4817 الفوائد المنتقاة على صحيح مسلم
مجموعة: إبراهيم البلوشي وأبي عيسى البلوشي وهشام السوري، وعبدالله المشجري، والكربي
ومجموعة : طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم وخميس العميمي وآخرين.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
صحيح مسلم، باب استحباب العفو والتواضع
4817 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ ، وَقُتَيْبَةُ ، وَابْنُ حُجْرٍ ، قَالُوا : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ ، عَنِ الْعَلَاءِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : ((مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ ، إِلَّا عِزًّا ، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ )).
==========
التمهيد:
“البخيل الشحيح يخشى الفقر فتصعب عليه الصدقة متجاهلا قوله تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين} [سبأ 39] وجاهلا أو متجاهلا قوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضافعه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط} [البقرة 245] وقول الملائكة صباح مساء: “اللهم أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا”، وهكذا تسطع الحقيقة المشاهدة المؤكدة أن الصدقة لا تنقص المال بل تزيده.
المسألة الثانية: أن بعض الكبراء وأصحاب الجاه يظنون أنهم بعفوهم عمن أساء إليهم تنقص قيمتهم وينخفض قدرهم وما علموا أن العفو مع القدرة يزيد العزيز عزا.
المسألة الثالثة: أن بعض المتكبرين والمتجبرين يظنون أن التواضع ذلة ومهانة وانخفاض، والحق أن من تواضع لله رفعه، ومن ترفع على الناس وضعه الله، إما في الدنيا وإما في الآخرة وإما في الدنيا والآخرة”. [فتح المنعم]
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
(عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- (عَنْ رَسُولِ اللهِ -ﷺ- قالَ: «ما) نافية، (نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِن مالٍ)» من «زائدة، أو تبعيضية، أو بيانية؛ أي: ما نقصت صدقة مالًا، أو بعضَ مال، أو شيئًا من مال، بل تزيد أضعاف ما يُعطى منه، بأن ينجبر بالبركة الخفيّة، أو بالعطيّة الجليّة، أو بالمثوبة العليّة«تحفة الأحوذيّ» ٦/ ١٤٩.
وقال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: معناه: لا تُنقص الصدقة المال؛ لأنه مال مباركٌ فيه، إذ أُدِّيت زكاته، وتَطَوَّع منه صاحبه؛ لأن الصدقة تُضاعَف إلى سبعمائة ضعف، ويجدها صاحبها وقت الحاجة إليها كجبل أُحُد، مضاعفةً أضعافًا كثيرةً، فأيُّ نقصان مع هذا؟ انتهى. «الاستذكار» ٨/ ٦١٢.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: «ما نقصت صدقة من مال»: ذكروا فيه
وجهين:
أحدهما: معناه أنه يبارَك فيه، ويُدفَع عنه المضرّات، فينجبر نقص الصورة
بالبركة الخفيّة، وهذا مُدْرَك بالحس والعادة.
والثاني: أنه وإن نقصت صورته كان في الثواب المرتَّب عليه جَبْر لنقصه،
وزيادة إلى أضعاف كثيرة. انتهى. «شرح النوويّ» ١٦/ ١٤١.
وقال الزرقانيّ رحمه الله: «ما نقصت صدقة من مال» بل يزيد الله فيه ما نقص منه، ويَحْتَمِل أنه وإن نقص، فله في الآخرة من الأجر ما يجبر ذلك النقص، ويَحتمل أن يُجمع له الأمران، قاله عياض.
وقال الطيبيّ: يَحْتَمِل أن «مِن» زائدة؛ أي: ما نقصت صدقة مالًا، ويَحتمل أنها صلة لـ«نقصت»، والمفعول الأول محذوف؛ أي: ما نقصت شيئًا من مال، بل يزيد في الدنيا بالبركة فيه، ودَفْع المفاسد عنه، والإخلافِ عليه بما هو أجدى، وأنفع، وأكثر، وأطيب، ﴿وما أنْفَقْتُمْ مِن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾
[سبا ٣٩]، أو في الآخرة بإجزال الأجر، وتضعيفه، أو فيهما، وذلك جائز لإضعاف ذلك النقص، بل وقع لبعض العلماء أنه تصدَّق من ماله، فلم يجد فيه نقصًا، قال الفاكهانيّ: أخبرني من أثق به أنه تصدَّق من عشرين درهمًا بدرهم، فوَزَنَها فلم تنقص، قال: وأنا وقع لي ذلك. انتهى . «شرح الزرقانيّ» ٤/ ٥٤٨ – ٥٤٩.
(وما زادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ)؛ قال النوويّ «فيه أيضًا وجهان:
أحدهما: أنه على ظاهره، وأنّ من عُرف بالصّفح، والعفو سادَ، وعَظُم
في القلوب، وزاد عزّه، وإكرامه.
والثاني: أن يكون أجره وثوابه وجاهُه وعزّه في الآخرة أكثر.
(وما تَواضَعَ أحَدٌ للهِ) بأن أنزل نفسه عن مرتبة يستحقّها؛ لرجاء التقرب
إلى الله، دون غرض غيره.
وقال النوويّ: فيه أيضًا وجهان:أحدهما: يرفعه في الدنيا، ويُثْبت له بتواضعه في القلوب منزلةً، ويرفعه الله
عند الناس، ويُجِلّ مكانه.
والثاني: أن المراد: ثوابه في الآخرة، ورَفْعه فيها بتواضعه في الدنيا، قال العلماء: وهذه الأوجه في الألفاظ الثلاثة موجودة في العادة، معروفة، وقد يكون المراد الوجهين معًا في جميعها في الدنيا والآخرة، والله أعلم. انتهى. «شرح النوويّ» ١٦/ ١٤٢.
وفي رواية»الموطّأ«:»وما تواضع عبد«، قال المناويّ [«فيض القدير» ٥/ ٥٠٤]: وما تواضع أحد لله من المؤمنين رِقًّا وعبوديةً في ائتمار أمره، والانتهاء عن نهيه، ومشاهدته لحقارة النفس، ونفي العجب عنها، (إلّا رَفَعَهُ اللهُ») في الدنيا، بأن يُثبت له في القلوب بتواضعه منزلة عند الناس، ويُجلّ مكانه، وكذا في الآخرة على سرير خُلْد لا يفنى، ومنبر مُلك لا يبلى.
وقد ظهر صِدق الحديث، فإن هذه الوجوه كلها موجودة في الدنيا .
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: «وما تواضع أحد لله إلّا رفعه الله»، التواضع:
الانكسار، والتذلّل، ونقيضه: التكبّر، والترفع، والتواضع يقتضي متواضَعًا له، فإنْ كان المتواضَع له هو الله تعالى، أو من أمَر الله بالتواضع له؛ كالرسول -ﷺ-، والإمام، والحاكم، والوالد، والعالم، فهو التواضع الواجب المحمود الذي يرفع الله تعالى به صاحبه في الدنيا والآخرة، وأما التواضع لسائر الخلق
فالأصل فيه أنه محمودٌ ، وأما التواضع لأهل الدنيا، ولأهل الظلم، فذلك هو الذلّ الذي لا عزّ معه، والخسّة التي لا رفعة معها، بل يترتب عليها ذلّ الآخرة، وكلُّ صفقة خاسرة -نعوذ بالله من ذلك. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله. «المفهم» ٦/ ٥٧٥.
وقال غيره: من تواضع لله في تحمّل مُؤَن خَلْقه، كفاه الله مؤنة ما يرفعه إلى هذا المقام، ومن تواضع في قبول الحقّ ممن دونه قَبِل الله منه مدخول طاعته، ونَفَعه بقليل حسناته، وزاد في رَفْع درجاته، وحَفِظه بمعقّبات رحمته، من بين يديه، ومِن خلفه.
[واعلم]: أن من جِبِلّة الإنسان الشحَّ بالمال، ومشايعة السبعية من إيثار الغضب، والانتقام، والاسترسال في الكِبْر الذي هو من نتائج الشيطنة، فأراد الشارع أن يَقْلَعَها، فحثّ أوّلًا على الصدقة؛ ليتحلى بالسخاء والكرم، وثانيًا على العفو؛ ليتعزز بعزّ الحِلْم والوقار، وثالثًا على التواضع؛ ليرفع درجاته في الدارين [«شرح الزرقانيّ» ٤/ ٥٤٩]، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا من أفراد المصنّف رحمه الله. [تنبيه]: قال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: حديث العلاء بن عبد الرحمن هذا أسنده عن مالك جماعة، وهو في «الموطأ» من قول العلاء، وكان مالك يشكّ في رَفْعه، ومثله لا يكون رأيًا، وهو محفوظ مسندٌ: مالك، عن العلاء بن عبد الرحمن، أنه سمعه يقول: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا
بعفو إلا عزًّا، وما تواضع عبد لله إلا رفعه الله»، قال مالك: لا أدري أيُرفَع هذا الحديث إلى النبيّ -ﷺ- أم لا؟
هكذا رَوى هذا الحديث جماعة الرُّواة عن مالك، منهم ابن وهب، وابن القاسم، والقعنبيّ، ومعن بن عيسى، وغيرهم، وهو حديث محفوظ للعلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبيّ -ﷺ-، رواه عنه جماعة هكذا، ومثله لا يقال من جهة الرأي، فلذلك كلّه ذكرناه، وبالله التوفيق. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله. »التمهيد لابن عبد البرّ«٢٠/ ٢٦٩.
(المسألة الثانية): في فوائده:
١ – (منها): بيان فضل الصدقة، وأنها لا تنقص من المال، بل تكون سببًا لزيادته، ونمائه، وزيادة صاحبها فضلًا ورفعةً عند الله تعالى، ومحمدة عن الناس.
٢ – (ومنها): بيان فضل العفو والصفح عمن أساء، وأن من فعل ذلك يزيده الله تعالى عزًّا، ورفعة في الدنيا والآخرة.
٣ – (ومنها): بيان فضل التواضع لله سبحانه وتعالى، وأن من تواضع لله سبحانه وتعالى رفعه الله
في الدنيا والآخرة، وقد ورد الأمر به، ففي «صحيح مسلم» من حديث عياض بن حمار -رضي الله عنه-، مرفوعًا: «وإن الله أوحى إليّ أنْ تواضَعوا، حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغيَ أحدٌ على أحد»، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في محاللة الحقوق:
قال أبو العبّاس القرطبيّ في «المفهم»: اختَلَف العلماء في المحاللة من الحقوق، فقال سعيد بن المسيِّب: لا أحلِّل أحدًا، وظاهره أنه كان لا يُجيز أن يعفو عن حقّ وجب له، ولا يُسقطه، ولم يفرّق بين الظالم، ولا غيره، وهذا هو الذي فَهِمه مالك عنه.
وذهب غيره إلى أنه تجوز المحاللة من جميع الحقوق، وإسقاطها، وإليه ذهب محمد بن سيرين، والقاسم بن محمد كان يُحلّل مَن ظلمه، ويكره لنفسه الخصوم.
وفرّق آخرون بين الظالم، فلم يحللوه، وبين غيره، فحلّلوه، وإليه ذهب إبراهيم النخعيّ، وهو ظاهر قول مالك، وقد سئل، فقيل له: أرأيت الرجل يموت، ولك عليه دَين، ولا وفاء له به؟ قال: أفضل عندي أن أحلّله، وأما الرجل يظلم الرجل فلا أرى ذلك، قال الله عز وجل: ﴿إنَّما السَّبِيلُ عَلى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ
النّاسَ﴾ [الشورى ٤٢] فظاهر هذا: أن الظالم لا يجوز أن يُحلَّل، ولم يفرّق بين الحقوق، فيكون مذهبه كمذهب النخعيّ المتقدّم، غير أنه قد رُوي قول مالك هذا بلفظ آخر، فقال: أما الرجل يغتاب الرجل، وينتقصه، فلا أرى ذلك، ففَهِم بعضُ أصحابنا من هذا أن ترك المحاللة إنما مَنَعه في الأعراض
خاصّة، وأما في سائر الحقوق فيجوز. وسبب هذا الخلاف، هل تلك الأدلة مُبْقاةٌ على ظواهرها من التعميم، أو هي مُخَصّصة، فيخرج منها الظالم؛ لأنّ تحليله من المظالم يجرّؤه على الإكثار منها، وهو ممنوع بالإجماع، ثم ذلك عون له على الإثم والعدوان، وقد قال تعالى: ﴿ولا تَعاوَنُوا عَلى الإثْمِ والعُدْوانِ﴾
الآية [المائدة ٢]؟ وأما الفرق بين الأعراض وغيرها فمبالغة في سدّ ذريعة الأعراض ليَسارتها، وتساهُل الناس في أمرها، فاقتضى ذلك المبالغة في الردع عنها، فاذا عَلِم الذي يريد أن يغتاب مسلمًا أن الغِيبة، وأعراض المسلمين لا يُعفى عنها، ولا يُخرج منها، امتنع من الوقوع فيها. قال القرطبيّ رحمه الله: ويردّ
على هذه التخصيصات سؤالات يطول الكلام بإيرادها، والانفصال عنها، والتمسك بالعموم هو الأصل المعلوم، لا سيما مع قوله -ﷺ-: “أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم، كان إذا أصبح يقول: اللَّهُمَّ إني تصدقت بعرضي على عبادك» [صححه الشيخ الألباني موقوفًا، وضعّفه مرفوعًا]، ومع الأصل الكليّ في حقوق بني آدم من جواز تصرّفهم فيها
بالإعطاء، والمنع، والأخذ والإسقاط، والله تعالى أعلم.
[تفريع]: القائلون بجواز التحلّل، وإسقاط الحقوق، اختلفوا هل تُسقط عن الظالم مطالبة الآدميّ فقط، ولا تسقط عنه مطالبة الله عزَّوجلَّ؟، أو يَسْقُط عنه الجميع؟ لأهل العلم فيه قولان. انتهى كلام أبي العبّاس القرطبيّ رحمه الله. «المفهم» ٦/ ٥٦٦ – ٥٦٩.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ المفسّر رحمه الله في «تفسيره»: وذكر الخلاف كما سبق وقال :
قال ابن العربيّ: فصار في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يحلِّله بحال، قاله سعيد بن المسيِّب.
الثاني: يحلله، قاله محمد بن سيرين.
الثالث: إن كان مالًا حلّله، وإن كان ظلمًا لم يُحلّله، وهو قول مالك.
وجه الأول: ألا يحلل ما حرّم الله، فيكون كالتبديل لحكم الله.
ووجه الثاني: أنه حقه، فله أن يُسقط كما يُسقط دمه، وعرضه.
ووجه الثالث: الذي اختاره مالك هو أن الرجل إذا غُلب على أداء حقك، فمن الرفق به أن تتحلله، وإن كان ظالمأ فمن الحقّ ألا تتركه؛ لئلا تغترّ الظَّلَمة، وششرسلوا في أفعالهم القبيحة.
وفي «صحيح مسلم» من حديث أبي اليَسَر الطويل، وفيه: «أنه قال لغريمه: اخرُجْ إليّ، فقد علمت أين أنت، فخرج، فقال: ما حملك على أن اختبأت مني؟ قال: أنا والله أُحَدِّثك ثم لا أكذبك، خشيت والله أن أحدّثك، فأكذبك، وأن أعدك، فأُخلفك، وكنتَ صاحب رسول الله -ﷺ-، وكنتُ والله
مُعْسِرًا، قال: قلت: الله؟ قال: الله، قال: فأتى بصحيفته، فمحاها، فقال: إن وجدت قضاءً فاقضني، وإلا فأنت في حِلّ …»، وذكر الحديث.
قال ابن العربي: وهذا في الحي الذي يُرجى له الأداء لسلامة الذمة، ورجاء التحلّل، فكيف بالميت الذي لا محاللة له، ولا ذمة معه؟ انتهى.
وعندي الأرجح أن التحلّل جائز في الحقوق كلّها، مالِها، وعِرْضِها؛ -كما مال إليه القرطبيّ في كلامه السابق- لإطلاق النصوص في ذلك، مثلُ قوله عز وجل: ﴿فَمَن عَفا وأصْلَحَ فَأجْرُهُ عَلى اللَّهِ﴾ [الشورى:٤٠]، وقوله: ﴿ولْيَعْفُوا ولْيَصْفَحُوا ألا تُحِبُّونَ أنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
[النور ٢٢]، فهذه الآيات قد عمّمت، ولم تخصّ حقًّا دون حقّ.
وقد أخرج البخاريّ في «صحيحه»: عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -ﷺ-: «من كانت له مظلمة لأحد من عِرضه، أو شيء، فليتحلّله منه اليوم، قبل أن لا يكون دينار، ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقَدْر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه، فحُمِل عليه».
فهذا الحديث أصرح النصوص في هذه المسألة؛ إذ نصَّ على العِرْض، ثم عمّم جميع الحقوق بقوله: «أو شيء».
والحاصل أن التحلّل مشروع مطلقًا، فتبصَّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. [البحر المحيط الثجاج]
قلت سيف بن دوره : لكن النص الأخير إنما فيه الترغيب في محاللة من يأتي معترفا تائبا .
لكن يمكن ترجيح القول بالمحاللة لأن عموم نصوص العفو أقوى. بقي من علمت أنه بالعفو يتمادى فهذا لا تعلمه بالمحاللة. وتستطيع تقييد محاللته بعلم الله إن كانت خير فيمضيها.
ملحق المسائل:
(المسألة الأولى): من الأخلاق المحمودة: التَّواضُع
1) معنى التَّواضُع لغةً:
التواضع التذلل، يُقَال: وضَعَ فُلانٌ نَفْسَهُ وضْعًا، ووُضُوعًا بالضَّم، وَضَعَةً، بالفَتْحِ: أي أذلَّها. وتَوَاضَعَ الرَّجُلُ: إذا تَذَلَّلَ، وقيل: ذَلَّ وتَخاشَعَ. [((العين)) للفراهيدي (2/196)، ((تاج العروس)) لمرتضى الزبيدي (22/343)].
معنى التَّواضُع اصطلاحًا:
التَّواضُع هو:
: (رضا الإنسان بمنزلة دون ما يستحقُّه فضله ومنزلته. وهو وسطٌ بين الكِبْر والضِّعَة، فالضِّعَة: وضع الإنسان نفسه مكانًا يزري به بتضييع حقِّه. والكِبْر: رفع نفسه فوق قدره) [((الذَّريعة إلى مكارم الشَّريعة)) للرَّاغب الأصفهاني (ص 299)].
2) الفرق بين التَّواضُع وبعض الصِّفات
أ. الفرق بين التَّواضُع والتَّذلُّل: سبق الفرق بين التواضع والضعة في التعريف
ب. الفرق بين التَّواضُع والخشوع:
(التَّواضُع: يعتبر بالأخلاق والأفعال الظَّاهرة والباطنة.
والخشوع: يقال باعتبار الجوارح، ولذلك قيل: إذا تواضع القلب خشعت الجوارح) [((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص 216)].
قال ابن تيمية :
و «الخُشُوعُ» يَتَضَمَّنُ مَعْنَيَيْنِ:
أحَدُهُما: التَّواضُعُ والذُّلُّ.
والثّانِي: السُّكُونُ والطُّمَأْنِينَةُ وذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلِينِ القَلْبِ المُنافِي لِلْقَسْوَةِ؛ فَخُشُوعُ القَلْبِ يَتَضَمَّنُ عُبُودِيَّتَهُ لِلَّهِ وطُمَأْنِينَتَهُ أيْضًا ولِهَذا كانَ الخُشُوعُ فِي الصَّلاةِ يَتَضَمَّنُ هَذا وهَذا: التَّواضُعَ والسُّكُونَ
مجموع الفتاوى ٧/٢٨
3) التَّرغيب في التَّواضُع.
أولًا: التَّرغيب في التَّواضُع في القرآن الكريم
1- قال الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]، قال ابن القيِّم: (أي: سكينة ووقارًا، متواضعين غير أشرين ولا مَرِحين ولا متكبِّرين، قال الحسن: علماء حلماء. وقال محمَّد بن الحنفيَّة: أصحاب وقار وعفَّة، لا يسفِّهون، وإن سُفِه عليهم حلموا. والهَوْن -بالفتح- في اللُّغة: الرِّفق واللِّين، والهُون -بالضَّم-: الهَوَان فالمفتوح منه: صفة أهل الإيمان، والمضموم صفة أهل الكُفْران، وجزاؤهم مِن الله النِّيران) [((مدارج السَّالكين)) (3/108)].
2- ووصف الله سبحانه وتعالى أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بأنَّهم (يظهرون العطف والحُنُوَّ والتَّواضُع للمؤمنين، ويظهرون الشِّدَّة والغلظة والتَّرفُّع على الكافرين) [((فتح القدير)) للشَّوكاني (2/75)] حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54 ].
وقال ابن كثير: (هذه صفات المؤمنين الكُمَّل أن يكون أحدهم متواضعًا لأخيه ووليِّه، متعزِّزًا على خصمه وعدوِّه، كما قال تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [الفتح: 29])[((تفسير القرآن العظيم)) (3/136)].
وقال ابن القيِّم: (لـمَّا كان الذُّل منهم ذُلَّ رحمة وعطف وشفقة وإخبات، عدَّاه بأداة على تضمينًا لمعاني هذه الأفعال، فإنَّه لم يرد به ذُلَّ الهوان الذي صاحبه ذليل، وإنَّما هو ذُلُّ اللِّين والانقياد الذي صاحبه ذلول، فالمؤمن ذلول كما في الحديث: المؤمن كالجمل الذَّلول، والمنافق والفاسق ذليل)[((مدارج السَّالكين)) (2/327)].
3- وقال سبحانه: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].
قال ابن كثير: (يخبر تعالى أنَّ الدَّار الآخرة ونعيمها المقيم الذي لا يحول ولا يزول، جعلها لعباده المؤمنين المتواضعين لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ، أي: ترفُّعًا على خلق الله وتعاظمًا عليهم وتجبُّرًا بهم، ولا فسادًا فيهم)[((تفسير القرآن العظيم)) (6/258)].
ثانيًا: التَّرغيب في التَّواضُع في السُّنَّة النبوية:
رغَّب الإسلام في التَّواضُع وحثَّ عليه ابتغاء مرضات الله، وأنَّ مَن تواضع جازاه الله على تواضعه بالرِّفعة، وقد وردت نصوصٌ مِن السُّنَّة النَّبويَّة تدلُّ على ذلك:
1- منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما نقصت صدقة مِن مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلَّا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلَّا رفعه الله)) رواه مسلم (2588) مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وسبق شرحه
2- وعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحدٍ)) رواه مسلم (2865) مِن حديث عياض بن حمار رضي الله عنه .
(يعني: أن يتواضع كلُّ واحد للآخر، ولا يترفَّع عليه، بل يجعله مثله أو يكرمه أكثر، وكان مِن عادة السَّلف رحمهم الله: أنَّ الإنسان منهم يجعل مَن هو أصغر منه مثل ابنه، ومَن هو أكبر مثل أبيه، ومَن هو مثله مثل أخيه … ((شرح رياض الصَّالحين)) لابن عثيمين (3/524).
3- وعن معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن ترك اللِّباس تواضعًا للَّه، وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيِّره مِن أيِّ حلل الإيمان شاء يلبسها)) رواه التِّرمذي (2481) مِن حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه. وحسَّنه، وصحَّحه الألباني في ((صحيح الجامع)) (6145). والصحيحة 718
قال ابن عثيمين: (وهذا يعني أنَّ الإنسان إذا كان بين أناس متوسِّطي الحال لا يستطيعون اللِّباس الرَّفيع، فتواضع وصار يلبس مثلهم، لئلَّا تنكسر قلوبهم، ولئلَّا يفخر عليهم، فإنَّه ينال هذا الأجر العظيم، أمَّا إذا كان بين أناس قد أنعم عليهم، ويلبسون الثِّياب الرَّفيعة لكنَّها غير محرَّمة، فإنَّ الأفضل أن يلبس مثلهم؛ لأنَّ الله تعالى جميل يحبُّ الجمال، ولا شكَّ أنَّ الإنسان إذا كان بين أناس رفيعي الحال، يلبسون الثِّياب الجميلة، ولبس دونهم فإنَّ هذا يُعَدُّ لباسَ شهرة؛ فالإنسان ينظر ما تقتضيه الحال) ((شرح رياض الصالحين)) (4/317-318).
قلت سيف بن دوره : وأبو مرحوم يضعف من قبل حفظه. وسهل بن معاذ ضعفه ابن معين وابن حبان، ووثقه العجلي فالحديث ضعيف . وله طريق أخرى لكنه من طريق زبان راجع علل ابن أبي حاتم 2392
وكل الطرق تدور على سهل بن معاذ
وقال ابن الجوزي في العلل : لا يصح
قال ابن رجب بعد ذكره عند الترمذي : وخرجه أبوداود من وجه آخر ولفظه : من ترك ثوب جمال وهو يقدر عليه احسبه تواضعا كساه الله حلة الكرامة . وإنما يذم من ترك اللباس مع قدرته عليه بخلا على نفسه أو كتمانا لنعمة . انتهى من تفسير ابن رجب 2/200 وذكر سيرة السلف في ذلك
والحديث الذي عند أبي داود ففيه سويد بن وهب مجهول . ورجل من أبناء الصحابة أيضا مجهول. وحسنه الأرنؤوط لغيره
المهم ما قاله ابن عثيمين وجيه .
4- وعن حارثة بن وهب رضي الله عنه أنَّه سمع النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((ألا أخبركم بأهل الجنَّة؟ قالوا: بلى. قال صلى الله عليه وسلم: كلُّ ضعيف متضعِّف، لو أقسم على الله لأبرَّه. ثمَّ قال:ألا أخبركم بأهل النَّار؟ قالوا: بلى. قال: كلُّ عتلٍّ جوَّاظٍ مستكبر)) رواه البخاري (4918)، ومسلم (2853) مِن حديث حارثة بن وهب رضي الله عنه .
قال القاضي عياض: (وقوله في أهل الجنَّة: ((كلُّ ضعيفٍ متضعِّف))… هو صفة نفي الكِبْرَياء والجبروت التي هي صفة أهل النَّار، ومَدَح التَّواضُع والخمول ، والتَّذلُّل لله عزَّ وجلَّ، وحضَّ عليه) ((إكمال الُمْعِلم شرح صحيح مسلم)) للقاضي عياض (8/383).
5- عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ابغوني في ضعفائكم، فإنَّما تُرْزَقون وتُنْصَرون بضعفائكم)) رواه أبو داود (2594)، والتِّرمذي (1702)، وابن حبان (11/85) (4767) مِن حديث أبي الدَّرداء رضي الله عنه. قال التِّرمذي: حسن صحيح. وحسَّن إسناده البزار في ((البحر الزخار)) (10/75)، والنووي في ((الخلاصة)) (2/873). وهو في الصحيح المسند 1040
قال الطِّيبيُّ في معنى الحديث: (فيه نهيٌ عن مخالطة الأغنياء، وتحذيرٌ مِن التَّكبُّر على الفقراء، والمحافظة على جبر خواطرهم، ولهذا قال لقمان لابنه: لا تحقرنَّ أحدًا لخُلْقَان ثيابه؛ فإنَّ ربَّك وربَّه واحدٌ.
وقال ابن معاذ: حبُّك الفقراء مِن أخلاق المرسلين، وإيثارك مجالستهم مِن علامات الصَّالحين، وفرارك منهم مِن علامات المنافقين) ((فيض القدير)) للمناوي (1/109).
4) أقوال السَّلف والعلماء في التَّواضُع
– وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (لا يبلغ عبدٌ ذُرَى الإيمان حتى يكون التَّواضُع أحبَّ إليه مِن الشَّرف، وما قلَّ مِن الدُّنْيا أحبَّ إليه ممَّا كَثُر، ويكون مَن أحبَّ وأبغض في الحقِّ سواء، يحكم للنَّاس كما يحكم لنفسه وأهل بيته) رواه ابن المبارك في ((الزُّهد)) (2/52) مِن حديث مكحول رحمه الله.
– و(سُئِل الفضيل بن عياض عن التَّواضُع، فقال: يخضع للحقِّ، وينقاد له، ويقبله ممَّن قاله) ((مدارج السَّالكين)) لابن قيِّم الجوزيَّة (2/329).
– وقال ابن المبارك: (رأس التَّواضُع أن تضع نفسك عند مَن هو دونك في نعمة الدُّنْيا حتى تُعْلِمه أن ليس لك بدنياك عليه فضل، وأن ترفع نفسك عمَّن هو فوقك في نعمة الدُّنْيا، حتى تُعْلِمه أنَّه ليس له بدنياه عليك فضل) ((التواضع والخمول)) لابن أبي الدُّنْيا (ص 142).
– وقال قتادة: (مَن أُعْطِي مالًا أو جمالًا وثيابًا وعلمًا، ثمَّ لم يتواضع، كان عليه وبالًا يوم القيامة) ((التواضع والخمول)) لابن أبي الدُّنْيا (ص 142).
– وقال يحيى بن الحكم بن أبي العاص لعبد الملك: (أيُّ الرِّجال أفضل؟ قال: مَن تواضع عن رفعة، وزهد على قُدْرَة، وترك النُّصرة على قومه) ((التواضع والخمول)) لابن أبي الدُّنْيا (ص 144).- وقال يحيى ابن أبي كثير: (رأس التَّواضُع ثلاث: أن ترضى بالدُّون مِن شرف المجلس، وأن تبدأ مَن لقيته بالسَّلام، وأن تكره مِن المدحة والسُّمعة والرِّياء بالبِرِّ) ((التواضع والخمول)) لابن أبي الدُّنْيا (ص 155).
– وقال إبراهيم بن شيبان: (الشَّرف في التَّواضُع، والعزُّ في التَّقوى، والحرِّية في القناعة) ((مدارج السَّالكين)) لابن قيِّم الجوزيَّة (2/330).
– وعن صالح المرِّيِّ قال: (خرج الحسن ويونس وأيوب يتذاكرون التَّواضُع، فقال لهما الحسن: وهل تدرون ما التَّواضُع؟ التَّواضُع: أن تخرج مِن منزلك فلا تلق مسلمًا إلَّا رأيت له عليك فضلًا) ((التواضع والخمول)) لابن أبي الدُّنْيا (ص 154).
– (وولي أبو هريرة رضي الله عنه إمارةً مرَّةً، فكان يحمل حزمة الحطب على ظهره، يقول: طرِّقوا للأمير) رواه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (67/373).
قال ابن تيمية :
فالمتواضع لله الذي ذلَّ واستكان لله تعالى لا لخلقه يكون قلبه قريبًا من الله فيرفعه الله بذلك فهو في الظاهر هابط نازل وفي الباطن وهو في الحقيقة صاعد عالٍ كما في مسند الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب عن النبي ﷺ وهو محفوظ عن عمر موقوفًا قال ما من أحد إلا وفي رأسه حَكَمَة فإن رفعَ رأسه قيل له انتكس نَكَسَكَ الله وإن طأطأ رأسه قيل له انتعش نَعَشَكَ الله فالمتكبر الذي يطلب الاستعلاء يعاقب بأن يخفضه الله وينكسه والمتواضع الذي يتواضع لله فيطأطئ رأسه لله يثيبه الله بأن ينعشه ويرفعه وكل هذه أمور حقيقية وسنبسط الكلام إن شاء الله على ذلك في الكلام على نصوص العلو وما يتبعه
بيان تلبيس الجهمية 6/70
5) فوائد التَّواضُع:
1- أنَّ التَّواضُع يرفع المرء قدرًا ويُعْظِم له خطرًا ويزيده نبلًا.
2- التَّواضُع يؤدِّي إلى الخضوع للحقِّ والانقياد له.
3- التَّواضُع هو عين العزِّ؛ لأنَّه طاعة لله ورجوع إلى الصَّواب.
4- يكفي المتواضع محبَّة عباد الله له، ورفع الله إيَّاه.
5- التَّواضُع فيه مصلحة الدِّين والدُّنْيا، ويزيل الشَّحناء بين النَّاس، ويريح مِن تعب المباهاة والمفاخرة.
6- التَّواضُع يُكْسِب السَّلامة، ويورث الألفة، ويرفع الحقد، ويُذْهِب الصَّد.
7- ثمرة التَّواضُع المحبَّة، كما أنَّ ثمرة القناعة الرَّاحة، وإنَّ تواضع الشَّريف يزيد في شرفه، كما أنَّ تكبُّر الوضيع يزيد في ضِعَتِه.
8- التَّواضُع يؤلِّف القلوب، ويفتح مغاليقها، ويجعل صاحبه جليل القدر، رفيع المكانة.
6) أقسام التَّواضُع
(التَّواضُع تواضعان: أحدهما محمود، والآخر مذموم. والتَّواضُع المحمود: ترك التَّطاول على عباد الله والإزراء بهم. والتَّواضُع المذموم: هو تواضع المرء لذي الدُّنْيا رغبةً في دنياه، فالعاقل يلزم مفارقة التَّواضُع المذموم على الأحوال كلِّها، ولا يفارق التَّواضُع المحمود على الجهات كلِّها) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 59).
التَّواضُع المحمود على نوعين: النَّوع الأوَّل: (تواضع العبد عند أمر الله امتثالًا، وعند نهيه اجتنابًا، فإنَّ النَّفس لطلب الرَّاحة تتلكأ في أمره، فيبدو منها نوع إباء وشِرَاد هربًا مِن العبوديَّة وتثبت عند نهيه طلبًا للظَّفر بما مُنِع منه، فإذا وضع العبد نفسه لأمر الله ونهيه فقد تواضع للعبوديَّة.
والنَّوع الثَّاني: تواضعه لعظمة الرَّب وجلاله وخضوعه لعزَّته وكبريائه، فكلَّما شمخت نفسه ذكر عظمة الرَّب تعالى وتفرُّده بذلك، وغضبه الشَّديد على مَن نازعه ذلك، فتواضعت إليه نفسه، وانكسر لعظمة الله قلبه، واطمأنَّ لهيبته وأخبت لسلطانه، فهذا غاية التَّواضُع، وهو يستلزم الأوَّل مِن غير عكس، والمتواضع -حقيقةً- مَن رُزِق الأمرين، والله المستعان) ((الروح)) لابن القيِّم (ص 234).
التَّواضُع المذموم:قال ابن القيِّم: (ومِن التَّواضُع المذموم: المهانة. والفرق بين التَّواضُع والمهانة: أنَّ التَّواضُع يتولَّد مِن بين العلم بالله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله، وتعظيمه ومحبَّته وإجلاله، ومِن معرفته بنفسه وتفاصيلها وعيوب عملها وآفاتها، فيتولَّد مِن بين ذلك كلِّه خُلُقٌ هو التَّواضُع وهو انكسار القلب لله، وخفض جناح الذُّل والرَّحمة بعباده، فلا يرى له على أحدٍ فضلًا، ولا يرى له عند أحدٍ حقًّا، بل يرى الفضل للنَّاس عليه، والحقوق لهم قِبَلَه، وهذا خُلُقٌ إنَّما يعطيه الله عزَّ وجلَّ مَن يحبُّه ويكرمه ويقرِّبه.
وأمَّا المهانة: فهي الدَّناءة والخِسَّة، وبذل النَّفس وابتذالها في نيل حظوظها وشهواتها، كتواضع السِّفَل في نيل شهواتهم، وتواضع المفعول به للفاعل، وتواضع طالب كلِّ حظٍّ لمن يرجو نيل حظِّه منه، فهذا كلُّه ضِعَةٌ لا تواضع، والله سبحانه يحبُّ التَّواضُع، ويبغض الضِّعَة والمهانة، وفي الصَّحيح عنه: وأُوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحدٍ، ولا يبغي أحدٌ على أحدٍ” [رواه مسلم (2865) مِن حديث عياض بن حمار رضي الله عنه] [((الروح)) (ص 234)].
7) درجات التَّواضُع
ذكر أبو إسماعيل الهرويُّ للتواضع ثلاث درجات، فقال:
(الدَّرجة الأولى: التَّواضُع للدِّين، وهو أن لا يعارِض بمعقولٍ منقولًا، ولا يتَّهم للدِّين دليلًا، ولا يرى إلى الخلاف سبيلًا).
قال ابن القيِّم: (التَّواضُع للدِّين: هو الانقياد لما جاء به الرَّسول، والاستسلام له والإذعان، وذلك بثلاثة أشياء:
الأوَّل: أن لا يعارِض شيئًا ممَّا جاء به بشيء مِن المعارَضَات الأربعة السَّارية في العالم المسمَّاة: بالمعقول والقياس والذَّوق والسِّياسة.
فالأولى: للمنحرفين أهل الكِبْر مِن المتكلِّمين، الذين عارضوا نصوص الوحي بمعقولاتهم الفاسدة، وقالوا: إذا تعارض العقل والنَّقل: قدَّمنا العقل وعزلنا النقل؛ إمَّا عزل تفويض، وإمَّا عزل تأويل، والثَّاني: للمتكبِّرين مِن المنتسبين إلى الفقه، قالوا: إذا تعارض القياس والرَّأي والنُّصوص: قدَّمنا القياس على النَّص ولم نلتفت إليه، والثَّالث: للمتكبِّرين المنحرفين مِن المنتسبين إلى التَّصوف والزُّهد، فإذا تعارض عندهم الذَّوق والأمر: قدَّموا الذَّوق والحال، ولم يعبؤوا بالأمر، والرَّابع: للمتكبِّرين المنحرفين مِن الولاة والأمراء الجائرين، إذا تعارضت عندهم الشَّريعة والسِّياسة: قدَّموا السِّياسة ولم يلتفتوا إلى حكم الشَّريعة، فهؤلاء الأربعة: هم أهل الكِبْر. والتَّواضُع: التَّخلُّص مِن ذلك كلِّه.
الثَّاني: أن لا يتَّهم دليلًا مِن أدلَّة الدِّين، بحيث يظنُّه فاسد الدِّلالة أو ناقص الدِّلالة أو قاصرها، أو أنَّ غيره كان أولى منه، ومتى عَرَض له شيء مِن ذلك فليتَّهم فهمه، وليعلم أن الآفة منه والبليَّة فيه
الثَّالث: أن لا يجد إلى خلاف النَّص سبيلًا البتَّة: لا بباطنه ولا بلسانه ولا بفعله ولا بحاله…. وذكر ذم التقليد والتعصب
قال صاحب المنازل: (ولا يصحُّ ذلك إلَّا بأن يعلم: أنَّ النَّجاة في البصيرة والاستقامة بعد الثِّقة وأنَّ البيِّنة وراء الحجَّة).
قال ابن القيِّم: (يقول: إنَّ ما ذكرناه مِن التَّواضُع للدِّين بهذه الأمور الثَّلاثة:
الأولى: علمه أنَّ النَّجاة مِن الشَّقاء والضَّلال: إنَّما هي في البصيرة.
الثَّاني: أن يعلم أنَّ الاستقامة إنَّما تكون بعد الثِّقة، أي لا يُتصور حصول الاستقامة في القول والعمل والحال إلَّا بعد الثِّقة بصحَّة ما معه مِن العلم، وأنَّه مقتبسٌ مِن مشكاة النُّبوَّة، ومَن لم يكن كذلك فلا ثقة له ولا استقامة.
الثَّالث: أن يعلم أنَّ البيِّنة وراء الحجَّة، والبيِّنة مراده بها: استبانة الحقِّ وظهوره، وهذا إنَّما يكون بعد الحجَّة إذا قامت
قال صاحب المنازل: (الدَّرجة الثَّانية: أن ترضى بما رضي الحقُّ به لنفسه عبدًا مِن المسلمين أخًا، وأن لا تردَّ على عدوِّك حقًّا، وأن تقبل مِن المعتذر معاذيره).
قال ابن القيِّم: (يقول: – أي: الهروي- إذا كان الله قد رضي أخاك المسلم لنفسه عبدًا، أفلا ترضى أنت به أخًا؟!
قوله: (وأن لا تردَّ على عدوِّك حقًّا) أي: لا تصحُّ لك درجة التَّواضُع حتى تقبل الحقَّ ممَّن تحبُّ وممَّن تبغض،
وأمَّا (قبولك مِن المعتذر معاذيره) فمعناه: أنَّ مَن أساء إليك، ثمَّ جاء يعتذر مِن إساءته، فإنَّ التَّواضُع يوجب عليك قبول معذرته حقًّا كانت أو باطلًا، وتكل سريرته إلى الله تعالى كما فعل رسول الله في المنافقين الذين تخلَّفوا عنه في الغزو).
قال صاحب المنازل أبو إسماعيل الهروي: (الدَّرجة الثَّالثة: أن تتَّضع للحقِّ، فتنزل عن رأيك وعوائدك في الخدمة، ورؤية حقِّك في الصُّحبة، وعن رسمك في المشاهدة).
قال ابن القيِّم: (يقول:-أي: الهروي- التَّواضُع، بأن تخدم الحقَّ سبحانه وتعبده بما أمرك به على مقتضى أمره لا على ما تراه مِن رأيك، ولا يكون الباعث لك داعي العادة، كما هو باعث مَن لا بصيرة له، غير أنَّه اعتاد أمرًا فجرى عليه، ولو اعتاد ضدَّه لكان كذلك).[ انظر: ((مدارج السَّالكين)) (3/127-120)].
8) صور التَّواضُع:
1- تواضع الإنسان في نفسه:
ويعلم أن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن.
ومِن التَّواضُع: ألَّا يَعْظُم في عينك عملك، إن عملت خيرًا، أو تقرَّبت إلى الله تعالى بطاعة، فإنَّ العمل قد لا يُقْبَل، {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] ولهذا قال بعض السَّلف: لو أعلم أنَّ الله قبل منِّي تسبيحة لتمنَّيت أن أموت الآن!
ومِن ذلك: التَّواضُع عندما تسمع نصيحة، فإنَّ الشَّيطان يدعوك إلى ردِّها، وسوء الظَّنِّ بالنَّاصح؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم، في تعريف الكِبْر: ((الكِبْر: بَطَر الحقِّ، وغمط النَّاس)) رواه مسلم (91) مِن حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
يعني: ردُّ الحقِّ، وبخس النَّاس أشياءهم.
2- التَّواضُع في التعلُّم:
قال الشَّافعي: لا يطلب هذا العلم أحدٌ بالملْك وعزَّة النَّفس فيفلح، لكن مَن طلبه بذلَّة النَّفس، وضيق العيش، وخدمة العلم، وتواضع النَّفس أفلح.
وعن الأصمعي قال: مَن لم يتحمَّل ذلَّ التَّعلُّم ساعة، بقي في ذلِّ الجهل أبدًا.
وقال الشَّافعي: غضب الأعمش يومًا على رجل مِن الطَّلبة، فقال آخر: لو غضب عليَّ مثلك لم أعد إليه. فقال له الأعمش: إذًا هو أحمق مثلك، يترك ما ينفعه لسوء خلقي. ذكره البيهقي[((الآداب الشَّرعية)) لابن مفلح (2/111-115)].
3- التَّواضُع مع النَّاس:
فالمسلم يخالط النَّاس ويدعوهم إلى الخير، ويجالس كل طبقات الناس ولو فقراء ويعلم أن الخير الذي عنده من الله عزوجل
قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
4- التَّواضُع مع الأقران:ومِن التَّواضُع: تواضع المسلم مع قرينه؛ وذلك لأنه كثيرًا ما تشتعل المنافسة ويقع التَّحاسد بينهم.
5- تواضع الإنسان مع مَن هو دونه:مِن التَّواضُع: التواضع مع من هو أقل منك، بل لا يُتصوَّر التواضع إلا مع من هو دونك، سواء في العلم أو الفهم أو المال أو الجاه ومن هو أصغر منك سنا وغير ذلك، بل إذا رأيت من وقع في معصية فلا تتعالى عليه وتعجب بنفسك وعملك،
عن جندب رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّث: ((أنَّ رجلًا قال: والله لا يغفر الله لفلان. وأنَّ الله تعالى قال: “مَن ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفر لفلان؟! فإنِّي قد غفرت لفلان وأحبطت عملك”)) رواه مسلم (2621).
6- تواضع صاحب المال:فإنَّ مَن مَنَّ الله عليهم بالمال، والجاه، والقوَّة، والنُّفوذ، أحوج الخَلْق إلى خُلُق التَّواضُع؛ لأنَّ هذه النِّعم مدعاة إلى الكِبْر والفخر.
7- تواضع القائد مع الأفراد: يقول تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشُّعراء: 215].
ومِن مظاهر هذا التَّواضُع، عدم الاستبداد بالرَّأي
وكما يقول الفضيل بن عياض: (مَن أحبَّ الرِّياسة لم يفلح أبدًا.
9) الأسباب التي تعين على التَّواضُع:
1- تقوى الله:وهذا مِن أوَّل الأمور والأسباب التي تعين المرء على التَّواضُع، وتردعه عن أخلاق أهل السَّفه والكِبْر؛ والله يقول: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، فمَن تذكَّر دائمًا هذه السُّنَّة الكونيَّة خضع لإخوانه ولعامَّة النَّاس
2- عامل النَّاس بما تحبُّ أن يعاملوك به .
3- التَّفكُّر في أصل الإنسان :
وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى هذا بقوله: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس: 18-19]
قال ابن حبَّان: (وكيف لا يتواضع مَن خُلِق مِن نطفة مَذِرَة، وآخره يعود إلى جيفة قذرة، وهو بينهما يحمل العذرة؟). ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 61).
4- معرفة الإنسان قَدْرَه:قال تعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء: 37].(أي: أنت أيُّها المتكَبِّر المختال ضعيف حقير عاجز محصور بين جمادين أنت عاجز عن التَّأثير فيها، فالأرض التي تحتك لا تقدر أن تؤثِّر فيها بشدَّة وطئك عليها، والجبال الشَّامخة فوقك لا يبلغ طولك طولها، فاعرف قَدْرَك، ولا تتكبَّر، ولا تمش في الأرض مرحًا). ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/592).
5- تذكُّر الأمراض والأوجاع والمصائب:(ما أجمل التَّواضُع واللِّين!!فلو رأيت أهل البلاء بشتَّى صنوفهم للمست التَّواضُع يعلو وجوههم وأبدانهم!
انظر إلى مَن غلَّه المرض . كيف لان وانكسر
وما قيل هنا، يقال في أهل المصائب كافَّة، فلماذا التَّجمُّل بالتَّواضُع عند الضُّرِّ، والافتخار والمباهاة والأشر والكِبْر عند الرَّخاء والنِّعمة في العلن والسِّرِّ؟!
6- تطهير القلب:القلب إذا صَلحَ صَلحَ العمل كلُّه بإذن الله تعالى
10) نماذج في التَّواضُع:
أ. نماذج مِن تواضع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم
، روى أبو داود في سننه عن أبي ذرٍّ وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهري أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيُّهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلسًا يعرفه الغريب إذا أتاه…)) رواه أبو داود (4698)، والنَّسائي (4991). وسكت عنه أبو داود، وصحَّحه الألباني في ((صحيح أبي داود)) (4698).
وقال له رجل: يا محمَّد، أيا سيِّدنا وابن سيِّدنا، وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيُّها النَّاس، عليكم بتقواكم، ولا يستهوينَّكم الشَّيطان، أنا محمَّد بن عبد الله، أنا عبد الله ورسوله، ما أحبُّ أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلنيها الله)) رواه أحمد (3/153) (12573)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (9/103) مِن حديث أنس رضي الله عنه. وجوَّد إسناده الشَّوكاني كما في ((الفتح الرباني)) (1/336)، وصحَّح إسناده أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/611).
– وكان صلى الله عليه وسلم مِن تواضعه: يتفقَّد أحوال أصحابه ويقوم بزيارتهم، فقد روى البخاريُّ في صحيحه عن عبد الله بن عمرو قال: ((إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذُكِر له صومي، فدخل علي فألقيت له وسادة مِن أَدَم حشوها ليف فجلس على الأرض، …)) رواه البخاري (1980)، ومسلم (1159).
وكان يتفقَّدهم حتى في الغزوات والمعارك، ومِن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه مِن حديث أبي برزة: ((أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان في مغزى له، فأفاء الله عليه، فقال لأصحابه: هل تفقدون مِن أحدٍ. قالوا: نعم فلانًا وفلانًا وفلانًا. ثمَّ قال: هل تفقدون مِن أحدٍ. قالوا: نعم فلانًا وفلانًا وفلانًا. ثمَّ قال: هل تفقدون مِن أحدٍ؟ قالوا: لا. قال: لكنِّي أفقد جليبيبًا، فاطلبوه. فطُلِب في القتلى، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثمَّ قتلوه، فأتى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فوقف عليه، فقال: قتل سبعة ثمَّ قتلوه، هذا منِّي وأنا منه، هذا منِّي وأنا منه. قال: فوضعه على ساعديه ليس له إلَّا ساعدا النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: فحفر له ووضع في قبره)) رواه مسلم (2472).
– وكان مِن تواضعه صلى الله عليه وسلم، القيام بخدمة أصحابه، روى مسلم في صحيحه مِن حديث أبي قتادة، وفيه -في قصَّة نومهم عن صلاة الفجر-: ((…قال ودعا بالميضأة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبُّ وأبو قتادة يسقيهم -أي أصحابه- فلم يَعْدُ أن رأى النَّاس ماءً في الميضأة تكابُّوا عليها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسنوا الْمَلَأَ كلُّكم سيَرْوى. قال: ففعلوا. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبُّ وأسقيهم حتى ما بقي غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ثمَّ صبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لي اشرب. فقلت: لا أشرب حتى تشرب يا رسول الله. قال: إنَّ ساقي القوم آخرهم شربًا. قال: فشربت، وشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأتى النَّاس الماء جامِّين رِوَاء) رواه مسلم (681).
– ومِن تواضعه صلى الله عليه وسلم، أنَّه إذا مرَّ على الصِّبيان، سلَّم عليهم، فقد روى البخاريُّ ومسلم عن أنس رضي الله عنه: ((أنَّه مرَّ على صبيان فسلَّم عليهم، وقال: كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يفعله)) رواه البخاري (6247)، ومسلم (2168).
((وكان صلى الله عليه وسلم يزور الأنصار، ويسلِّم على صبيانهم، ويمسح رؤوسهم)) رواه ابن حبان (2/205)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (6/291)، والبغوي في ((شرح السنة)) (12/264) مِن حديث أنس رضي الله عنه. وقال البغوي: حسن صحيح. وقال الألباني في ((السِّلسلة الصَّحيحة)) (5/149): إسناده صحيح على شرط مسلم.
وعن أنس رضي الله عنه قال: ((إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخٍ لي صغير: يا أبا عُمَيْر، ما فعل النُّغَير؟)) رواه البخاري (6129)، ومسلم (2150).
– ومِن تواضعه صلى الله عليه وسلم، أنَّه كان يشارك في خدمة أهله في البيت، فقد روى البخاريُّ عن الأسود، قال: ((سألت عائشة: ما كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مِهْنَةِ أهله – تعني خدمة أهله -، فإذا حضرت الصَّلاة خرج إلى الصَّلاة)) رواه البخاري (676) مِن حديث عائشة رضي الله عنها.
– وكان مِن تواضعه صلى الله عليه وسلم، أنه يركب الحمار ويستردف فيه، يحكي لنا أنس رضي الله عنه عن حال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فيقول: ((كان صلى الله عليه وسلم يُرْدِف خلفه، ويضع طعامه على الأرض، ويجيب دعوة المملوك، ويركب الحمار)) رواه الحاكم (4/132) (7128). وصحَّحه الألباني في ((صحيح الجامع)) (4945).
وعن عبيد بن حنين أنَّه سمع ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- يحدِّث أنَّه قال: ((مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطَّاب عن آية، فما أستطيع أن أسأله هيبة له، حتى خرج حاجًّا فخرجت معه…)) الحديث. رواه البخاري (4913). وفيه: ((وإنَّه – أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم – لَعَلَى حصيرٍ ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة مِنَ أَدَم حشوها ليف، وإنَّ عند رجليه قَرَظًا مصبوبًا، وعند رأسه أَهَبٌ معلَّقة، فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيتُ، فقال: ما يبكيك؟ فقلت: يا رسول الله، إنَّ كِسْرَى وقيصر فيما هُمَا فيه وأنت رسول الله! فقال: أَمَا ترضى أن تكون لهم الدُّنْيا ولنا الآخرة)) رواه البخاري (4913).
– ومِن تواضعه صلى الله عليه وسلم: استجابته للدَّعوة، وقبوله الهديَّة ، روى البخاريُّ مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((لو دُعِيت إلى ذراع أو كُرَاع لأجبت، ولو أُهْدِي إليَّ ذراع أو كراع لقَبِلت)) (17) .
[((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنُّويري (18/176)].
ب. نماذج مِن تواضع الصَّحابة رضوان الله عليهم:
(فكان أبوبكر رضي الله عنه يحلب الشَّاة لجيرانه، وكان عمر رضي الله عنه يحمل قربة الماء، وكان عثمان رضي الله عنه وهو يومئذ خليفة – يقيل في المسجد ويقوم وأثر الحصباء في جنبه، وكان عليٌّ رضي الله عنه يحمل التَّمر في ملحفة ويرفض أن يحمله عنه غيره، وكان أبو الدَّرداء ينفخ النَّار تحت القِدْر حتى تسيل دموعه.
تواضع الصِّدِّيق رضي الله عنه:- (لما استُخلف أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه أصبح غاديًا إلى السُّوق، وكان يحلب للحي أغنامهم قبل الخلافة، فلمَّا بُويَع قالت جارية مِن الحي: الآن لا يحلب لنا. فقال: بلى لأحلبنَّها لكم، وإنِّي لأرجو ألَّا يغيِّرني ما دخلت فيه) ((التبصرة)) لابن الجوزي (ص 408).
تواضع عمر رضي الله عنه:- عن طارق بن شهاب، قال: (خرج عمر بن الخطَّاب إلى الشَّام ومعنا أبو عبيدة بن الجرَّاح، فأَتَوا على مخاضة [الحاشية: المخاضة: ما جاز الناس فيه مشاة وركبانا، وهو الموضع الذي يتخضخض ماؤه فيخاض عند العبور. انظر: ((تاج العروس)) للزبيدي (18/322)] وعمر على ناقة له، فنزل عنها وخلع خفَّيه فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين! أنت تفعل هذا، تخلع خفَّيك وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها المخاضة؟! ما يسرُّني أنَّ أهل البلد استشرفوك. فقال عمر: أوَّه، لم يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالًا لأمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم إنَّا كنَّا أذلَّ قوم، فأعزَّنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزَّة بغير ما أعزَّنا الله به أذلَّنا الله) رواه الحاكم (1/130) (207). وقال: صحيح على شرط الشَّيخين. ووافقه الذهبي، وصحَّحه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2893).
– عن أبي محذورة قال: (كنت جالسًا عند عمر رضي الله عنه، إذ جاء صفوان بن أميَّة بجَفْنَة يحملها نفرٌ في عباءة، فوضعوها بين يدي عمر، فدعا عمر ناسًا مساكين وأرقَّاء مِن أرقَّاء النَّاس حوله، فأكلوا معه، ثمَّ قال عند ذلك: فعل الله بقوم، أو قال: لحى الله قومًا يرغبون عن أرقَّائهم أن يأكلوا معهم!! فقال صفوان: أما والله، ما نرغب عنهم، ولكنَّا نستأثر عليهم، لا نجد والله مِن الطَّعام الطَّيِّب ما نأكل ونطعمهم) رواه البخاري في ((الأدب المفرد)) (201)، والحسين بن حرب في ((البر والصلة)) (182). وصحَّحه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (148).
تواضع عثمان رضي الله عنه:قال الحسن: (رأيت عثمان بن عفان يقيل في المسجد وهو يومئذ خليفة، ويقوم وأثر الحصى بجنبه، فنقول: هذا أمير المؤمنين، هذا أمير المؤمنين) ((التبصرة)) لابن الجوزي (ص 437).
عن ميمون بن مهران قال: (أخبرني الهمدانيُّ أنَّه رأى عثمان بن عفان رضي الله عنه على بغلة، وخلفه عليها غلامه نائل وهو خليفة) ((الزُّهد)) لأحمد (ص 158).
تواضع علي رضي الله عنه:- عن عمرو بن قيس الملائي عن رجل منهم قال: (رُئِي على علي بن أبي طالب إزارٌ مرقوعٌ، فقيل له: تلبس المرقوع؟! فقال: يقتدي به المؤمن ويخشع به القلب) ((الزُّهد)) لهنَّاد بن السري (2/368).
– (وأنَّه رضي الله عنه قد اشترى لحمًا بدرهم، فحمله في ملحفته، فقيل له: نحمل عنك يا أمير المؤمنين. فقال: لا، أبو العيال أحقُّ أن يحمل)
تواضع عبد الله بن سلام رضي الله عنه:- مرَّ عبد الله بن سلام رضي الله عنه في السُّوق وعليه حزمة مِن حطب، فقيل له: أليس الله قد أعفاك عن هذا؟! قال: بلى، ولكن أردتُ أن أدفع به الكِبْر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يدخل الجنَّة مَن كان في قلبه مثقال حبَّة مِن خردلٍ مِن كِبْر)) رواه أحمد في ((الزُّهد)) (150)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (29/133). وصحَّح سنده البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) (7/375)، وصحَّحه الألباني في ((السِّلسلة الصَّحيحة)) (3257).
ج. نماذج مِن تواضع السَّلف:تواضع عمر بن عبد العزيز:- (كان عند عمر بن عبد العزيز قوم ذات ليلة في بعض ما يحتاج إليه، فغشي سراجه، فقام إليه فأصلحه، فقيل له:
يا أمير المؤمنين! ألا نكفيك؟ قال: وما ضرَّني؟ قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز).
تواضع الإمام أحمد بن حنبل:
قال المروزيُّ: (لم أر الفقير في مجلس أعزَّ منه في مجلس أبي عبد الله؛ كان مائلًا إليهم مُقْصِرًا عن أهل الدُّنْيا، وكان فيه حِلْمٌ، ولم يكن بالعجول، وكان كثير التَّواضُع، تعلوه السَّكينة والوَقَار، إذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا لا يتكلَّم حتى يُسْأَل، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدَّر) ((سير أعلام النُّبلاء)) للذَّهبي (11/218).
(وكان ربَّما خرج إلى البقَّال، فيشتري الجرزة الحطب والشَّيء فيحمله بيده، ويتنوَّر في البيت) ((سير أعلام النُّبلاء)) للذَّهبي (11/209).
وقال يحيى بن معين: (ما رأيت مثل أحمد بن حنبل!! صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء ممَّا كان فيه مِن الخير) ((سير أعلام النُّبلاء)) للذَّهبي (11/214).
وقال إسماعيل بن إسحاق الثَّقفي: (قلت لأبي عبد الله أوَّل ما رأيته: يا أبا عبد الله، ائذن لي أن أقبِّل رأسك. فقال: لم أبلغ أنا ذاك) ((الآداب الشَّرعية)) لابن مفلح (2/258).
د. نماذج مِن تواضع العلماء:
تواضع ابن تيمية:قال البزَّار -وهو يذكر تواضع ابن تيمية-: (وأمَّا تواضعه: فما رأيت ولا سمعت بأحدٍ مِن أهل عصره مثله في ذلك، كان يتواضع للكبير والصَّغير والجليل والحقير والغني الصَّالح والفقير، وكان يدني الفقير الصَّالح ويكرمه ويؤنسه ويباسطه بحديثه المستحلى زيادة على مثله مِن الأغنياء، حتى أنَّه ربَّما خدمه بنفسه وأعانه بحمل حاجته جبرًا لقلبه وتقرُّبًا بذلك إلى ربِّه.
وكان لا يسأم ممَّن يستفتيه أو يسأله، بل يقبل عليه ببشاشة وجه، ولين عَرِيكة، ويقف معه حتى يكون هو الذي يفارقه: كبيًرا كان أو صغيرًا، رجلًا أو امرأةً، حرًّا أو عبدًا، عالـمًا أو عامِّيًّا، حاضرًا أو باديًا، ولا يجبهه ولا يحرجه ولا ينفِّره بكلام يوحشه، بل يجيبه ويفهمه ويعرِّفه الخطأ مِن الصَّواب بلطف وانبساط، وكان يلزم التَّواضُع في حضوره مِن النَّاس، ومغيبه عنهم في قيامه وقعوده، ومشيه ومجلسه ومجلس غيره.
وحكى البزَّار عن بعض أصحابه قال: ولقد بالغ معي في حال إقامتي بحضرته في التَّواضُع والإكرام -يعني ابن تيمية- حتى إنه لا يذكرني باسمي، بل يلقِّبني بأحسن الألقاب، وأظهر لي مِن الأخلاق والمبالغة في التَّواضُع بحيث إنَّه كان إذا خرجنا مِن منزله بقصد القراءة، يحمل هو بنفسه النُّسخة، ولا يدع أحدًا منَّا يحملها عنه، وكنت أعتذر إليه مِن ذلك خوفًا مِن سوء الأدب، فيقول: لو حملته على رأسي لكان ينبغي، ألَا أحمل ما فيه كلام رسول الله صلَّى الله وعليه وسلَّم؟
وكان يجلس تحت الكرسي ويدع صدر المجلس، حتى إنِّي لأستحي مِن مجلسه هناك، وأعجب مِن شدَّة تواضعه، وكان هذا حاله في التَّواضُع والتَّنازل والإكرام لكلِّ مَن يَرِدُ عليه أو يصحبه أو يلقاه، حتى أنَّ كلَّ مَن لقيه يحكي عنه مِن المبالغة في التَّواضُع نحوًا ممَّا حكيته وأكثر مِن ذلك، فسبحان مَن وفَّقه وأعطاه وأجراه على خِلَال الخير وحباه) ((الأعلام العليَّة) للبزار (ص 50).
تواضع الشَّيخ ابن باز:(كان الشَّيخ ابن باز -رحمه الله- آية في التَّواضُع فلا يكاد يُعْرَف له مثيلٌ في زمانه في هذه الخصلة؛ فهو لا يرى لنفسه فضلًا، ولا يرغب في المديح، ولا في التَّميز على النَّاس، وكان محبًّا للفقراء والمساكين، حريصًا على مجالستهم، والأكل معهم. ومِن صور تواضعه:
– لا يحتقر النَّصيحة، أو الفائدة مِن أي أحدٍ، حتى مِن الصَّغير:
في يومٍ مِن الأيَّام اتَّصل شاب صغير بسماحة الشَّيخ، وقال: يا سماحة الشَّيخ! النَّاس بأشد حاجة إلى علماء يفتونهم، وأقترح على سماحتكم أن تجعلوا في كلِّ مدينة مفتيًا؛ ليسهل الاتِّصال.
فقال له سماحة الشَّيخ: ما شاء الله أصلحك الله، كم عمرك؟ فقال ثلاثة عشر عامًا.
– يقول الرَّاوي للقصَّة: فقال لي سماحة الشَّيخ: هذا اقتراح طيِّب، يستحقُّ الدِّراسة، اكتب إلى الأمين العام لهيئة كبار العلماء بهذا، فكتبت ما أملى به، وممَّا جاء في كتابه:
أما بعد فقد اتصل بي بعض النَّاصحين، وقال: إنَّه يقترح وضع مفتين في كلِّ بلد، ونرى عرضه على اللَّجنة الدَّائمة؛ لنتبادل الرَّأي في الموضوع) ((جوانب مِن سيرة الإمام عبد العزيز بن باز)) لمحمد إبراهيم الحمد (بتصرُّف) (ص 136).
تواضع الشَّيخ ابن عثيمين:كان الشَّيخ ابن عثيمين يتحلَّى بالصِّفات والأخلاق النَّبيلة فكان مِن صفاته الصِّدق والإعراض عن الدُّنْيا والتَّواضُع، ومِن صور تواضعه:
– طفل صغير يأخذ بيد الشَّيخ ويذهب به إلى والده:
(يأتيه طفل صغير لم يبلغ السَّادسة مِن عمره فيمسك يد الشَّيخ مِن وسط طلَّابه مخاطبًا إيَّاه: أبي قدم إلى عنيزة للسَّلام عليك، أرجو أن تسلِّم عليه قبل أن تخرج، والشَّيخ يبتسم له ويلاطفه، والطِّفل آخذٌ بيد الشَّيخ إلى والده، فيتفاجأ والد الطِّفل بالشَّيخ أمامه، فيتعجَّب الوالد مِن هذا الخُلُق النَّبيل الذي يتحلَّى به الشَّيخ) ((الجامع لحياة العلامة محمد بن صالح العثيمين)) لوليد بن أحمد الحسين (ص 39).
وراجع قصص أخرى ((الجامع لحياة العلامة محمد بن صالح العثيمين)) لوليد بن أحمد الحسين (ص 43).[انظر: موسوعة الأخلاق]
====
====
====
(المسألة الثانية): من الأخلاق المحمودة: العفو والصفح
1) معنى العفو والصفح لغةً واصطلاحًا:
معنى العفو لغةً:
العفو مصدر عَفَا يَعْفُو عَفْوًا، فهو عافٍ وعَفُوٌّ، والعَفْوُ هو التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه، وأصله المـحو والطمس، وعفوت عن الحق: أسقطته، كأنك محوته عن الذي عليه..
وقال الخليل: (وكلُّ مَن استحقَّ عُقوبةً فتركْتَه فقد عفوتَ عنه. وقد يكون أن يعفُوَ الإنسان عن الشَّيء بمعنى الترك، ولا يكون ذلك عن استحقاق).
معنى العفو اصطلاحًا:
العفو اصطلاحًا: (هو التجاوز عن الذنب وترك العقاب).
وقال الراغب: (العفو هو التجافي عن الذنب).
وقيل: (هو القصد لتناول الشيء، والتجاوز عن الذنب).
معنى الصفح لغةً:
الصفح مصدر (صَفَحَ عنه يَصْفَح صَفْحًا: أَعرض عن ذنبه، وهو صَفُوح وصَفَّاحٌ عَفُوٌّ، والصَّفُوحُ الكريم؛ لأنه يَصْفَح عمن جَنى عليه).
وذكر بعض أهل العلم أن الصفح مشتق من صفحة العنق؛ لأنَّ الذي يصفح كأنه يولي بصفحة العنق، إعراضًا عن الإساءة.
معنى الصفح اصطلاحًا:الصفح: (هو ترك التأنيب).وقيل: إزالة أثر الذنب من النفس. [موسوعة الأخلاق]
2) الترغيب في العفو والصفح
أولًا: الترغيب في العفو والصفح في القرآن الكريم
وردت آيات كثيرة في ذكر العفو والصفح والترغيب فيهما، ومن هذه الآيات:
– قوله تعالى: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 22].
قال ابن كثير: (هذه الآية نزلت في الصدِّيق، حين حلف ألا ينفع مِسْطَح ابن أثاثة بنافعة بعدما قال في عائشة ما قال،… فلما أنزل الله براءةَ أمِّ المؤمنين عائشة، وطابت النفوس المؤمنة واستقرت، وتاب الله على مَن كان تكلَّم من المؤمنين في ذلك، وأُقيم الحدُّ على مَن أُقيم عليه، شَرَع تبارك وتعالى، وله الفضل والمنة، يُعطِّفُ الصدِّيق على قريبه ونسيبه، وهو مِسْطَح بن أثاثة، فإنَّه كان ابن خالة الصديق، وكان مسكينًا لا مال له إلا ما ينفق عليه أبو بكر، رضي الله عنه، وكان من المهاجرين في سبيل الله، وقد وَلَق وَلْقَة تاب الله عليه منها، وضُرب الحدَّ عليها. وكان الصديق رضي الله عنه معروفًا بالمعروف، له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب. فلما نزلت هذه الآية إلى قوله: أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي: فإنَّ الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر عن المذنب إليك نغفر لك، وكما تصفح نصفح عنك. فعند ذلك قال الصديق: بلى، والله إنَّا نحبُّ -يا ربنا -أن تغفر لنا. ثم رَجَع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا، في مقابلة ما كان قال: والله لا أنفعه بنافعة أبدًا، فلهذا كان الصديق هو الصديق رضي الله عنه وعن بنته) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (6/31).
– وقال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 133].
(قوله تعالى… وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ يدخل في العفو عن الناس، العفو عن كلِّ من أساء إليك بقول أو فعل، والعفو أبلغ من الكظم؛ لأنَّ العفو ترك المؤاخذة مع السماحة عن المسيء، وهذا إنما يكون ممن تحلَّى بالأخلاق الجميلة، وتخلَّى عن الأخلاق الرذيلة، وممن تاجر مع الله، وعفا عن عباد الله رحمة بهم، وإحسانًا إليهم، وكراهة لحصول الشرِّ عليهم، وليعفو الله عنه، ويكون أجره على ربه الكريم، لا على العبد الفقير، كما قال تعالى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40]) ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص 148).
– وقال سبحانه: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [الشورى:40].
(قال ابن عباس رضي الله عنه: من ترك القصاص وأصلح بينه وبين الظالم بالعفو (فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) أي إن الله يأجره على ذلك. قال مقاتل: فكان العفو من الأعمال الصالحة) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (16/41).
قال السعدي: (ذكر الله في هذه الآية، مراتب العقوبات، وأنها على ثلاث مراتب: عدل، وفضل، وظلم.
فمرتبة العدل: جزاء السيئة بسيئة مثلها، لا زيادة ولا نقص، فالنفس بالنفس، وكل جارحة بالجارحة المماثلة لها، والمال يضمن بمثله.
ومرتبة الفضل: العفو والإصلاح عن المسيء، ولهذا قال: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40] يجزيه أجرًا عظيمًا، وثوابًا كثيرًا، وشرط الله في العفو الإصلاح فيه؛ ليدلَّ ذلك على أنَّه إذا كان الجاني لا يليق العفو عنه، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته، فإنه في هذه الحال لا يكون مأمورًا به.
وفي جعل أجر العافي على الله ما يُهيِّج على العفو، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به، فكما يحب أن يعفو الله عنه، فَلْيَعْفُ عنهم، وكما يحب أن يسامحه الله، فليسامحهم؛ فإنَّ الجزاء من جنس العمل.
وأما مرتبة الظلم: فقد ذكرها بقوله: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [الشورى:40] الذين يجنون على غيرهم ابتداءً، أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته، فالزيادة ظلم) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص 760).
– وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن: 14].
(هذا تحذير من الله للمؤمنين، من الاغترار بالأزواج والأولاد، فإنَّ بعضهم عدو لكم، والعدو هو الذي يريد لك الشر، ووظيفتك الحذر ممن هذا وصفه والنفس مجبولة على محبة الأزواج والأولاد، فنصح تعالى عباده أن توجب لهم هذه المحبة الانقياد لمطالب الأزواج والأولاد، ولو كان فيها ما فيها من المحذور الشرعي ورغبهم في امتثال أوامره، وتقديم مرضاته بما عنده من الأجر العظيم المشتمل على المطالب العالية والمحاب الغالية، وأن يؤثروا الآخرة على الدنيا الفانية المنقضية، ولما كان النهي عن طاعة الأزواج والأولاد، فيما هو ضرر على العبد، والتحذير من ذلك، قد يوهم الغلظة عليهم وعقابهم، أمر تعالى بالحذر منهم، والصفح عنهم والعفو، فإنَّ في ذلك من المصالح ما لا يمكن حصره، فقال: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن: 14] لأنَّ الجزاء من جنس العمل.
فمن عفا عفا الله عنه، ومن صفح صفح الله عنه، ومن غفر غفر الله له، ومن عامل الله فيما يحب، وعامل عباده كما يحبون وينفعهم، نال محبة الله ومحبة عباده، واستوثق له أمره) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص 868).
وقال السعدي في موضع آخر :
قال الشيخ السعدي رحمه الله:
«أمر بإحسان خاص، له موقع كبير، وهو الإحسان إلى من أساء إليك، فقال: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ﴾، أي: فإذا أساء إليك مسيء من الخلق، خصوصًا من له حق كبير عليك، كالأقارب والأصحاب، ونحوهم، إساءة بالقول أو بالفعل، فقابله بالإحسان إليه، فإن قطعك فَصِلْهُ، وإن ظلمك، فاعف عنه، وإن تكلم فيك، غائبًا أو حاضرًا، فلا تقابله، بل اعف عنه، وعامله بالقول اللين. وإن هجرك وترك خطابك، فَطيِّبْ له الكلام، وابذل له السلام، فإذا قابلت الإساءة بالإحسان حصل فائدة عظيمة.
﴿فَإذا الَّذِي بَيْنَكَ وبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأنَّهُ ولِيٌّ حَمِيمٌ﴾ أي: كأنه قريب شفيق.
﴿وما يُلَقّاها﴾ أي: وما يوفق لهذه الخصلة الحميدة ﴿إلا الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ نفوسهم على ما تكره، وأجبروها على ما يحبه الله، فإن النفوس مجبولة على مقابلة المسيء بإساءته، وعدم العفو عنه، فكيف بالإحسان؟!
فإذا صبر الإنسان نفسَه، وامتثل أمر ربه، وعرف جزيل الثواب، وعلم أن مقابلته للمسيء بجنس عمله لا يفيده شيئًا، ولا يزيد العداوة إلا شدة، وأن إحسانه إليه ليس بواضع قدره، بل من تواضع لله رفعه، هان عليه الأمر، وفعل ذلك متلذذًا مستحليًا له.
﴿وما يُلَقّاها إلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ لكونها من خصال خواص الخلق، التي ينال بها العبد الرفعة في الدنيا والآخرة، التي هي من أكبر خصال مكارم الأخلاق.» انتهى
«تفسير السعدي» (٧٤٩).
– وقال تعالى: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى: 37].
قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: (أي: سجيتهم وخلقهم وطبعهم تقتضي الصفح والعفو عن الناس، ليس سجيتهم الانتقام من الناس) ((تفسير القرآن العظيم)) (7/210).
ثانيًا: الترغيب في العفو والصفح في السنة النبوية:
– عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)) رواه مسلم (2588).
قال القاضي عياض: (وقوله: ((ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا)). فيه وجهان:
أحدهما: ظاهره أنَّ من عُرف بالصفح والعفو ساد وعظم في القلوب وزاد عزه.
الثاني: أن يكون أجره على ذلك في الآخرة وعزته هناك) ((إكمال المعلم)) (8/28).
– وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث والذي نفسي بيده إن كنت لحالفًا عليهن: لا ينقص مال من صدقة فتصدقوا، ولا يعفو عبد عن مظلمة إلا زاده الله بها عزًّا يوم القيامة، ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر)) رواه أحمد (1/193) (1674)، والبزار (3/244)، وأبو يعلى (2/159). قال ابن كثير في ((جامع المسانيد والسنن)) (7080): له شاهد في الصحيحين، وصححه الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (7/177)، وصححه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2462).
– وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: ((ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم)) رواه أحمد (2/219) (7041)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (380)، وصححه الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (2465).
قال المناوي في قوله: (واغفروا يغفر لكم): (لأنَّه سبحانه وتعالى يحب أسمائه وصفاته التي منها: الرحمة، والعفو، ويحب من خلقه من تخلق بها) ((فيض القدير)) (1/474).
– وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! كم نعفو عن الخادم؟ فصمت! ثم أعاد عليه الكلام، فصمت! فلما كان في الثالثة، قال: (اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرة)) رواه أبو داود (5164)، والطبراني في ((المعجم الكبير)) (13/326)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/18) (15799). وسكت عنه أبو داود، وحسنه ابن حجر في ((تخريج المشكاة)) (3/341)، وصحح إسناده الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (488).
—
تفصيل للشنقيطي متى يحسن العفو والصفح :
قَوْلُهُ تَعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدى عَلَيْكُمْ الآيَةَ.
هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى طَلَبِ الِانْتِقامِ، وقَدْ أذِنَ اللَّهُ فِي الِانْتِقامِ فِي آياتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعالى: ولَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِن سَبِيلٍ إنَّما السَّبِيلُ عَلى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النّاسَ الآيَةَ [٤٢ ٤١].
وكَقَوْلِهِ: لا يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إلّا مَن ظُلِمَ [٤ ١٤٨].
وكَقَوْلِهِ ذَلِكَ ومَن عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ الآيَةَ [٢٢ \ ٦٠].
وقَوْلِهِ: والَّذِينَ إذا أصابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [٤٢ ٣٩].
وقَوْلِهِ: وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [٤٢ ٤٠].
وكَقَوْلِهِ: لا يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إلّا مَن ظُلِمَ [٤ ١٤٨].
وكَقَوْلِهِ ذَلِكَ ومَن عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ الآيَةَ [٢٢ \ ٦٠].
وقَوْلِهِ: والَّذِينَ إذا أصابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [٤٢ ٣٩].
وقَوْلِهِ: وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [٤٢ ٤٠].
وقَدْ جاءَتْ آياتٌ أُخَرُ تَدُلُّ عَلى العَفْوِ وتَرْكِ الِانْتِقامِ، كَقَوْلِهِ: فاصْفَحِ الصَّفْحَ الجَمِيلَ [١٥ ٨٥].
وقَوْلِهِ: والكاظِمِينَ الغَيْظَ والعافِينَ عَنِ النّاسِ [٣ ١٣٤].
وكَقَوْلِهِ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ [٤١ ٣٤].
وقَوْلِهِ: ولَمَن صَبَرَ وغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِن عَزْمِ الأُمُورِ [٤٢ ٤٣].
وقَوْلِهِ: خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ [٧ ١٩٩].
وكَقَوْلِهِ: وإذا خاطَبَهُمُ الجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا [٢٥ ٦٣].
والجَوابُ عَنْ هَذا بِأمْرَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ اللَّهَ بَيَّنَ مَشْرُوعِيَّةَ الِانْتِقامِ، ثُمَّ أرْشَدَ إلى أفْضَلِيَّةِ العَفْوِ، ويَدُلُّ لِهَذا قَوْلُهُ تَعالى: وإنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ولَئِنْ صَبَرْتُمْ
لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ [١٦ ١٢٦]، وقَوْلُهُ: لا يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إلّا مَن ظُلِمَ [٤ \ ١٤٨]، فَأذِنَ فِي الِانْتِقامِ بِقَوْلِهِ: «إلّا مَن ظُلِمَ».
ثُمَّ أرْشَدَ إلى العَفْوِ بِقَوْلِهِ: إنْ تُبْدُوا خَيْرًا أوْ تُخْفُوهُ أوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [٤ ١٤٩].
الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ الِانْتِقامَ لَهُ مَوْضِعٌ يَحْسُنُ فِيهِ، والعَفْوُ لَهُ مَوْضِعٌ كَذَلِكَ، وإيضاحُهُ أنَّ مِنَ المَظالِمِ ما يَكُونُ فِي الصَّبْرِ عَلَيْهِ انْتِهاكُ حُرْمَةِ اللَّهِ، ألا تَرى أنَّ مَن غُصِبَتْ مِنهُ جارِيَتُهُ مَثَلًا إذا كانَ الغاصِبُ يَزْنِي بِها فَسُكُوتُهُ وعَفْوُهُ عَنْ هَذِهِ المَظْلَمَةِ قَبِيحٌ وضَعْفٌ وخَوْرٌ تُنْتَهَكُ بِهِ حُرُماتُ اللَّهِ، فالِانْتِقامُ فِي مِثْلِ هَذا واجِبٌ، وعَلَيْهِ يُحْمَلُ الأمْرُ فِي قَوْلِهِ: فاعْتَدُوا الآيَةَ.
أيْ كَما إذا بَدَأ الكُفّارُ بِالقِتالِ فَقِتالُهُمْ واجِبٌ، بِخِلافِ مَن أساءَ إلَيْهِ بَعْضُ إخْوانِهِ المُسْلِمِينَ بِكَلامٍ قَبِيحٍ ونَحْوِ ذَلِكَ
فَعَفْوُهُ أحْسَنُ وأفْضَلُ، وقَدْ قالَ أبُو الطَّيِّبِ المُتَنَبِّي:
إذا قِيلَ حِلْمٌ فَلِلْحِلْمِ مَوْضِعٌ … وحِلْمُ الفَتى فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ جَهْلُ . انتهى من أضواء البيان
قال ابن تيمية :
والمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ تَتَنَوَّعُ؛ فَتارَةً تَكُونُ المَصْلَحَةُ الشَّرْعِيَّةُ القِتالَ وتارَةً تَكُونُ المَصْلَحَةُ المُهادَنَةَ وتارَةً تَكُونُ المَصْلَحَةُ الإمْساكَ والِاسْتِعْدادَ بِلا مُهادَنَةٍ وهَذا يُشْبِهُ ذَلِكَ؛ لَكِنَّ الإنْسانَ تُزَيِّنُ لَهُ نَفْسُهُ أنَّ عَفْوَهُ عَنْ ظالِمِهِ يُجْرِيهِ عَلَيْهِ ولَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ فِي الصَّحِيحِ أنَّهُ قالَ: ﴿ثَلاثٌ إنْ كُنْت لَحالِفًا عَلَيْهِنَّ ما زادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوِ إلّا عِزًّا وما نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِن مالٍ وما تَواضَعَ أحَدٌ لِلَّهِ إلّا رَفَعَهُ اللَّهُ﴾. فاَلَّذِي يَنْبَغِي فِي هَذا البابِ أنْ يَعْفُوَ الإنْسانُ عَنْ حَقِّهِ ويَسْتَوْفِيَ حُقُوقَ اللَّهِ بِحَسَبِ الإمْكانِ. قالَ تَعالى: ﴿والَّذِينَ إذا أصابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾ قالَ إبْراهِيمُ النَّخْعِيُّ: كانُوا يَكْرَهُونَ أنْ يَسْتَذِلُّوا فَإذا قَدَرُوا عَفَوْا. قالَ تَعالى: ﴿هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾ يَمْدَحُهُمْ بِأنَّ فِيهِمْ هِمَّةَ الِانْتِصارِ لِلْحَقِّ والحَمِيَّةَ لَهُ؛ لَيْسُوا بِمَنزِلَةِ الَّذِينَ يَعْفُونَ عَجْزًا وذُلًّا؛ بَلْ هَذا مِمّا يُذَمُّ بِهِ الرَّجُلُ والمَمْدُوحُ العَفْوُ مَعَ القُدْرَةِ والقِيامُ لِما يَجِبُ مِن نَصْرِ الحَقِّ لا مَعَ إهْمالِ حَقِّ اللَّهِ وحَقِّ العِبادِ. واَللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
مجموع الفتاوى ١٥/١٧٤
3) أقوال السلف والعلماء في العفو والصفح:- عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه (أنه قام يوم مات المغيرة بن شعبة رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه وقال: عليكم باتقاء الله وحده لا شريك له، والوقار والسكينة، حتى يأتيكم أمير، فإنما يأتيكم الآن، ثم قال: استعفوا لأميركم، فإنه كان يحب العفو. ثم قال: أما بعد، فإني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: أبايعك على الإسلام، فشرط علي (والنصح لكل مسلم). فبايعته على هذا، ورب هذا المسجد إني لناصح لكم، ثم استغفر ونزل).
– (وجلس ابن مسعود في السوق يبتاع طعامًا فابتاع، ثم طلب الدراهم وكانت في عمامته فوجدها قد حلت، فقال: لقد جلست وإنها لمعي، فجعلوا يدعون على من أخذها ويقولون: اللهم اقطع يد السارق الذي أخذها، اللهم افعل به كذا، فقال عبد الله: اللهم إن كان حمله على أخذها حاجة فبارك له فيها، وإن كان حملته جراءة على الذنب فاجعله آخر ذنوبه).
– وقيل لأبي الدرداء: مَن أعزُّ الناس؟ فقال: (الذين يعفون إذا قدروا؛ فاعفوا يعزكم الله تعالى).
– وقال الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما: (لو أنَّ رجلًا شتَمني في أذني هذه، واعتذر في أُذني الأخرَى، لقبِلتُ عذرَه).
– وقال معاوية رضي الله عنه: (عليكم بالحلم والاحتمال حتى تمكنكم الفرصة، فإذا أمكنتكم فعليكم بالصفح والإفضال).
– وعن وهب بن كيسان قال سمعت عبد الله بن الزبير يقول على المنبر: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199] قال: والله ما أمر بها أن تؤخذ إلا من أخلاق الناس، والله لآخذنها منهم ما صحبتهم).
– وأُتي عبد الملك بن مروان بأسارى ابن الأشعث، فقال لرجاء بن حيوة: (ماذا ترى؟). قال:(إن الله -تعالى- قد أعطاك ما تحب من الظفر فأعط الله ما يحب من العفو، فعفا عنهم).
– وقال مالك بن دينار: (أتينا منزل الحكم بن أيوب ليلًا وهو على البصرة أمير، وجاء الحسن، وهو خائف فدخلنا معه عليه، فما كنا مع الحسن إلا بمنزلة الفراريج، فذكر الحسن قصة يوسف -عليه السلام- وما صنع به إخوته، فقال: باعوا أخاهم وأحزنوا أباهم، وذكر ما لقي من كيد النساء ومن الحبس، ثم قال: أيها الأمير، ماذا صنع الله به؟ أداله منهم، ورفع ذكره، وأعلى كلمته، وجعله على خزائن الأرض، فماذا صنع يوسف حين أكمل الله له أمره وجمع له أهله؟ قال: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف: 92]، يعرض للحكم بالعفو عن أصحابه، قال الحكم: فأنا أقول لا تثريب عليكم اليوم، ولو لم أجد إلا ثوبي هذا لواريتكم تحته).
– وعن عمر بن عبد العزيز قال: (أحبُّ الأمور إلى الله ثلاثة: العفو في القدرة، والقصد في الجدة، والرفق في العبادة، وما رفق أحد بأحد في الدنيا إلا رفق الله به يوم القيامة).
– وعن سعيد بن المسيب قال: (ما من شيء إلا والله يحب أن يعفى عنه، ما لم يكن حدًّا).
– وعن الحسن، قال: (أفضل أخلاق المؤمن العفو).
– وقال الفضيل بن عياض: (إذا أتاك رجلٌ يشكو إليك رجلًا، فقل: يا أخي، اعفُ عنه؛ فإنَّ العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمِل قلبي العفوَ، ولكن أنتصر كما أمرَني الله عزَّ وجل فقل له: إن كنتَ تُحسِن أن تنتَصِر، وإلا فارجع إلى باب العفو؛ فإنه باب واسع، فإنَّه مَن عفَا وأصلحَ فأجره على الله، وصاحِبُ العفو ينام على فراشه بالليل، وصاحب الانتصار يقلِّب الأمور؛ لأن الفُتُوَّة هي العفوُ عن الإخوان).
– وقال إبراهيم النخعي: (كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا، وكانوا إذا قدروا عفوا).
– وعن أيوب قال:(لا ينبل الرجل حتى يكون فيه خصلتان: العفة عما في أيدي الناس، والتجاوز عنهم). [موسوعة الأخلاق].
قال ابن تيمية :
وأما الصَّبْر فَفِيهِ أجر عَظِيم فَمن أُصِيب بِجرح ونَحْوه فَعَفا عَن جارحه كانَ الجرْح مُصِيبَة يكفر بها عَنهُ ويؤجر على صبره وعَلى إحسانه إلى الظّالِم بِالعَفو عَنهُ فَمن توهم أن بِالعَفو قد يسْقط حَقه أو ينقص قدره أو يحصل لَهُ ذل فَهُوَ غالط كَما ثَبت فِي الصَّحِيح أنه ﷺ قالَ ثَلاث إن كنت لحالفا عَلَيْهِنَّ ما زاد الله عبدا بِعَفْو إلّا عزا وما نقصت صَدَقَة من مال وما تواضع أحد لله إلّا رَفعه
وهَذا رد لما يَظُنّهُ من النَّقْص والذل أتباعا للظن وما تهوى الأنْفس من أن العَفو مذلة والصَّدَقَة تنقص ماله والتواضع يخفضه وما انتقم رَسُول الله ﷺ لنَفسِهِ قطّ إلّا أن تنتهك محارم الله فينتقم لله .
والنّاس أرْبَعَة مِنهُم من ينتصر لنَفسِهِ ولربه وهُوَ الَّذِي فِيهِ دين وغَضب الله ومِنهُم من لا ينتصر لنَفسِهِ ولا لرَبه وهُوَ الَّذِي فِيهِ جبن وضعف دين ومِنهُم من ينْتَقم لنَفسِهِ لا لرَبه وهُوَ شَرّ الأقْسام وأما الكامِل فَهُوَ الَّذِي ينتصر لحق الله ويَعْفُو عَن حق نَفسه عِنْد المقدرَة مجموع الفتاوى
وقال ابن تيمية في موضع آخر :
ومَن كانَ مِن الطّائِفَتَيْنِ يَظُنُّ أنَّهُ مَظْلُومٌ مَبْغِيٌّ عَلَيْهِ فَإذا صَبَرَ وعَفا أعَزَّهُ اللَّهُ ونَصَرَهُ؛ كَما ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: ﴿ما زادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوِ إلّا عِزًّا، وما تَواضَعَ أحَدٌ لِلَّهِ إلّا رَفَعَهُ اللَّهُ؛ ولا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِن مالٍ﴾ وقالَ تَعالى: ﴿وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَن عَفا وأصْلَحَ فَأجْرُهُ عَلى اللَّهِ﴾ وقالَ تَعالى: ﴿إنّما السَّبِيلُ عَلى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النّاسَ ويَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذابٌ ألِيمٌ﴾ ﴿ولَمَن صَبَرَ وغَفَرَ إنّ ذَلِكَ لَمِن عَزْمِ الأُمُورِ﴾ فالباغِي الظّالِمُ يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنهُ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ؛ فَإنَّ البَغْيَ مَصْرَعُهُ، قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: ولَوْ بَغى جَبَلٌ عَلى جَبَلٍ لَجَعَلَ اللَّهُ الباغِيَ مِنهُما دَكًّا. ومِن حِكْمَةِ الشِّعْرِ:
قَضى اللَّهُ أنَّ البَغْيَ يَصْرَعُ أهْلَهُ … وأنَّ عَلى الباغِي تَدُورُ الدوائر
مجموع الفتاوى ٣٥/٨٢
وقال أيضا :
والمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ بِأنْ يَصْبِرَ عَلى المَقْدُورِ ولِذَلِكَ قالَ: ﴿وإنْ تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ فالتَّقْوى فِعْلُ المَأْمُورِ وتَرْكُ المَحْظُورِ والصَّبْرُ عَلى أذاهُمْ ثُمَّ إنّهُ حَيْثُ أباحَ المُعاقَبَةَ قالَ: ﴿وإنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ولَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ﴾ ﴿واصْبِرْ وما صَبْرُكَ إلّا بِاللَّهِ ولا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ولا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمّا يَمْكُرُونَ﴾. فَأخْبَرَ أنَّ صَبْرَهُ بِاَللَّهِ فاَللَّهُ هُوَ الَّذِي يُعِينُهُ عَلَيْهِ فَإنَّ الصَّبْرَ عَلى المَكارِهِ بِتَرْكِ الِانْتِقامِ مِن الظّالِمِ ثَقِيلٌ عَلى الأنْفُسِ لَكِنَّ صَبْرَهُ بِاَللَّهِ كَما أمَرَهُ أنْ يَكُونَ لِلَّهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿ولِرَبِّكَ فاصْبِرْ﴾. لَكِنْ هُناكَ ذَكَرَهُ فِي الجُمْلَةِ الطَّلَبِيَّةِ الأمْرِيَّةِ؛ لِأنَّهُ مَأْمُورٌ أنْ يَصْبِرَ لِلَّهِ لا لِغَيْرِهِ وهُنا ذَكَرَهُ فِي الخَبَرِيَّةِ فَقالَ: ﴿وما صَبْرُكَ إلّا بِاللَّهِ﴾ فَإنَّ الصَّبْرَ وسائِرَ الحَوادِثِ لا تَقَعُ إلّا بِاَللَّهِ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ وقَدْ لا يَكُونُ فَما لا يَكُونُ بِاَللَّهِ
لا يَكُونُ وما لا يَكُونُ لِلَّهِ لا يَنْفَعُ ولا يَدُومُ. ولا يُقالُ: واصْبِرْ بِاَللَّهِ فَإنَّ الصَّبْرَ لا يَكُونُ إلّا بِاَللَّهِ لَكِنْ يُقالُ: اسْتَعِينُوا بِاَللَّهِ واصْبِرُوا فَنَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ عَلى الصَّبْرِ.
مجموع الفتاوى ٨/٣٢٩
قال ابن القيم :
[فَصْلٌ المَشْهَدُ الثّانِي مَشْهَدُ الصَّبْرِ]
فَصْلٌ
المَشْهَدُ الثّانِي: مَشْهَدُ الصَّبْرِ فَيَشْهَدُهُ ويَشْهَدُ وُجُوبَهُ، وحُسْنَ عاقِبَتِهِ، وجَزاءَ أهْلِهِ، وما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الغِبْطَةِ والسُّرُورِ. ويُخَلِّصُهُ مِن نَدامَةِ المُقابَلَةِ والِانْتِقامِ. فَما انْتَقَمَ أحَدٌ لِنَفْسِهِ قَطُّ إلّا أعْقَبَهُ ذَلِكَ نَدامَةٌ. وعَلِمَ أنَّهُ إنْ لَمْ يَصْبِرِ اخْتِيارًا عَلى هَذا – وهُوَ مَحْمُودٌ – صَبَرَ اضْطَرارًا عَلى أكْبَرَ مِنهُ. وهُوَ مَذْمُومٌ.
[فَصْلٌ المَشْهَدُ الثّالِثُ مَشْهَدُ العَفْوِ والصَّفْحِ والحِلْمِ]
فَصْلٌ
المَشْهَدُ الثّالِثُ: مَشْهَدُ العَفْوِ والصَّفْحِ والحِلْمِ فَإنَّهُ مَتى شَهِدَ ذَلِكَ وفَضْلَهُ وحَلاوَتَهُ وعِزَّتَهُ: لَمْ يَعْدِلْ عَنْهُ إلّا لِعَشًى فِي بَصِيرَتِهِ. فَإنَّهُ «ما زادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إلّا عِزًّا» كَما صَحَّ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ. وعُلِمَ بِالتَّجْرِبَةِ والوُجُودِ. وما انْتَقَمَ أحَدٌ لِنَفْسِهِ إلّا ذَلَّ.
هَذا، وفِي الصَّفْحِ والعَفْوِ والحِلْمِ: مِنَ الحَلاوَةِ والطُّمَأْنِينَةِ والسَّكِينَةِ، وشَرَفِ النَّفْسِ، وعِزِّها ورِفْعَتِها عَنْ تَشَفِّيها بِالِانْتِقامِ: ما لَيْسَ شَيْءٌ مِنهُ فِي المُقابَلَةِ والِانْتِقامِ
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ٢/٣٠٣
4) فوائد العفو والصفح:
1- في العفو رحمة بالمسيء، وتقدير لجانب ضعفه البشري، وامتثال لأمر الله، وطلب لعفوه وغفرانه.
2- في العفو توثيق للروابط الاجتماعية التي تتعرض إلى الوهن والانفصام بسبب إساءة بعضهم إلى بعض، وجناية بعضهم على بعض.
3- العفو والصفح عن الآخرين سبب لنيل مرضات الله سبحانه وتعالى.
4- العفو والصفح سبب للتقوى قال تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُم [البقرة: 237].
5- العفو والصفح من صفات المتقين، قال تعالى وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 133، 134].
6- من يعفو ويصفح عن الناس يشعر بالراحة النفسية.
7- بالعفو تُنال العزة، قال صلى الله عليه وسلم: ((.. وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا..)) رواه مسلم (2588).
8- العفو والصفح سبيل إلى الألفة والمودة بين أفراد المجتمع.
9- في العفو والصفح الطمأنينة، والسكينة، وشرف النفس.
10- بالعفو تكتسب الرفعة والمحبة عند الله وعند الناس.
[موسوعة الأخلاق].
5) نماذج في العفو:أ. نماذج من عفو النبي صلى الله عليه وسلم وصفحه.
وفي تأديب الله لرسوله بهذا الأدب أنزل الله عليه في المرحلة المكية قوله: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [الحجر:85-86] ثم أنزل عليه قوله: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الزخرف:89] فكان يقابل أذى أهل الشرك بالصفح الجميل، وهو الصفح الذي لا يكون مقرونًا بغضب أو كبر أو تذمر من المواقف المؤلمة، وكان كما أدَّبه الله تعالى. ثم كان يقابل أذاهم بالصفح الجميل، ويعرض قائلًا: سلام.
وفي العهد المدني لقي الرسول صلى الله عليه وسلم من يهود المدينة أنواعًا من الخيانة فأنزل الله عليه قوله: وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة: 13]، فصبر الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم وعفا وصفح، حتى جاء الإذن الرباني بإجلائهم، ومعاقبة ناقضي العهد منهم).
– فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب، كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى.
قال الله -تعالى-: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران: 186] وقال: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الآية [البقرة: 109]، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو عنهم ما أمر الله به…)) رواه البخاري (4566).
– وعن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ رضي اللهُ عنهما واصفًا النبي صلى الله عليه وسلم: ((…ولا يَدفَعُ السيئةَ بالسيئةِ ، ولكن يعفو ويَصفَحُ)) رواه البخاري ( 4838).
– وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما ((أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارًا، عليه إكاف، تحته قطيفة فدكية. وأردف وراءه أسامة، وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج. وذاك قبل وقعة بدر. حتى مرَّ بمجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان، واليهود، فيهم عبد الله بن أبي، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه،ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم وقف فنزل؛ فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبي: أيها المرء، لا أحسن من هذا، إن كان ما تقول حقًّا، فلا تؤذنا في مجالسنا، وارجع إلى رحلك، فمن جاءك منا فاقصص عليه. فقال عبد الله بن رواحة: اغشنا في مجالسنا؛ فإنا نحب ذلك، قال: فاستبَّ المسلمون والمشركون واليهود، حتى هموا أن يتواثبوا، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفِّضهم، ثم ركب دابته حتى دخل على سعد بن عبادة. فقال: (أي سعد، ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب؟ يريد عبد الله بن أبي، قال كذا وكذا قال: اعف عنه يا رسول الله، واصفح، فو الله لقد أعطاك الله الذي أعطاك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يتوِّجوه، فيعصبوه بالعصابة فلما ردَّ الله ذلك بالحقِّ الذي أعطاكه، شرق بذلك، فذلك فعل به ما رأيت. فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم)) رواه مسلم (1798).
– وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط بيده، ولا امرأةً ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله تعالى، فينتقم لله عزَّ وجلَّ)) (11) .
– وعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- ((أنَّه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرق الناس يستظلون بالشجر فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، وعلَّق بها سيفه ونمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي.فقال: إن هذا اخترط عليَّ سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتًا، فقال: من يمنعك مني؟. فقلت: الله. ثلاثًا، ولم يعاقبه وجلس)) رواه البخاري (2910).
موقفه صلى الله عليه وسلم مع أهل ثقيف:فعن عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد فقال: ((لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يَالِيلَ بن عبد كُلال…. قال ملك الجبال إن شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا)) رواه مسلم (1795).
موقفه صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة:((…. قال: فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف صلى الله عليه وسلم: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين [يوسف:92])) رواه الأزرقي في ((أخبار مكة)) (2/121)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (73/53)، وابن زنجويه في ((الأموال)) (1/293) من حديث عطاء والحسن وطاوس رحمهم الله.
موقفه صلى الله عليه وسلم مع عكرمة بن أبي جهل:عن عروة بن الزبير قال: ((قال عكرمة بن أبي جهل: لما انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا محمد، إنَّ هذه أخبرتني أنَّك أمَّنتني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت آمن. فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنت عبد الله ورسوله، وأنت أبرُّ الناس، وأصدق الناس، وأوفى الناس، قال عكرمة: أقول ذلك وإني لمطأطئ رأسي استحياء منه، ثم قلت: يا رسول الله، استغفر لي كلَّ عداوة عاديتكها، أو موكب أوضعت فيه أريد فيه إظهار الشرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر لعكرمة كلَّ عداوة عادانيها، أو موكب أوضع فيه يريد أن يصدَّ عن سبيلك. قلت: يا رسول الله، مرني بخير ما تعلم فأُعلِّمُه، قال: قل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وتجاهد في سبيله، ثم قال عكرمة: أما والله يا رسول الله، لا أدع نفقة كنت أنفقتها في الصدِّ عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قاتلت قتالًا في الصدِّ عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله. ثم اجتهد في القتال حتى قتل يوم أجنادين شهيدًا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه)) رواه الحاكم (3/270)، والطبري في ((تاريخه)) (11/502)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (41/64).
ب. نماذج من عفو الصحابة رضي الله عنهم وصفحهم
عفو أبي بكر رضي الله عنه:
– عفوه عن مسطح بن أثاثة: و((كان مسطح بن أثاثة ممن تكلم في الإفك، فلما أنزل الله براءة عائشة، قال أبو بكر الصديق: -وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره- والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ [النور: 22] إلى قوله وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال أبو بكر الصديق: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال والله لا أنزعها منه أبدًا)) رواه البخاري (2661).
– وعن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أن رجلًا شتم أبا بكر والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب، ويتبسم، فلما أكثر ردَّ عليه بعض قوله؛ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقام فلحقه أبو بكر، فقال: يا رسول الله، كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت، قال: إنه كان معك مَلَك يردُّ عنك، فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان؛ فلم أكن لأقعد مع الشيطان. ثم قال: يا أبا بكر، ثلاث كلُّهنَّ حقٌّ: ما من عبد ظلم بمظلمة، فيغضي عنها لله عزَّ وجلَّ إلا أعزَّ الله بها نصره، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله عزَّ وجلَّ بها قلة)) رواه أحمد (2/436) (9622)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (10/400) (21096): قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/192): رجاله رجال الصحيح. وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (5/478): رواته ثقات. وجوَّد إسناده الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (5/271).
عفو عمر رضي الله عنه:- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((قدم عيينة بن حصن بن حذيفة، فنزل على ابن أخيه الحرِّ بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولًا كانوا، أو شبانًا، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، هل لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه. قال: سأستأذن لك عليه. قال ابن عباس: فاستأذن الحرُّ لعيينة، فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فوالله، ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر، حتى همَّ أن يوقع به، فقال له الحرُّ: يا أمير المؤمنين، إنَّ الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199]. وإنَّ هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافًا عند كتاب الله)) رواه البخاري (4642).
ج. نماذج من عفو السلف وصفحهم:
عفو مصعب بن الزبير:
– حكي عن مصعب بن الزبير أنه لما ولي العراق، جلس يوما لعطاء الجند، وأمر مناديه فنادى، أين عمرو بن جرموز؟ وهو الذي قتل أباه الزبير، فقيل له: (أيها الأمير، إنه قد تباعد في الأرض. فقال: أوَ يظن الجاهل أني أقيده[الحاشية: القود: قتل النفس بالنفس. انظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (3/372)]
بأبي عبد الله؟ فليظهر آمنًا ليأخذ عطاءه موفرًا). ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (311).
6) قالوا عن العفو والصفح:
– قال الأحنف: (إيَّاك وحمية الأوغاد. قيل: وما هي؟ قال: يرون العفو مغرمًا، والتحمل مغنمًا.
– وقيل لبعضهم: هل لك في الإنصاف، أو ما هو خير من الإنصاف؟ فقال: وما هو خير من الإنصاف؟ فقال: العفو .
– وقيل: العفو زكاة النفس. وقيل: لذة العفو أطيب من لذة التشفي؛ لأنَّ لذة العفو يلحقها حمد العاقبة، ولذة التشفي يلحقها ذم الندم .
– وقيل للإسكندر: أي شيء أنت أسرُّ به مما ملكت؟ فقال: مكافأة من أحسن إلي بأكثر من إحسانه، وعفوي عمن أساء بعد قدرتي عليه .
– وقالوا: العفو يزين حالات من قدر، كما يزين الحلي قبيحات الصور).
– وقال أبو حاتم: (الواجب على العاقل لزوم الصفح عند ورود الإساءة عليه من العالم بأسرهم؛ رجاء عفو الله جلَّ وعلا عن جناياته التي ارتكبها في سالف أيامه؛ لأنَّ صاحب الصفح إنما يتكلف الصفح بإيثاره الجزاء، وصاحب العقاب، وإن انتقم، كان إلى الندم أقرب، فأمَّا من له أخ يوده، فإنَّه يحتمل عنه الدهر كله زلاته).
– وقال بعض البلغاء: (ما ذبَّ عن الأعراض كالصفح والإعراض).
– وقال بعضهم: (أحسن المكارم عفو المقتدر، وجود المفتقر).
– وقال أبو حاتم: (الواجب على العاقل توطين النفس على لزوم العفو عن الناس كافة، وترك الخروج لمجازاة الإساءة، إذ لا سبب لتسكين الإساءة أحسن من الإحسان، ولا سبب لنماء الإساءة وتهييجها أشد من الاستعمال بمثلها) .
– وقال أيضًا: (من أراد الثواب الجزيل، واسترهان الود الأصيل، وتوقع الذكر الجميل، فليتحمل من ورود ثقل الردى، ويتجرع مرارة مخالفة الهوى، باستعمال السنة التي ذكرناها في الصلة عند القطع، والإعطاء عند المنع، والحلم عند الجهل، والعفو عند الظلم؛ لأنَّه من أفضل أخلاق أهل الدين والدنيا).
– (وقيل للمهلب بن أبي صُفرة: ما تقول في العفو والعقوبة؟ قال: هما بمنزلة الجود والبخل، فتمسك بأيهما شئت). [موسوعة الأخلاق]
7) العفو والصفح في الأمثال
– قولهم: ملكت فأسجح. أي: ظفرت فأحسن. ((الأمثال)) لابن سلام (ص 154).
– وقولهم: إن المقدرة تذهب الحفيظة. ((مجمع الأمثال)) للميداني (1/14).
– وقولهم: إذا ارجحنَّ شاصيًا فارفع يدًا. أي: إذا رأيته قد خضع واستكان فاكفف عنه. ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (3/104). [انظر: موسوعة الأخلاق، بتصرف يسير].