4757 الفوائد المنتقاة على صحيح مسلم مجمة
مجموعة: إبراهيم البلوشي وأبي عيسى البلوشي وفيصل الشامسي وفيصل البلوشي وهشام السوري، وعبدالله المشجري، وسامي آل سالمين، وعلي آل رحمه، وكرم.
ومجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، وموسى الصومالي، وخميس العميمي.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
صحيح مسلم، كتاب 46 – كتاب البر والصلة والآداب، بَابُ صِلَةِ أَصْدِقَاءِ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَنَحْوِهِمَا
صحيح مسلم، بَابُ صِلَةِ أَصْدِقَاءِ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَنَحْوِهِمَا
4757 حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي الْوَلِيدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ لَقِيَهُ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ، وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ.
وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً، كَانَتْ عَلَى رَاسِهِ فَقَالَ ابْنُ دِينَارٍ: فَقُلْنَا لَهُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ إِنَّهُمُ الْأَعْرَابُ وَإِنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِيرِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ)).
4758 حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((أَبَرُّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ وُدَّ أَبِيهِ)).
4759 حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، جَمِيعًا عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ، كَانَ لَهُ حِمَارٌ يَتَرَوَّحُ عَلَيْهِ، إِذَا مَلَّ رُكُوبَ الرَّاحِلَةِ وَعِمَامَةٌ يَشُدُّ بِهَا رَاسَهُ، فَبَيْنَا هُوَ يَوْمًا عَلَى ذَلِكَ الْحِمَارِ، إِذْ مَرَّ بِهِ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: أَلَسْتَ ابْنَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، قَالَ: بَلَى، فَأَعْطَاهُ الْحِمَارَ، وَقَالَ: ارْكَبْ هَذَا. وَالْعِمَامَةَ، قَالَ: اشْدُدْ بِهَا رَاسَكَ، فَقَالَ لَهُ: بَعْضُ أَصْحَابِهِ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ أَعْطَيْتَ هَذَا الْأَعْرَابِيَّ حِمَارًا كُنْتَ تَرَوَّحُ عَلَيْهِ، وَعِمَامَةً كُنْتَ تَشُدُّ بِهَا رَاسَكَ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ)) وَإِنَّ أَبَاهُ كَانَ صَدِيقًا لِعُمَرَ.
==========
تمهيد:
البر في الحياة معلوم، وذلك بالإحسان إلى الوالدين بالمال وبالمعاشرة، وبالزيارة، وما أشبه ذلك من الأمور التي يحصل بها البر، ولكن هل يكون البر أيضاً متصلاً بعد الفوات، بعد الموت؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم بيّن وجوهاً من البر تكون بعد الموت – سيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى-.
ولما ذكر المؤلف رحمه الله – أحكام بر الوالدين؛ ذكر أيضًا حكم صلة من يصل الوالدين والأرحام، وبوب النووي في رياض الصالحين: ” باب فضل بر أصدقاء الأب والأم والأقارب والزوجة وسائر من يندب إكرامه”؛ وذلك للعلاقة التي بينهم وبين أقاربه، أو بينهم وبين والديه، ثم ذكر حديث ابن عمر رضي الله عنهما -.
“كان ابن عمر – رضي الله عنهما – معنيا بالتصدق بأحب الأشياء لديه، حتى روي أنه كان يشتري السكر، ويتصدق به، فقيل له: ولم السكر؟ قال: لأني أحبه، والله تعالى يقول: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] وها هو في هذا الحديث يتصدق على أهل ود أبيه بأعز ما معه، حماره الذي يركبه، ويستروح به، حين يمل أو يتعب من ركوبه ناقته، وكان يستصحبه مع ناقته في سفره.
وعمامته التي يتزين بها.
فإذا كان الإنسان بارًّا بأبيه فإن هذا البر يقتضي أن يبر أيضاً أهل ود أبيه، فإذا فعل ذلك بعد حياة أبيه وصار متصلاً بأصحاب هذا الأب فإن ذلك يدل على عظيم بره. ويدل أنه كان يبر بوالديه حقيقة لا مجاملة.
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
(وحمله على حمار، كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه) في رواية عن ابن عمر – رضي الله عنهما أنه كان إذا خرج إلى مكة من المدينة كان له حمار يستصحبه معه يتروح عليه، إذا مل ركوب الراحلة، وعمامة يشد بها رأسه، فبينا هو يوما على ذلك الحمار، إذ مر به أعرابي، فقال: ألست ابن فلان بن فلان؟ قال: بلى: فأعطاه الحمار، وقال: اركب هذا، والعمامة، قال: اشدد بها على رأسك.
(فقال ابن دينار) الراوي عن ابن عمر، والمرافق له في هذه الرحلة.
(فقلنا له: أصلحك الله: إنهم الأعراب، وأنهم يرضون باليسير) وما أعطيته كثير.
والقائل ابن دينار، وأسند القول لنفسه ولأصحابه، لموافقتهم إياه، وفي رواية فقال له بعض أصحابه: غفر الله لك.
أعطيت هذا الأعرابي حمارا كنت تروح عليه، وعمامة كنت تشد بها رأسك؟ وهذا كثير.
(فقال عبد الله: إن أبا هذا كان ودا لعمر) قال القاضي: رويناه بضم الواو، وكسرها، أي: صديقا من أهل مودته، وهي محبته.
(وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه) في رواية (أبر البر أن يصل الرجل ود أبيه) ومن فيها مقدرة
وفي رواية (إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه، بعد أن يولي، وإن أباه كان صديقا لعمر)، قال النووي: الواو هنا في ود أبيه مضمومة. اهـ. فهو مصدر. [فتح المنعم]
وقوله (إن أبر) وفي رواية من أبر (البر) أي الإحسان جعل البر بارا ببناء أفعل التفضيل منه، وإضافته إليه مجازا، والمراد منه أفضل البر، فأفعل التفضيل للزيادة المطلقة، (أن يصل الرجل أهل ود أبيه) بضم الواو بمعنى المودة (بعد أن يولي الأب) بكسر اللام المشددة. أي: يدبر بموت أو سفر.
قال التوربشتي: وهذه الكلمة مما تخبط الناس فيها والذي أعرفه أن الفعل مسند إلى أبيه أي بعد أن يموت أو يغيب أبوه من ولى يولي.
قال الطيبي: وفي جامع الأصول والمشارق: يولي بضم الياء وفتح الواو وكسر اللام المشددة، والمعنى أن من جملة المبرات الفضلى مبرة الرجل أحباء أبيه.
قال الحافظ العراقي رحمه الله: جعله أبر البر أو من أبره؛ لأن الوفاء بحقوق الوالدين والأصحاب بعد موتهم أبلغ؛ لأن الحي يجامل والميت لا يستحي منه ولا يجامل إلا بحسن العهد،
ويحتمل أن أصدقاء الأب كانوا مكفيين في حياته بإحسانه وانقطع بموته، فأمر بنيه أن يقوموا مقامه فيه، وإنما كان هذا أبر البر لاقتضائه الترحم والثناء على أبيه، فيصل لروحه راحة بعد زوال المشاهدة المستوجبة للحياة …. ونبه بالأب على بقية الأصول وقياس تقديم الشارع الأم في البر كون وصل أهل ودها أقدم وأهم، ومن البين أن الكلام في أصل مسلم، أما غيره فيظهر أنه أجنبي من هذا المقام، نعم إن كان حيا ورجا ببر أصدقائه تألفه للإسلام تأكد وصله، وفي معنى الأصول الزوجة فقد كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يصل صويحبات خديجة بعد موتها قائلا حسن العهد من الإيمان وألحق بعضهم بالأب الشيخ ونحوه. [فيض القدير، للمناوي]
((بعد أن يولي)): أي: بعد أن يموت، فهذا من البر الذي يبقى، وهذا لا يعني أن الإنسان في حياة أبيه لا يبر أصحابه، لا، وإنما يكون ذلك أيضاً من البر، فإنه إذا وصلهم وأحسن إليهم في حياة أبيه فإن هذا من بر أبيه، وهو أطيب لقلبه، الأب يفرح ويفتخر بهذا الولد ويسر به إذا رآه يكرم أصحابه ومن يحبهم، أما إذا رأى ولده يسخر من أصحابه ويلمزهم، ويتنقصهم، ويأنف من الجلوس معهم، ويرى أنهم دون المقام، أو ينهاه عن مجالستهم أو نحو ذلك من غير وجه حق فإن قلب الأب يتألم لذلك،
[التنوير شرح الجامع الصغير – الصنعاني]
و ((أبر)) هذه أفعل تفضيل وهي تدل على أن البر يتفاوت ولكن أعلى درجات البر أن يحصل مثل هذا الصنيع بعد وفاة الوالد
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولي): فصل:
قال محمد بن أحمد بن سالم السفاريني رحمه الله في (غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب):
“مطلب: فِي بِرِّ الرَّجُلِ أَبَوَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا،
وَأَحْسِنْ إلَى أَصْحَابِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَهَذَا بَقَايَا بِرِّهِ الْمُتَعَوَّدِ.
(وَأَحْسِنْ) بِالْمَوَدَّةِ وَتَحْسِينِ الْأَخْلَاقِ وَحُسْنِ الصُّحْبَةِ وَلِينِ الْجَانِبِ وَإِطْلَاقِ الْوَجْهِ وَحُسْنِ الْبَشَاشَةِ (إلَى أَصْحَابِهِ) أَيْ: الْوَالِدِ سَوَاءٌ كَانَ الْأَبُ أَوْ الْأُمُّ بِأَنْ يُكْرِمَ صُوَيْحِبَاتِهَا، (بَعْدَ مَوْتِهِ) أَيْ وَالِدِهِ , وَلَعَلَّ هَذَا الْقَيْدَ أَغْلَى فَيُحْسِنُ إلَى أَصْحَابِهِ وَلَوْ حَيًّا, لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْأَغْلَبُ إنَّمَا يَحْتَاجُونَهُ بَعْدَ وَفَاةِ وَالِدِهِ قَيَّدُوهُ بِكَوْنِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ. (فَهَذَا) أَيْ: إحْسَانُك إلَى أَصْحَابِ وَالِدِك (بَقَايَا) أَيْ: كَمَالُ (بِرِّهِ) مِنْك, فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَلَيْسَ بِرُّك لَهُ كَامِلًا بَلْ عَلَيْك الْإِحْسَانُ لِأَصْحَابِ وَالِدِك لِكَمَالِ بِرِّهِ (الْمُتَعَوَّدِ) مِنْك، يَعْنِي: الْمُعْتَادَ.
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ ” الْمُتَزَوَّدِ ” يَعْنِي: الْمُتَّخَذَ زَادًا لِكَوْنِ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْك وَوَالِدُك فِي دَارِ الْبَرْزَخِ , فَكَأَنَّك أَرْسَلْته زَادًا لَهُ أَحْوَجَ مَا هُوَ إلَيْهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: قَدِمْت الْمَدِينَةَ، فَأَتَانِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَقَالَ: أَتَدْرِي لِمَ أَتَيْتُك؟ قَالَ قُلْت: لَا.
قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصِلَ أَبَاهُ فِي قَبْرِهِ، فَلْيَصِلْ إخْوَانَ أَبِيهِ)).
وَأَنَّهُ كَانَ بَيْنَ أَبِي عُمَرَ وَبَيْنَ أَبِيكَ إخَاءٌ وَوُدٌّ فَأَحْبَبْت أَنْ أَصِلَ ذَاكَ.
حسنه الألباني في التعليق الرغيب 3/ 219
وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ عِدَّةُ أَخْبَارٍ , مِنْ ذَلِكَ:
قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم ” الْوُدُّ يُتَوَارَثُ وَالْبُغْضُ يُتَوَارَثُ “.
ضعيف الجامع
وَقَوْلُهُ ” ثَلَاثٌ يُطْفِينَ نُورَ الْعَبْدِ: أَنْ يَقْطَعَ وُدَّ أَبِيهِ, وَيُبْدِلَ سُنَّةً صَالِحَةً , وَيَزْنِي بِبَصَرِهِ فِي الْحُجُرَاتِ”.
وَذُكِرَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى، قَالَ: مَكْتُوبٌ فِي بَعْضِ كُتُبِ اللَّهِ لَا تَقْطَعُ مَنْ كَانَ أَبُوك يَصِلُهُ فَيُطْفَى نُورُك. انْتَهَى.
وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي الرَّوَّادِ: إذَا كَانَ الرَّجُلُ بَارًّا بِأَبَوَيْهِ فِي حَيَّاتِهِمَا، ثُمَّ لَمْ يَفِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا بِنُذُورِهِمَا، وَلَمْ يَقْضِ دُيُونَهُمَا، كُتِبَ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَاقًّا.
وَإِذَا كَانَ ْ يَبَرَّهُمَا، وَأَوْفَى بِنُذُورِهِمَا، وَقَضَى دُيُونَهُمَا كُتِبَ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَارًّا. ذَكَرَهُ الْحَجَّاوِيُّ رحمه الله.
وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ فِي تَنْبِيهِهِ: فَإِنْ سَأَلَ سَائِلٌ أَنَّ الْوَالِدَيْنِ إذَا مَاتَا سَاخِطَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ، هَلْ يُمْكِنُهُ أَنْ يُرْضِيَهُمَا بَعْدَ وَفَاتِهِمَا؟
قِيلَ لَهُ: بَلْ يُرْضِيهِمَا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
أَوَّلُهَا: أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ صَالِحًا فِي نَفْسِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَيْهِمَا مِنْ صَلَاحِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَصِلَ قَرَابَتَهُمَا وَأَصْدِقَاءَهُمَا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمَا، وَيَدْعُوَ لَهُمَا، وَيَتَصَدَّقَ عَنْهُمَا.
وَذُكِرَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ: أَنَّ مَنْ دَعَا لِأَبَوَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَقَدْ أَدَّى حَقَّهُمَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} فَشُكْرُ اللَّهِ أَنْ تُصَلِّيَ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ, وَكَذَا شُكْرُ الْوَالِدَيْنِ أَنْ تَدْعُوَ لَهُمَا فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ “. انتهى من (غذاء الألباب).
(المسألة الثانية): تنبيه
قال أبو العباس الحفيد ابن تيمية رحمه الله تعالى:
“فإن قيل: إذا كان التوسل بالإيمان به ومحبته وطاعته على وجهين:
– تارة يتوسل بذلك إلى ثوابه وجنته – وهذا أعظم الوسائل -.
– وتارة يتوسل بذلك في الدعاء كما ذكرتم نظائره -.
فيحمل قول القائل: “أسألك بنبيك محمد”، على أنه أراد: أني أسألك بإيماني به وبمحبته وأتوسل إليك بإيماني به ومحبته ونحو ذلك، وقد ذكرتم أن هذا جائز بلا نزاع.
قيل: من أراد هذا المعنى فهو مصيب في ذلك بلا نزاع وإذا حمل على هذا المعنى كلام من توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته من السلف – كما نقل عن بعض الصحابة والتابعين وعن الإمام أحمد وغيره كان هذا حسنا. وحينئذ فلا يكون في المسألة نزاع. ولكن كثير من العوام يطلقون هذا اللفظ ولا يريدون هذا المعنى فهؤلاء الذين أنكر عليهم من أنكر. وهذا كما أن الصحابة كانوا يريدون بالتوسل به التوسل بدعائه وشفاعته وهذا جائز بلا نزاع ثم إن أكثر الناس في زماننا لا يريدون هذا المعنى بهذا اللفظ.
فإن قيل: فقد يقول الرجل لغيره بحق الرحم قيل: الرحم توجب على صاحبها حقا لذي الرحم كما قال الله تعالى: {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الرحم شجنة من الرحمن من وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله)) وقال: ((لما خلق الله الرحم تعلقت بحقوي الرحمن وقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة فقال: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى قد رضيت)) وقال صلى الله عليه وسلم ((يقول الله تعالى: أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته)).
وقد روي عن علي أنه كان إذا سأله ابن أخيه بحق جعفر أبيه أعطاه لحق جعفر على علي.
وحق ذي الرحم باق بعد موته كما في الحديث: ((أن رجلا قال: يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال نعم الدعاء لهما والاستغفار لهما وإنفاذ وعدهما من بعدهما وصلة رحمك التي لا رحم لك إلا من قبلهما))، وفي الحديث الآخر حديث ابن عمر: ((من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي)).
فصلة أقارب الميت وأصدقائه بعد موته هو من تمام بره”. مجموع فتاوى ابن تيمية (1/ 66).
(المسألة الثالثة): أنواع البر التي تصل الأبوين بعد الموت
1) الدعاء لهما
أعظمها على الإطلاق الدعاء، وأعظم الدعاء للوالدين الدعاء بالمغفرة والرحمة؛ لأن الله أوصى به في القرآن: {رَبِّ اغْفِرْ لِي ولِوالِدَيَّ} [نوح: (28)] وأيضًا: {رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا} [الإسراء: (24)].
إذًا: أعظم شيء الدعاء للوالدين بالمغفرة والرحمة، (إن الله عز وجل يرفع درجة العبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب! أنى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك) حديث صحيح.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جاريهَ، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له)).
[رواه مسلم رقم ((1631)) في الوصية: باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، وأبو داود رقم ((2880)) في الوصايا: باب ما جاء في الصدقة عن الميت، والترمذي رقم ((1376)) في الأحكام: باب في الوقف، والنسائي ((6) / (251)) في الوصايا: باب فضل الصدقة عن الميت، والطحاوي في مشكل الآثار ((1) / (85)) والبيهقي ((6) / (278))، والإمام أحمد ((2) / (372))].
والصلاة عليهما، والمقصود بالصلاة عليهما يعني الدعاء، فإن الصلاة أصل معناها في كلام العرب: الدعاء، وقد جاء ذلك في القرآن بقوله -تبارك وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103]، أي: ادع لهم، فكان الرجل يأتي للنبي -صلى الله عليه وسلم- بصدقته، يعني: بزكاته فيدعو له، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: اللهم صلّ على آل أبي أوفى، حينما جاء بصدقته.
والله -تبارك وتعالى- ذكر الصلاة أيضاً بمعنى الصلاة المعروفة، أَقِمِ الصَّلاَةَ [الإسراء: 87]، وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ [البقرة: 43].
والمقصود هنا: الصلاة عليهما يعني: الدعاء لهما، فالصلاة إذا عُديت بـ”على” فإنها تكون بمعنى الدعاء، ومنه صلاة الجنازة، فهي صلاة يقصد بها الدعاء، أما الصلاة لهما فأن يصلي الإنسان ويجعل ثواب هذه الصلاة لأبيه أو لأمه أو لأحد من قرابته، والعلماء مختلفون في العبادات البدنية، أما العبادات المالية فإنه يصل أجرها، كما قال سعد بن عبادة: “إن نفس أمي افتُلِتتْ وما تكلمتْ، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم.
فالصدقة عن الميت تنفعه، والدعاء كذلك، وأما العبادات البدنية فالعلماء مختلفون في هذا كثيراً، فمن أهل العلم من يقول: لا يصل شيء من العبادات البدنية المحضة، كقراءة القرآن والصلاة، ونحو هذا، وعلى كل حال المشروع أن الإنسان يستغفر؛ لأبويه ويدعو لهما، فإن تصدق عنهما فهو حسن.
2) الصدقة عنهما
والصدقة عن الوالدين تصل.
– فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي تُوُفيَتْ، أينفعها إن تصدَّقتُ عنها؟»، قال: «نعم»، قال: «فإن لي مَخْرَفا، فأنا أشهدك أني قد تصدقت به عنها».
[أخرجه البخاري ((5) / (289)) في الوصايا: باب إذا قال: أرضي أو بستاني صدقة عن أمي فهل جائز، وباب الإشهاد في الوقف والصدقة: وباب إذا وقف أرضا، ولم يبين الحدود فهو جائز، وأبو داود رقم ((2882)) في الوصايا، والترمذي رقم ((669)) في الزكاة، والنسائي ((6) / (252)، (253))، والمَخْرَفُ: النخل، لأنها تخترف ثمارها، أي: تجتني]
– وعن عائشة رضي الله عنها: (أن رجلًا قال: «إن أمي افْتُلِتت (أي: مات فجأة، كأن نفسه أخذَتْ فَلْتَةً) نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها ولي أجر؟» قال: «نعم، فتصدق عنها»)
[رواه البخاري ((5) / (291)) في الوصايا: باب ما يستحب لمن توفي فجأة أن يتصدقوا عنه، وفي الجنائز، ومسلم رقم ((1004)) في الزكاة، وأبو داود رقم ((2881)) في الوصايا، والنسائي ((6) / (250)) في الوصايا، وابن ماجه ((2) / (160))، والإمام أحمد ((6) / (51))].
– «وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أبي مات وترك مالا ولم يوص، فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟ «، قال:» نعم «)
[أخرجه مسلم ((5) / (73))، والنسائي ((2) / (129))، وابن ماجه ((2) / (160))، والبيهقي ((6) / (278))، والإمام أحمد ((2) / (371))].
– وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة، وأن هشام بن العاص نحر حصته خمسين بدنة، وأن عَمْرًا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك؟ فقال:» أما أبوك فلو كان أقر بالتوحيد، فصمتَ، وتصدقتَ عنه، نفعه ذلك «.
أخرجه الإمام أحمد ((2) / (182))، وقال الألباني في الصحيحة، رقم ((484)): (وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات، على الخلاف المعروف في عمرر بن شعيب عن أبيه عن جده).
– وحديث ابن عمر في إعطائه للأعرابي الحمار والعمامة؛ يروى عن عبد الله بن دينار بلفظ: (مر أعرابي في سفر، فكان أبو الأعرابِي صديقًا لعمر رضي الله عنه، فقال للأعرابي:» ألستَ ابن فلان؟ «، قال:» بلى، فأمر له ابن عمر بحِمار كان يستعقب، ونزع عمامته عن رأسه فأعطاه، فقال بعض من معه: (أما يكفيه درهمان؟ «، فقال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:» احفظ وُدً أبيك، لا تقطعه فيطفئ الله نورَك «).
وأبر البر أحسنه وأفضله وأبر البر من قبيل وجد جده وجعل الجد جادا وإسناد الفعل إليه وجعل الجلال جليلا وإسناد الفعل إليه فجعل البر بارا ويبنى منه أفعل التفضيل وكذا كل ما هو من هذا القبيل نحو أفضل الفضل وأفجر الفجور وكون ذلك من البر لأن الولد إذا وصل ود أبيه اقتضى ذلك الترحم عليه والثناء الجميل فتصل إلى روحه راحة بعد زوال المشاهدة المستوجبة للحياء وذلك أشد من كونه بارا في حياته. [فيض القدير – المناوي].
3) وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما.
هذا من برهما، أن يكون الإنسان واصلاً لرحمه، فالأم يكون برها بصلة أخواتها، وقراباتها، وأهلها، والوالد كذلك أيضاً.
4) صلة أصدقاء الوالدين والإحسان إليهم
صلة أصدقاء الوالدين والإحسان إليهم، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إن أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي الأب) رواه مسلم،
قال عليه الصلاة والسلام: (من أحب أن يصل أباه في قبره، فليصل إخوان أبيه من بعده).
فإكرام صديق الأب والأم، وهذا أبلغ في الصلة؛ لأن الإنسان قد يبر قرابته ويتحمل هذا، لكن البر للأصدقاء فيه كلفة أكثر، وغالباً ما يكون هؤلاء الأصدقاء -بل دائماً في مجاري العادات- من أسنان الأبوين، والولد في شبابه وفتوته، حديثهم يختلف عن حديثه، واهتماماتهم تختلف عن اهتماماته، وما أشبه ذلك، فإذا قام بصلة هؤلاء والتعاهد لهم بالزيارة، وما أشبه هذا فلا شك أن هذا ينبئ عن أصالة هذا الولد، وعن حسن تربيته، وعن عظيم بره.
5) إنفاذ عهدهما من بعدهما:
إنفاذ العهد: أيّ عهد كان لأبويه فإنه يحقق ذلك وينفذه وينجزه لمن كان له هذا العهد، إنفاذ عهدهما من بعدهما، لو أن الوالد قال لأحد الناس ووعده بعدة فإن مقتضى البر أن ينفّذ هذا الولد لهذا الإنسان العدة التي وعد بها الوالد، لو قال هذا الإنسان لرجل فقير: سأبني لك داراً، فهذا من البر أن ينفذه.
وطبعًا لو كان له وصية يجب إنفاذها.
6) قضاء صوم النذر أو الكفارة عنهما: فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:» من مات وعليه صيام، صام عنه ولِيُّه «.
[أخرجه البخاري ((4) / (168)) في الصوم: باب من مات وعليه صوم، ومسلم رقم ((1147)) في الصوم: باب قضاء الصيام عن الميت، وأبو داود رقم ((2400)) في الصوم: باب فيمن مات وعليه صيام]
(المسألة الرابعة): إكرام النبي صلى الله عليه وسلم لصديقات خديجة رضي الله عنها.
حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: ما غرت على أحد من نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- ما غرت على خديجة رضي الله عنها، وما رأيتها قط، ولكن كان يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة، ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأن لم يكن في الدنيا إلا خديجة! فيقول: إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد [أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب تزويج النبي -صلى الله عليه وسلم- خديجة وفضلها -رضي الله عنها، (5/ 39)، رقم: (3818)].
وفي رواية: وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يَسعهنّ، وفي رواية: كان إذا ذبح الشاة يقول: أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة [أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم ، باب فضائل خديجة أم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها- (4/ 1888)، رقم: (2435)].
وفي رواية قالت: استأذنتْ هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعرف استئذان خديجة، فارتاح لذلك فقال: اللهم هالة بنت خويلد [أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم ، باب فضائل خديجة أم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها- (4/ 1889)، رقم: (2437)].
يعني: -يعني: تذكر خديجة لمشابهة في الصوت، فتحرك قلبه -صلى الله عليه وسلم- لذلك، وتوقعها ووقع ذلك في نفسه.
وهذا الحديث يدل على أن مما يدعو إليه الإسلام، ويحث أتباعه عليه أن يبر الإنسان أصحاب وأصدقاء وقرابة من يحبه، أو من له حق عليه، ذكرنا بعض الأحاديث التي تتعلق بالوالدين، وبقرابة الوالدين، أو بأصحاب الوالدين، وأن هذا من أبر البر، وهذا الحديث هنا ليس في الوالدين، إنما هو في صديقات الزوجة، وإذا كان هذا يُفعل مع صديقات الزوجة فإن ما يطلب مع قرابتها كأبيها وأمها وإخوانها وأخواتها لا شك أنه أهم وأولى من جهة البر والإحسان والصلة.
كثير من الناس يقولون: أقرباء الزوجة هؤلاء أصهار ليسوا بأرحام، والإسلام أمر بصلة الرحم، فيقال: مثل هذا الحديث يدل على هذا المعنى، فالإسلام لا يأمر بصلة الرحم فقط، بل بالإحسان إلى الخلق جميعاً، وكلما كان هؤلاء أقرب إليك كلما كان البر آكد في حقهم،
وهكذا أيضاً كثير من الناس إذا سافر أو انتقل نسي أصحابه الذين كان يعاشرهم ويمالحهم، وبينه وبينهم وشائج وعلائق وصداقة.
ومن أراد من الرجال أن يملك قلب امرأته فليحسن إلى أهلها ويذكرهم بخير، والمرأة التي تريد أن تملك قلب زوجها عليها أن تحسن إلى أهله، وأن تكون جيدة الصلة بهم، ولا تذكرهم عنده إلا بخير
(المسألة الخامسة): خدمة جرير البجلي للأنصار إكراماً لرسول الله
حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرجت مع جرير بن عبد الله البَجَلي رضي الله عنه في سفر فكان يخدمني، فقلت له: لا تفعل، فقال: إني قد رأيت الأنصار تصنع برسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئاً آليت على نفسي أن لا أصحب أحداً منهم إلا خدمته. متفق عليه.
فهذا من الأحاديث التي يستشهد بها على هذا المعنى الذي أورده المصنف، أو عقد له المصنف -رحمه الله- هذا الباب، أن من أراد إكرام أحد يحبه فإنه يكرم أولئك الذين يرتبط بهم بقرابة، أو علاقة وصحبة ومحبة، وما شابه ذلك، فهؤلاء الأنصار رضي الله عنهم، لما كانوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذه المنزلة جرير البجلي رضي الله عنه، ولم يكن من الأنصار، ولا من المهاجرين، قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من اليمن، ومحله الآن أرض قبيلة بَجيلة، وتعرف الآن ببني مالك، وهي بين الطائف والباحة، وهذه القبيلة تفرقت وتشتتت، وكادت أن تضمحل، ثم بعد ذلك جمعهم جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، طلب ذلك في عهد أبي بكر، ثم بعد ذلك شغل أبو بكر في حروب الردة، ثم طلب ذلك بعهد عمر، وكان معه كتاب من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، أي أنه طلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكتب له كتاباً في جمعهم، فقام فجمعهم، فلما كانوا في يوم القادسية كان لهم بلاء مشهود؛ لأن القادسية كانت الكتائب موزعة على القبائل، فكل قبيلة تبلي، فكانت قبيلة بجيلة من أشد القبائل بلاءً.
فمع مكانة جرير … كان يخدم أنسا لأنه من الأنصار
المسألة السادسة: صور من بر السلف بأهل ود آبائهم:
عن سعيد بن عامر، عن هشام، قال: قالت حفصة بنت سيرين: ” بلغ من بر الهذيل ابني بي، أنه كان يكسر القصب في الصيف فيوقد لي في الشتاء، قال: لئلا يكون له دخان، وكان يحلب ناقته بالغداة، فيأتيني به، فيقول: اشربي يا أم الهذيل، فإن أطيب اللبن ما بات في الضرع، قالت: فمات، فرزق الله علي من الصبر ما شاء أن يرزق، وكنت أجد مع ذلك حرارة في صدري لا تكاد تسكن، قالت: فأتيت ليلة من الليالي على هذه الآية: {ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 96]. فذهب عني ما كنت أجد “.البر والصلة لابن الجوزي (1/ 89)
وهذا هذيل يقدم أمه حفصة بنت سيرين ومن تحب باللبن الطيب:
عن سعيد، عن هشام، قال: ” كانت حفصة ترحم على الهذيل، وتقول: كان يعمد إلى القصب، فيقشره ويجففه في الصيف، فإذا كان الشتاء، جاء حتى يقعد خلفي وأنا أصلي، فيوقد وقودا رفيقا ينالني حره ولا يؤذني دخانه، وكنت ألتفت من الصلاة، فأقول: يا بني الليل، اذهب إلى أهلك، فيقول: يا أماه.
فأعلم ما يريد فأتركه، فلا يزال كذلك حتى يمضي من الليل، فأقول: يا بني الحق بأهلك، فيقول: دعيني فأعرف ما أريد، فأدعه فربما كان ذلك حتى يصبح، وكان يبعث إلي بحلبة الغداة، فأقول: يا بني تعلم، إني لا أشرب نهارا، فيقول: إن أطيب اللبن ما بات في الضرع، فلا أحب أن أوثر غيرك، فابعثي به إلى من أحببت، وجاء ذات يوم قد أهل بالحج، فقلت: ماأردت إلى هذا إني لم أكن أمنعك، قال: قد عرفت، وقد حصرت نيتي، فمات هذيل، فوجدت عليه وجدا شديدا، قالت: فقمت ليلة أصلي، فافتتحت النحل، فأتيت على قوله تعالى: {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} [النحل: 96].فذكرت هذيلا، فذهب ما كنت أجد. . البر والصلة لابن الجوزي (1/ 89)
وبلغ الأمر ببعض السلف أنه كان يسافر ليصل صديق أبيه. روى أحمد (26998) عن يُوسُف بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ قَالَ أَتَيْتُ أَبَا
الدَّرْدَاءِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ فَقَالَ لِي يَا ابْنَ أَخِي مَا أَعْمَدَكَ إِلَى هَذَا الْبَلَدِ أَوْ مَا جَاءَ بِكَ قَالَ قُلْتُ لا
إِلا صِلَةُ مَا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ وَالِدِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ.
المسألة السابعة:
هذه صور رعاية المسنين في الإسلام، فحين يزور أفراد المجتمع أصدقاء آبائهم فإنهم يساعدون على دمج المسن في المجتمع والقضاء على العزلة التي يشعر بها، وبالتالي التخفيف من التغيرات الاجتماعية والنفسية التي يمر بها المسن.
بخلاف ما يحدث في المجتمعات غير الإسلامية. فتطالعنا الأخبار بين حين وآخر عما يحدث لبعض المسنين هناك، ومدى العزلة التي يعيشون فيها.
فهذا مسن يبقى متوفياً داخل شقته أربع سنوات ولم تكتشف جثته إلا صدفة.
وفي تقرير من وزارة الأسرة والشبيبة والكهولة في بعض الدول الكافرة عام 1993 م جاء فيه أن هناك 440 ألف مسن تعرضوا للإيذاء الجسدي والمعاملة السيئة
من أقاربهم وأفراد أسرهم مرة واحدة على الأقل في العام.
(المسألة الثامنة): في فوائده:
1 – في الحديث فضل صلة أصدقاء الأب، والإحسان إليهم، وإكرامهم، وهو متضمن لبر الأب، وإكرامه، لكونه بسببه، ويلتحق به أصدقاء الأم والأجداد والمشايخ والزوج والزوجة.
2 – وفيه قوة ودقة عمل ابن عمر بالسنة.
3 – أن تبر أهل وده، يعني ليس صديقه فقط بل حتى أقارب صديقه.
4 – وفي هذا الحديث دليل على امتثال الصحابة، ورغبتهم في الخير ومسارعتهم إليه؛ لأن ابن عمر استفاد من هذا الحديث فائدة عظيمة، فإنه فعل هذا الإكرام بهذا الأعرابي من أجل أن أباه كان صديقًا لعمر، فما ظنك لو رأى الرجل الذي كان صديقًا لعمر؟ لأكرمه أكثر وأكثر.
5 – فيستفاد من هذا الحديث أنه إذا كان لأبيك أو أمك أحد بينهم وبينه ود فأكرم، كذلك إذا كان هناك نسوة صديقات لأمك؛ فأكرم هؤلاء النسوة، وإذا كان رجال أصدقاء لأبيك؛ فأكرم هؤلاء الرجال، فإن هذا من البر.
6 – وفي هذا الحديث أيضًا: سعة رحمة الله عز وجل حيث إن البر بابه واسع لا يختص بالوالد والأم فقط؛ بل حتى أصدقاء الوالد وأصدقاء الأم، إذا أحسنت إليهم فإنما بررت والديك فتثاب ثواب البار بوالديه.
7 – وهذه من نعمة الله عز وجل، أن وسع لعباده أبواب الخير وكثرها لهم، حتى يلجوا فيها من كل جانب، نسأل الله تعالى أن يجعلنا والمسلمين من البررة، إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. [فتح المنعم، شرح رياض الصالحين لابن عثيمين ((3) / (216))]