُنا: الشَّانُ والحالُ الَّذِي يَكُونُونَ فِيهِ، وهو مَجْمُوعُ الإيمانِ والِاعْتِصامِ إلى مَحَلِّ العُزْلَةِ عَنْ أهْلِ الشِّرْكِ، وقَدْ أعَدَّ اللَّهُ لَهم مِنَ الأحْوالِ ما بِهِ رُشْدُهم، فَمِن ذَلِكَ صَرْفُ أعْدائِهِمْ عَنْ تَتَبُّعِهِمْ، وأنْ ألْهَمَهم مَوْضِعَ الكَهْفِ، وأنْ كانَ وضْعُهُ عَلى جِهَةٍ صالِحَةٍ بِبَقاءِ أجْسامِهِمْ سَلِيمَةً، وأنْ أنامَهم نَوْمًا طَوِيلًا لِيَمْضِيَ عَلَيْهِمُ الزَّمَنُ الَّذِي تَتَغَيَّرُ فِيهِ أحْوالُ المَدِينَةِ، وحَصَلَ رُشْدُهم إذْ ثَبَتُوا عَلى الدِّينِ الحَقِّ، وشاهَدُوهُ مَنصُورًا مُتَّبَعًا، وجَعَلَهم آيَةً لِلنّاسِ عَلى صِدْقِ الدِّينِ، وعَلى قُدْرَةِ اللَّهِ، وعَلى البَعْثِ.
والرَّشَدُ بِفَتْحَتَيْنِ: الخَيْرُ وإصابَةُ الحَقِّ والنَّفْعُ والصَّلاحُ، وقَدْ تَكَرَّرَ في سُورَةِ الجِنِّ بِاخْتِلافِ هَذِهِ المَعانِي، والرُّشْدُ بِضَمِّ الرّاءِ وسُكُونِ الشِّينِ مُرادِفُ الرَّشَدِ، وغُلِّبَ في حُسْنِ تَدْبِيرِ المالِ، ولَمْ يُقْرَا هَذا اللَّفْظُ هُنا في القِراءاتِ المَشْهُورَةِ إلّا بِفَتْحِ الرّاءِ
قال السعدي:
ثم ذكر قصتهم مجملة، وفصلها بعد ذلك فقال: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ} أي: الشباب، {إِلَى الْكَهْفِ} يريدون بذلك التحصن والتحرز من فتنة قومهم لهم، {فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} أي تثبتنا بها وتحفظنا من الشر، وتوفقنا للخير {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} أي: يسر لنا كل سبب موصل إلى الرشد، وأصلح لنا أمر ديننا ودنيانا، فجمعوا بين السعي والفرار من الفتنة، إلى محل يمكن الاستخفاء فيه، وبين تضرعهم وسؤالهم لله تيسير أمورهم، وعدم اتكالهم على أنفسهم وعلى الخلق، فلذلك استجاب الله دعاءهم
——-
من الزيادات
قال تعالى
{ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَا ءً خَفِيّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائكَ رَبِّ شَقِيّا (4)} [مريم (2) – (4)]
قال الطبري:
وقوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا}
يقول حين دعا ربه، وسأله بنداء خفي، يعنى: وهو مستسرّ بدعائه ومسألته إياه ما سأل، كراهة منه للرياء.
وقوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}
يقول: ولم أشق يا رب بدعائك، لأنك لم تخيب دعائي قبل إذ كنت أدعوك في حاجتي إليك، بل كنت تجيب وتقضي حاجتي قبلك.
قال ابن كثير:
قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّمَا أَخْفَى دُعَاءَهُ، لِئَلَّا يُنْسَبَ فِي طَلَبِ الْوَلَدِ إِلَى الرُّعُونَةِ لِكِبَرِهِ. حَكَاهُ المَاوَرْدِيُّ.
وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا أَخْفَاهُ لِأَنَّهُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ. كَمَا قَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا}: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْقَلْبَ التَّقِيَّ، وَيَسْمَعُ الصَّوْتَ الْخَفِيَّ.
{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} أَيْ: ضَعُفَتْ ((5)) وَخَارَتِ الْقُوَى، {وَاشْتَعَلَ الرَّاسُ شَيْبًا} أَيِ اضْطَرَمَ الْمَشِيبُ فِي السَّوَادِ
وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا: الْإِخْبَارُ عَنِ الضَّعْفِ وَالْكِبَرِ، وَدَلَائِلِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ
وَقَوْلُهُ: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} أَيْ: وَلَمْ أَعْهَدْ مِنْكَ إِلَّا الْإِجَابَةَ ((9)) فِي الدُّعَاءِ، وَلَمْ تَرُدَّنِي قَطُّ فِيمَا سَأَلْتُكَ.
قال ابن تيمية:
وأمّا قَوْلُ زَكَرِيّا {ولَمْ أكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} فَقَدْ قِيلَ: إنّهُ دُعاءُ المَسْألَةِ والمَعْنى: أنَّك عَوَّدْتَنِي إجابَتَك ولَمْ تُشْقِنِي بِالرَّدِّ والحِرْمانِ؛ فَهُوَ تَوَسُّلٌ إلَيْهِ بِما سَلَفَ مِن إجابَتِهِ وإحْسانِهِ وهَذا ظاهِرٌ هاهُنا. وأمّا قَوْله تَعالى {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} الآيَةُ: فَهَذا الدُّعاءُ: المَشْهُورُ أنَّهُ دُعاءُ المَسْألَةِ وهُوَ سَبَبُ النُّزُولِ. قالُوا: كانَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يَدْعُو رَبَّهُ فَيَقُولُ مَرَّةً: «يا اللَّهُ» ومَرَّةً «يا رَحْمَنُ» فَظَنَّ المُشْرِكُونَ أنَّهُ يَدْعُو إلَهَيْنِ فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ. وأمّا قَوْلُهُ {إنّا كُنّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إنّهُ هُوَ البَرُّ الرَّحِيمُ} فَهَذا دُعاءُ العِبادَةِ المُتَضَمِّنُ لِلسُّلُوكِ رَغْبَةً ورَهْبَةً والمَعْنى: إنّا كُنّا نُخْلِصُ لَهُ العِبادَةَ؛ وبِهَذا اسْتَحَقُّوا أنْ وقاهُمْ اللَّهُ عَذابَ السُّمُومِ لا بِمُجَرَّدِ السُّؤالِ المُشْتَرَكِ بَيْنَ النّاجِي وغَيْرِهِ؛ فَإنَّهُ سُبْحانَهُ يَسْألُهُ مَن فِي السَّمَواتِ
مجموع الفتاوى (15) / (14)
قال السعدي: فتوسل إلى الله تعالى بضعفه وعجزه، وهذا من أحب الوسائل إلى الله، لأنه يدل على التبري من الحول والقوة، وتعلق القلب بحول الله وقوته.
{وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ْ} أي: لم تكن يا رب تردني خائبا ولا محروما من الإجابة، بل لم تزل بي حفيا ولدعائي مجيبا، ولم تزل ألطافك تتوالى علي، وإحسانك واصلا إلي، وهذا توسل إلى الله بإنعامه عليه، وإجابة دعواته السابقة، فسأل الذي أحسن سابقا، أن يتمم إحسانه لاحقا. انتهى
—-
—-