49 لطائف التفسير
جمع سيف بن دورة الكعبي
طباعة أم بناتي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان رحمه الله ووالديهم ووالدينا)
———”———”———‘
لطيفة:
قال تعالى: (ورضوان من الله أكبر ذلك هوالفوز العظيم” [التوبة71 – 72]
——-
مبحث للشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، اللهم لك الحمد على كل نعمة أنعمت بها علينا في قديم وحديث، أو سرّ أو علانية، أو خاصة أو عامة؛ لك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد بالمعافاة، اللهم لك الحمد بالأهل والولد والمال، اللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله –صلى الله عليه وسلم-، وعلى اله وصحبه اجمعين، اما بعد: فإن موضوع هذه الرسالة يُعد من أعظم الموضوعات، وأجلّها على الإطلاق، وهو تأمل وتدبر في قول ربنا جل شأنه:- “ورضوان من الله أكبر ” [التوبة:72]، وهو جزء من آيه في سورة التوبة، ومن المهم بين يدي هذا الموضوع أن نقف قليلاً متأملين في السياق الذي وردت فيه هذه الآية إتمامًا للمعنى وتكميلًا للفائدة، وهو سياق اشتمل على بيان مكانة المؤمنين العلية، ومنزلته الرفيعة، وما هم عليه من جد واجتهاد وعمل في نيل مرضاة الله –سبحانه وتعالى-، ثم بيان ما أعدّه – تبارك وتعالى – لهم من كرامات، ما هيأه لهم من أجر كبير وثواب عظيم؛ قال الله –سبحانه وتعالى-: ” وَالمُؤمِنُونَ وَالْمُؤمنث بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أؤليك سيرحمهم الله إنّ الله عزيز حكيم () ما وعد الله المؤمنين والمؤمنلت جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ومسكن طيّبة فى جنت عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هوالفوز العظيم” [التوبة71 – 72].
فذكر – جل وعلا – أوّلا أعمالهم من طاعة لله –سبحانه وتعالى- ورسوله –صلى الله عليه وسلم-، وقيام بفرائض الإسلام، وواجبات الدين، وعمل على تبيان دين الله نصحا لعباده، وأمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر، ثم أتبع ذلك – جل شأنه – بذكر ما اعد لهم من ثواب بترتيب بديع؛ بدأ بذكر ما أعدّ لهم من جنات تجري من تحتها الأنهار، ثم ذكر المساكن العظيمة، والغرفات العلية التى أعدّها لهم نزلا ومسكنًا في تلكم الجنات، ثم ذكر الكرامة الكبرى، والمنة العظمى، ألا وهي رضوانه – تبارك وتعالى – عنهم قال: “ورضون من الله أكبر “، ثم ختم السياق بقوله: «وذلك هو الفوز العظيم ” ولم يذكرالمفضل عليه بعد قوله: «أكبر» للعلم، به وبيانا لعظم رضوان الله –سبحانه وتعالى-، وجلالة شأنه، وأنه أكبر من كل نعيم، وأجل من كل عطية، وذلك أن رضوان الله–سبحانه وتعالى- صفة من صفاته –عز وجل-، وجنته وما فيها من كرامات وعطايا وهبات مخلوق من مخلوقات الله –سبحانه وتعالى-، فرضوان الله أكبر من الجنة، وأكبر من كل نعيم فيها إذ هو أعظم كرامة وأجل عطية.
ويوضح هذا المعنى في الآية -وإن كان واضحًا ظاهرًا – ما خرجه البخاري ومسلم في (صحيحيهما) من حديث ابي سعيد الخدرى –رضي الله عنه- أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: “إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: ياأهل الجنّة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضييُم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى، وقد أعطيَتنا ما لم تعط أحَدًا من خلقك! فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا يارب، وأي شيءٍ أفضل من ذلك! فيقول: أحل عَلَيكم رضواني فلا أسخط عَليْكُمْ بعَدَهُ أبَدًا” وروى الحاكم عن جابر بن عبدالله –رضي الله عنهما- أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال: يقول الله –عز وجل-: هل تشتهون شيئًا فَازيدُكُمْ؟ فيقولون: ربنا وما فوق ما أعطيتنا؟ قال: يقول: رضوان أكبر) أي أكبر من الجنة وما فيها.
وقال الحسن البصري: «يصل إلى قلوبهم من رضوان الله من اللذة والسرور ما هو ألذ عندهم وأقر لأعينهم من كل شيء أصابوه من لذة الجنة ”
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: «تأملتُ أنفع الدّعاء فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في} إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ {[سورة الفاتحة، الآية: 5].
فطلب العون من الله –سبحانه وتعالى- على نيل مرضاته –جل شأنه – هو أجل مطلب، وأكبر مقصد، وانبل هدف، وأسمى غاية، وأعظم أمر شمّر في نيله المشمرون، وسعوا في تحصيله؛ «ولذلك كان الرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا ومستراح العارفين وحياة المحبين ونعيم العابدين وقرة عيون المشتاقين».
فينبغي على كل مسلم أن يودع هذه الآية الكريمة في قلبه، وأن يحرص على حضورها في ذهنه في كل مقام، وفي كل موقف، وفي كل حال؛ لأن هذه الآية إذا قامت في القلب، وكان ما دلت عليه هو هدف الإنسان، وغايته ومطلبه؛ فإن أحواله كلها تصلح، وأموره كلها تزين.
وقوله –سبحانه وتعالى-: «ورضوان من الله أكبر» هذا الموضع فيه لطائف عظيمة تدل على عظم هذا الرضوان، ورفعة شأنه، أشار إليها علماء التفسير في كتبهم –رحمهم الله ونفع بجهودهم- من ذلكم:
* أن عطف الرضوان على ما قبله جاء عطف جملة، ولم يأت مفرد، وهذا فيه إشارة إلى ان هذا فضل مستقل مختلف تماما عما ذكر قبله، وهو نعيم الجنة.
* ثم إنه قال: «ورضوان» بالتنكير، وهذا يفيد التعظيم، وفخامة الرضوان، وعلوّ شأنه.
* وأيضًا جاء منوّنا، والتنوين يفيد التعظيم.
* وجاء مرفوعا كرفعة شأن الرضوان، وعلوّ شأنه.
* ثم إنه –جل شأنه- قال: “ورضوان من الله ” ولم يقل:”منه”؛ وفي إظهار اسم الجلالة في هذا المقام إيماء إلى عظمة هذا الرضوان المضاف إلى الله –سبحانه وتعالى-.
* ثم إنه – جل شأنه – قال: «ورضوان من الله أكبر» ولم يقل: «رضا»؛ والفرق بين الرضوان والرضا أنّ زيادة المبنى – كما يقول أهل العلم – فيه زيادة المعنى، فزيادة الألف والنون تدل على قوة هذا الرضوان وكثرته وعظمه وجلالته.
* ثم إنه قال: «ورضوان من ألله أكبر» ولم يقل: “ورضوان الله أكبر “؛ وهذا أيضًا – فيه لطيفة عظيمة، ألا وهى: أن هذا الرضوان وإن قل وإن كان يسيرًا في حق عبد ما، فهواً أعظم من الجنة وما فيها، وليس في رضوان الله –سبحانه وتعالى- ما هو يسير كما قيل:
قليل منك يكفينى ولكن … قليلك لا يقال له قليل
وربنا – جلّ شأنه أخبرنا في مواضع من القرآن الكريم بأن ثمّة شواغل كثيرة جدًا تُشغل العبد عن نيل هذا الرضوان، وتعوقه عن تحصيله، فلا يزال يتعثر إلى أن يفوت على نفسه حظه ونصيبه من هذا الرضوان العظيم.
” زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) ”
فهؤلاء الذين تبوّؤوا منازل الرضوان، وفازوا بهذا الأمر العظيم، والمطلب الجليل، سبقه رضا منهم عن الله –سبحانه وتعالى-، وجد واجتهاد في طاعة الله –عز وجل-، كما يوضحه هذا السياق وغيره مما جاء في كتاب الله، ولم تشغلهم تلك الشواغل عن نيل الرضوان.
ومثل هذه الآية في التحذير من الشواغل التى تشغل الإنسان وتعوقه عن نيل هذا الرضوان قول الله –عز وجل-: “اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) ” [سورة الحديد]
فيأتي ذكر الرضوان في مثل هذه المقامات تنبيها للعباد؛ ليتنبه من أراد لنفسه هذا المطلب العظيم، والمقصد الجليل ألا تشغله هذه الشواغل، وأن لا تلهيه هذه الملهيات بأن تكون صارف له عن نيل هذا الرضوان العظيم، وتحصيله والفوز به.
وتحقيق هذا الرضوان والظفر به يتطلب من العبد أمورًا عديدة جاءت مبينة في كتاب الله –عز وجل-، وسنة نبيه –صلى الله عليه وسلم- إلا أنها فى الجملة ترجع إلى أمرين عظيمين، وأصلين متينين ينبغي على كل ناصح لنفسه أن يعنى بهما أشدّ العناية، وأن يهتم بهما عظيم الاهتمام:
الأمر الأول: ابتغاء الرضوان؛ وفي هذا يقول الله –سبحانه وتعالى-: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) ” [سورة البقرة]، ويقول –جل وعلا-: «وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ» [البقرة:265]، ويقول جل وعلا ” لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) ” [سورة النساء]
ويقول –عز وجل-: «مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ» [الحديد: (27)]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
والأمر الثاني: اتباع الرضوان؛ يقول الله –سبحانه وتعالى-: ” َفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَاءَ بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَاوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162 ” [سورة آل عمران]، ويقول –سبحانه وتعالى-: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)] فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174). [سورة آل عمران]
فتحصل لنا مما سبق في نيل رضوان الله وتحصيله: أن يجمع العبد لنفسه بين هذين الأمرين العظيمين والأصلين المتينين.
الأوّل: ابتغاء الرضوان، ومعنى ابتغاء الرضوان الإخلاص في الأعمال وحسن التوجه للرب سبحانه وتعالى ذي الجلال والكمال.
ولهذا قال الله –تبارك وتعالى- فى الحديث القدسى: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معى غيري، تركته وشركه).
الثاني: اتباع الرضوان، بأن يحرص العامل على الأعمال التي جاء بها النبي الكريم – صلوات الله وسلامه عليه-، فإنّ رضوان الله –سبحانه وتعالى- لا ينال إلا بلزوم دينه الذي رضيه لعبده، وبعث به رسولَه الله –صلى الله عليه وسلم-، قال الله –جل جلاله- (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا). [المائدة:3]؛ فهذا الدين الذي رضيه الله لعباده هو الذي يتبع؛ لينال باتباعه رضوان الله –سبحانه وتعالى-
ولهذا نقل شيخ الإسلام م ابن تيمية –رحمه الله- في بعض كتبه عن بعض أهل العلم أنه قال: «من أرا أن يبلغ محل الرضا فليلزم ما جعل الله رضاه فيه».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: «هذا الكلام في غاية الحسن؛ فإنه من لزم ما يرضي الله من امتثال أوامره، واجتناب نواهيه لاسيما إذا قام بواجبها ومستحبها؛ فإن الله يرضى عنه “.
يقول الفضيل ابن عياض –رحمه الله- في تفسيره لقول الله –سبحانه وتعالى-: “ليبلوكم أيْكُمْ أحَسن” [هود:7]
قال: «أخلصه وأصوبه»،قيل: يا أبا علي! وما أخلصه وأصوبه؟ قال: “إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابًا، ولم يكن خالصا لم يقبل؛ حتى يكون خالصا صوابا، والخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة) “.
وقد جمع بين هذين الأصليين في آيات؛ منها الآية التي ختمت بها سورة الكهف، وهى قول الله-سبحانه وتعالى-: ” فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)» [سورة الكهف] ((فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا)) وهذا اتباع الرضوان “وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا” وهذا ابتغاء الرضوان بإخلاص العمل لله – جل وعلا -.
وعلى المؤمن في هذا المقام العظيم أن يكون مسارعًا للخيرات.
وقول الله –سبحانه وتعالى- عن نبيه موسى –عليه السلام-: “وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ” (84) [سورة طه]، أخذ أهل العلم من هذه الآية، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- أن الأصل أن يسارع العبد فى نيل مرضاة الله لا أن يسوف، او ان يؤجل، او أن يؤخر، فكم من أناس أخروا أعمالا ينال بها رضوان الله –سبحانه وتعالى- فداهمهم الموت، وباغتهم الأجَلُ قبل أن يحققوا تلك الأعمال، وقبل أن يفوزوا بتلك الخصال.
فالواجب على العبد أن يكون ساعيا في الرضوان، مسارعا إلى نيله، جادا ومجتهدا في تحصيله، ويكون دأبه دائما وأبدًا التماس الرضوان. وقد روى الإمام أحمد –رحمه الله- عن ثوبان –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «إنّ العبد ليلتمس مرضاة الله ولا يزال بذلك، فيقول الله –عز وجل- لجبريل: إن فلانا عبدي يلتمس أن يرضينى، ألا وإن رحمتى عليه، فيقول جبريل: رخمة الله على فلان، ويقولها حملة العرش، ويقولها من حولهم، حَتى يَقُولها أهل السموات السبع، ثم تهبط – أي رحمة الله –سبحانه وتعالى- له إلى الأرض.
وعندما يكون الحديث عن رضوان الله، وسبل نيله ينبغى أن يستحضر في الذهن قدوات العباد، والذهن ينتقل مباشرة بعد حياة الأنبياء المديدة، وتاريخهم العظيم في نيل رضوان الله –عز وجل- إلى حياة الصحابة –رضي الله عنهم- فهى حياة ذكرالله –سبحانه وتعالى- شأنها في كتابه مُبينًا في مواضع عديدة رضاه عنهم ورضاهم عنه، وهذه – والله – مكرمة عظيمة، وشرف جليل؛ بل إن ذكر هذا الرضوان جاء في التوراة قبل خلق الصحابة –رضي الله عنهم-، وقبل أن يدرجوا على الأرض، وفي هذا يقول –سبحانه وتعالى-
“محَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29) ” [سورة الفتح]؛ فهم قبل أن يخلقوا، وقبل أن يُوجَدُوا ذكرهم الله –سبحانه وتعالى- في التوراة هذا الذكر العطر العظيم، كما أنه ذكرهم في الإنجيل بقوله «وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّار»، فهؤلاء الكرام –رضي الله عنهم- حققوا هذا الأمر، وبلغوا فيه الرتبة العلية، فكانوا في تحقيقه في الدرجة الثانية التى تلى الأنبياء في تاريخ الأمم كلها، فلا كان ولا يكون مثلهم بعد الأنبياء، وقد قال الله –سبحانه وتعالى- ” كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ” [آل عمران: 110]
و وقال النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (خير الناس قرني) “، وهذه الخيرية
هي خيرية في جميع أمم الأنبياء، ولهذا فيما يتعلق بأفضل الصحابة قال –صلى الله عليه وسلم-: «أبو بكر وعمر سيّدًا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين، ما خلا النبيين والمرسلين “.
وكانوا يتنافسون لرضى الله، ففي غزوة أحد – على سبيل المثال –انطلقوامعه إلى حمراء الاسد ” إلى جهة جنوب المدينة، وفيهم نزل قوله تعالى: ” الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) ” [آل عمران]، هذا العمل اتباع لرضوان الله –سبحانه وتعالى- بشهادة رب العالمين لهم “وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) ”
أي أنه منّ عليهم بهذاالفضل، وأكرمهم –سبحانه وتعالى-.
قال أهل العلم: ففازوا بأجر غزوة كاملة مع أنهم لم يلقواعدوّهم، بل ألقى الله –سبحانه وتعالى- في قلوب الذين كفروالرعب، ففروا إلى مكة مُنهزمين.
وفي وقعة صلح الحديبية دعا النبي-صلى الله عليه وسلم- أصحابه وبايعهم
تحت الشجرة، وكانوا يزيدون على ألف وأربعمائة، بايعهم على القتال حتى الموت، فبايعوه جميعا ما تردّد منهم أحد، وما أن انتهى هؤلاء من تلك البيعة العظيمة إلا ونزل قول الله سبحانه: «لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)» [سورة الفتح] أي فتح خيبر والمغانم الكثيرة التي أكرمهم الله –سبحانه وتعالى- بها وأظفرهم بها.
وهكذا تتوالى مواقف الصحابة –رضي الله عنهم- في المسارعة لنيل رضوان الله.
وخيرهم في هذا الباب صدّيق الأمة –رضي الله عنه-، ولما ذكر النبي-صلى الله عليه وسلم- أنّ بلالاً –رضي الله عنه- يعذب، انطلق أبوبكر الصديق –رضي الله عنه- واشتراه واعتقه، واعتق ستة اخرين كلهم يعذبون في الله وفي ذات الله.
وفيه نزل قول الله تعالى:” وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21) ” [سورة الليل]
أي يرضيه الله-سبحانه وتعالى- لأنه سارع وبادر لنيل مرضاة الله –سبحانه وتعالى- فكانت مرضاة الله غاية مقصوده ونهاية مطلوبه رضى الله عنه وأرضاه.
الله أكبر!! أصبح الدعاء لهم بالرضا قرينًا لذكر أسمائهم في كل الأزمان.
ثم إنّ الرضوان الذي يحله الله –سبحانه وتعالى- على أهل جنته، فلا يسخط عليهم بعدّه أبدًا هو ثمرة وأثر لرضاهم عنه جزاءً من جنس العمل، فلما رضوا عن الله –عز وجل- رضى الله عنهم.
والرضا الذي هو فعل العبد، والذي يتقرب به إلى الله –سبحانه وتعالى- نوعان دلت عليها الأدلة:
@ النوع الأول: الرضا بالله؛ ويدل عليه حديث العباس ابن عبد المطلب –رضي الله عنه-، أنه سمع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمُحَمّد –صلى الله عليه وسلم- رسولا “.
وقد تضمن هذا الحديث أمورا أربعة: الرضا بربوبية الله –عز وجل-، والرضا بألوهيته، والرضا برسوله –صلى الله عليه وسلم- والانقياد له، والرضا بدينه والتسليم له.
قال ابن القيم –رحمه الله-: «ومن اجتمعت له هذه الاربعة: هوالصّدّيق حقا، وهى سهلة بالدعوى واللسان، وهى من أصعب الأمور عند الحقيقة والامتحان، ولاسيما إذا جاء ما يخالف هوى النفس ومرادها من ذلك، تبين أن الرضا كان لسانه به ناطقا، فهوعلى لسانه لا على حاله.
* فالرضا بإلهيته: يتضمّن الرضا بمحبته وحده وخوفه ورجائه والإنابة إليه والتبتل إليه وانجذاب قوى الإرادة والحب كلها إليه فعل الراضى بمحبوبه كل الرضا؛ وذلك يتضمّن عبادته والإخلاص له.
* والرضا بربوبيته: يتضمن الرضا بتدبيره لعبده ويتضمّن إفراده بالتوكل عليه والاستعانة به والثقة به والاعتماد عليه، وأن يكون راضيا بكل ما يفعل به.
فالأول: يتضمّن رضاه بما يؤمر به، والثاني: يتضمّن رضاه بما يقدر عليه.
* وأما الرضا بنبيه رسولاً: فيتضمّن كمال الانقياد له والتسليم المطلق إليه، بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره، ولا يرضى بحكم غيره ألبته، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله، ولا في شاء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته، ولا في شاء من أحكام ظاهره وباطنه، لا يرضى في ذلك بحكم غيره ولا يرضى إلا بحكمه؛ فإن عجز عنه كان تحكيمه غيره من باب غذاء المضطر إذا لم يجد ما يقيته إلا من الميته والدم، وأحسن أحواله: أن يكون من باب التراب الذي إنما يتيمم به عند العجز عن استعمال الطهور.
* وأما الرضا بدينه: فإذا قال أو حكم أو أمر أو نهى، رضي كل الرضا ولم يبق في قلبه حرج من حكمه وسلم له تسليما ولو كان مخالفا لمراد نفسه أوهواها أو قول مقلّده وشيخه وطائفته “.
* والنوع الثاني: هو الرضا عن الله –سبحانه وتعالى-، بما يفعله بالعبد ويعطيه إياها، وهذا مُتعلّقهُ ثواب الله، وأجره، وعطاؤه، ومَنهُ، وعَوْنه –سبحانه وتعالى-.
فالأول – وهو الرضا بالله – أصل، والثاني – وهو الرضا عن الله – فرع عنه، الأوّل فرض باتفاق أهل العلم، والثاني وإن كان من أجل الأمور وأشرف أنواع العبودية فلم يطالب به العموم لعجزهم عنه ومشقته عليهم وأوجبته طائفة كما أوجبوا الرضا به، والتحقيق أن الواجب في مثل هذا المقام هو الصبر، والرضا مُستحب، ومَن في أكرمه الله –عز وجل- في هذا المقام بتحقيق الرضا فاز فوزا عظيما.