473 – فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: أحمد بن علي وعبدالله المشجري وعدنان البلوشي وعمر الشبلي وأحمد بن خالد وأسامة الحميري ومحمد فارح ويوسف بن محمد السوري
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الشيخ مقبل رحمه الله:
473 – قال الإمام أحمد رحمه الله (ج 6 ص 26): حدثنا علي بن بحر [ص: 400] قال حدثنا محمد بن حمير الحمصي قال حدثني إبراهيم بن أبي عبلة عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي قال حدثنا جبير بن نفير عن عوف بن مالك أنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذات يوم فنظر في السماء ثم قال «هذا أوان العلم أن يرفع» فقال له رجل من الأنصار يقال له زياد بن لبيد أيرفع العلم يا رسول الله وفينا كتاب الله وقد علمناه أبناءنا ونساءنا فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم «إن كنت لأظنك من أفقه أهل المدينة» ثم ذكر ضلالة أهل الكتابين وعندهما ما عندهما من كتاب الله عز وجل فلقي جبير بن نفير شداد بن أوس بالمصلى فحدثه هذا الحديث عن عوف بن مالك فقال: صدق عوف ثم قال وهل تدري ما رفع العلم قال قلت لا أدري قال ذهاب أوعيته قال وهل تدري أي العلم أول أن يرفع قال قلت لا أدري قال الخشوع حتى لا تكاد ترى خاشعًا.
هذا حديث صحيحٌ.
وقد رواه النسائي في “الكبرى” عن الربيع بن سليمان، عن ابن وهب، عن الليث بن سعد، عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي، عنه به، كما في “تحفة الأشراف”.
ورواه الطحاوي في “مشكل الآثار” (ج 1 ص 123) فقال: حدثنا الربيع الجِيزِيُّ والحسين بن نضر البغدادي، حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرني يحيى بن أيوب، حدثنا أبو سليمان إبراهيم بن أبي عبلة به.
دراسة الحديث رواية:
قال محققو المسند:
حديث صحيح، وهذا إسناد قوي، محمد بن حمير صدوق لا بأس به، وهو من رجال البخاري، وقد توبع، وباقي رجال الإسناد ثقات رجال الصحيح غير علي بن بحر، فقد روى له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي، وهو ثقه.
[مسند أحمد 39/ 418 ط الرسالة]
الحديث أورده الشيخ مقبل في الصحيح المسند من رواية عوف بن مالك فقال:
مسند عوف بن مالك رضي الله عنه
1030 – قال الإمام أحمد رحمه الله (ج 6 ص 26): حدثنا علي بن بحر قال حدثنا محمد بن حمير الحمصي قال حدثني إبراهيم بن أبي عبلة عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي قال حدثنا جبير بن نفير عن عوف بن مالك أنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذات يوم فنظر في السماء ثم قال «هذا أوان العلم أن يرفع» فقال له رجل من الأنصار يقال له زياد بن لبيد أيرفع العلم يا رسول الله وفينا كتاب الله وقد علمناه أبناءنا ونساءنا فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم «إن كنت لأظنك من أفقه أهل المدينة» ثم ذكر ضلالة أهل الكتابين وعندهما ما عندهما من كتاب الله عز وجل. فلقي جبير بن نفير شداد بن أوس بالمصلى فحدثه هذا الحديث عن عوف بن مالك فقال صدق عوف ثم قال وهل تدري ما رفع العلم قال قلت لا أدري قال ذهاب أوعيته قال وهل تدري أي العلم أول أن يرفع قال قلت لا أدري قال الخشوع حتى لا تكاد ترى خاشعًا.
هذا حديث صحيحٌ.
وقد رواه النسائي في “الكبري” عن الربيع بن سليمان، عن ابن وهب، عن الليث بن سعد، عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي، عنه به. كما في “تحفة الأشراف”.
[ص: 104] ورواه الطحاوي في “مشكل الآثار” (ج 1 ص 123) فقال: حدثنا الربيع الجِيزِيُّ والحسين بن نضر البغدادي، حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرني يحيى بن أيوب، حدثنا أبو سليمان إبراهيم بن أبي عبلة به.
تنبيه: الحديث ورد عن أبي الدرداء
سنن الدارمي، رفع الخشوع
296 – عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: ” هَذَا أَوَانُ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى لَا يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ “. فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا وَقَدْ قَرَانَا الْقُرْآنَ؟ فَوَاللَّهِ لَنَقْرَأَنَّهُ، وَلَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا. فَقَالَ: ” ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ، إِنْ كُنْتُ لَأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَمَاذَا يُغْنِي عَنْهُمْ؟ “. قَالَ جُبَيْرٌ: فَلَقِيتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ: قُلْتُ: أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ؟ – أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ – قَالَ: صَدَقَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، إِنْ شِئْتَ لَأُحَدِّثَنَّكَ بِأَوَّلِ عِلْمٍ يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ: الْخُشُوعُ، يُوشِكُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَ الْجَمَاعَةِ فَلَا تَرَى فِيهِ رَجُلًا خَاشِعًا.
لكن قال ابن رجب: رواية النسائي أرجح أي عن جبير بن نفير عن عوف بن مالك. راجع الأحاديث المرفوعة في الحلية.
بوب عليه في الجامع:
34 – ذهاب العلم
55 – إخباره صلى الله عليه وسلم عن رفع العلم
ورد في مسند أحمد:
22290 – حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا مُعَانُ بْنُ رِفَاعَةَ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ مَوْلَى بَنِي يَزِيدَ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: لَمَّا كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُرْدِفٌ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى جَمَلٍ آدَمَ، فَقَالَ: ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مِنَ الْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَقَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ ” وَقَدْ كَانَ أَنْزَلَ اللهُ عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا، وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}
[المائدة: 101] قَالَ: فَكُنَّا قَدْ كُرِّهْنَا كَثِيرًا مِنْ مَسْأَلَتِهِ، وَاتَّقَيْنَا ذَاكَ حتي أَنْزَلَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَأَتَيْنَا أَعْرَابِيًّا فَرَشَوْنَاهُ بِرِدَاءٍ، قَالَ: فَاعْتَمَّ بِهِ، حَتَّى رَأَيْتُ حَاشِيَةَ الْبُرْدِ خَارِجَةً مِنْ حَاجِبِهِ الْأَيْمَنِ.
قَالَ: ثُمَّ قُلْنَا لَهُ: سَلِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَقَالَ لَهُ: يَا نَبِيَّ اللهِ كَيْفَ يُرْفَعُ الْعِلْمُ مِنَّا وَبَيْنَ أَظْهُرِنَا الْمَصَاحِفُ، وَقَدْ تَعَلَّمْنَا مَا فِيهَا وَعَلَّمْنَا نِسَاءَنَا وَذَرَارِيَّنَا وَخَدَمَنَا؟ قَالَ: فَرَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ وَقَدْ عَلَتْ وَجْهَهُ حُمْرَةٌ مِنَ الْغَضَبِ، قَالَ: فَقَالَ: ” أَيْ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ! وَهَذِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بَيْنَ أَظْهُرِهِمُ الْمَصَاحِفُ، لَمْ يُصْبِحُوا يَتَعَلَّقُونَ بِحَرْفٍ مِمَّا جَاءَتْهُمْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ، أَلَا وَإِنَّ مِنْ ذَهَابِ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ ” ثَلَاثَ مِرَارٍ.
قال محققوه:
إسناده ضعيف بهذه السياقة.
وأخرجه الطبراني في “الكبير” (7867) من طريق أبي المغيرة، بهذا الإسناد.
وأخرجه مختصراً الدارمي (240) من طريق حجاج بن أرطاة عن عوف بن مالك، والطبراني (7906) من طريق حجاج بن أرطاة، عن الوليد بن أبي مالك، كلاهما عن القاسم، به. قلنا: حجاج مدلس وقد عنعنه.
وأخرج ابن ماجه (228)، والطبراني (7875)، والخطيب في “تاريخه” 2/ 212، وابن عبد البر في “جامع بيان العلم” 1/ 28 من طريق عثمان بن أبي عاتكة، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة رفعه: “عليكم بهذا العلم قبل أن يُقبضَ، وقَبْضُه أن يرفع”. وجمع بين إصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام هكذا، ثم قال: “العالم والمتعلم شريكان في الأجر، ولا خير في سائر الناس”. وإسناده ضعيف.
وفي باب رفع العلم عن عوف بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى السماء يوماً، فقال: “هذا أوان يرفع العلم” …. وسيأتي في مسنده برقم (23990)، وهو حديث صحيح.
وبنحوه عن أبي الدرداء عند الترمذي (2653)، والطحاوي في “شرح المشكل” (304)، والحاكم 1/ 99.
وانظر حديث عبد الله بن عمرو في رفع العلم بقبض العلماء السالف برقم (6511).
وفي باب النهي عن كثرة المسائل، انظر حديث أنس السالف برقم (12457).
قال السندي: قوله: “فاعتمَّ به” أي: جعله عمامة له.
“أي” حرف نداء، والمنادى مقدر، كأنه قال: أيْ فلان “ثكلتك” من ثكل كعلم.
“يتعلقون” أي: يعملون، فبين أولاً أن ذهاب العلم بذهاب العمل، وثانياً بذهاب أهله، إشارة إلى قرب أجله، وأن بذهابه يذهب غالب العلم، وإن كان القرآن عندهم، إذ لا يظهر ما في القرآن إلا بفهمه، فإذا ذهب صاحبُ الفهم ذهب ما في القرآن، والله تعالى أعلم.
[مسند أحمد 36/ 621 ط الرسالة]
دراسة الحديث دراية:
* عَن أنسِ بن مالِك رَضِيَ الله عَنه قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مِن أشراطِ السَّاعةِ أن يُرفَعَ العِلمُ ويَثبُتَ الجَهْلُ)).
وعَن شَقيقٍ قال: كُنتُ مَعَ عَبدِ الله وأبي موسى فقالا: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ بينَ يَدَيِ السَّاعةِ لأيَّامًا يَنزِلُ فيها الجَهْلُ، ويُرفَعُ فيها العِلمُ، ويَكثُرُ فيها الهَرْجُ)).
وعَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عَنه قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يَتَقارَبُ الزَّمانُ، ويُقبَضُ العِلمُ، وتَظهَرُ الفِتَنُ، ويُلقى الشُّحُّ، ويَكثُرُ الهَرْجُ)).
* قال ابنُ بطالٍ: (هذا كُلُّه إخبارٌ مِنَ النَّبيِّ بأشراطِ السَّاعةِ، وقَد رَأينا هَذِه الأشراطَ عِيانًا وأدرَكناها، فقَد نَقَصَ العِلمُ، وظَهَرَ الجَهْلُ، وأُلقيَ بالشُّحِّ في القُلوبِ، وعَمَّتِ الفِتَنُ، وكَثُرَ القَتْلُ) يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (10/ 13).
* قال ابنُ حَجَرٍ مُعَقِّبًا: (الذي يَظهَرُ أنَّ الذي شاهَده كان مِنه الكَثيرُ مَعَ وُجودِ مُقابِلِه، والمَرادُ مِنَ الحَديثِ استِحكامُ ذلك حَتَّى لا يَبقى بما يُقابِلُه إلَّا النَّادِرُ، وإليه الإشارةُ بالتَّعبيرِ بقَبضِ العِلمِ، فلا يَبقى إلَّا الجَهْلُ الصِّرفُ، ولا يَمنَعُ مِن ذلك وُجودُ طائِفةٍ مِن أهلِ العِلمِ؛ لأنَّهم يَكونونَ حينَئِذٍ مَغمورين في أولَئِكَ). يُنظر: ((فتح الباري)) (13/ 16).
* قال السَّفَّارينيُّ في أقسامِ أشراطِ السَّاعةِ: («الثَّانية» الأماراتُ الْمُتَوَسِّطةُ، وهيَ الَّتي ظَهَرَت ولَم تَنقَضِ بَل تَزايدُ وتَكْثُرُ، وهيَ كثيرةٌ جِدًّا … «مِنها»: ما في صَحيحِ البُخاريِّ وغَيرِه مِن حَديثِ أنسٍ رَضِيَ الله عَنه أنَّه قال: ألَا أُحَدِّثُكم بحَديثٍ سَمِعتُه مِن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يُحَدِّثُكم به أحَدٌ غَيري، سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إنَّ مِن أشراطِ السَّاعةِ أن يُرفَعَ العِلمُ، ويَكثُرَ الجَهْلُ، ويَكثُرَ الزِّنا، ويَكثُرَ شُربُ الخَمرِ، ويَقِلَّ الرِّجالُ ويَكثُرَ النِّساءُ حَتَّى يَكونَ لخَمسينَ امرَأةً القَيِّمُ الواحِدُ)) يُنظر: ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 68).
* وقال الشيخ حُمُودٌ التُّوَيجريُّ: (أمَّا العِلمُ الْمَوروثُ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه وتابِعِيهم وأئِمَّةِ العِلمِ والهُدى مِن بَعْدِهم؛ فقَد هَجَرَه الأكثَرونَ، وقَلَّ الرَّاغِبونُ فيه والمُعتَنونَ به، وقَدِ انصَرَفَت همَمُ الأكثَرينَ إلى الصُّحُفِ والمِجَلَّاتِ، وما شاكَلَ ذلك ممَّا كثيرٌ مِنه مُشتَمِلٌ على الجَهْلِ الصِّرفِ الذي قَد ظَهَرَ في زَمانِنا، وثبَتَ فيه، وبُثَّ في مَشارِقِ الأرضِ ومَغارِبِها به غايةَ البَثِّ، ونَثَّ بينَ الخاصَّةِ والعامَّةِ غايةَ النَّثِّ، وشُغِفَ به الكَثيرُ مِنَ النَّاسِ، وسَمَّوه العِلمَ والثَّقافةَ والتَّقَدُّمَ، ومَن يَعتَني به هو الْمَهَذَّبُ الْمُثَقَّفُ عِندَهم! وقَد زادَ الحُمقُ والغُرورُ ببَعضِ السُّفَهاءِ حَتَّى أطلَقوا على الْمُعتَنين بالعُلومِ الشَّرعيَّةِ اسمَ الرَّجعيِّين، وسَمَّوا كُتُبَ العِلمِ النَّافِعِ الكُتُبَ الصَّفراءَ؛ تَحقيرًا لَها، وتَنفيرًا مِنها). يُنظر: ((إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة)) (2/ 94).
* وقال الشيخ ابنُ بازٍ: (مِن أشراطِ السَّاعةِ كثرةُ الشُّحِّ بينَ النَّاسِ، والبُخلُ، وكَذلك قِلَّةُ العِلمِ، وكَثرةُ الجَهْلِ، وفُشُوُّ الْمَعاصي، وظُهورُ الْمَعاصي في البِلدانِ، كُلُّ هذا مِن عَلاماتِ السَّاعةِ الْمُنتَشِرةِ الَّتي هيَ غَيرُ الكُبرى) يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (4/ 268).
* وقال ابنُ عُثَيمين في شَرحِ حَديثِ ((إذا وُسِّدَ الأمرُ إلى غَيرِ أهلِه فانتَظِرِ السَّاعةَ)): (مُناسَبةُ هذا الْمَتنِ لكِتابِ العِلمِ أنَّ إسنادَ الأمرِ إلى غَيرِ أهلِه إنَّما يَكونُ عِندَ غَلَبةِ الجَهْلِ ورَفعِ العِلمِ، وذلك مِن جُملةِ الأشراطِ، ومُقتَضاه أنَّ العِلمَ ما دامَ قائِمًا ففي الأمرِ فُسْحةٌ) يُنظر: ((الموقع الرسمي لابن عثيمين- شرح كتاب الرقاق من صحيح البخاري – الشريط السادس)).
فائدة:
إشكال حول هذا الحديث، وجوابه:
قال الطحاوي رحمه الله في “مشكل الآثار” (ج 1 ص 124): فأنكر منكر هذه الأحاديث، وقال: كيف يكون العلم يرفع في زمن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأيامه هي الأيام السعدية التي لا أمثال لها، والوحي قائمًا كان ينزل عليه فيها، فمحال أن يكون العلم الذي ينزل فيها ويبقى في أيدي الناس ليبلغه بعضهم بعضًا إلى يوم القيامة كما أمروا به، فيكون ذلك مرفوعًا في تلك الأيام، لأن ذلك لو كان كذلك انقطع التبليغ، وبقي الناس في أيام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بلا علم، وكانوا بعده في خروجهم عنه أغلظ، وهذا يستحيل، لأن العلم إنما علم بأخذ خلف عن سلف، إلى يوم القيامة.
فكان جوابنا له في ذلك: أن هذا الحديث من أحسن الأحاديث وأصحها، وأن الذي فيه من نظر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى السماء ومن قوله عند ذلك: «هذا أوان يرفع فيه العلم» إنما هو إشارة منه إلى وقت يرفع فيه العلم، ويجوز أن يكون هذا وقت يكون بعده; لأن هذا إنما هو كلمة يشار بها إلى الأشياء، من ذلك قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} ليس يومكم فيه يوم أنزل ذلك على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} ليس على شيء من يوم قيل له ذلك، في أمثال لهذا كثيرة في القرآن، فمثل ذلك ما في حديث عوف، قد يحتمل أن يكون رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما نظر إلى السماء أُرِيَ فيها الزمان الذي يرفع فيه العلم، فقال ما قال من أجل ذلك.
[ص: 105] ومما يدخل على ما ذكرنا من هذا، احتجاجه عليه الصلاة والسلام بضلالة اليهود والنصارى، وعند اليهود منهم التوراة، وعند النصارى منهم الإنجيل، ولم يمنعاهم من الضلالة، وإنما كان ذلك بعد ذهاب أنبيائهم صلوات الله وسلامه عليهم، لا في أيامهم، فكذلك ما تواعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم به أمته في حديث عوف هذا، يحتمل أن يكون بعد أيامه، وبعد ذهاب من تبعه وخلفه بالرشد والهداية، من أصحابه رضوان الله عليهم، ومن سائر أمته سواهم.
قال البخاري:
34 – بَابٌ كَيْفَ يُقْبَضُ الْعِلْمُ
• [101] وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ: انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاكْتُبْهُ؛ فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ وَذَهَابَ الْعُلَمَاءِ، وَلَا تَقْبَلْ إِلَّا حَدِيثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلْتُفْشُوا الْعِلْمَ، وَلْتَجْلِسُوا حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لَا يَعْلَمُ، فَإِنَّ الْعِلْمَ لَا يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا.
حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ بِذَلِكَ، يَعْنِي: حَدِيثَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى قَوْلِهِ: ذَهَابَ الْعُلَمَاءِ.
• [102] حدثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: “إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا”.
قَالَ الْفِرَبْرِيُّ: حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ هِشَامٍ نَحْوَهُ.
[صحيح البخاري 1/ 268]
وقال البخاري:
7 – بَاب: مَا يُذْكَرُ مِنْ ذَمِّ الرَّأْيِ وَتَكَلُّفِ الْقِيَاسِ.
{وَلَا تَقْفُ} لَا تَقُلْ {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} /الإسراء: 36/.
6877 – حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْحٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: حَجَّ عَلَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:
سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْزِعُ الْعِلْمَ بَعْدَ أَنْ أعطاهموه انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ، فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ، يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ، فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ).
فَحَدَّثْتُ بِهِ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو حَجَّ بَعْدُ، فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي، انْطَلِقْ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فَاسْتَثْبِتْ لِي مِنْهُ الَّذِي حَدَّثْتَنِي عَنْهُ، فَجِئْتُهُ فَسَأَلْتُهُ، فَحَدَّثَنِي بِهِ كَنَحْوِ مَا حَدَّثَنِي، فَأَتَيْتُ عَائِشَةَ فَأَخْبَرْتُهَا، فَعَجِبَتْ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَقَدْ حَفِظَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو.
[ر: 100]
[صحيح البخاري 6/ 2665]
قال ابن بطال:
قال المؤلف: فى أمر عمر بن عبد العزيز بكتاب حديث النبى، صلى الله عليه وسلم، خاصَّة، وأن لا يقبل غيره الحض على اتباع السنن وضبطها، إذ هى الحجةُ عند الاختلاف، وإليها يلجأ عند التنازع، فإذا عدمت السنن ساغ لأهل العلم النظر، والاجتهاد على الأصول. وفيه: أنه ينبغى للعلماء نشر العلم وإذاعته. وقوله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا ينزع العلم من العباد -، فمعنى ذلك أن الله لا يهب العلم لخلقه، ثم ينتزعه بعد أن تفضَّل به عليهم، والله يتعالى أن يسترجع ما وهب لعباده من علمه الذى يؤدى إلى معرفته والإيمان به وبرسله، وإنما يكون قبض العلم بتضييع التعلُّم فلا يوجد فيمن يبقى من يخلف من مضى، وقد أنذر صلى الله عليه وسلم بقبض الخير كله، ولا ينطق عن الهوى.
[شرح صحيح البخاري لابن بطال 1/ 177]
قال ابن قدامة في مقدمة كتابه المغني:
أما بعد: فإنَّ اللَّه تعالى برحمتِه وطَوْلِه، وقُوَّتِه وَحَوْلِه، ضَمِن بقاءَ طائفةٍ مِن هذه الأُمَّة على الحقِّ لا يضُرُّهم مَن خَذَلهم حتى يأتِىَ أمرُ اللَّه وهم علَى ذلك، وجعل السببَ في بقائِهم بقاءَ عُلَمائهم، واقْتداءَهم بأئمَّتِهم وفُقَهائهم، وجعل هذه الأُمَّةَ مع علمائِها، كالأُمَم الخالية مع أنبيائها، وأظهر في كلِّ طبقةٍ مِن فقهائها أئمةً يُقْتَدَى بها، ويُنْتَهَى إلى رأيِها، وجعل في سَلَفِ هذه الأُمَّةِ أئِمَّةً مِن الأعلام، مَهَّد بهم قَواعدَ الإِسلام، وأوْضَح بهم مُشْكلاتِ الأحكام، اتِّفاقُهم حُجَّةٌ قاطِعة، واخْتلافُهم رحمةٌ واسعة، تَحْيَى القلوبُ بأخْبَارِهم، وتحصلُ السعادةُ باقْتفاءِ آثارِهم، ثم اخْتَصَّ منهم نَفَرًا أعْلَى أَقْدَارَهم ومَناصِبَهم، وأبْقَى ذكرَهم ومَذاهِبَهم، فَعلَى أقْوالِهم مَدارُ الأحكام، وبمذاهبِهم يُفْتِى فقَهاءُ الإِسلام.
[المغني لابن قدامة 1/ 4]
قال ابن رجب:
[مثل العلماء مثل النجوم]:
– وَمَثَّل النبي صلى الله عليه وآله وسلم حَمَلةَ العلم الذي جاء به؛ بالنجوم التي يُهْتدى بها في الظلمات.
– ففي المسند، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “إن مثلَ العلماء في الأرض كَمَثل النُّجوم في السماء يُهْتَدَى بها في ظُلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تَضِلّ الهداة”.
وما دام العلم باقيًا في الأرض؛ فالناس في هدى، وبقاء العلم بقاء حملته، فإذا ذهب حملته ومن يقوم به، وقع الناس في الضلال، كما في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صُدُور الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء، فإذا لم يُبْقِ عالمًا، اتخذ الناس رُءوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلوا فَأَفْتَوا بغير عِلْم فَضَلُّوا وأضلوا”.
وذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يومًا رفْع العلم فقيل له: كيف يذهب العلم وقد قرأنا القرآن وأقرأناه نساءَنَا وأبناءنا؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم؟ “.
– فسئل عبادةُ بنُ الصامت عن هذا الحديث فقال: لو شئتُ لأخبرتُك بأول علم يُرفعُ من الناس: الخشوع.
وإنما قال عُبَادَةُ: هذا لأن العِلْم قسمان: أحدهما: ما كان ثمرتُه في قلب الإنسان، وهو العلم بالله تعالى، وأسمائِه، وصفاتِهِ، وأفعالِهِ المقتضي لخشيته، ومهابته، وإجلاله والخضوع له، ومحبته ورجائه، ودعائه والتوكل عليه ونحو ذلك.
فهذا هو العلم النافع.
– كما قال ابن مسعود: إن أقوامًا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وَقَع في القلب فَرَسَخَ فيه نفع.
[العلم علمان]:القسم الأول: علم في القلب فذاك العلم النافع.
– والقسم الثاني: العلم الذي على اللسان وهو حجة الله كما في الحديث: “القرآن حجة لك أو عليك”.
وقال الحسن: العلم علمان: علم على اللسان؛ فذاك حجة الله على بني آدم، وعلم في القلب فذاك العلم النافع.
[أول ما يرفع: العلم النافع]:
– فأول ما يرفع من العلم: العلم النافع، وهو العلم الباطن الذي يخالِطُ القلوبَ ويُصْلِحُها، ويبقى علم اللسان حجة فيتهاون الناس به، ولا يعملون بمقتضاه، لا حملته ولا غيرهم، ثم يذهب هذا العلم بذهاب حملته فلا يبقى إلا القرآن في المصاحف وليس ثمَّ مَنْ يَعْلَمُ معانِيَهُ ولا حُدُودَهُ ولا أَحْكَامَهُ ثم يسرى به في آخر الزمان فلا يبقى في المصاحف ولا في القلوب منه شيءٌ بالكلية، وبعد ذلك تقوم الساعة.
– كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: “لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس”.
– وقال: “لا تقوم الساعة وفي الأرض أحد يقول: الله الله”.
[جامع العلوم والحكم 3/ 1017 ت الأحمدي أبي النور] بتصرف يسير
قال ابن الملقن:
معنى كتاب عمر بن عبد العزيز الحض على اتباع السنن وضبطها إذ هي الحجة عند الاختلاف والتنازع، وإنما يسوغ الاجتهاد عند عدمها، وإنه ينبغي للعالم نشر العلم وإذاعته.
قال الداودي: فالحديث خرج مخرج العموم، والمراد به الخصوص كقوله صلى الله عليه وسلم: “لا تزال طائفه من أمتي ظاهرين علي الحق حتَّى يأتي أمر الله” وقد تقدم الكلام عَلَى هذا الحديث مع الجمع بينه وبين ما خالفه في باب: من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين.
[التوضيح لشرح الجامع الصحيح 3/ 495]
قال ابن حجر:
قوله: (لا يقبض العلم انتزاعا) أي: محوا من الصدور، وكان تحديث النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في حجة الوداع كما رواه أحمد، والطبراني من حديث أبي أمامة قال: لما كان في حجة الوداع قال النبي صلى الله عليه وسلم: خذوا العلم قبل أن يقبض أو يرفع فقال أعرابي: كيف يرفع؟ …. وفي هذا الحديث الحث على حفظ العلم، والتحذير من ترئيس الجهلة، وفيه أن الفتوى هي الرياسة الحقيقية وذم من يقدم عليها بغير علم. واستدل به الجمهور على القول بخلو الزمان عن مجتهد، ولله الأمر يفعل ما يشاء.
[فتح الباري لابن حجر 1/ 195 ط السلفية]
قال الإتيوبي:
والمراد بالعلم: هو العلم الشرعيّ الذي هو علم الكتاب والسُّنَّة؛ لأنه المراد عند الإطلاق، لا العلم الدنيويّ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُبعث من أجله، بدليل ما أخرجه مسلم رحمه الله في “صحيحه” من حديث عائشة وأنس رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرّ بقوم يُلَقِّحُون، فقال: “لو لم تفعلوا لَصَلَحَ”، قال: “فخرج شِيصًا، فَمَرّ بهم”، فقال: “ما لنخلكم؟ “، قالوا: قلت: كذا وكذا، قال: “أنتم أعلم بأمر دنياكم”.
وأخرجه ابن ماجه في “كتاب الأحكام” (2462)، وأحمد في “مسنده” رقم (23773) …. فقال: “إن كان شيئًا من أمر دنياكم فشأنُكُم به، وإن كان من أمور دينكم فإليّ”.
وأخرجه أحمد في “مسنده” رقم (12086) من حديث أنس رضي الله عنه وحده بنحوه
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 – (منها): أن فيه الحثَّ على حفظ العلم والاشتغال به.
2 – (ومنها): أن الفتوى هي الرئاسة الحقيقيّة، وذمّ من يُقْدِم عليها بغير علم.
3 – (ومنها): التحذير عن اتّخاذ الْجُهّال رؤساء.
4 – (ومنها): وجوب اجتناب الرأي والقياس، وهو محمول على الرأي المذموم، كما سيأتي بيانه في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-.
5 – (ومنها): أن فيه دلالةً للقائلين بجواز خلوّ الزمان عن المجتهد، على ما هو مذهب الجمهور، خلافًا للحنابلة.
ومسألة خلوّ الزمان عن المجتهد مشهورة في كتب الأصول، وحاصلها أن الجمهور يَرَوْن جوازه، وخالف في ذلك الحنابلة، وذهب العلامة ابن دقيق العيد إلى أنه لا يجوز ما لم تأت أشراط الساعة الكبرى، كطلوع الشمس من مغربها، فإذا أتت جاز الخلوّ عنه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قاله ابن دقيق العيد هو الأرجح؛ للحديث الآتي.
ثم على القول بالجواز أنه لم يثبُت وقوعه، وقيل: يقع؛ لحديث “الصحيحين”: “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ حتى يأتي أمر الله”؛ أي: الساعة، والمراد به: إتيان الأشراط المذكورة.
ودليل الوقوع: حديث الباب المتّفق عليه، وحديث البخاريّ: “إن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم، وَيثبُت الجهل”، والمراد برفع العلم: قَبْض أهله.
قال الجامع: لا خلاف بين الأحاديث؛ إذ هي على معنى واحد، وهو أن المراد بالحديثين الأخيرين: عند قرب الساعة، فيكونان بمعنى الحديث الأول؛ أي: أن قبض العلم ورفعه يكون عند قرب الساعة بظهور أشراطها المذكورة، والله تعالى أعلم.
وإلى ما ذُكر أشار السيوطيّ رحمه الله تعالى:
جَازَ خُلُوُّ الْعَصْرِ عَنْ مُجْتَهِدِ … وَمُطْلَقًا يَمْنَعُ قَوْمُ أَحْمَدِ
وَابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ لَا إِنْ أَتَتِ … أَشْرَاطُهَا وَالْمُرْتَضَى لَمْ يَثْبُتِ
وقال في “الفتح”: استُدِلّ بهذا الحديث على جواز خلو الزمان عن مجتهد، وهو قول الجمهور، خلافًا لأكثر الحنابلة …. : وقد تقدم -يعني: عند البخاريّ- في “باب تغيّر الزمان حتى تُعبد الأوثان”، في أواخر “كتاب الفتن” ما يشير إلى أن محل وجود ذلك عند فَقْد المسلمين بهبوب الريح التي تَهُبّ بعد نزول عيسى عليه السلام، فلا يبقى أحد في قلبه مثقال ذرة من الإيمان إلا قبضته، ويبقى شرار الناس، فعليهم تقوم الساعة، وهو بمعناه عند مسلم، كما بيّنته هناك، فلا يَرِدُ اتفاق المسلمين على تَرْك فرض الكفاية، والعمل بالجهل؛ لعدم وجودهم، وهو المعبَّر عنه بقوله: “حتى يأتي أمر الله”، وأما الرواية بلفظ: “حتى تقوم الساعة” فهي محمولة على إشرافها بوجود آخر أشراطها، ويؤيده ما أخرجه أحمد، وصححه الحاكم، عن حذيفة، رفعه: “يَدْرُس الإسلام كما يَدْرُس وشي الثوب”، إلى غير ذلك من الأحاديث.
وجوّز الطبريّ أن يضمَر في كل من الحديثين المحلّ الذي تكون فيه تلك الطائفة، فالموصوفون بشرار الناس الذين يبقَون بعد أن تقبض الريح من تقبضه يكونون مثلًا ببعض البلاد، كالمشرق الذي هو أصل الفتن، والموصوفون بأنهم على الحقّ يكونون مثلًا ببعض البلاد، كبيت المقدس؛ لقوله في حديث معاذ: “إنهم بالشام”، وفي لفظ: “ببيت المقدس”.
قال الحافظ: وما قاله وإن كان محتمَلًا يردّه قوله في حديث أنس في “صحيح مسلم”: “لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله، الله”، إلى غير ذلك من الأحاديث، والله أعلم.
ويمكن أن تنزل هذه الأحاديث على الترتيب في الواقع، فيكون أولًا رفع العلم بقبض العلماء المجتهدين الاجتهاد المطلق، ثم المقيّد ثانيًا، فإذا لم يبق مجتهد استووا في التقليد، لكن ربما كان بعض المقلدين أقرب إلى بلوغ درجة الاجتهاد المقيّد من بعض، ولا سيما إن فرّعنا على جواز تجزيء الاجتهاد، ولكن لغلبة الجهل يقدّم أهل الجهل أمثالهم، وإليه الإشارة بقوله: “اتخذ الناس رؤساء جهالًا”، وهذا لا ينفي ترئيس بعض من لم يتصف بالجهل التامّ، كما لا يمتنع ترئيس من يُنسب إلى الجهل في الجملة في زمن أهل الاجتهاد.
وقد أخرج ابن عبد البرّ في كتاب العلم، من طريق عبد الله بن وهب، سمعت خلاد بن سلمان الحضرميّ يقول: حدّثنا دَرّاج أبو السمح يقول: يأتي على الناس زمان يُسمّن الرجل راحلته حتى يسير عليها في الأمصار، يلتمس من يفتيه بسُنّة، قد عمل بها، فلا يجد إلا من يفتيه بالظنّ. فيُحمَل على أن المراد: الأغلب الأكثر في الحالين، وقد وُجد هذا مشاهدًا، ثم يجوز أن يقبض أهل تلك الصفة، ولا يبقى إلا المقلد الصِّرْف، وحينئذ يتصور خلو الزمان عن مجتهد، حتى في بعض الأبواب، بل في بعض المسائل، ولكن يبقى من له نسبة إلى العلم في الجملة، ثم يزداد حينئذ غلبة الجهل، وترئيس أهله، ثم يجوز أن يقبض أولئك، حتى لا يبقى منهم أحد، وذلك جدير بأن يكون عند خروج الدجال، أو بعد موت عيسى عليه السلام، وحينئذ يُتصوّر خلو الزمان عمن يُنسب إلى العلم أصلًا، ثم تَهُبّ الريح، فتقبض كل مؤمن، وهناك يتحقق خلوّ الأرض عن مسلم فضلًا عن عالم، فضلًا عن مجتهد، ويبقى شرار الناس، فعليهم تقوم الساعة، والعلم عند الله تعالى. انتهى ما في “الفتح”، وهو بحثٌ مفيدٌ، والله تعالى أعلم.
6 – (ومنها): أن الداوديّ قال: هذا الحديث خرج مخرج العموم، والمراد به الخصوص؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ حتى يأتي أمر الله”، ويقال: هذا بعد إتيان أمر الله تعالى، إن لم يُفسّر إتيان الأمر بإتيان القيامة، أو عدم بقاء العلماء إنما هو في بعض المواضع كما في بيت المقدس مثلًا، إن فسَّرناه به، فيكون محمولًا على التخصيص جمعًا بين الأدلّة.
7 – (ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى: هذا الحديث بيّن كيفيةَ رفع العلم، وظهور الجهل، وهو نصّ في أن رفع العلم لا يكون بمحوه من الصدور، بل بموت العلماء، وبقاء الجهّال الذين يتعاطون مناصب العلماء في الفتيا والتعليم، يُفتون بالجهل، ويُعلّمونه، فينتشر الجهل، ويظهر، وقد ظهر ذلك، ووُجد على نحو ما أخبر صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك دليلًا من أدلّة نبوّته، وخصوصًا في هذه الأزمان، إذ قد وَليَ المدارس والفتيا كثيرٌ من الجهّال والصبيان، وحُرِمها أهل ذلك الشأن. انتهى، والله تعالى أعلم.
[البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج 41/ 652]
—–
—–
عَنْ أَبِي حُسَيْنٍ الْمُجَاشِعِيِّ قَالَ: قِيلَ لِعَامِرِ بْنِ عَبْدِ قَيْسٍ: أَتُحَدِّثُ نَفْسَكَ فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» فَلَمَّا وَلَّوْا، قَالَ لِلَّذِينَ سَأَلُوهُ: أَوْ قَالَ لَهُمْ: «أُحَدِّثُ نَفْسِي بِالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ عزوجل، وَمُنصَرَفِي مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ» (الزهد لابن المبارك)
عن محمد بن أبي حاتم الوراق قَالَ: دعي محمد بن إسماعيل إلى بستان بعض أصحابه، فلما حضرت صلاة الظهر صلى بالقوم ثم قام للتطوع، فأطال القيام، فلما فرغ من صلاته رفع ذيل قميصه فقال لبعض من معه: انظر هل ترى تحت قميصى شيئا؟ فإذا زنبور قد أبره في ستة عشر أو سبعة عشر موضعا، وقد تورم من ذلك جسده، وكانت آثار الزنبور في جسده ظاهرة فقال له بعضهم: كيف لم تخرج من الصلاة في أول ما أبرك؟ فقال: كنت في سورة فأحببت أن أتمها. (تاريخ بغداد)
عن أبي عبد الله [بن] ((1)) يعقوب يقول: ما رأيت أحسن صلاة من أبي عبد الله محمد بن نصر كان الذباب يقع على أذنه فيسيل الدم ولا يذبه عن نفسه ولقد كنا نتعجب من حسن صلاته وخشوعه وهيئته للصلاة كان يضع ذقنه على صدره فينتصب كأنه خشبة منصوبة. (شعب الإيمان للبيهقي)
قال ابن كثير:”: قد ذكر غير واحد أن عروة بن الزبير لما خرج من المدينة متوجها إلى دمشق ليجتمع بالوليد، وقعت الأكلة في رجله في واد قرب المدينة. وكان مبدؤها هناك، فظن أنها لا يكون منها ما كان، فذهب في وجهه ذلك، فما وصل إلى دمشق إلا وهي قد أكلت نصف ساقه، فدخل على الوليد فجمع له الأطباء العارفين بذلك، فاجمعوا على أنه إن لم يقطعهما وإلا أكلت رجله كلها إلى وركه. وربما ترقّت إلى الجسد فأكلته، فطابت نفسه بنشرها وقالوا له: ألا نسقيك مرقّدا حتى يذهب عقلك منه فلا تحس بألم النشر؟ فقال: لا! والله ما كنت أظن أن أحدا يشرب شرابا أو يأكل شيئا يذهب عقله، ولكن إن كنتم لا بد فاعلين فافعلوا ذلك وأنا في الصلاة، فانى لا أحس بذلك، ولا أشعر به. قال: فنشروا رجله من فوق الأكلة، من المكان الحي، احتياطا أنه لا يبقى منها شيء، وهو قائم يصلى، فما تصوّر ولا اختلج، فلما انصرف من الصلاة عزاه الوليد في رجله، فقال: اللَّهمّ لك الحمد، كان لي أطراف أربعة فأخذت واحدا فلئن كنت قد أخذت فقد أبقيت، وإن كنت قد أبليت فلطالما عافيت، فلك الحمد على ما أخذت وعلى ما عافيت. (البداية والنهاية)
))))
قال ابن القيم: (صلاة بلا خشوع ولا حضور كبدن ميت لا روح فيه، أفلا يستحيي العبد أن يهدي إلى مخلوق مثله عبدًا ميتًا، أو جارية ميتة؟ فما ظن هذا العبد أن تقع تلك الهدية ممن قصده بها من ملك أو أمير أو غيره؛ فهكذا سواء الصلاة الخالية عن الخشوع والحضور، وجمع الهمة على الله تعالى فيها بمنزلة هذا العبد أو الأمة الميت الذي
قال بعضهم: إن الرجلين ليكونان في الصلاة وإن ما بينهما كما بين السماء والأرض ((2)).
روى أبو داود في سننه من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلَاّ عُشْرُ صَلَاتِهِ، تُسُعُهَا، ثُمُنُهَا، سُبُعُهَا، سُدُسُهَا، خَمُسُهَا، رُبُعُهَا، ثُلُثُهَا، نِصْفُهَا»
والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون له قرة عين، روى النسائي في سننه من حديث أنس رضي الله عنه: أن النبي ? قال: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا: النِّسَاءُ وَالطِّيْبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِيْ فِي الصَّلَاةِ»، بل إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر صلى، وكان يقول: «قُمْ يَا بِلَالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ».
من الأمور التي تعين على الخشوع في الصلاة:
أولًا: أن يستحضر المسلم عظمة الباري عزوجل، وأنه واقف بين يدي
ثانيًا: أن ينظر المسلم إلى موضع السجود ولا يلتفت في صلاته.
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي ذر رضي الله عنه: أن النبي ? قال: «لَا يَزَالُ اللهُ مُقْبِلًا عَلَى العَبْدِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلتَفِتْ، فَإِذَا صَرَفَ وَجْهَهُ انْصَرَفَ عَنْهُ».
ثالثًا: تدبر القرآن الكريم والأذكار التي يقولها في صلاته، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: (24)].
فإذا تدبَّر المسلم أذكار الركوع والسجود وغيرها من الأذكار كان ذلك أوعى للقلب وأقرب للخشوع.
رابعًا: ذكر الموت في الصلاة.
روى الطبراني في المعجم الكبير من حديث سعد بن عمارة أخي بني سعد بن بكر وكانت له صحبة أن رجلًا قال له: عظني في نفسي يرحمك الله، قال: «إِذَا أَنتَ صَلَّيتَ فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ».
خامسًا: أن يهيئ المصلي نفسه فلا يصلي وهو حاقن ولا بحضرة طعام، قال ?: «لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ، وَلَا وَهُوَ يُدَافِعُهُ الأَخْبَثَانِ»
وأن يزيل كل ما يشغله في صلاته من الزخارف والصور ونحوها، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في خميصة ذات أعلام. فنظر إلى علمها. فلما قضى صلاته قال: «اذْهَبُوْا بِهَذِهِ الخَمِيْصَةِ إِلَى أَبِيْ جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ، وَائْتُوْنِيْ بِأَنْبِجَانِيِّهِ، فَإِنَّهَا أَلهَتْنِي آنِفًا فِيْ صَلَاتِي».
سادسًا: مجاهدة النفس في الخشوع، فالخشوع، ليس بالأمر السهل فلا بد من الصبر والمجاهدة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ} [العنكبوت: (69)] ومع الاستمرار والمجاهدة يسهل الخشوع في الصلاة.
سابعًا: استحضار الثواب المترتب على الخشوع، روى مسلم في صحيحه من حديث عثمان رضي الله عنه: أن النبي ? قال: «مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوْبَةٌ، فَيُحْسِنُ وُضُوْءَهَا وَخُشُوْعَهَا وَرُكُوْعَهَا، إِلَاّ كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَها مِنَ الذُّنُوبِ، مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيْرَةً، وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ»
وكان النبي ? من أكثر الناس خشوعًا في الصلاة، روى أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن الشخير قال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ ? يُصَلِّي وَفِيْ صَدْرِهِ أَزِيْزٌ كَأَزِيْزِ الرَّحَى مِنَ البُكَاء
وَأَبُوْ بَكْرٍ كَانَ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يُسْمِعُ النَّاسَ مِنَ البُكَاءِ إِذَا صَلَّى بهم
وَعُمَرُ رضي الله عنه صَلَّى بِالنَّاسِ وَقَرَأَ سُوْرَةَ يُوَسُفَ فَسُمِعَ نَشِيْجُهُ مِنْ آخِرِ الصُّفُوفِ وَهُوَ يَقْرَأُ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ} [يوسف: (18)] ((1)).
قال ابن القيم رحمه الله والناس في الصلاة على مراتب:
أحدها: مرتبة الظالم لنفسه المفرط، وهو الذي انتقص من وضوئها، ومواقيتها، وحدودها، وأركانها.
الثاني: من يحافظ على مواقيتها وحدودها وأركانها الظاهرة ووضوئها، لكن قد ضيع مجاهدة نفسه في الوسوسة فذهب مع الوساوس والأفكار.
الثالث: من حافظ على حدودها وأركانها، وجاهد نفسه في دفع الوساوس والأفكار، فهو مشغول بمجاهدة عدوه لئلا يسرق صلاته فهو في صلاة وجهاد.
الرابع: من إذا قام إلى الصلاة أكمل حقوقها وأركانها وحدودها، واستغرق قلبه مراعاة حدودها، لئلا يضيع شيئًا منها، بل همه كله مصروف إلى إقامتها كما ينبغي، وإكمالها وإتمامها، قد استغرق قلبه شأن الصلاة وعبودية ربه عزوجل فيها.
الخامس: من إذا قام إلى الصلاة قام إليها كذلك، ولكن مع هذا قد أخذ قلبه ووضعه بين يدي ربه عزوجل، ناظرًا بقلبه إليه مراقبًا له، ممتلئًا من محبته وعظمته كأنه يراه ويشاهده، وقد اضمحلت تلك الوساوس والخطرات، وارتفعت حجبها بينه وبين ربه، فهذا بينه وبين غيره في الصلاة أفضل وأعظم مما بين السماء والأرض وهذا في صلاته مشغول بربه عزوجل.
فالقسم الأول معاقب، والثاني محاسب، والثالث مكفر عنه،
والرابع مثاب، والخامس مقرب من ربه لأن له نصيبًا ممن جعلت قرة عينه في الصلاة، فمن قرت عينه بصلاته في الدنيا، قرت عينه بقربه من ربه عزوجل في الآخرة، وقرت عينه أيضًا به في الدنيا، ومن قرت عينه بالله قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تعالى تقطعت نفسه على الدنيا حسرات.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة (2) / (310) – (315)
– ورد في صحيح البخاري – ط السلطانية (9) / (49) — البخاري (ت (256))
كتاب الفتن?باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه
بَابُ: لَا يَاتِي زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ
(7068) – حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ قَالَ: «أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لَا يَاتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ، سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ ?.»
______
قال ابن باز أما حديث لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم. فهو حديث صحيح، رواه البخاري في الصحيح عن أنس رضي الله عنه أن النبي ? قال: لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم.
وهذا هو الواقع، فكلما تقدم الزمان، وتأخر عهد النبوة؛ قل العلم، وكثر الجهل، كما هو الحال اليوم في القرن الخامس عشر، والرابع عشر الماضي، فإن العلم قد قل كثيرًا، والجهل قد انتشر في غالب البلدان، فقل أن تجد بلدًا فيها العلماء الذين يكفون لحاجة البلاد، ويشار إليهم بالعلم، والفضل، والاستقامة، فالمصيبة عظيمة.
ولكن ليس معناه أن الزمان دائمًا يكون شرًّا مما قبله .. لا هذا وصف أغلبي، وقد يقع في بعض الزمان في بعض الأوقات في جهة من الجهات ما يكون حال أهلها أحسن من حالهم الأولى في بعض الأحيان.
كما وقع في عهد عمر بن عبدالعزيز الخليفة الراشد، فإن المسلمين قد حصل لهم بولايته خير عظيم، وكان الحال في زمانه أحسن من حال من قبله، كزمن الوليد وأخيه سليمان، كان زمان عمر بن عبدالعزيز أحسن بكثير في إقامة العدل وتحكيم الشريعة، وهذا يدل على أن قوله ?: لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه يعني وصف أغلبي ليس بوصف عام ليس فيه استثناء، بل وصف أغلبي.
قال بعض أهل العلم في مثل هذا: إنه بالنسبة إلى عموم الزمان لا بالنسبة إلى الأمكنة، فقد يكون مثلاً حال دمشق المدينة الرياض أهل بغداد في وقت متأخر أحسن من حالها في وقت متقدم، ولكن المراد العموم يعني عموم الدنيا، كل زمان أدنى من الذي قبله بعموم الدنيا، لكن قد يكون في بعض الأمكنة بالنسبة إلى بعض الناس حالهم أحسن من الذي قبل، كما جرى في أماكن كثيرة ظهرت فيها البدع، ثم جاء صاحب سنة فدعا إلى الله، وأقام العدل، وأقام السنة، ونهى عن البدعة؛ فصار حالهم أحسن من ذي قبل.
وكما جرى في الجزيرة العربية، فإنه حصل فيها من الشرك والبدع والخرافات في القرن الحادي عشر وما قبله شيء كثير، فجاء الله بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمة الله عليه- فدعا إلى الله في الجزيرة، وفي نفس نجد، دعا إلى الله جل وعلا وأقام السنة، ونهى عن البدعة، ونصره آل سعود؛ فصار حال نجد أحسن كثيرًا من حالها قبل ذلك؛ بسبب الدعوة الإسلامية، وبسبب إنكار البدع، والشرك، وبسبب تحكيم الشريعة، هذا أمر معلوم واضح واقع.
وهكذا في زمن شيخ الإسلام ابن تيمية في دمشق وفي مصر، وفي زمن ابن القيم وابن كثير حال زمان ذلك أحسن من الزمان الذي قبله؛ بسبب دعاة الحق، وظهور السنة وقمع البدعة. والله المستعان. انتهى
تفسير حديث (لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه) بنقصان العلم
السؤال
صح عن ابن مسعود رضي الله عنه تفسيره لحديث (لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه)، فسره بقلة العلم ونقصانه، وذكره ابن حجر، فهل يكون قول الصحابي فاصلًا في هذه المسألة؛ إذ لا يوجد له مخالف؟
الجواب
هذا لا شك أنه من جملة ما يكون تحت الحديث، لكن لا يقصر الحديث عليه، ولكن كما هو معلوم أنه يأتي في بعض الأزمان عدم ظهور العلم وعدم وجود علماء، ثم بعد ذلك يأتي أناس يبرزون في العلم فيكون العهد الذي هم فيه أحسن من الذي قبله.
شرح سنن أبي داود للعباد (481) / (49) — عبد المحسن العباد (معاصر)
[(481)] ?الأسئلة?تفسير حديث (لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه) بنقصان العلم