4748 الفوائد المنتقاة على صحيح مسلم
مجموعة: إبراهيم البلوشي وأبي عيسى البلوشي وفيصل الشامسي وفيصل البلوشي وهشام السوري، وعبدالله المشجري، وسامي آل سالمين، وعلي آل رحمه، وكرم.
ومجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، ونوح وعبدالخالق وموسى الصوماليين، وخميس العميمي.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
ومراجعة سيف بن غدير النعيمي
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
صحيح مسلم، كتاب فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، بَابُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((النَّاسُ كَإِبِلٍ مِائَةٍ لَا .. ))، حديث رقم (4748).
4748 حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ – وَاللَّفْظُ لِمُحَمَّدٍ قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا، وقَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا – عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تَجِدُونَ النَّاسَ كَإِبِلٍ مِائَةٍ، لَا يَجِدُ الرَّجُلُ فِيهَا رَاحِلَةً)).
==========
الحديث رواه البخاري رحمه الله في كتاب الرقاق من صحيحه، باب رفع الأمانة.
تمهيد:
قَوْلُهُ: (كَإبِلٍ مِائَةٍ) يَعْنِي: أنَّ المُؤْمِنِينَ المُنْتَخَبِينَ مِنَ النّاسِ فِي عِزَّةِ وجُودِهِمْ كالمُنْتَخَبِ مِنَ الإبِلِ القَوِيَّةِ عَلى الأحْمالِ والأسْفارِ الَّذِي لا يُوجَدُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الإبِلِ، قالَ الزُّهْرِيُّ: الَّذِي عِنْدِي فِيهِ أنَّ اللَّهَ تَعالى ذَمَّ الدُّنْيا وحَذَّرَ العِبادَ وضَرَبَ لَهُمْ مِنها الأمْثالَ لِيَعْتَبِرُوا ويَحْذَرُوا، وكانَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم- يُحَذِّرُهُمْ ما حَذَّرَهُمُ اللَّهُ تَعالى ويُزَهِّدُهُمْ فِيها، فَرَغِبَتِ النّاسُ بَعْدَهُ فِيها وتَنافَسُوا عَلَيْها، حَتّى كانَ الزُّهْدُ فِي النّادِرِ القَلِيلِ مِنهُمْ. فَقالَ: تَجِدُونَ النّاسَ بَعْدِي كَإبِلٍ مِائَةٍ لَيْسَ فِيها راحِلَةٌ، أيْ: أنَّ الكامِلَ فِي الزُّهْدِ فِي الدُّنْيا والرَّغْبَةِ فِي الآخِرَةِ قَلِيلٌ كَقِلَّةِ الرّاحِلَةِ فِي الإبِلِ، والرّاحِلَةُ، هِيَ: البَعِيرُ القَوِيُّ عَلى الأسْفارِ والأحْمالِ، النَّجِيبُ، التّامُّ الخَلْقِ، الحَسَنُ النَّظَرِ، ويَقَعُ عَلى الذَّكَرِ والأُنْثى، والهاءُ لِلْمُبالَغَةِ. [حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2) / (479)].
فأكثر الناس لا يعلمون، وأكثر الناس لا يفقهون، {{وقليل من عبادي الشكور}} [سبأ: 13] وبعث النار قد يكون من كل مائة تسعة وتسعين، والمؤمنون بالإسلام بالنسبة لأمم بني آدم في عصورها السابقة واللاحقة كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض.
وكل مجتمع من مجتمعات بني آدم، فيهم القوي وفيهم الضعيف، فيهم الجواد وفيهم البخيل، فيهم الشجاع وفيهم الجبان، فيهم العطوف الرحيم، وفيهم الشديد الغليظ المناع للخير المعتدي الأثيم، ولو تجاوزنا بعض المجتمعات الفاضلة في بعض الأزمنة لوجدنا نسبة الفاسدين للصالحين تصل [99%] كالإبل المجتمعة لا تجد منها يصلح للركوب المريح إلا [1/] وباقيها إنما يصلح لحمل الأثقال. [فتح المنعم]
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
روى البخاري (6498)، ومسلم (2547) عن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّمَا النَّاسُ كَالإِبِلِ المِائَةِ، لاَ تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً)
هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: (تَجِدُونَ النَّاسَ كَإِبِلٍ مِائَةٍ، لَا يَجِدُ الرَّجُلُ فِيهَا رَاحِلَةً).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
” فَعَلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ وَبِغَيْرِ (تَكَادُ) فَالْمَعْنَى: لَا تَجِدُ فِي مِائَةِ إِبِلٍ رَاحِلَةً تَصْلُحُ لِلرُّكُوبِ، لِأَنَّ الَّذِي يَصْلُحُ لِلرُّكُوبِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَطِيئًا سَهْلَ الِانْقِيَادِ، وَكَذَا لَا تَجِدُ فِي مِائَةٍ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَصْلُحُ لِلصُّحْبَةِ، بِأَنْ يُعَاوِنَ رَفِيقَهُ وَيُلِينَ جَانِبَهُ.
وَالرِّوَايَةُ بِإِثْبَاتِ (لَا تَكَادُ) أَوْلَى لِمَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةِ الْمَعْنَى وَمُطَابَقَةِ الْوَاقِعِ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَى الْأَوَّلِ يَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ، وَيُحْمَلُ النَّفْيُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، وَعَلَى أَنَّ النَّادِرَ لَا حُكْمَ لَهُ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْعَرَبُ تَقُولُ لِلْمِائَةِ مِنَ الْإِبِلِ إِبِلٌ، يَقُولُونَ لِفُلَانٍ إِبِلٌ، أَيْ مِائَةُ بَعِيرٍ، وَلِفُلَانٍ إِبِلَانِ، أَيْ مِائَتَانِ.
قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا فَالرِّوَايَةُ الَّتِي بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ يَكُونُ قَوْلُهُ مِائَةٌ تَفْسِيرًا لِقولِهِ إِبِلٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ كَإِبِلٍ أَيْ كَمِائَةِ بَعِيرٍ، وَلَمَّا كَانَ مُجَرَّدُ لَفْظِ إِبِلٍ لَيْسَ مَشْهُور الِاسْتِعْمَال فِي الْمِائَة، ذكر الْمِائَة توضيحا ورفعا لِلْإِلْبَاسِ. وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: فَاللَّامُ لِلْجِنْسِ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: تَأَوَّلُوا هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّاسَ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ سَوَاءٌ، لا فضل فِيهَا لِشَرِيفٍ عَلَى مَشْرُوفٍ، وَلَا لِرَفِيعٍ عَلَى وَضِيعٍ، كَالْإِبِلِ الْمِائَةِ الَّتِي لَا يَكُونُ فِيهَا رَاحِلَةٌ، وَهِيَ الَّتِي تُرْحَلُ لِتُرْكَبَ، وَالرَّاحِلَةُ فَاعِلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، أَيْ كُلُّهَا حَمُولَةٌ تَصْلُحُ لِلْحَمْلِ، وَلَا تَصْلُحُ لِلرَّحْلِ وَالرُّكُوبِ عَلَيْهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أَهْلُ نَقْصٍ، وَأَمَّا أَهْلُ الْفَضْلِ فَعَدَدُهُمْ قَلِيلٌ جِدًّا، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الرَّاحِلَةِ فِي الْإِبِل الحمولة، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: (وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُون).
قُلْتُ: وَأَوْرَدَ الْبَيْهَقِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ فِي تَسْوِيَةِ الْقَاضِي بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، أَخْذًا بالتأويل الأول، وَنقل عَن ابن قُتَيْبَةَ أَنَّ الرَّاحِلَةَ هِيَ النَّجِيبَةُ الْمُخْتَارَةُ مِنَ الْإِبِلِ لِلرُّكُوبِ، فَإِذَا كَانَتْ فِي إِبِلٍ عُرِفَتْ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّ النَّاسَ فِي النَّسَبِ كَالْإِبِلِ الْمِائَةِ الَّتِي لَا رَاحِلَةَ فِيهَا فَهِيَ مُسْتَوِيَةٌ.
وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الرَّاحِلَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ الذَّكَرُ النَّجِيبُ وَالْأُنْثَى النَّجِيبَةُ، وَالْهَاءُ فِي الرَّاحِلَةِ لِلْمُبَالَغَةِ، قَالَ: وَقَول ابن قُتَيْبَةَ غَلَطٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الزَّاهِدَ فِي الدُّنْيَا، الْكَامِلَ فِيهِ، الرَّاغِبَ فِي الْآخِرَةِ: قَلِيلٌ؛ كَقِلَّةِ الرَّاحِلَةِ فِي الْإِبِلِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا أَجْوَدُ. وَأَجْوَدُ مِنْهُمَا قَوْلُ آخَرِينَ: إِنَّ الْمَرْضِيَّ الْأَحْوَالِ مِنَ النَّاسِ الْكَامِلَ الْأَوْصَافِ قَلِيلٌ.
قُلْتُ: هُوَ الثَّانِي، إِلَّا أَنَّهُ خَصَّصَهُ بِالزَّاهِدِ، وَالْأَوْلَى تَعْمِيمُهُ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الَّذِي يُنَاسِبُ التَّمْثِيلَ: أَنَّ الرَّجُلَ الْجَوَادَ الَّذِي يَحْمِلُ أَثْقَالَ النَّاسِ، وَالْحَمَالَاتِ عَنْهُمْ، وَيَكْشِفُ كُرَبَهُمْ: عَزِيزُ الْوُجُودِ، كالراحلة فِي الْإِبِل الْكَثِيرَة.
وَقَالَ ابن بَطَّالٍ: مَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّ النَّاسَ كَثِيرٌ، وَالْمَرْضِيَّ مِنْهُمْ قَلِيلٌ. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَوْمَأَ الْبُخَارِيُّ بِإِدْخَالِهِ فِي بَابِ رَفْعِ الْأَمَانَةِ، لِأَنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ فَالِاخْتِيَارُ عَدَمُ مُعَاشَرَتِهِ”.
انتهى من ” فتح الباري ” (11/ 335).
فتحصل من هذا: أن الحديث يحتمل أن يكون المراد منه التسوية بين الناس.
ويحتمل أن يكون المراد: أن مرضي الدين والخلق من الناس قليل أو نادر، كما أنك قد تجد مائة من الإبل وليس فيها واحدة تصلح للركوب.
وهذا المعنى الثاني هو الذي اختاره أكثر العلماء.
قال ابن الأثير رحمه الله:
” (النَّاسُ كإبِلٍ مائةٍ لَا تَجِدُ فِيهَا راحلَةً) يَعْنِي: أَنَّ المَرْضِيَّ الْمُنتَجَب مِنَ النَّاسِ، فِي عِزَّةِ وُجُودِهِ: كالنّجِيبِ مِنَ الإبِلِ الْقَوِيِّ عَلَى الْأَحْمَالِ وَالْأَسْفَارِ الَّذِي لَا يُوجَدُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْإِبِلِ “.
انتهى من ” النهاية ” (1/ 15).
وانظر: ” مرقاة المفاتيح ” (8/ 3360)، “عمدة القاري” (23/ 85)، “التيسير” (1/ 359)، “حاشية السندي على ابن ماجه” (2/ 479).
وقال ابن الجوزي رحمه الله في كشف المشكل من حديث الصحيحين:
والمراد من الحديث: أن المختار من الناس قليل، كما أن المختار من الإبل للرحلة عليه وتحميله للأثقال قليل.
وقال ابن هبيرة رحمه الله في الإفصاح عن معاني الصحاح:
*فيه من الفقه أن الناس قد يكون منهم الجم الغفير، فلا يوجد فيهم من يضطلع بحمل أثقالهم كما تحمل الراحلة في الإبل المائة، فإنها تحمل الذنوب والحبل والمحالة وغير ذلك مما ترد الإبل به.
*وأيضًا فإن المؤمن يكون سهل المقامة على قائده غير قاٍس ولا صغر الجانب بل سهلًا قريًبا، كذلك الراحلة تسمح في يد قائدها، وتصحب لسائقها، حتى لو أناخها على صخرة لبركت، ولذلك فإن المؤمن من يكون في تحصيل منافع المؤمنين والقيام بمصالحهم، ويأتيه من ذلك ما لا يتأتى له جمهورهم فإنه على نحو الراحلة أيًضا التي يركبها راعي الإبل، فيرد بها شاردة ويحبس بها الناده، ويرود عليها أجارع الخصب ليهبطها أماكن الجدب لتجتنبها، ولتسلم على المناهل ليورد إبله بها.
فكذلك من يجمع هذه الخصال من الناس فإنه لا يكون من المائة في الغالب واحد.
*والذي أراه أن حصر هذا العدد بمائة أي أن سلامة هؤلاء المائة واستقامتهم بهذا الواحد، فكأنه يكون في المعنى مائة إذا كانت حياة المائة واستقامة المائة به.
جاء في البحر الثجاج للأثيوبي:
وقال بعضهم: خَصّ ضرب المَثَل بالراحلة؛ لأن أهل الكمال جعلهم
الحقّ تعالى حاملين عن أتباعهم المشاقّ، مذللة لهم الصعب في جميع الآفاق؛
لغلبة الحنُوّ عليهم والإشفاق. انتهى. [«فيض القدير شرح الجامع الصغير» للمناويّ (2) / (562)].
ثم نقل كلام ابن حجر السابق. انتهى من البحر الثجاج]
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولي): تعريف الزهد، وحقيقته.
الزهد: ترك الحرام، وأن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يديك، والورع: تجنب الشبهات. قاله فيصل آل مبارك رحمه الله تعالى
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين عن (حقيقة الزهد في الإسلام): “الزهد هو ترك ما لا ينفع في الآخرة، بحيث يترك الإنسان المباحات إذا لم تنفعه في الآخرة، ومما يعين على الزهد أن يتأمل الإنسان في هذه الحياة الدنيا، وأنها دار ممر، وليست دار مقر، وأنها لم تبق لأحد من قبلك، وما لم يبق لأحد من قبلك فلا يبقى لك قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}. يعني لن يخلد أحد في هذه الدنيا، وكذلك ليعلم أن هذه الدنيا دار تنقيص وكدر، ما يسر بها إنسان يوما إلا ساء وكدر في اليوم الثاني، فإذا علم حقيقة الدنيا فإنه بعقله وإيمانه سوف يزهد بها ولا يؤثرها على الآخرة قال الله تعالى {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى}. [الموقع الرسمي – فتاوى نور على الدرب، الشريط رقم [230] تصنيف فقهي: البر والصلة والآداب والأخلاق، سنن وآداب].
يقول السائل: كيف يكون الزهد في الدنيا، جزاكم الله خيرًا؟
قال الشيخ عبد العزيز بن باز:
الزهد في الدنيا في إيثار الآخرة عليها، وعدم التكلف يكتفي بالحلال ويكتفي بما يعينه على طاعة الله ولا يتكلف شيئاً يشغله عن الآخرة، وليس معنى الزهد ترك الدنيا وترك المال، لا، ترك المشتبهات، ترك الجشع في طلب التجارة الذي يشغله عن الآخرة وعن طاعة الله وعن طلب العلم، عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عن النوافل المستحبة، يعني يجتهد في طلب الآخر بالأعمال الصالحة ولا تشغله الدنيا عن الآخرة ولكن لا يتركها يطلبها يبيع يشتري يغرس الشجر، يزرع إلى غير هذا من أسباب الرزق يطلب الرزق مثل ما طلبه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لكنهم لا يؤثروها على الآخرة لا تشغله عن الآخرة بل أعمال الآخرة مقدمة على أمر الدنيا يقول النبي – صلى الله عليه وسلم-: احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل قَدَرُ الله ما شاء فعل فالمؤمن يطلب الرزق ولكن لا تشغله دنياه عن آخرته. [الشيخ عبد العزيز بن باز – الموقع الرسمي].
ما الفرق بين الزهد والورع؟
نقل ابن القيم في (مدارج السالكين) عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمهما الله تعالى- أنه يقول: “الزهد: ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع: ترك ما تخاف ضرره في الآخرة”، يقول ابن القيم: “وهذه العبارة من أحسن ما قيل في الزهد والورع وأجمعها”، وقد يقال: إن الزهد بالنسبة لما حصل في يدك، والورع قبل أن تملكه وقبل أن يحصل في يدك، فتتورع عن ملك الشيء، ثم إذا حصل في يدك بعد أن جزمت بحله وأنه ليس فيه أدنى شبهة فإنك تزهد فيه، وتخرجه فيما يرضي الله -جل وعلا-. [الفرق بين الزهد والورع]
(المسألة الثانية): تحقيق الزهد في الدنيا
أما الطريق إلى (تحقيق الزهد في الدنيا):
فيكون كما قال ابن القيم في “الفوائد”:
الرغبة في الآخرة تقتضي الزهد بالدنيا: لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين:
نظر في الدنيا
وسرعة زوالها، وفنائها، واضمحلالها، ونقصها، وخستها، وألم المزاحمة عليها والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد، وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب من الحسرة والأسف، فطالبها لا ينفك من همِّ قبل حصولها وهم في حال الظفر بها، وغم الحزن بعد فواتها فهذا أحد النظرين.
النظر الثاني: النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد، ودوامها وبقائها وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات، والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا. فهي كما قال الله سبحانه: {والآخرة خير وأبقى} الآية: 17 من سورة الأعلى
فهي خيرات كاملة دائمة. وهذه خيالات ناقصة متقطعة مضمحلة. فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره، وزهد فيما يقتضي الزهد فيه، فكل أحد مطبوع على أن (((لا))) يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة إلى النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة إلا إذا تبين له فضل الآجل على العاجل وقويت رغبته في الأعلى الأفضل، فإذا آثر الفاني الناقص كان ذلك إما لعدم تبين الفضل له، وإما لعدم رغبته في الأفضل، وكل واحد من الأمرين يدل على ضعف الإيمان وضعف العقل والبصيرة، فإن الراغب في الدنيا الحريص عليها المؤثر لها: إما أن يصدق بأن ما هناك أشرف وأفضل وأبقى وإما ألا يصدق، فإن لم يصدق ذلك كان عادماً للإيمان رأساً، وإن صدق بذلك ولم يؤثره كان فاسد العقل سيئ الاختيار لنفسه.
وهذا تقسيم حاضر لا ينفك العبد من أحد القسمين منه ” انتهى.
تنبيه:
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة:
“ليس الزهد لبس المرقع من الثياب، ولا اعتزال الناس والبعد عن المجتمع، ولا صيام الدهر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سيد الزاهدين، وكان يلبس الجديد من الثياب، ويتزين للوفود وفي الجمع والأعياد، ويخالط الناس، ويدعوهم إلى الخير ويعلمهم أمور دينهم، وكان ينهى أصحابه رضي الله عنهم عن صيام الدهر، وإنما الزهد التعفف عن الحرام، وما يكرهه الله تعالى، وتجنب مظاهر الترف والإفراط في متع الدنيا، والإقبال على عمل الطاعات، والتزود للآخرة بخير الزاد، وخير تفسير له سيرة النبي صلى الله عليه وسلم العملية.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم” انتهى.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز … الشيخ عبد الرزاق عفيفي … الشيخ عبد الله بن غديان … الشيخ عبد الله بن قعود.”فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء” (24/ 369).
(المسألة الثالثة): ما ورد من النصوص في الباب:
1408 – عَنْ اَلنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ – رضي الله عنهما – قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ – وَأَهْوَى اَلنُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ: «إِنَّ اَلْحَلالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ اَلْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ اَلنَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى اَلشُّبُهَاتِ، فَقَدِ اِسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي اَلشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي اَلْحَرَامِِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ اَلْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلا وَإِنَّ حِمَى الله مَحَارِمُهُ، أَلا وَإِنَّ فِي اَلْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ اَلْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ اَلْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ اَلْقَلْبُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
أجمع الأئمة على عظم شأن هذا الحديث، وأنه من الأحاديث التي تدور عليها قواعد الإسلام.
(قوله: الحلال بين) أي قد بينه الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، (وبينهما أمور مشتبهات) أي مترددة بين الحل والحرمة، (لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) وفيه الحث على الورع، (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه) وفيه الإرشاد إلى البعد عن ذرائع الحرام وإن كانت غير محرمة لئلا يدخل في المعاصي.
(قوله: ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) خص القلب بذلك لأنه أمير البدن، وبصلاح الأمير تصلح الرعية، وبفساده تفسد، وفيه إشارة إلى أن لطيب الكسب وترك المعاصي أثراً في صلاح القلب، والله أعلم.
1409 – وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «تَعِسَ عَبْدُ اَلدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمِ، وَالْقَطِيفَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
المراد بعبد الدينار والدرهم: من استعبدته الدنيا بطلبها، فإن كل من أحب شيئاً وآثره على غيره صار عبداً له يرضى له ويسخط له.
1410 – وَعَنِ اِبْنِ عُمَرَ – رضي الله عنهما – قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: بِمَنْكِبِيَّ، فَقَالَ: «كُنْ فِي اَلدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» وَكَانَ اِبْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرِ اَلصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ اَلْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِسَقَمِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِيُّ.
الحديث دليل على الزهد في الدنيا، وأنها دار ممر لا دار مقر. قال الله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ} [الرعد: 26]، وفيه الحث على الأعمال قبل فوات وقتها، والاستعداد للموت قبل نزوله.
1411 – وَعَنِ اِبْنِ عُمَرَ – رضي الله عنهما – قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ، فَهُوَ مِنْهُمْ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وصحَّحَهُ ابن حِبَّانَ.
الحديث دليل تحريم التشبه بالكفار والفساق في ملابسهم ومراكبهم وهيئاتهم.
1412 – وَعَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما – قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ اَلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا، فَقَالَ: «يَا غُلامُ! اِحْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، اِحْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللهَ، وَإِذَا اِسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِالله» رَوَاهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(قوله: احفظ الله) أي احفظ حدوده وعهوده وأوامره ونواهيه، يحفظك في دينك ودنياك وآخرتك ويجزك على ذلك. (قوله: إذا سألت فاسأل الله، و إذا استعنت فاستعن بالله) في أمور دينك ودنياك كما في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].
1413 – وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ – رضي الله عنه – قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى اَلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله! دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللهُ، وَأَحَبَّنِي اَلنَّاسُ. فقَالَ: «اِزْهَدْ فِي اَلدُّنْيَا يُحِبُّكَ اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ اَلنَّاسِ يُحِبُّكَ اَلنَّاسُ» رَوَاهُ اِبْنُ مَاجَه وغيره، وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.
الحديث دليل على شرف الزهد وفضله. وأخرج الترمذي وابن ماجه من حديث أبي ذر مرفوعاً: (الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يديك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها، أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك).
قلت سيف بن دورة: قال الألباني ضعيف جدا.
قال الترمذي: عمرو بن واقد منكر الحديث.
قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: الصحيح وقفه كما رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد قال أبو مسلم الخولاني: ليس الزهادة في الدنيا. …. وخرجه ابن أبي الدنيا عن يونس بن ميسرة قال: ليس الزهادة. … وزاد وأن يكون مادحك وذامك في الحق سواء.
1414 – وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ – رضي الله عنه – قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «إِنَّ اَللهَ يُحِبُّ اَلْعَبْدَ اَلتَّقِيَّ، اَلْغَنِيَّ، اَلْخَفِيَّ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
التقيّ من اجتنب المحرمات وأتى بالواجبات،
والمراد بالغنيّ غنيّ النفس، أو الغني الشاكر،
والخفي: الخامل المنقطع إلى عبادة الله والاشتغال بأمور نفسه.
1415 – وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ اَلْمَرْءِ، تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ» رَوَاهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَسَنٌ.
هذا الحديث من جوامع الكلم، فإنه يعم الأقوال والأفعال، فيندرج فيه ترك التوسع في الدنيا وطلب المناصب والرياسة.
1416 – وَعَنْ اَلْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَا مَلأ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ» أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.
الحديث دليل على ذم التوسع في المأكول والشبع والامتلاء لما فيه من المفاسد الدينية والبدنية، وتمام الحديث: (بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان فاعلاً لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه)
قلت سيف بن دورة: معل. لكن ورد في الصحيح في ذم أناس يشهدون ولا يستشهدون …. ويظهر فيهم السمن
1417 – وَعَنْ أَنَسٍ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاؤون، وَخَيْرُ اَلْخَطَّائِينَ اَلتَّوَّابُونَ» أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ- وَسَنَدُهُ قَوِيٌّ.
الحديث دليل على أنه لا يخلو إنسان من الخطيئة، لما جبل عليه من الضعف وعدم الانقياد، ولكنه تعالى فتح باب التوبة، لطفاً منه بالعباد.
1418 – وَعَنْ أَنَسٍ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم-: «اَلصَّمْتُ حِكْمَةٌ، وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ» أَخْرَجَهُ اَلْبَيْهَقِيُّ فِي «اَلشُّعَبِ» بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ. وَصَحَّحَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ مِنْ قَوْلِ لُقْمَانَ اَلْحَكِيمِ.
قيل: إن سببه أن لقمان دخل على داود، فرآه يسرد درعاً لم يكن رآها قبل ذلك، فجعل يتعجب مما رأى، فأراد أن يسأله عن ذلك فمنعته حكمته؛ فلما فرغ قام داود ولبسها ثم قال: نعم الدرع للحرب، فقال لقمان: الصمت حكمة، وقليل فاعله. والله أعلم. [مختصر الكلام على بلوغ المرام (باب الزهْدِ وَالْوَرَعِ) للشيخ فيصل آل مبارك رحمه الله تعالى]
(المسألة الرابعة): بيان حال السلف في مزاولة أعمال الدنيا
أولا:
كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعملون، ويزاولون الكثير من الحِرف والمهن، فمنها: التجارة، ومنها: الزراعة، ومنها: الأعمال المهنية، كالحدادة والنجارة وغيرهما، ومنها الوظائف التي تتعلق بالدولة: كالتعليم، والعمل على الزكاة، والقضاء وما يشبهها، وغير ذلك من الأعمال.
ولم يكن الواحد منهم يجلس كَلّا على أصحابه بدون عمل يعمله، أو يسأل الناس وهو يقدر على العمل، وقد روى البخاري (1471) عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَأَنْ يَاخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَاتِيَ بِحُزْمَةِ الحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ).
ولم يمنعهم طلب العلم والصحبة الشريفة عن العمل والتكسب، وكان كثير منهم من يتعلم العلم والقرآن ويتدارسونه بالليل، ثم يزاولون عملهم بالنهار، ويتكسبون منه وينفقون منه في سبيل الله ويتصدقون، وقد ثبت ذلك عن جمع من خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفضلائهم، لم يشغلهم في ذلك شأن عن شأن:
روى البخاري ومسلم (677) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: جَاءَ نَاسٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: أَنِ ابْعَثْ مَعَنَا رِجَالًا يُعَلِّمُونَا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، يُقَالُ لَهُمْ: الْقُرَّاءُ، فِيهِمْ خَالِي حَرَامٌ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَدَارَسُونَ بِاللَّيْلِ يَتَعَلَّمُونَ، وَكَانُوا بِالنَّهَارِ يَجِيئُونَ بِالْمَاءِ فَيَضَعُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَحْتَطِبُونَ فَيَبِيعُونَهُ، وَيَشْتَرُونَ بِهِ الطَّعَامَ لِأَهْلِ الصُّفَّةِ وَلِلْفُقَرَاءِ، فَبَعَثَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، فَعَرَضُوا لَهُمْ، فَقَتَلُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا الْمَكَانَ، فَقَالُوا: اللهُمَّ، بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِينَا عَنْكَ، وَرَضِيتَ عَنَّا، قَالَ: وَأَتَى رَجُلٌ حَرَامًا، خَالَ أَنَسٍ مِنْ خَلْفِهِ، فَطَعَنَهُ بِرُمْحٍ حَتَّى أَنْفَذَهُ، فَقَالَ حَرَامٌ: فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: (إِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ قُتِلُوا، وَإِنَّهُمْ قَالُوا: اللهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِينَا عَنْكَ، وَرَضِيتَ عَنَّا).
ولم يكن حالهم كحال الناس اليوم من الإقبال على الدنيا والانشغال بها، بل كانوا على حال عظيم من الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، فلا يعملون لها العمل كله، ويعطون الهم كله، بل كانوا يكفون بها أنفسهم عن الناس، ثم لا ينشغلون بشيء من أمرها، عن أمر الآخرة.
قال الحسن البصري رحمه الله، يصف حالهم رضي الله عنهم: ” أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْرِضُ لِأَحَدِهِمْ حَلَالَهَا، فَيَدَعُهَا، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي عَلَى مَا أَنَا مِنْ هَذِهِ، إِذَا صَارَتْ فِي يَدَيَّ “، كما في ” الزهد ” لابن المبارك (1/ 178).
وقال أيضا: ” لَقَدْ أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا لَا يَفْرَحُونَ بِمَا أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَا يَأسونَ عَلَى مَا أَدْبَرَ مِنْهَا “، كما في ” حلية الأولياء ” (6/ 270).
وقال: ” أدْرَكْتُ أَقْوَامًا كان أَحَدِهِمْ أَشَحُّ عَلَى عُمُرِهِ مِنْهُ عَلَى دِرْهَمِهِ “، كما في ” شرح السنة ” (14/ 225).
وهذا كله بخلاف حال الناس اليوم، من الانشغال بالدنيا عن الآخرة، كما هو مشاهد معلوم.
ثانيا:
أوقات أعمالهم تختلف بحسب طبيعة عمل كل منهم، وإن كان غالب عملهم يكون بالنهار، وبالليل يتفرغون لصلاة الليل وتلاوة القرآن والاستغفار، وخاصة في الثلث الأخير من الليل، ولم يكن أمر الناس في ذلك الزمان، مما يقتضي عملا بالليل، إلا أن يكون أمرا نادرا جدا، بخلاف ما تقضيه طبائع الأمور، وتعقد الحياة اليوم.
وليس في مجرد العمل بالليل، أو العمل لساعات طوال: مذمة، ما دامت بالناس ضرورة أو حاجة إلى ذلك، وسواء كان ذلك لأجل مصلحة عامة للناس، كما هو حال الشُرَط، والأطباء، ونحو ذلك من المهن التي لا يستغني الناس عن وجود من يسعفهم فيها، ويقوم بحاجتهم إليها ليلا ونهارا.
وإنما مرد ذلك: إلى انشغال العامل في ذلك عن أمر دينه، بأمر دنياه، أو يحمله على زيادة عمله، ومواصلة الليل بالنهار، فرط طمع وتعلق بالدنيا، واستكثار منها، لا قضاء حاجة، له، أو لغيره من الناس.
ورغم ما كانوا عليه من العمل، والمهن الشاقة؛ فإنهم كانوا أعظم الناس قياما بين يدي ربهم، وأحسنهم إحياء لليل، ومناجاة لرب العالمين: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) السجدة/ 16.
روى النسائي في ” الكبرى ” (11855) عن بِلَال بْن سَعْدٍ، قَالَ: ” أَدْرَكْتُهُمْ يَشْتَدُّونَ بَيْنَ الْأَغْرَاضِ، [يعني: يتسابقون في الجري]، وَيَضْحَكُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ، كَانُوا رُهْبَانًا “.
وروى أحمد في ” الزهد ” (ص231) عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: ” وَاللَّهِ، لَقَدْ أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا، وَصَحِبْتُ طَوَائِفَ مِنْهُمْ، مَا كَانُوا يَفْرَحُونَ بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَهِيَ كَانَتْ أَهْوَنَ فِي أَعْيُنِهِمْ مِنَ هَذَا التُّرَابِ، كَانَ أَحَدُهُمْ يَعِيشُ خَمْسِينَ سَنَةً لَمْ يُطْوَ لَهُ ثَوْبٌ قَطُّ، وَلَا نُصِبَ لَهُ قِدْرٌ، وَلَا جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ شَيْئًا، وَلَا أَمَرَ فِي بَيْتِهِ بِصَنْعَةِ طَعَامٍ قَطُّ، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ: فَقِيَامٌ عَلَى أَطْرَافِهِمْ، يَفْتَرِشُونَ وُجُوهَهُمْ، تَجْرِي دُمُوعُهُمْ عَلَى خُدُودِهِمْ، يُنَاجُونَ رَبَّهُمْ فِي فِكَاكِ رِقَابِهِمْ، كَانُوا إِذَا عَمِلُوا الْحَسَنَةَ دَأَبُوا فِي شُكْرِهَا، وَسَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَقْبَلَهَا، وَإِذَا عَمِلُوا السَّيِّئَةَ أَحْزَنَتْهُمْ، وَسَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَهَا، فَمَا زَالُوا كَذَلِكَ عَلَى ذَلِكَ “.
ثالثا:
روى الإمام أحمد (17309) – وصححه الألباني – عن عَمْرَو بْن الْعَاصِ رضي الله عنه قال: بَعَثَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: خُذْ عَلَيْكَ ثِيَابَكَ وَسِلَاحَكَ ثُمَّ ائْتِنِي، فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَصَعَّدَ فِيَّ النَّظَرَ ثُمَّ طَاطَأَهُ، فَقَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيْشٍ، فَيُسَلِّمَكَ اللَّهُ وَيُغْنِمَكَ، وَأَرْغَبُ لَكَ مِنْ الْمَالِ رَغْبَةً صَالِحَةً.
قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَسْلَمْتُ مِنْ أَجْلِ الْمَالِ، وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ، وَأَنْ أَكُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!!!
فَقَالَ: يَا عَمْرُو؛ نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ، لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ!!
فالمذموم، الذي هو عبد المال والدنيا: إنما هو من جعل الدنيا أكبر همه، وانشغل بها بالليل والنهار، وأنفق ساعات عمره في طلبها، وعكف عليها، يجمع المال من حله وغير حله، تكثرا ومباهاة ورغبة في متاع الدنيا الزائل، لا يصل به رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ) رواه البخاري (6435).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
” قَوْله (عَبْد الدِّينَار) أَيْ طَالِبه الْحَرِيص عَلَى جَمْعه الْقَائِم عَلَى حِفْظه , فَكَأَنَّهُ لِذَلِكَ خَادِمه وَعَبْده. قَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ خُصَّ الْعَبْد بِالذِّكْرِ لِيُؤْذَن بِانْغِمَاسِهِ فِي مَحَبَّة الدُّنْيَا وَشَهَوَاتهَا، كَالْأَسِيرِ الَّذِي لَا يَجِد خَلَاصًا.
وَلَمْ يَقُلْ مَالِك الدِّينَار وَلَا جَامِع الدِّينَار؛ لِأَنَّ الْمَذْمُوم مِنْ الْمِلْك وَالْجَمْع: الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْر الْحَاجَة. وَقَوْله (إِنْ أُعْطِىَ إِلَخْ) يُؤْذِن بِشِدَّةِ الْحِرْص عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ غَيْره: جَعَلَهُ عَبْدًا لَهُمَا لِشَغَفِهِ وَحِرْصه , فَمَنْ كَانَ عَبْدًا لِهَوَاهُ، لَمْ يَصْدُق فِي حَقّه (إِيَّاكَ نَعْبُد)؛ فَلَا يَكُون مَنْ اِتَّصَفَ بِذَلِكَ صِدِّيقًا ” انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
” مِن الناس من يعبد الدنيا؛ أي: يتذلل لها ويخضع لها، وتكون مناه وغايته، فيغضب إذا فقدت، ويرضى إذا وجدت، ولهذا سمى النبي – صلى الله عليه وسلم – من هذا شأنه عبدا لها، وهذا من يعنى بجمع المال من الذهب والفضة، فيكون مريدا بعمله الدنيا ” انتهى. “مجموع فتاوى ورسائل العثيمين” (10/ 724). [بيان حال السلف في مزاولة أعمال الدنيا].
(المسألة الخامسة): آراء أئمة الإسلام في التصوف وأهله
أولا:
ينبغي أن نفرق بين مدح شخص معين ينسب إلى التصوف والزهد، كالجنيد بن محمد، وأبي سليمان الداراني، وأحمد بن أبي الحواري، وغيرهم ممن عرف بالصلاح والعبادة، وبين مدح الصوفية على سبيل العموم، والحث على الانتساب إليها، فكثير ممن نسب إلى التصوف هم من أهل الزهد والعبادة، فيُذكرون بما يمدحون به، مادام أن الواحد منهم لم يتلبس ببدعة ظاهرة يدعو إليها، وخاصة أن أهل التصوف الأول كانوا يقيدون علمهم بالكتاب والسنة، كما قال عليّ بن هارون، ومحمد بن أحمد بن يعقوب: سمعنا الْجُنَيْد غير مرة يقول: ” علمُنا مضبوطٌ بالكتاب والسنة، من لم يحفظ الكتاب، ويكتب الحديث، ولم يتفقّه، لا يُقْتَدى به ” انتهى من ” تاريخ الإسلام ” (22/ 73).
وقال حامد بْن إِبْرَاهِيم: قَالَ الجنيد بْن مُحَمَّد: ” الطريق إِلَى اللَّه عز وجل مسدودة عَلَى خلق اللَّه تعالى، إلا عَلَى المقتفين آثار رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتابعين لسنته، كَمَا قَالَ اللَّه عز وجل: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ” انتهى من ” تلبيس إبليس ” (ص 12).
وقال الْحُسَيْن النوري لبعض أصحابه: ” من رأيته يدعي مَعَ اللَّه عز وجل حالة تخرجه عَنْ حد علم الشرع: فلا تقربنه، ومن رأيته يدعي حالة لا يدل عليها دليل، ولا يشهد لها حفظ ظاهر: فاتهمه عَلَى دينه “.
وعن الجريري قَالَ: ” أمرنا هَذَا كله مجموع عَلَى فضل واحد هو أن تلزم قلبك المراقبة ويكون العلم عَلَى ظاهرك قائما ” انتهى من ” تلبيس إبليس ” (ص 151).
فمن أثنى على مثل هؤلاء لا يقال إنه أثنى على التصوف وأهله.
فالصوفية الأوائل كانوا أقرب إلى الكتاب والسنة، ممن جاءوا بعدهم، ونسبوا أنفسهم إلى التصوف.
ثم .. حتى هؤلاء الأوائل قد كان لبعضهم أشياء لا يوافق عليها، كما سيأتي في كلام شيخ الإسلام، ولذلك حذر منهم أئمة السلف والعلماء، فقد نقل عن بعضهم عبارات فيها التقليل من شأن العلم الشرعي، ونقل عن آخرين منهم المبالغة في الزهد والتقلل من الدنيا والتشدد في العبادة، وهذا إن صلح لبعض الأفراد فإنه لا يصلح أن يكون منهجا عاما للإسلام، فإن الدنيا لا تصلح ولا تعمر بمثل هذا، ولهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من أراد هذا من أصحابه، فقال أحدهم: ” أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، [يعني: ولا ينام]، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. وَقَالَ آخر: أَنَا لَا آكُلُ اللَّحْمَ “. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: (أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا! أَمَا وَاللَّهِ، إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي) رواه البخاري (5036)، ومسلم (1401).
وقد نقلت عن بعضهم أيضا عبارات من باب الرموز تشبه ما يقوله الباطنية من أن القرآن له ظاهر وباطن، مما جعل بعض الأئمة يحذر منهم.
فقد حذر الإمام أحمد من الحارث المحاسبي، ومن سري السقطي.
” تلبيس إبليس ” (ص151 – 152).
أما الإمام مالك رحمه الله:
فقال القاضي عياض رحمه الله:
” قال المسيبي: كنا عند مالك وأصحابه حوله، فقال رجل من أهل نصيبين: يا أبا عبد الله، عندنا قوم يقال لهم الصوفية، يأكلون كثيراً، ثم يأخذون في القصائد، ثم يقومون فيرقصون.
فقال مالك: الصبيان هم؟ قال: لا.
قال: أمجانين؟ قال: لا، قوم مشائخ.
قال مالك: ما سمعت أن أحداً من أهل الإسلام يفعل هذا “.
انتهى من ” ترتيب المدارك ” (2/ 53).
وقال مروان بن محمد الدمشقي – وهو من أصحاب الإمام مالك -:
” ثلاثة لا يؤتمنون في دين: الصوفي والقصاص ومبتدع يرد على أهل الأهواء “.
انتهى من ” ترتيب المدارك ” (3/ 226).
أما الإمام الشافعي: فقال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول: ” لو أن رجلا تصوف أول النهار لم يأت عليه الظهر إلا وجدته أحمق ” رواه البيهقي في ” مناقب الشافعي ” (2/ 207) بإسناد صحيح.
وقال أيضا: ” مَا لزم أحد الصوفية أربعين يوما فعاد عقله إليه أبدا “.
انتهى من ” تلبيس إبليس ” (ص: 327).
وقال أيضا: ” صَحِبْتُ الصُّوفِيَّةَ، فَمَا انْتَفَعْتُ مِنْهُمْ إِلَّا بِكَلِمَتَيْنِ: سَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ: الْوَقْتُ سَيْفٌ. فَإِنْ قَطَعْتَهُ وَإِلَّا قَطَعَكَ. وَنَفْسُكَ إِنْ لَمْ تَشْغَلْهَا بِالْحَقِّ، وَإِلَّا شَغَلَتْكَ بِالْبَاطِلِ “.
انتهى من ” مدارج السالكين ” (3/ 124).
هذا، مع أن هؤلاء الأئمة إنما تكلموا عن الصوفية الأوائل الذين لم تبلغ بدعتهم ما بلغت عند من جاءوا بعدهم، ممن انتقص العلم الشرعي واحتقره واحتقر أهله، أو ممن ذهب إلى القول بالحلول والاتحاد، أو ممن ذهب إلى القول بأن الإنسان مجبور على فعله لا اختيار له، أو ممن ذهب إلى الإباحية المطلقة والتحلل الكامل من أحكام الإسلام، أو من المتأخرين الذين لا علاقة لهم بالزهد من الدنيا، ولا التقلل منها، ولا تهذيب النفس، وإنما انحصرت صوفيتهم في الموالد التي يقيمونها، مع عبادة الموتى، وأصحاب الأضرحة والطواف حولها، مع التكالب على الدنيا والحرص الشديد عليها، وذلك يخالف منهج التصوف ذاته الذي يقول أتباعه إن الهدف منه تهذيب النفس والزهد في الدنيا.
ثانيا:
أما الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: فقد قال:
” بعث الله سبحانه وتعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى الذي هو: العلم النافع، ودين الحق الذي هو: العمل الصالح؛ إذ كان من ينتسب إلى الدين: منهم من يتعانى العلم والفقه ويقول به كالفقهاء، ومنهم من يتعانى العبادة وطلب الآخرة كالصوفية، فبعث الله نبيه بهذا الدين الجامع للنوعين ” انتهى من ” فتاوى ومسائل ” (ص 31).
فمقصوده رحمه الله – كما تقدم -: ما كان عليه أهل التصوف الأول من الزهد والعبادة ومعالجة آفات النفس، لا ما عليه المتأخرون منهم من البدعة والضلالة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
” وَهَؤُلَاءِ الْمَشَايِخُ لَمْ يَخْرُجُوا فِي الْأُصُولِ الْكِبَارِ عَنْ أُصُولِ ” أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ” بَلْ كَانَ لَهُمْ مِنْ التَّرْغِيبِ فِي أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ، الدُّعَاءِ إلَيْهَا، الْحِرْصِ عَلَى نَشْرِهَا وَمُنَابَذَةِ مَنْ خَالَفَهَا، مَعَ الدِّينِ وَالْفَضْلِ وَالصَّلَاحِ: مَا رَفَعَ اللَّهُ بِهِ أَقْدَارَهُمْ، أَعْلَى مَنَارَهُمْ.
وَغَالِبُ مَا يَقُولُونَهُ فِي أُصُولِهَا الْكِبَارِ: جيِّدٌ؛ مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُوجَدَ فِي كَلَامِهِمْ وَكَلَامِ نُظَرَائِهِمْ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَرْجُوحَةِ، وَالدَّلَائِلِ الضَّعِيفَةِ؛ كَأَحَادِيثَ لَا تَثْبُتُ، وَمَقَايِيسُ لَا تَطَّرِدُ، مَعَ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْبَصِيرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ” انتهى من ” مجموع الفتاوى ” (3/ 377).
فيؤخذ من كلام شيخ الإسلام أن الصوفية الأوائل كانوا مستقيمين على منهج أهل السنة والجماعة في الجملة، وإن كان الواحد منهم لا يسلم من بعض الأشياء التي تنتقد عليه.
فيحمل كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب على هؤلاء.
ثالثا:
كثير من أهل العلم عابوا التصوف وأهله، وذموه ونهوا عن سلوك طرائقه المعوجة.
قال الحافظ سعيد بن عمرو البردعى: ” شهدت أبا زرعة – وقد سئل عن الحارث المحاسبى وكتبه – فقال للسائل: إياك وهذه الكتب، هذه كتب بدع وضلالات، عليك بالأثر (الحديث)، فإنك تجد فيه ما يغنيك.
قيل له: في هذه الكتب عبرة.
فقال: من لم يكن له في كتاب الله عبرة، فليس له في هذه الكتب عبرة، بلغكم أن سفيان ومالكا والأوزاعي صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس، ما أسرع الناس إلى البدع! “.
قال الذهبي رحمه الله:
” وأين مثل الحارث؟! فكيف لو رأى أبو زرعة تصانيف المتأخرين كالقوت لأبي طالب؟ وأين مثل القوت؟ كيف لو رأى بهجة الأسرار لابن جهضم، وحقائق التفسير للسلمى؟ لطار لبُّه.
كيف لو رأى تصانيف أبي حامد الطوسى في ذلك، على كثرة ما في الإحياء من الموضوعات؟
كيف لو رأى الغنية للشيخ عبد القادر! كيف لو رأى فصوص الحكم والفتوحات المكية؟ ”
انتهى من ” ميزان الاعتدال ” (1/ 431).
وقال أبو بكر الطرطوشي رحمه الله:
” مَذْهَبُ الصُّوفِيَّةِ: بَطَالَةٌ وَجَهَالَةٌ وَضَلَالَةٌ، وَمَا الْإِسْلَامُ إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ “.
انتهى من ” تفسير القرطبي ” (11/ 238).
وقال القرطبي رحمه الله:
” فَأَمَّا طَرِيقَةُ الصُّوفِيَّةِ: أَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ مِنْهُمْ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَشَهْرًا، مُفَكِّرًا لَا يَفْتُرُ، فَطَرِيقَةٌ بَعِيدَةٌ عَنِ الصَّوَابِ، غَيْرُ لَائِقَةٍ بِالْبَشَرِ، وَلَا مُسْتَمِرَّةٌ عَلَى السُّنَنِ “.
انتهى من ” تفسير القرطبي ” (4/ 315).
وانظر للاستزادة:
– ” تلبيس إبليس ” / لابن الجوزي.
– ” ذم ما عليه مدعو التصوف ” / لابن قدامة المقدسي.
– ” هذه هي الصوفية ” /
والخلاصة:
أن أهل العلم، وخاصة أئمة المذاهب المتبوعة، لا يعرف عن أحد منهم أنه مدح التصوف أو مدح أهله بإطلاق، ولكن ربما مدحوا بعض من ينسب إلى التصوف، لما عرف به في الناس من الزهد والعبادة والورع، ونحو ذلك من مكارم الصفات والأخلاق. [آراء أئمة الإسلام في التصوف وأهله]
(المسألة السادسة): وقفات الدروس والعبر من الحديث:
الوقفة الأولى: أنه على الدعاة والمربين، والآباء والمعلمين، الاعتناء بالعناصر الفاعلة المتميزة؛ إذ هم قليل في الناس، وعزيز وجودهم.
الوقفة الثانية: حين يدرك الداعية والمربي هذا المعنى، يدعوه ذلك لأن يكون واقعياً في ما يطلبه من الناس وينتظره منهم، فالناس لن يكونوا كلهم رواحل، ولا يسوغ أن نرسم صورة مثالية وننتظر من الناس جميعاً أن يصلوا إليها.
الوقفة الثالثة: حين نرى صورة واقعية من أحد من الناس، فلا يسوغ أن نتخذها نموذجاً نقارن الآخرين به، وننتظر منهم أن يصلوا إلى ما يصل إليه،
فمن الصور الشائعة في ذلك ما يصنعه بعض الآباء مع أبنائه، أو بعض المعلمين مع طلابه حين يعجب بأحدهم فينتظر من الآخرين أن يكونوا مثله، وأن يصلوا إلى ما وصل إليه.
الوقفة الرابعة: ليس معيار الاختلاف بين الناس قاصراً على القدرات العقلية والذهنية وحدها، فهم يتفاوتون في تحملهم للأعباء، وفي جديتهم، وفي تضخيمهم للمخاطر، وفي قدراتهم النفسية … .. إلخ هذه العوامل، وهي كلها مما لابد من أخذه في الاعتبار. []
(المسألة السابعة): بعض ما ورد عن السلف في باب فضل الزهد
فمما ورد عن السلف في باب الزهد في الدنيا ما جاء عن أبي حازم المديني -رحمه الله- قال:
: نعمة الله فيما زوى عني من الدنيا أعظم من نعمته فيما أعطاني منها؛ لأني رأيته أعطاها قوماً فهلكوا.
وجاء رجل لمحمد بن واسع، فقال: أوصني، قال: أوصيك أن تكون ملكاً في الدنيا والآخرة، قال: كيف؟ قال: ازهد في الدنيا.
وجاء عن سفيان الثوري -رحمه الله- أنه قال: ليس الزهد بأكل الغليظ، ولبس الخشن، ولكنه قصر الأمل، وارتقاب الموت.
ويقول: الزهد زهدان: زهد فريضة وزهد نافلة، فالفرض أن تدع الفخر والكبر والعلو والرياء والسمعة والتزين للناس، وأما زهد النافلة فأن تدع ما أعطاك الله من الحلال فإذا تركت شيئاً من ذلك صار فريضةً عليك ألا تتركه إلا لله.
وقال: ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في الرئاسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب، فإن نوزع الرئاسة حامى عليها وعادى.
ويقول: الزهد في الدنيا هو الزهد في الناس، وأول ذلك زهدك في نفسك.
يزهد في الناس: فإذا زهد فيهم فإنه لا يطلب شيئاً منهم من محمدة أو منزلة أو نحو ذلك، وإذا زهد في نفسه فإنه لا يطلب رفعتها.
وجاء عن إبراهيم بن أدهم -رحمه الله- أنه قال: الزهد: فرض وهو الزهد في الحرام، وزهد سلامة وهو الزهد في الشبهات، وزهد فضل وهو الزهد في الحلال.
ويقول مالك: بلغني أنه ما زهد أحد في الدنيا واتقى إلا نطق بالحكمة.
وجاء عن الفضيل: لا يسلم لك قلبك حتى لا تبالي مَن أكَلَ الدنيا.
وقال: حرام على قلوبكم أن تصيب حلاوة الإيمان حتى تزهدوا في الدنيا.
وقيل لسفيان بن عيينة: ما الزهد في الدنيا؟ قال: إذا أنعم عليه شكر، وإذا ابتلي صبر، فذلك الزهد.
وكان يقول: الزهد الصبر، وارتقاب الموت.
ولما سئل عن الزهد قال: الزهد فيما حرم الله، فأما ما أحل الله فقد أباحه الله، فإن النبيّين قد نكحوا وركبوا ولبسوا وأكلوا، لكن الله نهاهم عن شيء فانتهوا عنه وكانوا به زهاداً.
وكان – وكيع بن الجراح رحمه الله – يقول كثيراً: وأي يوم لنا من الموت؟.
وسئل يوسف بن أسباط عن الزهد فقال: أن تزهد في الحلال، فأما الحرام فإن ارتكبته عذبك.
ويقول الربيع: قال لي الشافعي: عليك بالزهد فإن الزهد على الزاهد أحسن من الحلي على المرأة.
ويقول الشافعي أيضاً: لو أوصى رجل بشيء لأعقل الناس صُرف إلى الزهاد.
وجاء عن أبي داود قال: كنت أجالس أحمد، وكانت مجالس أحمد مجالس الآخرة، لا يُذكر فيها شيء من أمر الدنيا، ما رأيته ذكر الدنيا قط.
وكان سحنون إذا قُرئت عليه مغازي ابن وهب تسيل دموعه، وإذا قُرئ عليه الزهد لابن وهب يبكي [انظر: سير أعلام النبلاء]
[بعض ما ورد عن السلف في باب فضل الزهد]
(المسألة الثامنة): في فوائده:
هذا الحديث في نهاية كتاب المناقب يفيد أمرين:
الأول: أن ما مضى من المناقب والفضائل إنما تتعلق بالدين، لا بالنسب.
الثاني: أن ما ذكر من فضائل شرف ومنقبة، وإن قل في نظر الباحث، فأهل الفضل عددهم قليل جدا، لأن الغثاء كثير.
(إضافة) لم يرتب الإمام مسلم – رحمه الله تعالى – أصحاب الفضائل ترتيبا ما، وكأنه ذكرها عفويا تمهيدا لترتيبها فيما بعد، فلم تتهيأ له فرصة الترتيب، كما حصل له في الغزوات.
أما البخاري فله وجهة نظر في ترتيبه الغزوات والفضائل، رضي الله عنهما وجزاهما عن الإسلام والحديث النبوي خيرا. [فتح المنعم]
في الحديث: جوامعُ كَلِمِه صلَّى الله عليه وسلَّم وبديع بلاغته.
وفيه: أنَّ النَّاس قد يكون منهم الجمُّ الغفير، فلا يُوجد فيهم مَن يضطلع بحَمْل أثقالهم كما تَحمِل الراحلة في الإبل المائة، فإنَّها تَحمِل الذَّنُوب والحبل والمَحَالَةَ وغير ذلك ممَّا تَرِدُ الإبل به.
وفيه: السَّعيُ والاجتهادُ في تأهيل الرِّجال الذين يَصلُحون للقيام بالمهمَّات، والأمور الكليَّة العامَّة النَّفعِ. [الموسوعة الحديثية]
وفيه: الدَّعوة إلى اختيار الصُّحبة الصالحة.
وفيه: وألا تغترَّ بالكثرة من النَّاس إذا كانت على باطلٍ.
وفيه: والحثُّ على مخالطة النَّاس والصبر على أذاهم.
وفيه: والدعوة إلى الإصلاح إذا عَمَّ الفسادُ وكثُر.
===
===
====