4816 الفوائد المنتقاة على صحيح مسلم
مجموعة: إبراهيم البلوشي وأبي عيسى البلوشي وهشام السوري، وعبدالله المشجري، والكربي
ومجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم وخميس العميمي وآخرين.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
صحيح مسلم، بَابُ النَّهْيِ عَنِ السِّبَابِ
4816 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ يَعْنُونَ ابْنَ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا فَعَلَى الْبَادِئِ، مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ)).
==========
التمهيد: “يقول صلى الله عليه وسلم المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان ويقول سباب المسلم فسوق ويقول لا يرمي رجل رجلا بالفسوق إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك
ويقول أنس رضي الله عنه (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا لعانا ولا سبابا)
والسب مفتاح الشر وباب الفحش من القول والمؤمن ينبغي أن يصون لسانه عن التلوث بألفاظ السباب
وأن يكفه عن لعن الناس بل عن لعن الدواب هذا أقل ما يجب عليه إن لم يستطع أن يرطب لسانه بذكر الله وبالثناء بالخير على الناس عملا بقوله صلى الله عليه وسلم (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت).
و”كان العرب في الجاهلية يتفاخرون بالأنساب والأحساب، فيؤدي بهم التفاخر إلى هجاء الأحياء وسب الأموات، ويتفننون في ذلك، ويغرون شعراءهم بذكر محاسنهم ومساوئ غيرهم؛ فتنبعت في قلوبهم الأحقاد من مكامنها، وتظل الفتن من أوكارها، وتدق طبول الحرب بين عشية وضحاها؛ فيصبح أو يمسي بعضهم بعضاً، فلا تكاد الحرب تضع أوزارها حتى تنشب من جديد.
فجاء الإسلام فقضى بتشريعاته السمحة على تلك الحمية الجاهلية والعصبية القبلية وحد من خطرها كثيراً، وظل رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يعلم الناس مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم حتى لقي ربه – عز وجل – والناس على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يحيد عنها إلا من سفه نفسه وفقد عقله.
من هذا تتبين لنا الحكمة في هذا النهي”. [فتح المنعم]
وإنه من محاسن الأخلاق التي رغَّب فيها ديننا الحنيف صَوْنُ عن اللسان عن القبائح والمنكرات، وعن المعاصي والزلَّات؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يُدخِلُ الناس الجنة، فقال: تقوى الله وحسن الخلق، وسُئل عن أكثر ما يُدخِل الناس النار، فقال: الفمُ والفَرْجُ؛ وذلك لأن الفم يصدر منه الكفر والغيبة والنميمة، ورميَ الغير في المهالك، وإبطال الحق، وإبداء الباطل وغير ذلك مما أشار إليه الشارع بقوله: ((وهل يُكِبُّ الناس على وجوههم – أو قال: على مناخرهم – إلاحصائد ألسنتهم)).
ولذلكم وجب على المؤمن أن يصون لسانه، وأن يكسوَ ألفاظه أحسنها؛ فعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما شيءٌ أثقلُ في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء)) [سنن الترمذي، باب: ما جاء في حسن الخلق، برقم: 2002]؛ وهو الذي يتلفظ بالكلام الذي يقبح ذكره ويُستحيى منه [مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، ج: 7، ص: 3044].
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
حديث “المستبان ما قالا فعلى البادئ” عند أبي داود زيادة (منهما) ما لم يعتد المظلوم، المستبان يعني يسب هذا هذا، والسب حرام لا يجوز، ولهذا قال: ما قالا، يعني إثم ما قالا، يوضحه اللفظ الآخر عند أحمد وهو في الصحيح المسند 1055 من حديث عياض بن حِمار: «إثم المستبين ما قالا، فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم» أحمد (4/ 162). صرح بالإثم.
وفي اللفظ الآخر عند أحمد بإسناد صحيح من رواية عياض بن حمار مجاشع -رضي الله عنه-: «المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان»، أي يقولان الهتر وهو القول الباطل، ويتكاذبان، فذكر ثلاث صفات كلها محرم، وأعظمها أنهما شيطانان، ولا يجوز التشبه بالشياطين، سواء كانوا من شياطين الإنس أو من شياطين الجن، لأن الشيطان من شطن إذا بعد عن الخير أو من شاط إذا احترق بالذنوب والمعاصي، فكله بعدٌ عن الخير، ولهذا بين أن التهاتر والتكاذب هو من صفة الشياطين وأن هذا لا يجوز.
(عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه-؛ (أنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قالَ:» وإنما كان الإثم كله عليه؛ لأنه كان سببًا لتلك المخاصمة، قال في «اللمعات»: أما إثم ما قاله البادئ فظاهر، وأما إثم
الآخَر؛ فلكونه الذي حمله على السبّ، وظلمه. انتهى [» عون المعبود «(13) / (162)].
قال الطيبيّ: يجوز أن تكون «ما» شرطية، وقوله: «فعلى البادئ» جزاؤها، أو موصولة «فعلى البادئ» خبرها، والجملة سببيّة، ومعناه: إثم ما قالاه على البادئ، إذا لم يَعْتَدِ المظلوم، فإذا تعدّى يكون عليهما، إلا إذا تجاوز غاية الحدّ، فيكون إثم القولين عليه. انتهى [» الكاشف عن حقائق السنن” (10) / (3114)].
قال الأثيوبي: قوله: «فيكون إثم القولين عليه» فيه نظر لا يخفى؛ لأن الذي يقتضيه السياق أن عليه إثم ما تجاوز به، لا إثم القولين، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.
وقوله: (ما لَمْ يَعْتَدِ المَظْلُومُ «)» ما «مصدريّة ظرفيّة؛ أي: مدّة عدم اعتداء المظلوم على البادئ بمجاوزته الحدّ، بأن سبّه أكثر، أو أفحش منه، فإذا اعتدى كان إثم ما اعتدى عليه، والباقي على البادئ. كذا في» اللمعات «.
وقال النوويّ رحمه الله: معناه أن إثم السباب الواقع من اثنين مختصّ بالبادئ منهما كلّه، إلا أن يتجاوز الثاني قدر الانتصار، فيقول للبادئ أكثر مما قال له. انتهى [«شرح النوويّ» (16) / (140) – (141)].
وقال المناويّ رحمه الله: «المستبّان»؛ أي: الذي يسبّ كل منهما الآخر، «ما قالا»؛ أي: إثم ما قالاه من السبّ والشتم، «فعلى البادئ منهما»، لأنه السبب لتلك المخاصمة، فللمسبوب أن ينتصر، ويسبّه بما ليس بقذف، ولا كذب، كيا ظالم، ولا يأثم، {ولَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِن سَبِيلٍ ((41))} [الشورى:
(41)]، والعفو أفضل.
[فإن قيل]: إذا لم يسكت المسبوب، ويرى البادئ من ظلمه بوقوع التقاصّ، فكيف صح أن يقدّر فيه إثم ما قالا؟
[قلنا]: إضافته بمعنى «في»، والمعنى: الإثم الكائن فيما قالاه، وإثم الابتداء على البادئ، ويستمرّ هذا الحكم حتى يتعدى المظلوم؛ أي: يتعدى الحدّ في السب، فلا يكون الإثم على البادئ فقط، بل عليهما، وقيل: المراد أنه يحصل إثم ما قالا، وللبادئ أكثر من المظلوم، ما لم يَتَعَدَّ، فيربو إثم المظلوم، وقيل: المعنى: أنه إذا سبّه، فردَّ عليه كان كَفافًا، فإن زاد بالغضب،
والتعصب لنفسه، كان ظالِمًا، وكان كل منهما فاسقًا. انتهى [«فيض القدير» (6) / (267)].
قال ابن باز في شرح رياض الصالحين:
فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم إذا سب إنسان إنسانًا فالإثم على الأول إلا إذا اعتدى المسبوب والمظلوم صار عليه إثم اعتدائه، أما القصاص فلا بأس، فإذا قال له: أخزاك الله أو قاتلك الله وقال له مثل فالإثم على الأول، أو لعنك الله قال له مثله، الإثم على الأول قصاص، فإن زاد الثاني فعليه إثم الزيادة، الأول قال: له أخزاك الله، فقال الثاني: بل أنت أخزاك الله ولعنك، الإثم بالزيادة هذه، أما إذا قال مثل ما قال سواء فهذا قصاص، لا حرج على الثاني والإثم على الأول، وتقدم قوله -صلى الله عليه وسلم-: إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة، ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء.
[تنبيه]: أخرج ابن حبّان في «صحيحه» عن عياض بن حمار -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله الرجل يشتمني من قومي، وهو دوني، أعليَّ من بأس أن أنتصر منه؟ قال: «المستبّان شيطانان، يتهاتران، ويتكاذبان» [حديث صحيح].
قال أبو حاتم: أطلق عليهم اسم الشيطان على المستبّ على سبيل المجاورة؛ إذ الشيطان دلّه على ذلك الفعل، حتى تهاتر، وتكاذب، لا أن المستبّين يكونان شيطانين. انتهى [«صحيح ابن حبان» (13) / (35)].
وقال ابن الأثير رحمه الله: “معنى «المستبّان شيطانان، يتهاتران، ويتكاذبان»؛ أي: يتقاولان، ويتقابحان في القول، من الهِتْر بالكسر [حاشية: قال في «القاموس المحيط» (1) / (637): الهَتْرُ -أي: بفتح، فسكون-: مَزْقُ العِرْضِ، وهَتَرَهُ يَهْتِرُهُ وهَتَّرَهُ، وبالكسر: الكذِبُ، والدّاهِيَةُ، والأمْرُ العَجَبُ، والسَّقَطُ من الكلامِ، والخَطأُ فيه. انتهى]،
وفي حديث ابن عمر -رضي الله عنه -: اللَهُمَّ إني أعوذ بك أن أكون من المستهترين. يقال: استهتر فلان، فهو مستهتر: إذا كان كثير الأباطيل،
والهِتر: الباطل، قال ابن الأثير؛ أي: المُبْطلين في القول، والمسقطين في الكلام، وقيل: الذين لا يبالون ما قيل لهم، وما شتموا به، وقيل: أراد: المستهترين بالدنيا”. انتهى [«النهاية في غريب الأثر» (5) / (242)، و «لسان العرب» (5) / (250)]، والله تعالى أعلم. [البحر المحيط]
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): مسائل وأحكام الباب
أولاً: حكم سب المسلمين.
1) “بالنسبة لسبّ وغيبة المسلم الفاسق؛ فالأصل في المسلم أنه يحرم الاعتداء على عرضه.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ … بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ رواه مسلم (2564).
* والمسلم الذي يقع في المعاصي غير المكفرة؛ لا تسقط أخوته الإيمانية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “ومن أصول أهل السنة: … لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، كما يفعله الخوارج؛ بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي، كما قال سبحانه وتعالى في آية القصاص: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ)، وقال: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) ” انتهى من “مجموع الفتاوى” (3/ 151).
* لكن إن كانت هناك مصلحة شرعية راجحة، جاز في هذه الحال غيبته وذكره بما فيه – فقط – من السوء؛ لأجل المصلحة الشرعية المعتبرة، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
“قال العلماء: تباح الغيبة في كل غرض صحيح شرعا؛ حيث تتعين طريقا إلى الوصول إليه ” انتهى من ” فتح الباري ” (10/ 472).
* ومن ذلك: أن يكون الميت ممن كان يجاهر بالمعاصي؛ وبقي أثره بعد موته، فيذكر بالسوء حتى لا يُقتدى به في فجوره وعصيانه؛ ومما يشير إلى ذلك حديث أَنَس بْن مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال: “مَرُّوا بِجَنَازَةٍ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَجَبَتْ، ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: وَجَبَتْ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا، فَوَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا، فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ ” رواه البخاري (1367)، ومسلم (949).
قال النووي رحمه الله تعالى:
” فإن قيل: كيف مكنوا بالثناء بالشر، مع الحديث الصحيح في البخاري وغيره في النهي عن سب الأموات؟
فالجواب: أن النهي عن سب الأموات: هو في غير المنافق، وسائر الكفار، وفي غير المتظاهر بفسق أو بدعة.
فأما هؤلاء: فلا يحرم ذكرهم بشر، للتحذير من طريقتهم، ومن الاقتداء بآثارهم، والتخلق بأخلاقهم.
وهذا الحديث محمول على أن الذي أثنوا عليه شرا، كان مشهورا بنفاق، أو نحوه مما ذكرنا.
هذا هو الصواب في الجواب عنه، وفي الجمع بينه وبين النهي عن السب ” انتهى من “شرح صحيح مسلم” (7/ 20).
2) وتقيّد هذه الغيبة والسبّ؛ بأمور:
الأمر الأول: أن تكون بما يجوز شرعا؛ فلا يجوز الفحش أو الانتقاص من صورته، أو تقبيح وجهه، والسخرية منه ونحو هذا.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ المُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الفَاحِشِ وَلَا البَذِيءِ رواه الترمذي (1977) وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وصححه الألباني في ” سلسلة الأحاديث الصحيحة ” (1/ 634).
الأمر الثاني: أن لا يخرج الكلام عنه عن حد الحاجة، إلى حدّ الثرثرة وتضييع الأوقات بمثل هذا الكلام؛ عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ: عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ، وَوَادَ البَنَاتِ، وَمَنَعَ وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ. رواه البخاري (2408)، ومسلم (593).
الأمر الثالث: أن لا يكون بالكذب والمبالغة، وأن يحمل عليه ما ليس فيه؛ لما هو معلوم من حرمة ذلك.
الأمر الرابع: وأن يكون ذلك بنية مشروعة؛ وليس بنية التشفي أو الفكاهة ونحو هذا.
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ” هل يجوزُ غيبةُ تاركِ الصلاةِ أم لا؟
الجواب:
الحمد لله، إذا قيل عنه إنه تاركُ الصلاة، وكان تاركَها: فهذا جائز، ويَنبغي أن يُشاعَ ذلك عنه، ويُهْجَر حتى يُصلي … “. انتهى من “جامع المسائل” (1/ 122).
وقال الصنعاني رحمه الله تعالى:
“والأكثر يقولون بأنه يجوز أن يقال للفاسق: يا فاسق، ويا مفسد، وكذا في غيبته؛ بشرط:
– قصد النصيحة له،
– أو لغيره ببيان حاله،
– أو للزجر عن صنيعه،
– لا لقصد الوقيعة فيه،
فلا بد من قصد صحيح ” انتهى من “سبل السلام” (8/ 294). انتهى الحديث عن حكم سب المسلمين.
ثانيا: سب الكفار. وأمّا الكافر؛ فينظر … فإن كان معاهدا للمسلمين؛ فلا يجوز الاعتداء عليه بسبّ أو غيبة إلا لمصلحة مشروعة.
روى أبو داود (3052) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وصححه الألباني في “صحيح سنن أبي داود”.
والنهي عن سبّه وغيبته لغير مصلحة راجحة يتناول حال موته.
جاء في “الموسوعة الفقهية الكويتية” (24/ 141): “سب المسلم للذمي معصية، ويعزر المسلم إن سب الكافر.
قال الشافعية: سواء أكان حيا، أو ميتا، يعلم موته على الكفر ” انتهى.
وقال الصنعاني رحمه الله تعالى:
” عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا) أي: وصلوا (إلى ما قدموا) من الأعمال (رواه البخاري).
الحديث دليل على تحريم سب الأموات، وظاهره العموم للمسلم والكافر …
قوله: (قد أفضوا إلى ما قدموا) علة عامة للفريقين معناها أنه لا فائدة تحت سبهم والتفكه بأعراضهم، وأما ذكره تعالى للأمم الخالية بما كانوا فيه من الضلال، فالمقصود تحذير الأمة من تلك الأفعال التي أفضت بفعلها إلى الوبال وبيان محرمات ارتكبوها، وذكر الفاجر بخصال فجوره لغرض جائز وليس من السب المنهي عنه فلا تخصيص بالكفار ” انتهى من “سبل السلام” (3/ 413).
لكن يقيد هذا النهي بعدم وجود مصلحة راجحة كما مضى في المسلم الفاسق؛ فإذا جاز غيبة المسلم الفاسق بعد موته للمصلحة الراجحة على المفسدة، فالكافر المعاهد أولى؛ لأن حرمته ليست بأعظم من المسلم، ويقيّد هذا بما قيّد في غيبة وسبّ المسلم الفاسق.
وأما الكافر المحارب فإنه تجوز غيبته وسبّه؛ فإذا جاز قتاله، فسبّه وغيبته من باب أولى؛ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: ” حَسَّانُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هِجَاءِ المُشْرِكِينَ قَالَ: كَيْفَ بِنَسَبِي؟
فَقَالَ حَسَّانُ: لَأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعَرَةُ مِنَ العَجِينِ “رواه البخاري (3531)،ومسلم (2489). والهجاء نوع من السبّ.
ولأن الله أباح للمظلوم أن يجهر بالسوء لمن ظلمه، والكفار المحاربون ظلمة؛ قال الله تعالى: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) النساء /148.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: “يخبر تعالى أنه لا يحب الجهر بالسوء من القول، أي: يبغض ذلك ويمقته ويعاقب عليه، ويشمل ذلك جميع الأقوال السيئة التي تسوء وتحزن، كالشتم والقذف والسب ونحو ذلك، فإن ذلك كله من المنهي عنه الذي يبغضه الله.
ويدل مفهومها أنه يحب الحسن من القول، كالذكر والكلام الطيب اللين.
وقوله: (إِلا مَن ظُلِمَ) أي: فإنه يجوز له أن يدعو على من ظلمه، ويتشكى منه، ويجهر بالسوء لمن جهر له به، من غير أن يكذب عليه، ولا يزيد على مظلمته، ولا يتعدى بشتمه غير ظالمه ” انتهى من “تفسير السعدي” (ص 212).
* والكافر المحارب كما أنه لا حرمة له حيّا؛ فكذلك لا حرمة له ميتا، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
” تحريم سب الأموات بغير حق أو مصلحة شرعية.
الأموات: يعني الأموات من المسلمين.
أما الكافر: فلا حرمة له، إلا إذا كان في سبه إيذاء للأحياء من أقاربه، فلا يسب، وأما إذا لم يكن هناك ضرر، فإنه لا حرمة له، وهذا هو معنى قول المؤلف رحمه الله: “بغير حق”؛ لأن لنا الحق أن نسب الأموات الكافرين الذين آذوا المسلمين وقاتلوهم، ويحاولون أن يفسدوا عليهم دينهم”انتهى من “شرح رياض الصالحين” (6/ 230).
لكن هذا يقيّد:- بالمصلحة؛ فإذا كان السبّ والغيبة يؤدي إلى مفسدة شرعا؛ فإنه ينهى عن هذا في هذه ذمهم؛ كما يشير إلى ذلك قول الله تعالى: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الأنعام/108.
* ومن المفاسد التي ينبغي أن تجتنب؛ كأن يكون لهذا الكافر قرابة مسلمون يتأذون بغيبته؛ فيكف عن غيبته في هذه الحال مراعاة لحال قرابته.
– ويقيّد هذا السبّ والغيبة بأن يكون بحق، لا اعتداء ولا كذب فيه.
قال الله تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) البقرة /190.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “فالكذب على الشخص حرام كله، سواء كان الرجل مسلما أو كافرا، برا أو فاجرا؛ لكن الافتراء على المؤمن أشد ” انتهى من “مجموع الفتاوى” (28/ 223).
وأما سوء الظن القلبي بالكافر المجرد عن التحدث به فهذا لا يحرم؛ لأن الكافر ليس من أهل العدالة، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
“أما الكافر فلا يحرم سوء الظن فيه؛ لأنه أهل لذلك ” انتهى من “الشرح الممتع” (5/ 300). [حكم سب الفساق والكفار المعينين بعد هلاكم].
قال ابن باز: لا يجوز، غيبة الميت وهي أشد من غيبة الحي هذت إذا كان الشيء مستورا، وأما الشيء الظاهر الذي يقصد التحذير منه لأن الناس قد يقتدون به فعليه أن يبين أن هذا لا يجوز ولا يجوز الاقتداء بفلان في بدعته أو في معصيته الظاهرة.
ويحذر من أهل البدع يقول أنهم أهل بدع كما حذر الله من قوم هود وقوم صالح وقوم نوح وقوم شعيب وقوم لوط لخبثهم. [شرح رياض الصالحين للشيخ عبد العزيز ابن باز 494 من: (باب تحريم سب الأموات بغير حق ومصلحة شرعية)، الموقع الرسمي]
(المسألة الثانية): الأحاديث الواردة في الباب:
1) عَنْ عائِشَةَ رضي الله عنها، قالَتْ: قالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «لاَ تَسُبُّوا الأمْواتَ، فَإنَّهُمْ قَدْ أفْضَوْا إلى ما قَدَّمُوا» (خ) (1393) (خ) (6516)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْغِيبَةُ قَالَ «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ». قِيلَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِى أَخِى مَا أَقُولُ قَالَ «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ» أخرجه مسلم 2589
2 – وبوب أبوداود: باب مَنْ لَيْسَتْ لَهُ غِيبَةٌ. (42)
4887 – حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ نَصْرٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ مِنْ كِتَابِهِ قَالَ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِىُّ عَنْ أَبِى عَبْدِ اللَّهِ الْجُشَمِىِّ قَالَ حَدَّثَنَا جُنْدُبٌ قَالَ جَاءَ أَعْرَابِىٌّ فَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ ثُمَّ عَقَلَهَا ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَتَى رَاحِلَتَهُ فَأَطْلَقَهَا ثُمَّ رَكِبَ ثُمَّ نَادَى اللَّهُمَّ ارْحَمْنِى وَمُحَمَّدًا وَلاَ تُشْرِكْ فِى رَحْمَتِنَا أَحَدًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «أَتَقُولُونَ هُوَ أَضَلُّ أَمْ بَعِيرُهُ أَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى مَا قَالَ». قَالُوا بَلَى.
الحديث في الصحيح المسند 274، لكن حكم الألباني على زيادة (أتقولون هو أضل ام بعيره …. ) بالشذوذ. وقال محققو المسند ضعيف لاضطرابه. فقد اختلف فيه على الجريري
لكن قصة الأعرابي الذي بال في المسجد وردت في البخاري 6010، من حديث أبي هريرة
وكذلك اخرج البخاري 219 ومسلم 284 من حديث أنس
أما غيبة أهل الريب فبوب البخاري باب غيبة أهل الفسق والريب وذكر فيه حديث (ما اظن فلانا وفلانا يعرفان من ديننا شيئاً)
أما إذا لم يكن من أهل الريب فيجب أن ندافع عنه فقد ذبَّ معاذ عن كعب بن مالك لما قيل فيه لقد أعجبه النظر في برديه حين تخلف عن تبوك
3 – وروى أبوداود عن عائشة أنها قالت:
حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا تَعْنِى قَصِيرَةً. فَقَالَ «لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ». قَالَتْ وَحَكَيْتُ لَهُ إِنْسَانًا فَقَالَ «مَا أُحِبُّ أَنِّى حَكَيْتُ إِنْسَانًا وَأَنَّ لِى كَذَا وَكَذَا».
قال الألباني: صحيح، وهو في الصحيح المسند 1594
4) قال الترمذي: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قالَ: حَدَّثَنا سُفْيانُ، عَنْ هِشامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ عائِشَةَ، قالَتْ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأهْلِهِ وأنا خَيْرُكُمْ لِأهْلِي وإذا ماتَ صاحِبُكُمْ فَدَعُوهُ» هَذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ورُوِيَ هَذا عَنْ هِشامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مُرْسَلًا، (ت) (3895) [قال الألباني]: صحيح
و أخرجه أبوداود وزاد (ولا تقعوا فيه):
عَنْ عائِشَةَ رضي الله عنها، قالَتْ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «إذا ماتَ صاحِبُكُمْ فَدَعُوهُ، ولا تَقَعُوا فِيهِ»، (د) 4889 [قال الألباني]: صحيح. «الصحيحة» ((285)).
5) روى الترمذي عَنْ زِيادِ بْنِ عِلاقَةَ، قالَ: سَمِعْتُ المُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَقُولُ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «لا تَسُبُّوا الأمْواتَ فَتُؤْذُوا الأحْياءَ»: وقَدْ اخْتَلَفَ أصْحابُ سُفْيانَ فِي هَذا الحَدِيثِ، فَرَوى بَعْضُهُمْ مِثْلَ رِوايَةِ الحَفَرِيِّ، ورَوى بَعْضُهُمْ، عَنْ سُفْيانَ، عَنْ زِيادِ بْنِ عِلاقَةَ، قالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يُحَدِّثُ عِنْدَ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، نَحْوَهُ، (ت) (1982) [قال الألباني]: صحيح. وراجع «الصحيحة» ((2397)). مشكاة المصابيح
6 – عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: «قالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- اذْكُرُوا مَحاسِنَ مَوْتاكُمْ، وكُفُّوا عَنْ مُساوِيهِمْ». رَواهُ أبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ.
الشرح قال ملا علي: – (وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: ” اذْكُرُوا) قالَ مِيرَكُ: الأمْرُ لِلنَّدْبِ. (وكُفُّوا) أمْرٌ لِلْوُجُوبِ أيِ: امْتَنِعُوا. (عَنْ مُساوِيهِمْ) جَمْعُ سُوءٍ عَلى خِلافِ القِياسِ أيْضًا. قالَ الطِّيبِيُّ: قَدْ سَبَقَ أنَّ ذِكْرَ الصّالِحِينَ مَحاسِنُ المَوْتى ومَساوِيهِمْ مُؤَثِّرٌ فِي حالِ المَوْتى، فَأُمِرُوا بِنَفْعِ الغَيْرِ، ونُهُوا عَنْ ضَرَرِهِ، وأمّا غَيْرُ الصّالِحِينَ فَأثَرُ النَّفْعِ والضَّرَرِ راجِعٌ إلَيْهِمْ، فَعَلَيْهِمْ أنْ يَسْعَوْا فِي نَفْعِ أنْفُسِهِمْ، ودَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمُ اهـ.
وقَوْلُهُ: ونُهُوا عَنْ ضَرَرِهِ مُناقِضٌ بِتَقْرِيرِهِ -صلى الله عليه وسلم- سابِقًا إلّا أنْ يُحْفَظَ التّارِيخُ بِتَاخِيرِ هَذا الحَدِيثِ عَنْهُ مَعَ أنَّهُ يُمْكِنُ الجَمْعُ بِأنَّ الأوَّلَ عِنْدَ قُرْبِ المَوْتِ والثّانِيَ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ، أوِ الأوَّلَ مَحْمُولٌ عَلى اجْتِماعِ الصّالِحِينَ عَلى ذَمِّهِ، والنَّهْيَ عَنِ الِانْفِرادِ ونَظِيرُهُ شَهادَةُ الأرْبَعِ والأقَلِّ بِالقَذْفِ،، واللَّهُ أعْلَمُ.
قالَ بعضهم: غَيْبَةُ المَيِّتِ أشَدُّ مِنَ الحَيِّ، وذَلِكَ؛ لِأنَّ عَفْوَ الحَيِّ واسْتِحْلالَهُ مُمْكِنٌ ومُتَوَقَّعٌ فِي الدُّنْيا، بِخِلافِ المَيِّتِ.
وفِي الأزْهارِ: قالَ العُلَماءُ: وإذا رَأى الغاسِلُ مِنَ المَيِّتِ ما يُعْجِبُهُ كاسْتِنارَةِ وجْهِهِ، وطِيبِ رِيحِهِ، وسُرْعَةِ انْقِلابِهِ عَلى المُغْتَسَلِ اسْتُحِبَّ أنْ يَتَحَدَّثَ بِهِ، وإنْ رَأى ما يَكْرَهُ كَنَتْنِهِ، وسَوادِ وجْهِهِ، أوْ بَدَنِهِ، أوِ انْقِلابِ صُورَتِهِ، حَرُمَ أنْ يَتَحَدَّثَ بِهِ. (رَواهُ أبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ) قالَ مِيرَكُ: ورَواهُ ابْنُ حِبّانَ فِي صَحِيحِهِ. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح – الملا على القاري ((3) / (1209)).
ومن أحاديث رياض الصالحين:
7 – وعنِ ابنِ مَسعودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: سِباب المُسْلِمِ فُسوقٌ، وقِتَالُهُ كُفْرٌ متفقٌ عَلَيهِ.
8 – وعنْ أَبي ذرٍّ رضي الله عنه أنَّهُ سمِع رسُول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- يقولُ: لاَ يَرمي رجُلٌ رَجُلًا بِالفِسْقِ أَوِ الكُفْرِ، إلاَّ ارْتَدَّتْ عليهِ، إنْ لمْ يَكُن صاحِبُهُ كذلكَ رواه البخاريُّ.
9 – وعنْ أَبي هُرَيرةَ رضي الله عنه أنَّ رسُولَ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- قالَ: المُتَسابانِ مَا قَالا، فَعَلى البَادِي مِنْهُما حتَّى يَعْتَدِي المظلُومُ رواه مسلم.
10 – وعنهُ قالَ: أُتيَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِرجُلٍ قَدْ شَرِب قالَ: اضربُوهُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: فَمِنَّا الضَّاربُ بِيدِهِ، والضَّاربُ بِنعْلِه، والضَّارِبُ بثوبهِ، فلَمَّا انصَرفَ، قَالَ بَعضُ القَوم: أخزاكَ اللَّه، قَالَ: لا تقُولُوا هَذَا، لا تُعِينُوا عليهِ الشَّيطَانَ رواه البخاري.
11 – وعنْهُ قالَ: سمِعْتُ رسُول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: مَنْ قَذَف ممْلُوكَهُ بِالزِّنا يُقامُ عليهٍ الحَدُّ يومَ القِيامَةِ، إلاَّ أنْ يَكُونَ كما قالَ متفقٌ عَلَيْهِ.
قال ابن باز:
فهذه الأحاديث الخمسة كلها تدل على تحريم السب لأخيك المسلم والدعاء عليه إلا بحق، الواجب على المسلم مع أخيه المحبة والتواصي بالحق والتعاون على البر والتقوى وحفظ اللسان عما لا ينبغي، حفظ الجوارح عما لا ينبغي، يقول الله جل وعلا: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) [الأحزاب:58] سباب المسلم فسوق، من العصيان الظاهر، وقتاله كفر يعني من الكفر المعروف في الشريعة، هو كفر النعمة، الكفر الأصغر
وفي حديث أبي ذر وغيره: من دعا رجل بكفر أو قال يا عدو الله وليس كذلك إلا رجعت عليه، إذا قال لأخيه: يا عدو الله: أو يا فاسق: أو يا خبيث: أو يا ملعون: أو يا زنديق: وليس كذلك رجع كلامه عليه وصار هو أولى به:
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: من رمى مملوكه بالزنا يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال. احتج به العلماء على أن السيد لا يقام عليه الحد إذا قذف مملوكه، وأنه يقام عليه الحد يوم القيامة إن كان كاذبًا لقوله -صلى الله عليه وسلم-: يقام عليه الحد يوم القيامة يعني يفضح على رؤوس الأشهاد نسأل الله العافية. [موقع الشيخ الرسمي].
===
(المسألة الثالثة): الأسباب الدافعة للسب والفحش والبذاءة
1 – الخبث واللؤم:
الفُسَّاق وأهل الخبث واللؤم من عادتهم، السب، والكلام الفاحش، والبذيء.
قال القرطبي: (والبذي اللسان يسمَّى سفيهًا؛ لأنَّه لا تكاد تتفق البذاءة إلا في جهال الناس، وأصحاب العقول الخفيفة) ((الجامع لأحكام القرآن)) (3/ 386).
وقال الراغب الأصفهاني: (البذاء: الكلام القبيح، ويكون من القوة الشهوية طورًا؛ كالرفث والسخف، ويكون من القوة الغَضَبية طورًا، فمتى كان معه استعانة بالقوة الفكرة يكون فيه السباب، ومتى كان من مجرد الغَضَب كان صوتًا مجردًا لا يفيد نطقًا، كما ترى كثيرًا ممن فار غضبه وهاج هائجه) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) (ص 284).
2 – قصد الإيذاء:
ربما يكون سبب الكلام الفاحش والبذيء (لردة فعل من تصرف أو قول ضدك، فتثور نفسك لتثأر لما سمعته من إيذاء، أو قابلته من تصرف مشين. وقد قال صلى الله عليه وسلم لجابر بن سليم: ((وإن امرؤ شتمك، أو عيَّرك بشيء يعلمه فيك، فلا تعيِّره بشيء تعلمه فيه، ودعه يكون وباله عليه وأجره لك فلا تسبنَّ شيئًا)) رواه البخاري في ((الأدب المفرد)) (1182)، وابن حبان (2/ 279) (521)، والطيالسي (2/ 533). وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (98).
وما أجمل اللجوء إلى الهدوء لمعالجة هذه القضايا بالتي هي أحسن، وبالحكمة والموعظة الحسنة، وفي ذلك خزيٌ للشيطان الذي يتربص بالإنسان المؤمن، فإذا غضب المؤمن كانت فرصة الشيطان في غرس الشقاق، وإذهاب المودة والمحبة بين الإخوان”.
3 – الاعتياد على مخالطة الفساق:
من خالط الفساق وأهل الخبث واللؤم يصبح مثلهم؛ لأنَّ من عادتهم السب والشتم والبذاءة (ولذا يجب على المسلم مجانبة أهل الباطل والفحش، وأن يبحث عن أهل الخير ليخالطهم، ويستمع إلى الكلمة الطيبة منهم، لتصفو بها نفسه؛ لأنَّ المؤمنين الأتقياء أصحاب الكلمة الطيبة الكريمة الفاضلة، يجعلون كلامهم من وراء قلوبهم، يمحصون الكلمة، فإن أرضت الله أمضوها على ألسنتهم، وإلا استغفروا الله وصمتوا، فهم لا يتكلمون بالكلمة النابية، ولا يلعنون ولا يسبون”.
قال الشاعر:
فصاحب تقيًّا عالمًا تنتفع به فصحبة أهل الخير ترجى وتطلب
وإياك والفساق لا تصحبنهم فقربهم يعدي وهذا مجرب
فإنا رأينا المرء يسرق طبعه من الإلف ثم الشر للناس أغلب ((غذاء الألباب)) للسفاريني (3/ 122) بتصرف. [موسوعة الأخلاق].
المسألة الرابعة: أقوال السلف والعلماء:
على المسلم ألا يسب شيئًا مهما كان، حتى يتعود على حلاوة الألفاظ وطيب الأقوال، وهكذا كان حال السلف؛ يقول عاصم بن أبي النَّجود: “ما سمعت أبا وائل – يعني شقيق بن سلمة – سب إنسانًا قط، ولا بهيمة”؛ (سير أعلام النبلاء: 4/ 163).
• وعن المثنى بن الصباح قال: “لبث وهب بن منبه أربعين سنة لم يسب شيئًا فيه الروح”؛ (نزهة الفضلاء: 1/ 440).
قال أسماء بن خارجة: (ما شتمت أحدًا قط؛ لأنَّ الذي يشتمني أحد رجلين؛ كريم كانت منه زلة وهفوة، فأنا أحق من غفرها، وأخذ الفضل فيها، أو لئيم فلم أكن لأجعل عرضي له غرضًا … وكان يتمثَّل:
وأغفر عوراء الكريم ادخاره******* وأعرض عن شتم اللئيم تكرما) ((الصمت)) لابن أبي الدنيا (ص 186).
– وعن الأصمعي قال: (جرى بين رجلين كلام، فقال أحدهما لصاحبه: لمثل هذا اليوم كنت أدع الفحش على الرجال. فقال له خصمه: فإني أدع الفحش عليك اليوم؛ لما تركت قبل اليوم) [((المجالسة وجواهر العلم)) لأحمد بن مروان المالكي (4/ 405)]
– وقال ابن حبان البستي: (إنَّ الوقح إذا لزم البذاء، كان وجود الخير منه معدومًا، وتواتر الشر منه موجودًا، لأنَّ الحياء هو الحائل بين المرء وبين المزجورات كلها، فبقوة الحياء يضعف ارتكابه إياها، وبضعف الحياء تقوى مباشرته إياها) [((روضة العقلاء)) (ص 58)].
– وقال الماوردي: (ومما يجري مجرى فحش القول وهُجْره في وجوب اجتنابه، ولزوم تنكبه، ما كان شنيع البديهة، مستنكر الظاهر، وإن كان عقب التأمل سليمًا، وبعد الكشف والرويَّة مستقيمًا) [((أدب الدنيا والدين)) (ص 284)]
– وقال القاسمي: (كلام الإنسان، بيان فضله، وترجمان عقله، فاقصره على الجميل، واقتصر منه على القليل، وإياك وما يستقبح من الكلام؛ فإنه يُنَفِّر عنك الكرام، ويُوَثِّب عليك اللئام) [((جوامع الآداب)) (ص 6)].
المسألة الخامسة: مما ورد النهي عن سبه:
وإنه من أهم ما ينبغي صون اللسان عنه السبُّ والشَتْمُ، وإن أسوأ السبِّ:
أولًا: سبُّ الوالدين: فعبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن من أكبر الكبائر والذنوب أن يسبَّ الرجل والديه في الإسلام، قيل: يا رسول الله، وكيف يسب والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)) [شعب الإيمان، فصل في عقوق الوالدين وما جاء فيه، برقم: 7486].
والحكمة من وراء النهي عن سب الوالدين أن سبَّهما فيه استخفاف بحقهما الذي أوجبه الله لهما في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، وكل إساءة لهما عقوق؛ وفي الحديث عن أبي الطفيل عامر بن واثلة قال: ((قلنا لعلي بن أبي طالب، أخبرنا بشيء أسرَّه إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أسرَّ إليَّ شيئًا كتمه الناس، ولكني سمعته يقول: لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدِثًا، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من غير المنار)) [صحيح مسلم، باب: تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله، برقم: 1978].
ثانيًا: سب المؤمنين والتعرض لأعراضهم: وسبق ذكر الأحاديث
والحكمة من وراء النهي عن سب المسلمين: أن سبهم فيه انتهاك لحرمتهم، وهو أمرٌ حذَّرت منه الشريعة في نصوص كثيرة؛ منها: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58]، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعِرضه)) [صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب: تحريم ظلم المسلم وخذله، واحتقاره، ودمه، وعِرضه، وماله].
ولأن السب والشتم خَصلة تتنافى مع وصف الإسلام والإيمان؛ ففي الحديث عن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس المؤمن بالطَّعَّان، ولا باللَّعَّان، ولا الفاحش، ولا البذيء)) [سنن الترمذي، كتاب البر والصلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: ما جاء في اللعنة]، وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أنالنبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم من سلِمَ المسلمون من لسانه ويده)) [صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب: المسلم من سلِمَ المسلمون من لسانه].
ولأنه كذلك من الأمور التي تزرع العداوة والبغضاء بين المسلمين؛ قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53]؛ حيث “يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباد الله المؤمنين أن يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلامَ الأحسن والكلمة الطيبة؛ فإنه إذ لم يفعلوا ذلك، نزغ الشيطان بينهم، وأخرج الكلام إلى الفِعال، ووقع الشر والمخاصمة والمقاتلة؛ فإن الشيطان عدوٌّ لآدم وذريته من حين امتنع من السجود لآدم، فعداوته ظاهرة بينة” [فسير ابن كثير، ج: 5، ص: 87].
وهو كذلك من الأمور التي تؤدي بالعبد إلى الإفلاس يوم القيامة؛ فعنأبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضَى ما عليه، أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار)) [صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم]، فذكر صلى الله عليه وسلم من أسباب الإفلاس الشتم.
وعليه؛ فإنه ينبغي للمؤمن ألَّا يسبَّ أحدًا من المسلمين بغير وجه حق [قال النووي: “واعلم أن سباب المسلم بغير حق حرام”، شرح النووي، ج: 16، ص: 141]؛ ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أُتيَ النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب، قال: اضربوه، قال أبو هريرة: فمنَّا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف، قال بعض القوم: أخزاك الله، قال: لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان)) [صحيح البخاري، باب: الضرب بالجريد والنعال، برقم: 6777]؛ وذلك لأن مراد الشيطان إذلال المسلم [كشف المشكل من حديث الصحيحين، ج: 3، ص: 523].
ثالثًا: سب الأموات: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبُّوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا)) [صحيح البخاري، باب: ما ينهى من سب الأموات، برقم: 1393]؛ أفضوا: أي: وصلوا [التنوير شرح الجامع الصغير، ج: 11، ص: 103].
والحكمة من وراء النهي عن سب الأموات أن المسلم له حرمة حيًّا وميتًا؛ وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كسر عظم الميت ككسره حيًّا)) [سنن ابن ماجه، باب: في النهي عن كسر عظام الميت، برقم: 1616]؛ ولأن الأموات قد أفضوا إلى ما قدموا، أي: إلى ما عملوه من حسن أو قبيح، وقد ختم الله لأهل المعاصي من المؤمنين بخاتمة حسنة تخفى عن الناس، فمن سبَّهم فقد أثِمَ، ولا يجوز الشهادة لأحد بالنار ولا بالجنة، إلا من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأن سب الأموات يؤذي الأحياء، ويُورِث العداوة؛ فعن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء)) [سنن الترمذي، باب: ما جاء في الشتم، برقم: 1982]، وأذية الحي محرمة؛ فيحرُم ما هو ذريعة إليها [التنوير شرح الجامع الصغير، ج: 11، ص: 103]. [النهي عن السب والشتم]
فكان في سب الأموات معنيان: المعنى الأول: أنه لغو؛ لأنهم أفضوا إلى ما قدمّوا. والمعنى الثاني: أنهم إذا كان لهم أحياء فسوف يتأذون، وحينئذٍ فسب الأموات دائر بين أمرين: إما لغو لا فائدة منه، وإما إيذاء للأحياء؛ فلهذا نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-، هذا هو ظاهر الحديث، أي: أن ظاهره العموم، ولكن ذهب بعض أهل العلم إلى أن هذا خاص بالمسلمين، وأما الكفار فإنه يجوز أن يسبهم الإنسان ولو بعد موتهم، واستدلوا بما ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: «قال أبو لهب- لعنه الله- للنبي -صلى الله عليه وسلم- … .» ذكر الحديث. فلعن عمه، يعني: لعنه ابن عباس، وابن عباس قوله حجة في مثل هذا.
هنا شيئان:
أما الأول يعني: إذا سبّه تحذيرًا من فعله فهذا ظاهر؛ لأن فيه مصلحة، لأن التحذير من فعل هذا الكافر أو الفاسق فيه مصلحة عظيمة، فإذا سبّه، وقال: هذا الذي ظلم الناس وهذا الذي فعل كذا … ؛
– وإذا سبه أيضًا لبيان حاله فهو أيضًا جائز، بل قد يكون واجبًا، وهذا يقع كثيرًا في كتب أهل الحديث؛ أي: في كتب الرجال.
[قاله الشيخ لابن عثيمين فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام، ط المكتبة الإسلامية، رقم ((569))]
تنبيه: سبق أن مر ما يتعلق بسب الأموات من الأحكام في الصحيح المسند (ج2/ رقم 1134)
رابعًا: النهي عن سب الدهر
روى الشيخان، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: يؤذيني ابن آدم؛ يسبُّ الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلِّب الليل والنهار))، وفي رواية: ((لا يقل ابن آدم: يا خيبةَ الدهر! فإني أنا الدهر، أرسل الليل والنهار، فإن شئت قبضتهما)).اهـ.
قال في شرح السنة – يعني: هذا الحديث -: حديث متفق على صحته، أخرجاه من طريق معمر من أوجه عن أبي هريرة، قال ومعناه: أن العرب كان من شأنها ذمُّ الدهر؛ أي: سبه عند النوازل؛ لأنهم كانوا ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب والمكاره، فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهر.
فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد سبُّوا فاعلها، فكان مرجع سبِّها إلى الله عز وجل؛ إذ هو الفاعلُ حقيقة؛ فنهوا عن سبِّ الدهر. اهـ. باختصار.
ومثل سب الدهر: سبُّ الريح؛ فإنه لا يجوز … لأنها مأمورة من عند الله، وفي الحديث عن أُبَيِّ بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تسبُّوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك خيرَ هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها، وشر ما أمرت به))؛ رواه الترمذي وصحَّحه.
وهكذا الحر والبرد ونحو ذلك؛ فإنه لا يجوز سَبُّهما؛ فهما تذكرة للعبد المؤمن؛ يذكره بالله وقدرته، وقَدَره ورحمته وعذابه؛ فيسأل الله سبحانه الخير، ويستعيذ به من الشر.
خامسًا: النهي عن سب الحمَّى: لا يجوز سب الحُمَّى؛ فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك: ففي “صحيح مسلم” من حديث جابر رضي الله عنه: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم السائب – أو أم المسيب – فقال: ((ما لك يا أم السائب – أو أم المسيب – تزفزفين؟!))، قالت: الحمى، لا بارك الله فيها، فقال: ((لا تسبي الحمى؛ فإنها تذهب خطايا بني آدم، كما يذهب الكير خبث الحديد)).
• وفي رواية عند ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تسبي الحمى؛ فإنها تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الحديد))؛ (صحيح الجامع: 7322).
والعلة من النهي عن سب الحمى أن هذا فيه من التبرم والتضجر من قدر الله تعالى، مع ما فيها من تكفير السيئات وإثبات الحسنات، وقد قال الزين العراقي: “إنما جعلت الحمى حظ المؤمن من النار؛ لما فيها من الحر والبرد المغير للجسم، وهذه صفة جهنم؛ فهي (أي الحمى) تكفر الذنوب فتمنعه من دخول النار”؛ (الموسوعة الفقهية: 24/ 144).
سادسًا: النهي عن سب البراغيث والديك:
سب البراغيث:
وسب البراغيث لا يجوز، وفي هذا حديث لا يصح، لكن المعني صحيح؛ حيث إننا نهينا عن السب بشكل عام؛ ففي الحديث الذي أخرجه الطبراني في “الأوسط” بسند فيه مقال عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: “نزلنا منزلًا، فآذتنا البراغيث فسببناها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوها، فنعمت الدابة؛ فإنها أيقظتكم لذكر الله)). وفي رواية عند أبي يعلى بسند فيه مقال أيضًا عن أنس رضي الله عنه قال: “كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلدغت رجلًا برغوثٌ فلعنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تلعنها؛ فإنها نبهت نبيًّا من الأنبياء للصلاة)) – وفي رواية البزار: ((لا تسبه؛ فإنه أيقظ نبيًّا من الأنبياء لصلاة الصبح)).
سب الديك: لا يجوز سب الديك؛ وذلك لأنه يوقظ النائمين، وينبه الغافلين، فيبادرون إلى طاعة رب العالمين.
• فقد أخرج البزار عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: “إن ديكًا صرخ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسبه رجل، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سب الديك”.
• وفي رواية أنه قال: ((مه! كلا، إنه يدعو إلى الصلاة)). مَهْ: أي: اكفف واترك هذا.
[يدعو: أي: ينبه الناس إلى أوقات العبادة.
• وعند الطبراني بلفظ: ((لا تلعنه ولا تسبَّه؛ فإنه يدعو إلى الصلاة)).
- وأخرج أبو داود وابن حبان عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا الديك؛ فإنه يوقظ للصلاة))؛ (صححه الألباني في المشكاة رقم: 4136)، (وصحيح الجامع: 7314).
والحديث يدل على النهي عن التضجر من الأمور التي تُعِين المسلم على طاعة ربه، وإن كانت تمنع من لذة من أمور الدنيا (كالنوم)، وعلى هذا كل من استفيد منه خير، لا ينبغي أن يسب، ولا يستهان به، بل حقه أن يكرم ويشكر ويتلقى بالإحسان؛ (انظر مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: 7/ 726).
• قال الحليمي – رحمه الله تعالى -: “وفي الحديث دليل على أن كل من استفيد منه خير، لا ينبغي أن يسب، ولا يستهان به، بل حقه الإكرام والشكر، ويتلقى بالإحسان (فيض القدير: 10/ 6423).
فائدة: إذا سمعت صياح الديكة، فاسأل الله من فضله، هكذا أرشدنا الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا سمعتم صياح الديكة، فاسألوا الله من فضله؛ فإنها رأت ملكًا، وإذا سمعتم نهيق الحمار، فتعوذوا بالله من الشيطان؛ فإنه رأى شيطانًا”.
• وفي رواية عند البخاري في “الأدب المفرد” بسند صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا سمعتم صياح الديكة من الليل، فإنها رأت ملكًا، فسلوا الله من فضله، وإذا سمعتم نهاق الحمير [من الليل] فإنها رأت شيطانًا، فتعوذوا بالله من الشيطان)).
• قال الإمام النووي – رحمه الله تعالى – في “شرحه على مسلم” (9/ 55): “قال القاضي عياض: “كان السبب فيه رجاء تأمين الملائكة على الدعاء، واستغفارهم، وشهادتهم بالتضرع والإخلاص، ويؤخذ منه استحباب الدعاء عند حضور الصالحين والتبرك بهم”؛ اهـ.
قال الألباني في الضعيفة: في السنة أحاديث كثيرة طيبة … في تأديب المؤمن وتهذيبه حتى في لسانه، فلا يسب شيئا – فضلا عن لعنه – مثل سب الدهر والديك والريح ونحو ذلك مما يدخل في دائرة التكليف والاختيار، وإن من أجمعها قوله صلى الله عليه وسلم. فذكر حديث من لعن شيئا ليس له أهل رجعت عليه اللعنة.
راجع الضعيفة 6410
ثم من لعن مؤذي المسلمين في طرقاتهم لا ترجع عليه اللعنة لحديث (من آذى المسلمين في طرقاتهم وجبت عليه لعنتهم)
ومنه حديث اتقوا اللعانين. قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال الذي يتخلَّى في طريق الناس أو في ظلمهم متفق عليه
وإن كان الأفضل أن لا يلعن لحديث: ليس المسلم باللعان ولا الطعان ولا الفاحش البذيء.
أما لفظ ( … وجبت عليه لعنتهم) ليس معناه وجوب لعنه، لكن معناه إن لعنوه استحق ذلك.
ويجوز لعن أصحاب المعاصي غير المعينين كما جاء في الحديث: ((لعن الله آكل الربا)) و ((لعن الله من لعن والديه)) و ((لعن الله من ذبح لغير الله)). [رواه مسلم].
سابعًا: تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم
فمن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سلامة القلب من البغض والغل والحقد والكراهة، وسلامة ألسنتهم من كل قول لا يليق بهم.
فقلوبهم سالمة من ذلك، مملوءة بالحب والتقدير والتعظيم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بهم.
فهم يحبون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويفضلونهم على جميع الخلق، لأن محبتهم من محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من محبة الله، وألسنتهم أيضاً سالمة من السب والشتم واللعن والتفسيق والتكفير وما أشبه ذلك مما يأتي به أهل البدع، فإذا سلمت من هذا، ملئت من الثناء عليهم والترضي عنهم والترحم والاستغفار وغير ذلك. [شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين – ص 2/ 247].
الأدلة على تحريم سبهم: إن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم محرم بنص الكتاب العزيز وهو ما تعتقده وتدين به الفرقة الناجية من هذه الأمة، وقد جاءت الإشارة إلى تحريم سبهم في غير ما آية من كتاب الله – جل وعلا – من ذلك:
قوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [التوبة: 100] الآية.
وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا) [الأحزاب: 57].
ومما يؤذيه صلى الله عليه وسلم سب أصحابه.
وقوله تعالى: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ في وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ في التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ في الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) [الفتح: 29] الآية.
ووجه دلالة الآية على تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم أنه لا يسبهم شخص إلا لما وجد في قلبه من الغيظ عليهم، وقد بين تعالى في هذه الآية إنما يغاظ بهم الكفار، فدلت على تحريم سبهم، والتعرض لهم بما وقع بينهم على وجه العيب لهم.
قال ابن باز: مَنْ سَبَّهم على العموم أو أبغضهم كَفَر، لا يبغضهم إلا كافر؛ فهم حَمَلَةُ الشريعة.
و المقصود عموم الصحابة أو جمهورهم، أما بعض الأفراد كمعاوية وغير معاوية، هذا فِسْق، إذا سَبَّ واحدًا منهم يستحق أن يُعَزّر ويُؤدّب.
[الموقع الرسمي، فتاوى الدروس حكم مَن سَبّ الصحابة رضي الله عنهم].
ثامنا: – النهي عن سب الدابة؛ كما جاء في الحديث: ((بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم، في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة، فضجرت فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: خذوا ما عليها، ودعوها فإنها ملعونة)). قال عمران (الراوي): فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد. [رواه مسلم].
ويدخل في ذلك لعن المركبات الحديثة.
تاسعا: إن سب الشيطان ليس فيه فائدة؛ لأنه ملعون، ولكن الواجب التعوذ بالله من شره دائماً؛ كما جاء في الحديث: ((لا تسبوا الشيطان، وتعوذوا بالله من شره)). [صحيح الجامع الصغير].
[انظر: (ذكر وتذكير)، للدكتور: أ. د صالح السدلان].
المسألة السادسة: السب تعتريه الأحكام الآتية:1 – الحرمة: وهي أغلب أحكام السب، وقد يكفر الساب؛ كالذي يسب الله تعالى، أو يسب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو الملائكة.
2 – الكراهة: كسب الحمى، وسب الديك.
3 – الجواز: “نحو سب الأشرار والمجاهرين بالفسق، وسب المشتوم شاتمه بقدر ما سب به”؛ (الموسوعة الفقهية: 24: 135).
====
ثانيًا: يؤخذ من الأحاديث:
(المسألة السابعة): في فوائده:
1 – ويستفاد من هذا الحديث: حكمة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنه يريد أن يحمي أمته عما فيه شر، وقد ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت». [فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام، ط المكتبة الإسلامية، رقم ((569))]
2 – (منها): الزجر عن التسابّ؛ لأن واجب المسلم تجاه أخيه المسلم نَصْره، واحترامه، وتعظيمه، لا خُذلانه، واحتقاره، وإيذاؤه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذُله، ولا يحقره».
3 – (ومنها): بيان جواز الانتصار، قال النوويّ رحمه الله: ولا خلاف في جوازه، وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسُّنَّة، قال الله تعالى: {ولَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِن سَبِيلٍ ((41))} [الشورى (41)]، وقال تعالى: {والَّذِينَ إذا أصابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ((39))} [الشورى (39)]، ومع هذا فالصبر، والعفو أفضل،
قال الله تعالى: {ولَمَن صَبَرَ وغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِن عَزْمِ الأُمُورِ ((43))} [الشورى (43)]،
وللحديث المذكور بعد هذا: «ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا».
4 – (ومنها): أن سباب المسلم بغير حقّ حرام، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «سِباب المسلم فسوق».
5 – (ومنها): بيان أنه لا يجوز للمسبوب أن ينتصر إلا بمثل ما سبّه، ما لم يكن كذبًا، أو قذفًا، أو سبًّا لأسلافه، فمِن صُوَر المباح أن ينتصر بيا ظالم، يا أحمق، أو يا جافي، أو نحو ذلك؛ لأنه لا يكاد أحد ينفك من هذه الأوصاف، قال العلماء: إذا انتصر المسبوب استوفى ظُلامته، وبرئ الأول من حقّه، وبقي عليه إثم الابتداء، أو الإثم المستحقّ لله تعالى، وقيل: يرتفع عنه جميع الإثم بالانتصار منه، ويكون معنى «على البادئ»؛ أي: عليه اللوم، والذمّ، لا الإثم، قاله النوويّ رحمه الله [«شرح النوويّ» (16) / (141)].
وقال القرطبيّ رحمه الله: معنى الحديث: أن المبتدئ بالسبّ هو المختصّ بإثم السبّ؛ لأنّه ظالم به؛ إذ هو مبتدئ من غير سبّ، ولا استحقاق، والثاني منتصر فلا إثم عليه، ولا جناح، لقوله تعالى: {ولَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِن سَبِيلٍ ((41))} [الشورى (41)]، لكن السبّ المنتصَر به وإن كان مباحًا
للمنتصِر، فعليه إثم من حيث هو سبّ، لكنه عائد إلى الجاني الأول؛ لأنّه هو الذي أحْوَج المنتصر إليه، وتسبّب فيه، فيرجع إثمه عليه، ويَسْلَم المنتصر من الإثم؛ لأنّ الشرع قد رَفَع عنه الإثم، والمؤاخذة، لكن ما لم يكن من المنتصِر عدوان إلى ما لا يجوز له، كما قال: «ما لم يَعْتَدِ المظلوم»؛ أي: ما لم يجاوز ما سبّ به إلى غيره، إما بزيادة سبّ آخر، أو بتكرار مثل ذلك السبّ، وذلك أن المباح في الانتصار أن يردّ مثل ما قال الجاني، أو يقاربه؛ لأنّه قصاص، فلو قال له: يا كلب مثلًا فالانتصار أن يردّ عليه بقوله: بل هو الكلب، فلو كرّر هذا اللفظ مرتين، أو ثلاثًا لكان متعديًا بالزائد على الواحدة، فله الأُولى، وعليه إثم الثانية، وكذلك لو ردّ عليه بأفحش من الأُولى، فيقول له: خنزير مثلًا
كان كل واحد منهما مأثومًا؛ لأنَ كلًّا منهما جانٍ على الآخر، وهذا كلّه
مقتضى قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدى عَلَيْكُمْ} الآية
[البقرة (194)]، وقوله: {وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} الآية [الشورى (40)].
قال: وكلُّ ما ذكرناه من جواز الانتصار، إنما هو فيما إذا لم يكن القول كذبًا، أو بهتانًا، وإلا فلا يجوز أن يتكلّم بذلك، لا ابتداءً، ولا قصاصًا، وكذلك لو كان قَذْفًا، فلو ردّه كان كلّ واحد منهما قاذفًا للآخَر، وكذلك لو سبّ المبتدئ أبا المسبوب، أو جدّه لم يَجُز له أن يردّ ذلك؛ لأنّه سبٌّ لمن لم يَجْنِ عليه، فيكون الردّ عدوانًا، لا قصاصًا.
قال بعض علمائنا: إنما يجوز الانتصار فيما إذا كان السبّ مما يجوز سبّ المرء به عند التأديب؛ كالأحمق، والجاهل، والظالم؛ لأنّ أحدًا لا ينفكّ عن بعض هذه الصفات، إلا الأنبياء، والأولياء، فهذا إذا كافاه بسبّه، فلا حرج عليه، ولا إثم، وبقي الإثم على الأول بابتدائه، وتعرّضه لذلك.
قال الأثيوبي: تخصيص هؤلاء السبّ بهذا النوع الذي ذكروه محلّ نظر؛ إذ النصّ عامّ، فلا ينبغي تخصيصه إلا بدليل، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
بل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لليهود اذا قالوا السام عليك قال: وعليكم … وقال لعائشة إذا شتمتهم عليكم الموت إخوة القردة والخنازير بأن الله لا يحب الفحش ولا التفحش.
[تنبيه]: ظاهر قوله تعالى: {ولَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِن سَبِيلٍ ((41))} [الشورى (41)] أن الانتصار مباح، وعلى ذلك يدلّ الحديث المذكور، لكنّ قوله تعالى: {والَّذِينَ إذا أصابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ((39))} [الشورى (39)]
مَدْح من الله تعالى للمنتصِر، والمباح لا يُمدح عليه، فاختَلَف العلماء في ذلك، فقال السّدّيّ: إنما مَدَح الله من انتصر ممن بَغى عليه من غير زيادة على مقدار ما فَعَل به؛ يعني: أنه إنما مُدِح من حيث أنه اتقى الله في انتصاره؛ إذ أوقعه على الوجه المشروع، ولم يفعل ما كانت الجاهلية تفعل، من الزيادة
على الجناية.
وقال غيره: إنما مَدَح الله من انتصر من الظالم الباغي المُعْلِن بظلمه الذي يعمّ ضرره، فالانتقام منه أفضل، والانتصار عليه أولى، قال معناه إبراهيم النّخعيّ، ولا خفاء في أن العفو عن الجناة، وإسقاط المطالبة عنهم بالحقوق
مندوب إليه، مُرَغَّب فيه على الجملة، لقوله تعالى: {ولَمَن صَبَرَ وغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ
لَمِن عَزْمِ الأُمُورِ ((43))} [الشورى (43)]، ولقوله: {فَمَن عَفا وأصْلَحَ فَأجْرُهُ عَلى اللَّهِ} الآية [الشورى (40)]، وقوله: {ولْيَعْفُوا ولْيَصْفَحُوا ألا تُحِبُّونَ أنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور (22)]، وقوله: {وأنْ تَعْفُوا أقْرَبُ لِلتَّقْوى} الآية [البقرة: (237)]، ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: «ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا» [رواه مسلم برقم ((2588))]، ونحوه كثير. انتهى، والله تعالى أعلم [» المفهم” (6) / (568)] .. [البحر المحيط].
6 – (ومنها): فعن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما: «من أتى الجمعة فليغتسل»، وكان أهل المدينة إذا تساب المتسابان يقول أحدهما للآخر: لأنت أشر ممن لا يغتسل يوم الجمعة. [أصول الدعوة وطرقها]
7 – (ومنها): أن السب ليس من أخلاق المؤمنين كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ابن مسعود (ليس المؤمن باللعان ولا بالطعان ولا الفاحش ولا البذيء) [الترمذي: 1977، وقال الألباني: صحيح] أخرجه أحمد بسند صحيح، والأفضل في حق من سب الصبر والعفو، لقول الله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأصلحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] لكن قال بعض أهل العلم: إنه ينبغي في هذه الحال أن يبين له أنه قادر على الرد ولكن تركه لله تعالى، ينبغي أن يبين له أنه قادر على الرد ولكن تركه لله تعالى .. [شرح حديث: (المستبّان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم) باب الترهيب من مساوئ الأخلاق]