4778 الفوائد المنتقاة على شرح صحيح مسلم
مجموعة: إبراهيم البلوشي وأبي عيسى البلوشي ، وعبدالله المشجري.
ومجموعة : طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، وخميس العميمي. وغيرهم
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
صحيح مسلم،
كتاب البر والصلة
بَابُ تَحْرِيمِ ظُلْمِ الْمُسْلِمِ ، وَخَذْلِهِ ، وَاحْتِقَارِهِ وَدَمِهِ ، وَعِرْضِهِ
4778 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ يَعْنِي ابْنَ قَيْسٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، مَوْلَى عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((لَا تَحَاسَدُوا ، وَلَا تَنَاجَشُوا ، وَلَا تَبَاغَضُوا ، وَلَا تَدَابَرُوا ، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ ، وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ ، دَمُهُ ، وَمَالُهُ ، وَعِرْضُهُ)).
حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، عَنْ أُسَامَةَ وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ ، مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ ، يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ دَاوُدَ ، وَزَادَ ، وَنَقَصَ وَمِمَّا زَادَ فِيهِ: ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ ، وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ)) وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ إِلَى صَدْرِهِ.
4779 حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ ، حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ)).
==========
تمهيد:للمسلم على المسلم حقوق كثيرة مبينة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه محمد ﷺ، من ذلك: تعاونه معه على البر والتقوى، وألا يتعاون معه على الإثم والعدوان، قال تعالى: ﴿وتَعاوَنُوا عَلى البِرِّ والتَّقْوى ولا تَعاوَنُوا عَلى الإثْمِ والعُدْوانِ﴾ ومنها: ما ذكره النبي ﷺ في قوله: «حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه » رواه مسلم، ومنها: قوله: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى يختلطوا بالناس، من أجل أن ذلك يحزنه » رواه البخاري ومسلم، ومنها: قوله: «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا » رواه البخاري ومسلم، ومنها: قوله: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه » رواه البخاري ومسلم، ومنها: قوله: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام » رواه البخاري ومسلم، ومنها: قوله: «لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق » وقوله: «إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك » أخرجهما مسلم، ومنها: قوله: «لا تحاسدوا ولا تناجشو ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا
عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا- ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه » رواه مسلم.
إلى غير ذلك من النصوص الدالة على آداب الأخوة الإسلامية.
والحقد، والبغضاء، والحسد، والهجر، والشحناء، والقطيعة، آفاتٌ مهلكةٌ، ومدمرةٌ للمجتمع، ومفرقة بين الأخلاء والأصحاب، وأسباب لنيل غضب الله عزوجل ، وعقوبته في الدنيا والآخرة؛ للأدلة من الكتاب والسنة الثابتة الصريحة
يسير لمن يسره الله عليه :
قال مجاهد فيما أخرجه الطبري في تفسيره (٢)، وذكره ابن كثير في تفسيره (٣) من طريق عبدة بن أبي لبابة: ((إذا تراءى المتحابان في الله فأخذ بيد صاحبه وضحك إليه، تحاتت خطاياهما كما يتحاتّ ورق الشجر. قال عبدة: فقلتُ له: إنّ هذا ليسير. قال: لا تقل ذلك، فإن الله يقول: ﴿لَوْ أنْفَقْتَ ما فِي الأرْضِ جَمِيعًا ما ألَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ [الأنفال ٦٣
والمسلم أخو المسلم يكف عنه الضر، ويجلب إليه النفع.
والتقوى محلها القلب، وهي الميزان عند الله تعالى، وإذا كان أصل التقوى
فقد يكون كثير ممن له صورة حسنة، أو مال أو جاه، أو رياسة في الدنيا، قلبه خاليًا من التقوى، ويكون من ليس له شيءٌ من ذلك مملوءًا من التقوى فيكون أكبر عند الله ( بحث حرمة المسلم على المسلم )
—-
في الباب : أخرج الإمام أحمد في مسنده
مسند
23213 : حدثنا أبو النضر حدثنا المبارك حدثنا الحسن أن شيخا من بني سليط أخبره قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلمه في شيء أصيب لنا في الجاهلية فإذا هو قاعد وعليه حلقة وقد أطافت به، وهو يحدث القوم عليه إزار قطن له غليظ فأول شيء سمعته يقول وهو يشير بإصبعه المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله، التقوى ها هنا، التقوى ها هنا يقول أي في القلب .
وهو على شرط الذيل على الصحيح المسند وقد شرحناه في هون الصمد شرح أحاديث الذيل على الصحيح المسند.
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
(عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه-؛ أنه (قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لا تَحاسَدُوا) الحسد: تمني الشخص زوال النعمة عن مستحق لها، وقد مضى شرحه مستوفًى. وللشيخ سعيد بن وهف القحطاني كتاب بعنوان سلامة الصدر تكلم عن خصلة الحسد .
(ولا تَناجَشُوا) قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: فَسَّره كثير من العلماء بالنجش في البيع، وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها، إما لِنَفْع البائع لزيادة الثمن له، أو بإضرار المشتري بتكثير الثمن عليه، وفي «الصحيحين» عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، عن النبيّ ﷺ أنه نَهى عن النجش، وقال ابن أبي أوفى: الناجش آكل ربًا خائنٌ، ذَكَره البخاريّ، قال ابن عبد البرّ: أجمعوا على أن فاعله عاصٍ لله تعالى ، إذا كان بالنهي عالِمًا، واختلفوا في البيع، فمنهم من قال:
إنه فاسد، وهو رواية عن أحمد، اختارها طائفة من أصحابه، ومنهم من قال: إن كان الناجش هو البائعَ، أو مَن واطأه البائع على النجش، فقد فسد ؛ لأن النهي هنا يعود إلى العاقد نفسه ، وإن لم يكن كذلك لم يفسد؛ لأنه يعود إلى أجنبيّ، وكذا حُكي عن الشافعي أنه عَلَّل صحة البيع بأن البائع غير الناجش، وأكثر الفقهاء على أن البيع صحيح مطلقًا، وهو قول أبي حنيفة، ومالك، والشافعيّ، وأحمد في رواية عنه، إلا أن مالكًا وأحمد أثبتا للمشتري الخيار، إذا لم يعلم بالحال، وغُبِن غبنًا فاحشًا يخرج عن العادة،
وقد رواه مالك، وبعض أصحاب أحمد بثلث الثَّمَن، فإن اختار المشتري حينئذ الفسخ فله ذلك، وإن أراد الإمساك، فإنه يحطّ ما غُبن به من الثمن، ذكره أصحابنا.
قال الطوفي في شرح الاربعين :
والتحقيق أن النَّهي إن كان لذات المنهي عنه، أو لوصف لازم له اقتضى الفساد، وإن كان لأمر خارج أو وصف غير لازم فلا
ويَحْتَمِل أن يُفَسَّر التناجش المنهيّ عنه في هذا الحديث بما هو أعمّ من ذلك، فإن أصل النجش في اللغة إثارة الشيء بالمكر، والحيلة، والمخادعة، ومنه سُمِّي الناجش في البيع ناجشًا، وُيسَمّى الصائد في اللغة ناجشًا؛ لأنه يصيد الصيد بحيلته عليه، وخداعه له، وحينئذ فيكون المعنى: لا تَتَخادَعُوا، ولا
يعامل بعضكم بعضًا بالمكر، والاحتيال، وإنما يراد بالمكر والمخادعة إيصال الأذى إلى المسلم، إما بطريق الأصالة، وإما اجتلاب نفعه بذلك، ويلزم منه وصول الضرر إليه، ودخوله عليه، وقد قال تعالى: ﴿ولا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إلّا بِأهْلِهِ﴾ [فاطر ٤٣]، وفي حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبيّ ﷺ: «من غشنا
فليس منا، والمكر، والخداع في النار» [رواه الطبرانيّ، وأبو نعيم، وصححه ابن حبّان]. وفي حديث أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- المرفوع: «ملعون من ضارّ مسلمًا، أو مَكَر به» خرّجه الترمذيّ [ضعيف، في سنده أبو سلمة الكنديّ مجهول، وفرقد السبخيّ متكلّم فيه]،
فيدخل على هذا التقدير في التناجش المنهيّ عنه: جميع أنواع المعاملات بالغش، ونحوه، كتدليس العيوب، وكتمانها، وغَشّ المبيع الجيد بالرديء، وغَبْن المسترسل الذي لا يَعرف المماكسة، وقد وصف الله تعالى في كتابه الكفار والمنافقين بالمكر بالأنبياء، وأتباعهم، وما أحسن قول أبي العتاهية [من الخفيف]:
لَيْسَ دُنْيا إلّا بِدِينٍ ولَيْـ … سَ الدِّينُ إلّا مَكارِمَ الأخْلاقِ
إنَّما المَكْرُ والخَدِيعَةُ فِي النّا … رِ هُما مِن خِصالِ أهْلِ النّفاقِ
وإنما يجوز المكر بمن يجوز إدخال الأذى عليه، وهم المحاربون، كما قال النبيّ ﷺ: «الحرب خدْعَةٌ»، متّفقٌ عليه. انتهى.[ «جامع العلوم والحكم» ١/ ٣٢٨] وراجع ما يتعلّق بالنجش في «كتاب البيوع»، كتاب شرح النسائي للأثيوبي .
(ولا تَباغَضُوا) نهي عن التباغض بينهم، وذلك فيما ليس لأمر شرعيّ، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى.
(ولا تَدابَرُوا) معنى التدابر: المعاداة، يقال: دابرته: أي: عاديته .
أي : لا تتهاجروا، فيهجر أحدكم أخاه، مأخوذ من تولية الرجل دبره، إذا أعرض عنه حين يراه، وقيل للإعراض: مدابرة؛ لأن من أبغض أعرض، ومن أعرض ولّى دبره. فتح الباري، لابن حجر (١٠/ ٤٨٢).
وحَكى عياض أن معناه: لا تجادلوا، ولكن تعاونوا، والأول أولى. (ولا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلى بَيْعِ بَعْضٍ) تقدّم أن معناه أن يكون قد باع منه شيئًا، فيبذل للمشتري سلعته ليشتريها، ويفسخ بيع الأول، وتقدّم البحث في ذلك أيضًا مستوفى.
(وكُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوانًا) هذا ذكره النبيّ ﷺ كالتعليل لِما تقدّم، وفيه إشارة إلى أنهم إذا تركوا الحسد، وما ذُكر معه كانوا إخوانًا.
(المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ)؛ أي: فليتعامل المسلمون فيما بينهم، ولْيتعاشروا معاملة الإخوّة، ومعاشرتهم في الموّدة، والرفق، والشفقة، والملاطفة، والتعاون في الخير، ونحو ذلك، مع صفاء القلوب، والنصيحة بكل حال[«تحفة الأحوذي» ٦/ ٤٦].
وقال في «الفتح»: قوله: «المسلم أخو المسلم» هذه أخوّة الإسلام، فإن كل اتفاق بين شيئين يُطلَق بينهما اسم الأخوة، ويشترك في ذلك الحرّ والعبد، والبالغ والمميز. انتهى [«الفتح» ١٠/ ٤٨٢].
(لا يَظْلِمُهُ)؛ أي: لا ينقصه حقّه، أو يمنعه إياه، وهو خبر بمعنى الأمر، فإنّ ظُلْم المسلم للمسلم حرام، زاد في حديث ابن عمر: «ولا يُسلمه»: أي: لا يتركه مع من يؤذيه، ولا فيما يؤذيه، بل ينصره، ويدفع عنه، وهذا أخصّ مِن تَرْك الظلم، وقد يكون ذلك واجبًا، وقد يكون مندوبًا، بحسب اختلاف الأحوال، وزاد الطبرانيّ: «ولا يُسلمه في مصيبة، نزلت به».
قال الشوكاني في فتاويه :
ومن شؤم الظلم وسوء مغبته وقبح عاقبته أن دعوة المظلوم على ظالمه مقبولة لا ترد فيحيق به جزاء ظلمه عن قريب، كما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس أن رسول الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ بعث معاذا إلى اليمن فقال: «اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب».
وذكر أحاديث في استجابة دعوة المظلوم. وقبلها حديث المفلس ثم ذكر أن نصرة المظلوم واجبة وقال : وكما ورد الوعيد على الظلمة، ورد الوعد للعادلين. ثم ذكر أحاديث فضيلة العدل
(ولا يَخْذُلُهُ) -بضم الذال المعجمة، من باب نصر، والاسم: الخِذلان-، وهو ترك النصرة، والإعانة [«تحفة الأحوذي» ٦/ ٤٦، و«المصباح المنير» ١/ ١٦٥]، وقال في «المشارق»: «لا يخذله، ولا يظلمه»: أي: لا يترك نصره في الحقّ، ومعونته، كما قال: «انصُر أخاك» [«مشارق الأنوار» ١/ ٢٣١].
وقال القرطبيّ رحمه الله: «لا يخذله»: أي: لا يتركه لمن يظلمه، ولا ينصره، وقد قال ﷺ: «انصر أخاك ظالِمًا، أو مظلومًا» [رواه البخاريّ]، فقال: كيف أنصره ظالما؟
قال: «تكفّه عن الظلم، فذلك نصره» [«المفهم» ٦/ ٥٣٦].
(ولا يَحْقِرُهُ) قال القاضي عياض رحمه الله: كذا رواه السمرقنديّ، والسجزيّ بالحاء المهملة، والقاف، من الحقر: أي: لا يستصغره، ويذلّه، ويتكبر عليه، ورواه العذريّ: «ولا يُخفِره» بالخاء المعجمة، والفاء، وضم الياء أوّله: أي: لا يغدره، ويخونه، يقال: خَفَرت الرجل: إذا أجَرْته، وأمّنته، وأخفرته: إذا لم تَفِ له بذمّته، وغَدَرْته، وكذلك الخلاف في آخر الحديث: «بحسب امرئ من
الشرّ أن يحقر أخاه» على ما تقدم للرواة، والصواب أن يكون بالقاف، من
الاحتقار هنا، وهو المرويّ في غير مسلم. انتهى [«مشارق الأنوار» ١/ ٢١١، و«إكمال المعلم» ٨/ ٣١].
وقال القرطبيّ رحمه الله: و«لا يحقره»: أي: لا ينظره بعين الاستصغار، والقلّة، وهذا إنما يصدر في الغالب عمن غلب عليه الكِبْر والجهل، وذلك أنه لا يصح له استصغار غيره حتى ينظر إلى نفسه بعين أنه أكبر منه، وأعظم، وذلك جَهْل بنفسه، وبحال المحتقَر، فقد يكون فيه ما يقتضي عكس ما وقع للمتكبر. انتهى[»المفهم«٦/ ٥٣٦].
وقال النوويّ رحمه الله: أمّا كون المسلم أخا المسلم فسَبَق شرحه قريبًا، وأمّا»لا يخذله«، فقال العلماء: الخَذْلُ ترك الإعانة، والنصر، ومعناه: إذا استعان به في دَفْع ظالم ونحوه لزمه إعانته، إذا أمكنه، ولم يكن له عذر شرعيّ،»ولا يحقره«هو بالقاف، والحاء المهملة: أي: لا يحتقره، فلا يتكبر عليه، ولا يستصغره، ويستقلّه، قال القاضي: ورواه بعضهم:»لا يُخفره«بضم الياء، والخاء المعجمة، والفاء: أي: لا يغدر بعهده، ولا ينقض أمانه، قال: والصواب المعروف هو الأول، وهو الموجود في غير كتاب مسلم بغير خلاف. انتهى[»شرح النوويّ” ١٦/ ١٢٠ – ١٢١]
وقوله: (التَّقْوى) قال في»العمدة«: حقيقة التقوى أن يَقِي العبد نفسه تعاطي ما تستحق به العقوبة، من فعل، أو ترك، وتأتي في القرآن على معان:
الإيمان، نحو قوله تعالى: ﴿وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى﴾ [الفتح ٢٦]؛ أي:
التوحيد، والتوبة، نحو قوله تعالى: ﴿ولَوْ أنَّ أهْلَ القُرى آمَنُوا واتَّقَوْا﴾ [الأعراف ٩٦]: أي: تابوا، ولزموا الطاعة، نحو: ﴿أنْ أنْذِرُوا أنَّهُ لا إلَهَ إلّا أنا فاتَّقُونِ﴾ [النحل ٢]، وتَرْك المعصية، نحو قوله تعالى: ﴿وأْتُوا البُيُوتَ مِن أبْوابِها واتَّقُوا اللَّهَ﴾ [البقرة ١٨٩]: أي: ولا تعصوه، والإخلاص، نحو قوله تعالى: ﴿فَإنَّها مِن تَقْوى القُلُوبِ﴾ [الحج ٣٢]: أي: من إخلاص القلوب.
[فإن قلت]: ما أصله؟
[قلت]: أصله من الوقاية، وهو فَرْط الصيانة، ومنه»المتقي«اسم فاعل مِن وقاه الله، فاتقى، والتقوى، والتُّقى واحدانتهى »عمدة القاري«١/ ١١٦].
وقال القرطبيّ رحمه الله: قد تقدَّم أن التقوى مصدر [أي: اسم مصدر، كما لا يخفى] اتَّقى تُقاةُ، وتَقْوى، وأن التاء فيه بدلٌ من الواو؛ لأنّه من الوقاية، والمتّقي: هو الذي يجعل بينه وبين ما يخافه من المكروه وقاية تقيه منه، ولذلك يقال: اتّقى الطعنة بدَرَقَته، وبِتُرْسه، ومنه قوله ﷺ: «اتقوا النار ولو بشق تمرة»، «ولو بكلمة طيبة»، متّفق عليه؛ أي: اجعلوا هذه الأمور وقاية بينكم وبين النار.
وعلى هذا فالمتّقي شرعًا: هو الذي يخاف الله تعالى، ويجعل بينه وبين عذابه وقاية من طاعته، وحاجزًا عن مخالفته، فإذًا أصل التقوى: الخوف، والخوف إنما يَنشأ عن المعرفة بجلال الله تعالى، وعظمته، وعظيم سلطانه، وعقابه، والخوف والمعرفة محلهما القلب، والقلب محلّه الصدر، فلذلك أشار ﷺ إلى صدره، وقال: «التقوى ها هنا»، والله تعالى أعلم.
والتقوى خصلة عظيمة، وحالة شريفة آخذة بمجامع علوم الشريعة، وأعمالها، موصلة إلى خير الدنيا والآخرة.
والكلام في التقوى، وتفاصيلها، وأحكامها، وبيان ما يترتب عليها يستدعي تطويلًا، قد ذكره أرباب القلوب في كتبهم المطوّلة [»المفهم” ٦/ ٥٣٦ – ٥٣٧].
((ها هُنا))؛ أي: في هذا المكان؛ فـ»ههنا«اسم إشارة للمكان القريب، ويشار للبعيد مع الكاف، كما قال في»الخلاصة«:
وبِهُنا أوْ ها هُنا أشِرْ إلى … دانِي المَكانِ وبِهِ الكافَ صَلا
فِي البُعْدِ أوْ بِثَمَّ فُهْ أوْ هَنا … أوْ بِهُنالِكَ انْطِقَنْ أوْ هِنّا
والمعنى: أن مجرّد الأعمال الظاهرة لا يحصل بها التقوى، وإنما يحصل بما يقع في القلب من عظمة الله تعالى، ومحبّته، وخشيته، ومراقبته سبحانه وتعالى.
(ويُشِيرُ) النبيّ ﷺ عند قوله:»ها هنا«(إلى صَدْرِهِ) الشريف ﷺ، (ثَلاثَ مَرّاتٍ) وفي بعض النسخ:»ثلاث مرار«، وكلاهما جمعان لمرّة، يقال: فعلت ذلك مرّةً: أي: تارةً[»المصباح المنير«٢/ ٥٦٨].
وقوله: (بِحَسْبِ امْرِئٍ) الباء زائدة، و«حسب» خبر مقدّم لقوله: «أن يحقر»، أو بالعكس، والأول أولى؛ لأن ما سُبك من «أن» والفعل بمنزلة الضمير.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: (مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْقِرَ أخاهُ المُسْلِمَ) الباء في «بحسب» زائدة، وهو بإسكان السين، لا بفتحها، وهو خبر ابتداء مقدّمٌ، والمبتدأ: «أن يحقر»، تقديره: حسبُ امرئ من الشرّ احتقاره أخاه؛ أي: كافيه من الشرّ ذلك، فإنَّه النصيب الأكبر، والحظّ الأوفى، ويفيد أن احتقار المسلم حرام. انتهى[»المفهم«٦/ ٥٣٧].
وقال المناويّ رحمه الله: «بحسب امرئ من الشر»: أي: يكفيه منه في أخلاقه، ومعاشه، ومعاده، «أن يحقر أخاه المسلم»: أي: يُذِلّه، ويُهينه، ويزدريه، ولا يعبأ به؛ لأن الله تعالى أحسن تقويمه، وسَخَّر ما في السموات والأرض لأجله، ومشاركةُ غيره له إنما هي بطريق التَّبَع، وسمّاه مسلمًا،
ومؤمنًا، وعبدًا، وجَعَل الأنبياء الذين هم أعظم الخلق من جنسه، فاحتقاره احتقار لِما عَظَّمه الله تعالى، وشرّفه، ومنه أن لا يبدأه بالسلام، ولا يَرُدّه عليه؛ احتقارًا. انتهى.[»فيض القدير«٥/ ١١]
(كُلُّ المُسْلِمِ) مبتدأ خبره «حرامٌ»، وقوله: (عَلى المُسْلِمِ) متعلّق بـ (حَرامٌ)،
وقوله: (دَمُهُ) وما عُطف عليه بدل، أو عطف بيان لـ«كلُّ»،
(ومالُهُ، وعِرْضُهُ) بكسر العين المهملة، وسكون الراء: النفس، والحسب، يقال: نقيّ العِرْض: أي: بريء من العيب. [راجع:»المصباح المنير” ٢/ ٤٠٤].
وقال ابن الأثير رحمه الله: العِرْضُ: موضع المدح والذمّ من الإنسان، سواءٌ كان في نفسه، أو في سلفه، أو من يلزمه أمره، وقيل: هو جانبه الذي يصونه من نفسه، وحَسَبه، ويحامي عنه أن يُنتقَص، ويُثْلَب، وقال ابن قتيبة: عِرْضُ الرجل نفسه، وبدنه، لا غير. انتهى[«النهاية في غريب الأثر» ٣/ ٢٠٩].
وقال ابن منظور رحمه الله بعد ذِكر ما ذكره ابن الأثير ما نصّه: وقال أبو العباس: إذا ذُكر عِرض فلان، فمعناه أموره التي يَرتفع، أو يَسقط بذكرها من جهتها، بحمد، أو بذمّ، فيجوز أن تكون أمورًا يوصف هو بها دون أسلافه، ويجوز أن تُذكر أسلافه؛ لتلحقه النقيصة بعيبهم، لا خلاف بين أهل اللغة فيه، إلا ما ذكره ابن قتيبة من إنكاره أن يكون العِرض الأسلاف، والآباء، واحتجّ
أيضًا بقول أبي الدرداء: أقْرِض من عِرْضك ليوم فقرك، قال: معناه: أقْرِضْ من نفسك؛ أي: مَن عابك، وذمّك فلا تجازِه، واجعله قرضًا في ذمته؛ لتستوفيه منه يوم حاجتك في القيامة، وقول الشاعر:
وأُدْرِكُ مَيْسُورَ الغِنى ومَعِي عِرْضِي
أي: أفعالي الجميلة، وقال النابغة:
يُنْبِئْكِ ذُو عِرْضِهِمْ عَنِّي وعالِمُهُمْ … ولَيْسَ جاهِلُ أمْرٍ مِثْلُ مَن عَلِما
ذو عرضهم: أشرافهم، وقيل ذو عرضهم: حَسَبهم، والدليل على أن
العرض ليس بالنفس، ولا البدن، قوله: «دمه، وعرضه»، فلو كان العرض هو
النفس لكان «دمه» كافيًا عن قوله: «عرضه»؛ لأن الدم يراد به ذهاب النفس،
ويدل على هذا قول عمر للحطيئة: فاندفعت تُغَنِّي بأعراض المسلمين، معناه:
بأفعالهم، وأفعال أسلافهم. انتهى[«لسان العرب» ٧/ ١٧١ – ١٧٢].
وقال المناويّ رحمه الله: قوله: «كلّ المسلم» مبتدأ، وفيه ردّ لزعم من زعم أن «كلّا» لا تضاف إلا إلى نكرة، وقوله: «على المسلم حرامٌ» خبره، وقوله: «ماله»: أي: أخذ ماله، بنحو غَصْب، وقوله: «وعرضه»: أي: هَتْك عرضه بلا استحقاق، وقوله: «ودمه»: أي: إراقة دمه بلا حقّ، وأدلة تحريم هذه الثلاثة مشهورة، معروفة من الدِّين بالضرورة، وجَعَلَها كلَّ المسلم، وحقيقَتَهُ؛ لشدّة اضطراره إليها، فالدم فيه حياته، ومادته المال، فهو ماء الحياة الدنيا، والعِرض به قيام صورته المعنوية، واقتصر عليها؛ لأن ما سواها فَرْع عنها، وراجع إليها؛ لأنه إذا قامت الصورة البدنية والمعنوية، فلا حاجة لغيرهما، وقيامها إنما هو بتلك الثلاثة، ولكون حرمتها هي الأصل والغالب، لم يَحتج لتقييدها بغير حقّ، فقوله في رواية:»إلا بحقها«؛ إيضاحٌ وبيانٌ، وهذا حديثٌ عظيم الفوائد، كثير العوائد، مشير إلى المبادئ، والمقاصد. انتهى[»فيض القدير” ٥/ ١١] كلام
المناويّ رحمه الله، وهو بحثٌ مفيدٌ، والله تعالى أعلم.[البحر الثجاج]
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في فوائده:
١ – (منها): بيان تحريم التحاسد، والتناجش، والتباغض، والتدابر، والبيع على بيع الآخر؛ لأن هذه الأشياء تورث التقاطع، والتنافر، وتقطع الصلة بين الإخوة.
٢ – (ومنها): بيان وجوب أن يكون عباد الله تعالى متآخين، متحابيّن في جلال الله سبحانه وتعالى.
٣ – (ومنها): بيان أن المسلم أخ لأخيه المسلم، فلا ينبغي له أن يظلمه، ولا يخذله بترك نَصْره على من ظلمه، ولا يحتقره.
٤ – (ومنها): بيان أن التقوى محلّه القلب، فينبغي العناية والاهتمام بإصلاح القلب.
٥ – (ومنها): بيان أنه لو لم يكن للمسلم شرّ سوى احتقاره لأخيه المسلم لكفاه ذلك شرًّا.
٦ – (ومنها): بيان تحريم كلّ المسلم على المسلم، دمًا، ومالًا، وعرضًا، فلا يجوز التعرّض له في شيء منها بسوء.
٧ – (ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: يستفاد من هذا الحديث صرف الهمّة إلى الاعتناء بأحوال القلب، وصفاته، بتحقيق علومه، وتصحيح مقاصده، وعزومه، وتطهيره عن مذموم الصفات، واتصافه بمحمودها، فإنّه لمّا كان القلب هو محل نَظَر الله تعالى، فحقّ العالِم بقَدْر اطّلاع الله تعالى على قلبه أن يُفَتِّش عن صفات قلبه، وأحوالها؛ لإمكان أن يكون في قلبه وصف مذموم يمقته الله تعالى بسببه.
٨ – (ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله أيضًا: إن الاعتناء بإصلاح القلب، وبصفاته مقدّم على الأعمال بالجوارح؛ لتخصيص القلب بالذكر مقدّمًا على الأعمال، وإنّما كان كذلك؛ لأن أعمال القلوب هي المصحّحة للأعمال؛ إذ لا يصحّ عمل شرعيّ إلا من مؤمن، عالم بمن كلّفه، مُخلِصٍ له فيما يعمله، ثمَّ لا يَكمُل ذلك إلا بمراقبة الحقّ فيه، وهو الذي عَبّر عنه ﷺ بالإحسان، حيث
قال: «أن تعبد الله كأنك تراه»، متفق عليه، وقد تقدَّم قوله ﷺ: «إن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»، متّفقٌ عليه.
٩ – (ومنها): ما قاله القرطبيّ أيضًا: إنه لمّا كانت القلوب هي المصحّحة للأعمال الظاهرة، وأعمال القلب غيبٌ عنّا، فلا يُقطع بمغيَّب أحد لِما يُرى
عليه من صور أعمال الطاعة، أو المخالفة، فلعل من يحافظ على الأعمال
الظاهرة يعلم الله تعالى من قلبه وصفًا مذمومًا، لا تصحّ معه تلك الأعمال،
ولعل من رأينا عليه تفريطًا، أو معصيةً يعلم الله من قلبه وصفًا محمودًا يغفر له
بسببه، فالأعمال أمارات ظنية، لا أدلة قطعية، ويترتّب عليها عدم الغلوّ في تعظيم من رأينا عليه أفعالًا صالحةً، وعدم الاحتقار لمسلم، رأينا عليه أفعالًا سيّئةً، بل تُحْتَقَر وتُذمّ تلك الحالة السيّئة، لا تلك الذات المسيئة، فتدبّر هذا،
فإنّه نظرٌ دقيق. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله وهو بحثٌ نفيسٌ، وتحقيقٌ أنيس، والله تعالى أعلم.
—-
قال الأثيوبي عفا الله عنه: قد كتب الحافظ ابن رجب رحمه الله على هذا الحديث تحقيقات مفيدة، أحببت إيرادها في مسائل تكميلًا للفوائد، ونشرًا للعوائد، فقالت:
(المسألة الرابعة): قال رحمه الله: قوله ﷺ :(( المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذُله، ولا يَكْذِبه، ولا يحقره)) هذا مأخوذ من قوله تعالى: ﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأصْلِحُوا بَيْنَ أخَوَيْكُمْ﴾ [الحجرات ١٠]، فإذا كان المؤمنون إخوةً أُمروا فيما بينهم بما يوجب تآلف القلوب، واجتماعها، ونُهُوا عما يوجب تنافر القلوب، واختلافها، وهذا من ذلك، وأيضًا فإن الأخ من شأنه أن يوصل
لأخيه النفعَ، ويكفّ عنه الضرر، وهذا من أعظم الضرر الذي يجب كفّه عن الأخ المسلم، وهذا لا يختص بالمسلم، بل هو محرّم في حق كل أحد.
وسيأتي الكلام على الظلم مستوفًى عند ذكر حديث أبي ذر -رضي الله عنه- الإلهيّ: ((يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرّمًا، فلا تَظالموا … )). ومن ذلك خِذلان المسلم لأخيه، فإن المؤمن مأمور أن ينصر أخاه، كما قال النبيّ ﷺ:»انصر أخاك ظالِمًا، أو مظلومًا«، قال: يا رسول الله أنصره
مظلومًا، فكيف أنصره ظالِمًا؟ قال:»تمنعه من الظلم، فذلك نصرك إياه«،
خرّجه البخاريّ بمعناه، من حديث أنس، وخرّجه مسلم بمعناه من حديث
جابر، وخرّجه أبو داود من حديث أبي طلحة الأنصاريّ، وجابر بن عبد الله،
عن النبيّ ﷺ قال:»ما من امرئ مسلم يَخذُل امرءًا مسلمًا في موضع تُنتهك فيه
حرمته، وُينتقص فيه من عِرضه، إلا خذله الله في موضع يحب فيه نُصرته، وما
من امرئ ينصر مسلمًا في موضع يُنتقص فيه من عرضه، وتُنتهك فيه حرمته إلا نصره الله في موضع يحب فيه نُصرته«[في إسناده إسماعيل بن بشير: مجهول، كما في»التقريب«، وحسَّنه بعضهم
لشواهده، راجع: ما كُتب في هامش»جامع العلوم” ٢/ ٢٧٤].
وخرّج الإمام أحمد من حديث أبي أمامة بن سهل، عن أبيه -رضي الله عنه-، عن النبيّ ﷺ قال: «من أُذلّ عنده مؤمن، فلم ينصره، وهو يقدر على أن ينصره، أذلّه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة»[ في سنده ابن لهيعة].
وخرّج البزار من حديث عمران بن حصين -رضي الله عنهما- عن النبيّ ﷺ قال: «من
نصر أخاه بالغيب، وهو يستطيع، نصره الله في الدنيا والآخرة» [صحيح].
ومن ذلك: كَذِب المسلم لأخيه، فلا يحلّ له أن يحدّثه، ويَكْذِبه، بل لا يحدّثه إلا صدقًا.
ومن ذلك: احتقار المسلم لأخيه المسلم، وهو ناشئ عن الكِبْر، كما قال
النبيّ ﷺ: «الكِبْر بَطَر الحقّ، وغَمْط الناس»، خرّجه مسلم، من حديث ابن
مسعود -رضي الله عنه-، وخرّجه الإمام أحمد، وفي رواية له: «الكِبْر سَفَهُ الحقّ، وازدراء
الناس»، وفي رواية زيادة: «فلا يراهم شيئًا».وغَمْط الناس: الطعن عليهم، وازدراؤهم، قال الله تعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِن قَوْمٍ عَسى أنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنهُمْ ولا نِساءٌ مِن نِساءٍ عَسى أنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنهُنَّ﴾ [الحجرات ١١]، فالمتكبّر ينظر إلى نفسه بعين الكمال، وإلى غيره بعين النقص، فيحتقرهم، ويزدريهم، ولا يراهم أهلًا؛ لأن يقوم بحقوقهم، ولا أن يقبل من أحدهم الحقّ إذا أورده عليه. انتهى ما كتبه ابن رجب رحمه الله [«جامع العلوم والحكم» ٢/ ٢٧٣ – ٢٧٥]،
وهو بحثٌ مفيد جدًّا، والله تعالى أعلم.
(المسألة الخامسة): قال أبن رجب رحمه الله أيضًا: قوله ﷺ: «التقوى ها هنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات» فيه إشارة إلى أن كَرَم الخَلْق عند الله بالتقوى، فرُبّ من يحقره الناس؛ لِضَعفه، وقلة حظه من الدنيا هو أعظم قدرًا عند الله تعالى ممن له قدر في الدنيا، فإنما الناس يتفاوتون بحسب التقوى؛ كما قال الله تعالى: ﴿إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أتْقاكُمْ﴾ [الحجرات ١٣]، وسئل النبيّ ﷺ: من أكرم الناس؟ قال: «أتقاهم لله تعالى» [متفق عليه]، وفي حديث آخر:
«الكرم التقوى» [رواه الترمذيّ، وحسّنه، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبيّ، وصححه الألباني]
والتقوى أصلها في القلب، كما قال الله تعالى: ﴿ومَن يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإنَّها مِن تَقْوى القُلُوبِ﴾ [الحج ٣٢]، وإذا كان أصل التقوى في القلوب، فلا يَطَّلع أحد على حقيقتها إلا الله تعالى، كما قال ﷺ: «إن الله لا ينظر إلى صوركم، وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، وأعمالكم» [رواه مسلم].
وحينئذ فقد يكون كثير ممن له صورة حسنة، أو مال، أو جاه، أو رياسة في الدنيا قلبه خرابًا من التقوى، ويكون من ليس له شيء من ذلك قلبه مملوءًا من التقوى، فيكون أكرم عند الله تعالى، بل ذلك هو الأكثر وقوعًا، كما في «الصحيحين» عن حارثة بن وهب، عن النبيّ ﷺ قال: «ألا أخبركم بأهل الجنة، كل ضعيف، مستضعف، لو أقسم على الله لأبرّه، ألا أخبركم بأهل
النار، كل عُتُلّ جَوّاظ، مستكبر» [متّفقٌ عليه].[»المستضعَف«بفتح العين، وكسرها، والفتح أشهر؛ أي: يستضعفه الناس لضعف
حاله في الدنيا، و»العتُلّ«: الجافي الشديد الخصومة في الباطل، و»الجوّاظ”: هو الجَمُوع المَنُوع].
وفي «المسند» عن أنس، عن النبيّ ﷺ قال: «أما أهل الجنة، فكل
ضعيف، مستضعف، أشعث، ذو طِمْرين، لو أقسم على الله لأبره، وأما أهل
النار، فكل جَعْظَريّ، جَوّاظ، جَمّاع، منّاع، ذي تَبَع» [في سنده ابن لهيعة، لكن يتقوّى بحديث حارثة المتقدّم].
وفي «الصحيحين» عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبيّ ﷺ قال: «تحاججت
الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين، والمتجبرين، وقالت الجنة: لا يدخلني إلا ضعفاء الناس، وسَقَطهم، فقال الله تعالى للجنة: أنت رحمتي،
أرحم بكِ من أشاء من عبادي، وقال للنار: أنت عذابي، أعذب بك من أشاء من عبادي».
وخرّجه الإمام أحمد من حديث أبي سعيد، عن النبيّ ﷺ قال: «افتخرت الجنة والنار، فقالت النار: يا رب يدخلني الجبابرة، والمتكبرون، والملوك،
والأشراف، وقالت الجنة: يا رب يدخلني الضعفاء، والفقراء،
والمساكين …»، وذكر الحديث.
وفي «صحيح البخاريّ» عن سهل بن سعد، قال: مَرّ رجل على
رسول الله ﷺ، فقال لرجل عنده جالسٍ: «ما رأيك في هذا؟»، فقال: رجل
من أشراف الناس، هذا والله حَرِيّ إن خطب أن يُنكَح، وإن شَفَع أن يُشَفَّع،
وإن قال أن يُسمَع لقوله، قال: فسكت النبيّ ﷺ، ثم مرّ رجل آخر، فقال
رسول الله ﷺ: «ما رأيك في هذا؟» قال: يا رسول الله هذا رجل من فقراء
المسلمين، هذا حَرِيّ إن خطب أن لا يُنكَح، وإن شَفَع أن لا يُشَفَّع، وإن قال
أن لا يُسْمَع لقوله، فقال رسول ﷺ: «هذا خير من مَلْء الأرض مثلُ هذا».
وقال محمد بن كعب القرظيّ في قوله تعالى: ﴿إذا وقَعَتِ الواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣)﴾ [الواقعة ١ – ٣] قال: تخفض رجالًا كانوا في الدنيا مرتفعين، وترفع رجالًا كانوا في الدنيا مخفوضين. انتهى كلام ابن
رجب رحمه الله [“جامع العلوم والحكم ٢/ ٢٧٥ – ٢٧٨]، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
(المسألة السادسة): قال ابن رجب رحمه الله أيضًا: قوله ﷺ: «بحسب امرئ
من الشرّ أن يحقر أخاه المسلم»؛ يعني: يكفيه من الشرّ احتقارُه أخاه المسلم،
فإنه إنما يحقر أخاه المسلم لتكبّره عليه، والكِبْر من أعظم خصال الشرّ، وفي
«صحيح مسلم» عن النبيّ ﷺ قال: «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرّة من
كِبْر»، وفيه أيضًا عنه ﷺ: «قال تعالى: العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن
نازعني عذبته». [قال الأثيوبي عفا الله عنه: كون العزّ رداءه والكبرياء إزاره مما يجب الإيمان به، فنثبته كما أثبته النصّ الصحيح، على مراد الله تعالى، فلا نؤوّل، ولا نعطّل، ولا نشبّه، كما هو مذهب السلف الصالح، فلا تلتفت إلى ما كتبه المحقق على هامش »جامع العلوم«من دعوى المجاز، فإنه غير صحيح، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل].
فمنازعة الله تعالى في صفاته التي لا تليق بالمخلوق، كفى بها شرًّا.
وفي «صحيح ابن حبان» عن فَضالة بن عُبيد، عن النبيّ ﷺ قال: «ثلاثة لا يُسألُ عنهم: رجل ينازع الله إزاره، ورجل ينازع الله رداءه، فإن رداءه الكبرياء، وإزاره العزّ، ورجل في شكّ من أمر الله تعالى، والقنوط من رحمة الله».
وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة عن النبيّ ﷺ قال: «من قال: هلك الناسُ، فهو أهلكهم»، فأعادها مرارًا، ثم رفع رأسه، فقال: «اللَّهُمَّ هل بلغت؟
اللَّهُمَّ هل بلغت؟»، قال مالك: إذا قال ذلك تحزّنًا لِما يرى في الناس؛ يعني: في دِينهم، فلا أرى به بأسًا، وإذا قال ذلك تعجبًا بنفسه، وتصاغرًا، فهو المكروه الذي نُهِي عنه، ذكره أبو داود في «سننه». انتهى كلام ابن
رجب رحمه الله [»جامع العلوم والحكم” ٢/ ٢٧٥ – ٢٧٩ ]، وهو بحث مفيد، والله تعالى أعلم.
(المسألة السابعة): قال رحمه الله: قوله ﷺ: «كلُّ الممسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه»، وهذا مما كان النبيّ ﷺ يخطب به في المَجامع العظيمة، فإنه خطب به في حجة الوداع يوم النحر، ويوم عرفة، ويوم الثاني من
أيام التشريق، وقال: «إن أموالكم، ودماءكم، وأعراضكم عليكم حرام؛ كحرمة
يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا» [متّفقٌ عليه]، وفي رواية للبخاريّ وغيره:
«وأبشاركم»، وفي رواية: فأعادها مرارًا، ثم رفع رأسه، فقال: «اللَّهُمَّ هل بلّغت؟ اللَّهُمَّ هل بلغت؟»، وفي رواية: ثم قال: «ألا ليبلّغ الشاهد منكم الغائب»، وفي رواية للبخاريّ: «فإن الله حرّم عليكم أموالكم، وأعراضكم، ودماءكم إلا بحقها»، وفي رواية: «دماؤكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام، مثل هذا اليوم، وهذا البلد، إلى يوم القيامة، حتى دفعةٌ يدفعها مسلم
مسلمًا يريد بها سوءًا حرام».
وفي رواية: «المؤمن حرام على المؤمن؛ كحرمة هذا اليوم، لحمه عليه
حرام أن يأكله، أو يغتابه بالغيب، وعرضه عليه حرام، أن يخرقه، ووجهه عليه
حرام، أن يلطِمه، ودمه عليه حرام، أن يسفكه، وحرام عليه أن يدفعه دفعة
بغتة» [رواه الطبرانيّ في «الكبير» ١٩/ ٤٠٠، وفي إسناده كرامة بنت الحسين، قال
الهيثميّ: لم أجد مَن ذَكَرها].
وفي «سنن أبي داود» عن بعض الصحابة أنهم كانوا يسيرون مع النبيّ ﷺ،
فقام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه، فأخذها، ففَزِع، فقال
النبيّ ﷺ: «لا يحل لمسلم أن يُرَوِّع مسلمًا».
وخرّج أحمد، وأبو داود، والترمذيّ عن السائب بن يزيد، عن النبيّ ﷺ
قال: «لا يأخذ أحدكم عصا أخيه، لاعبًا جادًّا، فمن أخذ عصا أخيه، فليردّها
إليه»، قال أبو عبيد: يعني: أن يأخذ شيئًا، لا يريد سَرِقَته، إنما يريد إدخال
الغيظ عليه، فهو لاعبٌ في مذهب السرقة، جادّ في إدخال الرَّوع والأذى عليه.
وفي «الصحيحين» عن ابن مسعود، عن النبيّ ﷺ قال: «إذا كنتم ثلاثة،
فلا يتناجى اثنان دون الثالث، فإن ذلك يُحْزنه»، ولفظه لمسلم.
وخرّج الطبراني من حديث ابن عباس، عن النبيّ ﷺ قال: «لا يتناجى
اثنان دون الثالث، فإن ذلك يؤذي المؤمن، والله يكره أذى المؤمن» [في سنده الحسن بن كثير، لم يوثّقه غير ابن حبّان، وأعلّه البخاري في «تاريخه» بالإرسال].
وخرّج الإمام أحمد من حديث ثوبان، عن النبيّ ﷺ قال: «لا تؤذوا عباد الله، ولا تُعَيِّروهم، ولا تطلبوا عوراتهم، فإن من طلب عورة أخيه المسلم، طلب الله عورته، حتى يفضحه في بيته» [صحيح].
وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة، عن النبيّ ﷺ أنه سئل عن الغيبة،
فقال: «ذِكْرك أخاك بما يكره»، قال: أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ فقال: «إن
كان فيه ما تقول، فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول، فقد بَهَتَّه».
فتضمَّنت هذه النصوص كلها أن المسلم لا يحلّ إيصال الأذى إليه بوجه
من الوجوه، من قول، أو فعل، بغير حقّ، وقد قال الله تعالى: ﴿والَّذِينَ
يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ ما اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتانًا وإثْمًا مُبِينًا (٥٨)﴾
[الأحزاب ٥٨].
وإنما جعل الله المؤمنين إخوة؛ ليتعاطفوا، ويتراحموا، وفي «الصحيحين» عن النعمان بن بشير، عن النبيّ ﷺ قال: «مَثَل المؤمنين في توادّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مَثَل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالحمى
والسهر»، وفي رواية لمسلم: «المؤمنون كرجل واحد، إن اشتكى رأسه، تداعى
له سائر الجسد بالحمى»، وفي رواية له أيضًا: «المسلمون كرجل واحد، إن
اشتكى عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه، اشتكى كله»، وفيهما عن أبي
موسى، عن النبيّ ﷺ قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشدّ بعضه بعضًا».
وخرّج أبو داود من حديث أبي هريرة، عن النبيّ ﷺ قال: «المؤمن مرآة المؤمن، المؤمن أخو المؤمن، يكفّ عنه ضيعته، ويحوطه من ورائه»، وخرّجه الترمذيّ، ولفظه: «إن أحدكم مرآة أخيه، فمن رأى به أذى فَلْيُمِطْه عنه».
قال رجل لعمر بن عبد العزيز: اجعل كبير المسلمين عندك أبًا، وصغيرهم ابنًا، وأوسطهم أخًا، فأيّ أولئك تحب أن تسيء إليه؟
ومن كلام يحيى بن معاذ الرازيّ: ليكن حظ المؤمن منك ثلاثة: إن لم
تنفعه فلا تضرّه، وإن لم تفرحه فلا تغمّه، وإن لم تمدحه فلا تذمّه. انتهى كلام
ابن رجب رحمه الله [«جامع العلوم والحكم» ٢/ ٢٨٣] وهو بحث نفيس، مفيد، والله تعالى أعلم.
===
====
قوله ِ: «إنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إلى أجْسادِكُمْ، ولا إلى
صُوَرِكُمْ، ولَكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُمْ»، وأشارَ بِأصابِعِهِ إلى صَدْرِهِ).
قال الأثيوبي عفا الله عنه متعقبا للقرطبي في تأويله لصفة النظر : هذا الذي طوّل به القرطبيّ نَفَسَه، ليس بصواب، والصواب ما عليه السلف من أن النظر على ظاهره، فنُثبت لله تعالى صفة النظر، كما نُثبت غيره من الصفات؛ كالرضى، والغضب، والرحمة، والانتقام، والاستواء، والنزول، وغير ذلك بلا تشبيه، ولا تمثيل، ولا تأويل، ولا تعطيل، وقد سبق تحقيق هذا الموضوع في مواضع كثيرة، فكن على بصيرة، والله تعالى وليّ التوفيق. [البحر الثجاج]
(إلى صُوَرِكُمْ)؛ أي: لا يجازيكم على ظاهرها، (وأمْوالِكُمْ) الخالية من الخيرات؛ أي: لا يثيبكم عليها،
ولا يقرّبكم منه، (ولَكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُمْ) التي هي محل التقوى، وموضع الإنابة،
ومنبع الحكمة، والمعرفة، (وأعْمالِكُمْ”) التي تتقرّبون بها إليه سبحانه وتعالى، فينبغي الحرص
على إخلاصها، وموافقتها للكتاب والسُّنَّة، فإن العمل لا يُقبل إلا إذا كان خالصًا
لوجه الله عز وجل، وموافقًا لِما جاء به النبيّ ﷺ، من الكتاب والسُّنَّة، قال تعالى:
﴿فَمَن كانَ يَرْجُو لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحًا ولا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أحَدًا﴾ [الكهف ١١٠].
قال بعضهم [راجع: «تكملة فتح الملهم» ٥/ ٣٦٤ – ٣٦٥]: معنى هذا الحديث: أن الله تعالى لا ينظر إلى قوّة أجسادكم، وصوركم الحسنة، وإنما ينظر إلى أعمالكم الظاهرة والباطنة جميعًا، فأشار بقوله: «إلى قلوبكم» إلى الأعمال الباطنة، كما أشار بقوله: «وأعمالكم» إلى الأعمال الظاهرة.
فلا مجال في هذا الحديث لمن ادّعى أن المطلوب من الإنسان تزكيته
للقلب فقط، ولا عبرة بأفعاله الظاهرة، فيفعل في ظاهره ما يشاء، كما تفوّه
بذلك بعض الملاحدة، وجهلة المتصوّفة؛ لأن نصوص الكتاب والسُّنَّة مُطبِقة
على كون الإنسان مكلّفًا بتصحيح أعماله الظاهرة، والواقع أن الأعمال الظاهرة
لا تفسد إلا بفساد القلب، فهي علامة على فساد باطنه، وقد بيّن النبيّ ﷺ هذا
المعنى أتمّ بيان حيث قال: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد
كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب»، ففساد الأعمال الظاهرة
دليل على فساد القلب؛ لأنهما متلازمان، لا ينفكّ أحدهما عن الآخر.
فلو لم يكن للأعمال الظاهرة قيمة واعتبار في الشرع لَما ذَكَر النبيّ ﷺ:
«وأعمالكم» عَقِب قوله: «إلى قلوبكم»، ولكنه ﷺ قَرَن بينهما، فدلّ على
المطلوب من المكلّف إصلاح الباطن والظاهر جميعًا.
وكذلك لا يخفى بطلان قول من يستدلّ بهذا الحديث على أن الأجساد
والصور لا يتعلّق بها حكم شرعيّ، فيجوز للمرء أن يختار لتزيين جسده،
وتحسين صورته ما شاء من طريق؛ كالوشم ، فقد ورد في الحديث لَعَن الواشمات، والمستوشمات، والنامصات،
والمتنمّصات، والمتفلجات، فكل هذا ونحوه من الأعمال التي هي محلّ
نَظَر الله تعالى؛ كنَظَره للقلب بلا فرق.
وإنما المراد من نفي النظر إلى الأجساد والصُّوَر، أن حُسْن الصورة وقُبْحها،
لا مدخل له في رضا الله تعالى، وسَخَطه، وإنما العبرة بالقلب، والأعمال.
[تنبيه]: قال بعض العلماء: قد أبان هذا الحديث أن محل القلب موضع
نَظَر الرب، فيا عجبًا ممن يَهْتَمّ بوجهه الذي هو نَظَر الخلق، فيغسله، وينظفه
من القَذَر والدَّنَس، ويزيّنه بما أمكن؛ لئلا يَطَّلع فيه مخلوق على عيب، ولا
يهتمّ بقلبه الذي هو محل نَظَر الخالق، فيطهّره، ويزيّنه؛ لئلا يَطَّلع ربه على
دَنَس، أو غيره فيه. انتهى [«فيض القدير على الجامع الصغير» للمناويّ ٢/ ٢٧٧ – ٢٧٨].
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
مسألة: في فوائده:
١ – (منها): بيان عظمة القلب؛ لأنه محلّ نظر الله سبحانه وتعالى، فينبغي العناية
بتطهيره، وتنظيفه من الصفات الدنيّة، والأخلاق الرديّة.
٢ – (ومنها): بيان أن الأعمال هي أيضًا محلّ نَظَر الله تعالى، فعلى العبد
أن يجاهد حتى تكون أعماله مرضيّة عند الله تعالى، وذلك بأمرين: الأول أن
تكون خالصة لوجهه الكريم، والثاني أن تكون موافقة لِما في الكتاب والسُّنَّة،
فإذا اختلّ أحد هذين الشرطين فإنها لا تكون محلّ رضا الله عز وجل، قال الله
تعالى: ﴿إنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ﴾ [المائدة ٢٧].
٣ – (ومنها): أن فيه إثبات صفة النظر لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله
وعَظَمته، وقد أسلفت الردّ قريبًا على من تأوله، فلا تغفل.
٤ – (ومنها): أن فيه بيان أن جمال الصورة، وكثرة الأموال لا عبرة به
عند الله تعالى، قال تعالى: ﴿وما أمْوالُكُمْ ولا أوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إلّا
مَن آمَنَ وعَمِلَ صالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وهُمْ فِي الغُرُفاتِ آمِنُونَ
(٣٧)﴾ [سبأ ٣٧]، وإنما العبرة بطهارة القلب عن رذائل الأخلاق، وخلوص
الأعمال من شائبة الشرك، والله تعالى أعلم.
﴿إنْ أُرِيدُ إلّا الإصْلاحَ ما اسْتَطَعْتُ وما تَوْفِيقِي إلّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإلَيْهِ أُنِيبُ﴾.[البحر الثجاج، بتصرف يسير].
5- قال العلامة العثيمن :
ومنها : وجوب تنمية الاخوة الإيمانية لقوله – و كونوا عباد الله إخوانا — و منها بيان حال المسلم مع أخيه و أنه لا يظلمه و لا يخذله و لا يكذبه و لا يحقره ؛ لأن هذا ينافي الإخوة الإيمانية .
6 – ومن فوائده : أن محل التقوى هو القلب ، فإذا اتقى القلب اتقت الجوارح و ليعلم أن هذه الكلمة يقولها بعض الناس إذا عمل معصية و أنكر عليه قال : التقوى ها هنا و هي كلمة حق لكنه أراد بها باطلا و هذا جوابه أن نقول : لو كان هنا تقوى لا تقت الجوارح لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول – ألا إن في الجسد مضغه إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب –
7 – ومن فوائد هذا الحديث : تكرار الكلمة المهمة لبيان الإعتناء بها و فهمها ، قال – التقوى ها هنا – و أ شار إلى صدره ثلاث مرات .
شرح الاربعين النووية ( 68
8 – ألف باحث في التقوى تناول فيها :
واستعرضت في هذا المبحث الآيات القرآنية المعرِّفة بالمتقين، وبينت فيه قاعدة التقوى ومدى حاجتنا للتقوى.
والمبحث الثاني مخصص لاستحقاق العلي الأعلى لأن يتقى دون سواه. وتحدثت في المبحث الثالث عن كلمة التقوى، فعرَّفت بها، وبيّنت فضلها، وأنها هي المراد بالكلمة الطبية.
وبيَّنت في المبحث الرابع أنه لا يستطيع أحد أن يتقي الله تعالى ما لم يكن عالمًا بما يتقيه.
وبيَّن المبحث الخامس المحذورات التي يجب علينا أن نتقيها.
وبيَّنت في المبحث السادس الطرق التي إذا اتبعناها أضاءت التقوى قلوبنا، ويتحقق ذلك بالتعرف إلى الله، وعبادته وحده لا شريك له، والتفكر في خلقه، والتفقه في النصوص المتحدثة عن أهوال القبر، وأهوال يوم القيامة، والإكثار من ذكر الله تعالى.
وبينت في المبحث السابع مدى عناية الإسلام والمسلمين بالتقوى، وبينت في سبعة مطالب كيف وصانا الله ورسله وأنبياؤه بالتقوى، وأوردت كثيرًا من النصوص الآمرة بالتقوى، كما أوردت وصية أهل العلم بها، وما قاله الشعراء في هذا الباب.
وحذرت في المبحث الثامن من إشغال المرء نفسه بالحديث عما يفعله متقيًا به ربه، وهي المسألة المعروفة بتزكية النفس.
وبينت في المبحث التاسع مدى حاجة التقوى إلى الصبر، فالناس مع الصبر والتقوى أربعة أقسام.
والمبحث العاشر في عظم جرم الذين إذا أمروا بالتقوى أخذتهم العزة بالإثم.
والمبحث الحادي عشر يدعو إلى تأسيس الأعمال على التقوى.
وبين المبحث الثاني عشر أنه ليس من التقوى الغلو في العبادة.
ودعوت في المبحث الثالث عشر المسلمين إلى التعاون على البر والتقوى.
والمبحث الرابع عشر فصل طويل يتحدث عن فضل التقوى وعظم قدرها، وفيه عشرون مطلبًا، وبينت في هذه المطالب أن التقوى أعظم الخصال التي تجمع بين خيري الدنيا والآخرة، والتقوى تشرح الصدور، وبالتقوى يحبنا الله، ويتقبل أعمالنا، وبها نحظى بولاية الحيَّ القيوم، وبالتقوى تعظم درجاتنا عند ربنا، وننال بشرى ربنا في الحياة الدنيا والآخرة، ويجعل الله لنا بالتقوى فرقانًا، ويجعل لنا فرجًا ومخرجًا، وبالتقوى نحظى بلباس هو خير من اللباس الظاهري، وبالتقوى ننجو من النار، ونحظى بجنات النعيم في يوم الدين
وفي المبحث الخامس عشر وهو المبحث الأخير أوردت سير وأخبار طائفة من المتقين من الأولين والآخرين، وسيرة هؤلاء تظهر أن اللحمة التي تجمعهم على اختلاف الزمان وتباعد المكان واحدة، فكلهم اتخذوا الله ربًّا، وعبدوه حقَّ عبادته، وكلهم امتلأت قلوبهم بمخافة الله وخشيته، وكلهم خافوا نار الله، وطلبوا جنته، وكلهم في الآخرة من الناجين من النار، الفائزين بجنات النعيم .
9 – تكلمنا على الأخوة الإيمانية بتوسع في رياح المسك العطرة بشرح البخاري :
بَابٌ: مِنَ الإِيمَانِ أَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ
13 – حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ حُسَيْنٍ المُعَلِّمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»
وكذلك في شرحنا الصحيح المسند :
1433- قال الإمام أبو يعلى رحمه الله : حدثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي حدثنا محمد بن فضيل عن عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ : إن من عباد الله عبادا يغبطهم الأنبياء والشهداء قيل : من هم لعلنا نحبهم ؟ قال : هم قوم تحابوا بنور الله من غير أرحام ولا أنساب وجوههم نور على منابر من نور لا يخافون إن خاف الناس ولا يحزنون إن حزن الناس ثم قرأ : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } .