472 – فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: أحمد بن علي وعبدالله الديني
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
472 – قال أبو داود رحمه الله (ج 6 ص 495): حدثنا موسى بن إسماعيل أخبرنا وهيب أخبرنا أيوب عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس: أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أتى على رجل بالبقيع وهو يحتجم وهو آخذ بيدي لثمان عشرة خلت من رمضان فقال «أفطر الحاجم والمحجوم».
قال أبو داود: وروى خالد الحذاء عن أبي قلابة بإسناد أيوب مثله.
هذا حديث حسنٌ. وأبو الأشعث هو شراحيل بن آدة، روى عنه جماعة ولم يوثقه معتبر، لكن حديثه يتقوى بالذي قبله، ولا يضر الاختلاف فيه على أبي قلابة؛ فيحمل على أن له شيخين في هذا الحديث يرويه كل واحد منهما عن صحابي.
وفي “التلخيص الحبير” (ج 2 ص 193): وصحَّح البخاري الطريقين تبعًا لعلي بن المديني، نقله الترمذي في “العلل”. اهـ
قال الألباني في سنن أبي داود 2369: صحيح
سبق الحديث في الصحيح المسند مسند ثوبان برقم ((193))
جاء في اختلاف الحديث للشافعي:
باب الحجامة للصائم
حدثنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا عبد الوهاب بن عبد المجيد عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن شداد بن أوس قال: كنت مع النبي زمان الفتح فرأى رجلاً يحتجم لثمان عشرة خلت من رمضان فقال وهو آخذ بيدي: أفطر الحاجم والمحجوم
أخبرنا سفيان عن يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس أن رسول الله احتجم محرماً صائماً.
قال الشافعي: وسماع ابن أوس عن رسول الله عام الفتح ولم يكن يومئذ محرماً ولم يصحبه محرم قبل حجة الإسلام فذكر ابن عباس حجامة النبي عام حجة الإسلام سنة عشر وحديث أفطر الحاجم والمحجوم في الفتح سنة ثمان قبل حجة الإسلام بسنتين.
قال الشافعي: فإن كانا ثابتين فحديث ابن عباس ناسخ وحديث إفطار الحاجم والمحجوم منسوخ، قال وإسناد الحديثين معاً مشتبه، وحديث ابن عباس أمثلهما إسناداً فإن توقى رجل الحجامة كان أحب إلي احتياطاً ولئلا يعرض صومه أن يضعف فيفطر وإن احتجم فلا تفطره الحجامة وألا أن يحدث بعدها ما يفطره مما لو لم يحتجم ففعله فطره.
قال الشافعي: ومع حديث ابن عباس القياس أن ليس الفطر من شيء يخرج من جسد إلى أن يخرجه الصائم من جوفه متقيأ وأن الرجل قد ينزل غير متلذذ فلا يبطل صومه ويعرق ويتوضأ ويخرج منه الخلاء والريح والبول ويغتسل ويتنور فلا يبطل صومه وإنما الفطر من إدخال البدن أو التلذذ بالجماع أو التقيؤ فيكون على هذا إخراج شيء من جوفه كما عمد إدخاله فيه، قال: والذي أحفظ عن بعض أصحاب رسول الله والتابعين وعامة المدنيين أن لا يفطر أحد بالحجامة.
[اختلاف الحديث ص143 ت عبد العزيز]
قال الخطابي:
اختلف الناس في تأويل هذا الحديث فذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن الحجامة تفطر الصائم قولا بظاهر الحديث، هذا قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وقالا عليهما القضاء وليست عليهما الكفارة، وعن عطاء قال على من احتجم وهو صائم في شهر رمضان القضاء والكفارة.
وروي عن جماعة من الصحابة أنهم كانوا يحتجمون ليلا منهم ابن عمر وأبو موسى الأشعري وأنس بن مالك. وكان مسروق والحسن وابن سيرين لا يرون للصائم أن يحتجم، وكان الأوزاعي يكره ذلك، وقال ابن المسيب والشعبي والنخعي إنما كرهت الحجامة للصائم من أجل الضعف. وممن كان لا يرى بأسا بالحجامة للصائم سفيان الثوري ومالك بن أنس والشافعي وهو قول أصحاب الرأي.
وتأول بعضهم الحديث فقال معنى أفطر الحاجم والمحجوم أي تعرضا للإفطار أما المحجوم فللضعف الذي يلحقه من ذلك فيؤديه إلى أن يعجز عن الصوم. وأما الحاجم فلأنه لا يؤمن أن يصل إلى جوفه من طعم الدم أو من بعض أجراحه إذا ضم شفتيه على قصب الملازم وهذا كما يقال للرجل يتعرض للمهالك قد هلك فلان وإن كان باقيا سالما. وإنما يراد به أنه قد أشرف على الهلاك وكقوله صلى الله عليه وسلم من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين يريد أنه قد تعرض للذبح.
وقيل فيه وجه آخر وهو أنه مر بهما مساء فقال أفطر الحاجم والمحجوم كأنه عذرهما بهذا القول إذ كانا قد أمسيا ودخلا في وقت الإفطار كما يقال أصبح الرجل وأمسى وأظهر إذا دخل في هذه الأوقات. وأحسبه قد روي في بعض الحديث.
وقال بعضهم هذا على التغليظ لهما والدعاء عليهما كقوله فيمن صام الدهر لا صام ولا أفطر. فمعنى قوله أفطر الحاجم والمحجوم على هذا التأويل أي بطل صيامهما فكأنهما صارا مفطرين غير صائمين، وقيل أيضاً معناه حان لهما أن يفطرا كقولك حصد الزرع إذا حان أن يحصد واركب المهر إذا كان له أن يركب.
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم صائماً محرماً.
قلت وهذا يؤكد قول من رخص في الحجامة للصائم ورأى أن الحجامة لا تفسد الصوم.
وفيه دليل على أن الحجامة لا تضر المحرم مالم يقطع شعرا، وقد تأول حديث ابن عباس من ذهب إلى أن الحجامة تفطر الصائم، فقال إنما احتجم النبي صلى الله عليه وسلم صائما محرما وهو مسافر لأنا لا نعلمه كان محرما وهو مقيم وللمسافر أن يفطر على ما شاء من طعام وجماع وحجامة وغيرها.
قلت وهذا التأويل غير صحيح لأنه قد أثبته حين احتجم صائما ولو كان يفسد صومه بالحجامة لكان يقال أنه أفطر بالحجامة كما يقال أفطر الصائم بشرب الماء وبأكل التمر وما أشبههما ولا يقال شرب ماء صائماً ولا أكل تمراً وهو صائم.
[معالم السنن 2/ 110]
قال ابن بطال:
وأما الحجامة للصائم: فجمهور الصحابة والتابعين والفقهاء على أنه لا تفطره … ، وقد صحح على بن المدينى، والبخارى منها حديث شداد وثوبان. وغيرها …. ، ونقول: وخبر ابن عباس يقتضى أن يكون صائمًا فى حال حجامته وبعد الفراغ، والحجامة كالفصاد وهو لا يفطر الصائم، قال الطحاوى: وليس ما رووه من قوله عليه السلام: (أفطر الحاجم والمحجوم)، ما يدل أن ذلك الفطر كان لأجل الحجامة، وإنما كان بمعنى آخر كانا يفعلانه، كما يقال: فسق القاسم، ليس بأنه فسق بقيامه، ولكنه فسق بمعنى آخر غير القيام. وروى يزيد بن ربيعة الدمشقى عن أبى الأشعث الصنعانى قال: إنما قال رسول الله: (أفطر الحاجم والمحجوم)، لأنهما كانا يغتابان، وليس إفطارهما ذلك كالإفطار بالأكل والشرب والجماع، لكن حبط أجرهما باغتيابهما، أو المكروه من أجل الحجامة فى الصيام هو الضعف
قال الطحاوى، وتأويل أبى الأشعث أشبه بالصواب
[شرح صحيح البخاري لابن بطال 4/ 81] باختصار
قال ابن عبدالبر:
وَالْقَوْلُ عندي في هذه الأحاديث أن حديث بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ صَائِمًا مُحْرِمًا نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ فَإِذَا كَانَتْ حِجَامَتُهُ عليه السلام عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ فَهِيَ نَاسِخَةٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ بَعْدَ ذَلِكَ رَمَضَانَ
وَوَجْهٌ آخَرُ مِنَ الْقِيَاسِ وَهُوَ مَا قَالَ بن عَبَّاسٍ الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ لَا مِمَّا خَرَجَ
وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَلَّا يُقَالَ لِلْخَارِجَةِ مِنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ – نَجَاسَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا – إِنَّهَا لَا تُفْطِرُ الصَّائِمَ لِخُرُوجِهَا مِنْ بَدَنِهِ فَكَذَلِكَ الدَّمُ فِي الْحِجَامَةِ وَغَيْرِهَا …
[الاستذكار 3/ 324]
ويمكن يستدل لمن لم يقل بعدم الفطر للمحجوم: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما -أَنَّهُ قَالَ فِي الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ: الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ، وَلَيْسَ مِمَّا يَخْرُجُ.
رواه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الصيام، باب الإفطار بالطعام وبغير الطعام إذا ازدرده عامد أو بالسعوط والاحتقان وغير ذلك مما يدخل جوفه باختياره، رقم: (8042)، ورواه البخاري معلقًا بلفظ «الصوم مما دخل وليس مما خرج»، كتاب الصوم، باب الحجامة والقيء للصائم، رقم: (1937). وصححه الألباني، انظر: الألباني، محمد ناصر الدين، إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، (بيروت: المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية (405) هـ- (1985) م) ج (4)، ص (79).
وفي المصنف: [(680)] عبد الرزاق، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ وَائِلِ بْنِ دَاوُدَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّمَا الْوُضُوءُ مِمَّا خَرَجَ، وَالصَّوْمُ مِمَّا دَخَلَ، وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ.
المصنف – عبد الرزاق – ط التأصيل الثانية (1) / (429)
قال الإتيوبي:
[تنبيه]: ذكر الإمام ابن القيّم رحمه الله في هذا الباب بحثًا مهمًّا، أحببت إيراده هنا؛ لنفاسته، وكثرة فوائده، قال رحمه الله:
وفي ضمن هذه الأحاديث المتقدمة استحباب التداوي، واستحباب الحجامة، وأنها تكون في الموضع الذي يقتضيه الحال، وجواز احتجام المُحْرِم، وإن آل إلى قطع شيء من الشعر، فإن ذلك جائز، وفي وجوب الفدية عليه نظر، ولا يقوى الوجوب، وجواز احتجام الصائم، فإن في “صحيح البخاريّ” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “احتَجَم، وهو صائم”، ولكن هل يُفطر بذلك أم لا؟ مسألة أخرى، الصواب: الفطر بالحجامة؛ لصحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير معارض، وأصح ما يعارَض به حديث حجامته، وهو صائم، ولكن لا يدلّ على عدم الفطر، إلا بعد أربعة أمور:
أحدها: أن الصوم كان فرضًا.
الثاني: أنه كان مقيمًا.
الثالث: أنه لم يكن به مرض، احتاج معه إلى الحجامة.
الرابع: أن هذا الحديث متأخر عن قوله: “أفطر الحاجم، والمحجوم”.
فإذا ثبتت هذه المقدمات الأربع أمكن الاستدلال بفعله صلى الله عليه وسلم على بقاء الصوم مع الحجامة، وإلا فما المانع أن يكون الصوم نفلًا يجوز الخروج منه بالحجامة وغيرها، أو من رمضان، لكنه في السفر، أو من رمضان في الحضر، لكن دعت الحاجة إليها، كما تدعو حاجة من به مرض إلى الفطر، أو يكون فرضًا من رمضان في الحضر، من غير حاجة إليها، لكنه مُبَقًّى على الأصل؟ وقوله: “أفطر الحاجم، والمحجوم” ناقل، ومتأخر، فيتعيّن المصير إليه، ولا سبيل إلى إثبات واحدة من هذه المقدّمات الأربع، فكيف بإثباتها كلها؟.
وفيها دليل على استئجار الطبيب، وغيره، من غير عقد إجارة، بل يعطيه أجرة المِثل، أو ما يُرضيه.
وفيها دليل على جواز التكسب بصناعة الحجامة، وإن كان لا يطيب للحرّ أَكْل أجرته من غير تحريم عليه، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعطاه أجره، ولم يمنعه من أكله، وتسميته إياه خبيثًا كتسميته للثوم والبصل خبيثين، ولم يلزم من ذلك تحريمهما.
.. والله أعلم. انتهى.
[البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج 36/ 192]
قَالَ الْمُنْذِرِيّ قَالَ أحمد أحاديث أفطر الحاجم والمحجوم ولا نِكَاح إِلَّا بِوَلِيٍّ يَشُدّ بَعْضهَا بَعْضًا وَأَنَا أذهب إليها
قال بن الْقَيِّم وَقَالَ أَبُو زُرْعَة حَدِيث عَطَاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَة مَرْفُوعًا أَفْطَرَ الْحَاجِم وَالْمَحْجُوم حَدِيث حَسَن ذَكَره التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ.
عون المعبود وحاشية ابن القيم (6) / (355) — العظيم آبادي، شرف الحق (ت (1329))
قال اللهيميد:
عن ثوبان أنه ? إنما قال (أفطر الحاجم والمحجوم) لأنهما كانا يغتابان.
ورد هذا: بأن في إسناده يزيد ابن معاوية وهو متروك، وحكم ابن المديني بأنه حديث باطل.
وأجاب بعضهم بأن المراد (أفطر الحاجم والمحجوم) سيفطران باعتبار ما يؤول إليه الأمر.
قال الحافظ: ولا يخفى تكلف هذا التأويل.
وقال البغوي: معنى (أفطر الحاجم والمحجوم) أي تعرضا للإفطار.
قال الشوكاني: وهذا أيضًا جواب متكلف.
ومن أحسن ما يستدل به على أن الحجامة لا تفطر: حديث ابن عباس السابق.
(شرح بلوغ المرام – اللهيميد (2) / (211) — سليمان بن محمد اللهيميد)
قال ابن عثيمين:
635 – حديث شدَّاد بن أوس رضي الله عنه: يقول: مرَّ على رجل بالبقيع، والمراد بالبقيع: ما حوله؛ … القول الراجح في ذلك- “فقد أفطر الصائم”- أي: حلَّ له الفطر، وليس المعنى: فقد أفطر حكمًا كما قيل به، أما هنا “فقد أفطر” يعني: أفسد صومه فأفطر.
وقوله: “أفطر الحاجم والمحجوم” فيه إفطار الرجلين، أما المحجوم فالفطر في حقه معقول ما هو المعنى؟ هو ما يحصل له من الضعف بخروج الدم، …
إذن عرفنا الحكمة بالنسبة للمحجوم، بالنسبة للحاجم ينفذ إليه من القارورة دم وهو لا يشعر لشدة المصَّ، فجعلت هذه المظنة بمنزلة المئنة، فلو فرض أنه حجم بآلة تمصُّ بدل مص الآدمي فإنه لا يفطر بناء على أن العلة معقولة، وإذا كانت العلة معقولة فالحكم يدور معها وجودًا وعدمًا، لكن المشهور من مذهب الحنابلة أن الحكمة غير معقولة، والغريب أنها عندهم غير معقولة في الطرفين، ولهذا قالوا: لو فصد أو شرط الإنسان فصدًا وخرج به من الدم أكثر مما خرج بالحجامة فإنه لا يفطر؛ لأن الحكمة غير معقولة، إنما هي تعبدية. والشرط هو: شق العرق طولًا حتى يخرج الدم، أما الفصد فهو: أن يشقه عرضًا حتى يخرج الدم.
في هذا الحديث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “أفطر الحاجم والمحجوم”، ونحن إذا أخذنا بظاهره قلنا: فسد صومهما، وقد عرفتم أن للعلماء في بيان العلة في ذلك ثلاثة أقول: قول: إنها معقولة فيهما، وقول: إنها غير معقولة فيهما، وهذان القولان متقابلان، والقول الثالث: إنها معقولة في المحجوم غير معقولة في الحاجم.
إذن هذا الحديث يستفاد منه: أن الحجامة تفطر على السبب الظاهر المعلوم، فقال بعض العلماء: لا ولكن كادا يفطران، فخرجوا عن ظاهر الحديث وقالوا: كادا يفطران ….
إذن فهذا الحديث يدل على أن الحاجم والمحجوم يفطران، ويبقى النظر في الجواب عن حديث ابن عباس السابق؟ الجواب عليه: أن الإمام أحمد رحمه الله ضعَّف رواية: “احتجم وهو صائم”، وقال: إن ذلك لا يصح وأنه انفرد به أحد الرواة عن ابن عباس، وأن غيره خالفه فيها، وإذا كان الأمر كذلك فإن المخالفة- مخالفة الثقات في نقل الحديث- تجعله شاذًا وإن كان المخالف ثقة، والحديث الذي معنا- حديث شداد بن أوس- قال البخاري: إنه أصح شيء في الباب، والغريب أن هذا الحديث جعله بعض العلماء من المتواتر؛ لأنه رواه عدد كبير عن الرسول صلى الله عليه وسلم في إفطار الحاجم والمحجوم، حتى قالوا: إنه من المتواتر، فالإمام أحمد رحمه الله ذهب إلى أن الحديث: “احتجم وهو صائم” وهم، وبعضهم قال: إن الحديث منسوخ بحديث شداد؛ لأن حديث شداد بن أوس كان في السَّنة الثامنة، وحديث ابن عباس كان في عمرة الحديبية، أو عمرة القضاء، فهو سابق، وعلى قاعدة بعض العلماء يقولون: حديث ابن عباس من فعل الرسول، وحديث شداد من قوله وفعله، ولا يعارض قوله، والحكم للقول لا للفعل، وهذه طريقة الشوكاني رحمه الله وجماعة من أهل العلم، ولكن هي ليست بطريقة مرضية عندنا كما سبق لإمكان الجمع، يبقى عندنا حديث آخر هو الذي قد يعارض الحديث الذي نحن الآن بصدده وهو:
636 – وعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: “أوَّل ما كرهت الحجامة للصائم؛ أنَّ جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائمٌ، فمرَّ به النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفطر هذان، ثمَّ رخَّص النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصَّائم، وكان أنسٌ يحتجم وهو صائمٌ”. رواه الدَّارقطنيُّ وقوَّاه.
ذكرنا فيما سبق أن حديث ابن عباس كان متقدمًا، هذا على القول بأن الحجامة تفطر، وذكرنا لكم أن هذا هو قول فقهاء الحديث كأحمد بن حنبل، وابن المنذر، وابن خزيمة، وكذلك هو قول الظاهرية، وأنه أرجح من القول بأنه لا يفطر، وذكرنا أيضًا أن هذا هو مقتضى النظر والقياس، قلنا: القياس يقاس على حديث القيء حديث أبي هريرة: “من استقاء عمدًا فليقض”، والعلة الجامعة بينهما: أن كل واحد منهما سبب للضعف
أما حديث أنس فقال: “أول ما كرهت الحجامة” ما إعراب “أول”؟ مبتدأ، والخبر “ما”، وما دخلت عليه في تأويل مصدر من الجملة، “أول ما كرهت”، الكراهة في لسان الشارع غير الكراهة في عرف الفقهاء، الكراهة في لسان الشارع للشيء المحرم الذي قد يكون شركًا أكبر، اقرأ قول الله تعالى: {* وقضى ربك ألا تعبدوا إلآ إياه وبالوالدين إحسانًا … } إلى قوله: {كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروهًا} [الإسراء: 38]. واقرأ ما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله كره لكم وأد البنات”، وهو من كبائر الذنوب، فالكراهة في لسان الشارع غير الكراهة في عرف الفقهاء، عرف الفقهاء الكراهة منزلة بين التحريم والإباحة، فيعرفون المكروه بأنه: “ما نهي عنه لا على سبيل الإلزام بالترك”، ويقولون في حكمه: يثاب تاركه امتثالًا ولا يعاقب فاعله، فهنا الكراهة بلسان الشارع.
وقوله: “كرهت الحجامة أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه احتجم وهو صائم”، جعفر بن أبي طالب كان أخًا لعلي بن أبي طالب، ولكن عليًا رضي الله عنه يكبره في المرتبة وسبق الإسلام وأنه أحد الخلفاء الراشدين، “احتجم وهو صائم” فمرَّ به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “أفطر هذان” المشار إليهما الحاجم والمحجوم، “ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم وكان أنس يحتجم وهو صائم”.
لو صح هذا لكان فيصلًا في المسألة.
: “أفطر هذان”: بمنزلة قوله: “أفطر الحاجم والمحجوم”، فيكون المراد: أفطر هذا النوع من الناس الذي حجم واحتجم، هذا قول.
والقول الثاني: أن المراد بيان أن الحجامة تفطر، وأن الحجامة سبب بقطع النظر عن كون هذين الرجلين ينطبق عليهما شروط الفطر أو لا ينطبق، فيكون هنا كأن في الحديث إيماء إلى بيان سبب الفطر لا إلى الحكم بكون هذين الرجلين قد أفطرا، وهذا هو ما نقله ابن القيم في إعلام الموقعين، عن شيخه ابن تيمية رحمه الله يقول: إن المراد بيان أن هذا الفعل مفطر، أما كون هذين الرجلين يفطران فهذا يعلم من أدلة الكتاب الأخرى، وهذا الحمل واجب؛ لأن لدينا نصوصًا عامة صريحة واضحة في أن الجاهل معذور بجهله، فيجب أن تحمل هذه النصوص المتشابهة على النصوص المحكمة إذا كان الحمل ممكنًا، أما إذا لم يكن ممكنًا فإن هذا يبقى مخصصًا للعموم، ويثبت الحكم فيه بخصوصه لا يتعداه إلى غيره، فلو فرض أننا لم نجد محملًا لهذا الحديث قلنا: نخصه بالحالة الواقعة فقط، ونقول: من أفطر بالحجامة ولو جاهلًا؛ لأنها تفطر فعليه القضاء يكون مفطرًا وفي غيرها لا قضاء عليه. إذن زال الإشكال مادام حملناه على الجنس أو النوع أو على بيان السبب.
فما الحكم إذن بالنسبة لجعفر وحاجمه حسب القواعد العامة؟ الجواب على هذا: أنه لا فطر عليهما؛ لأنهما لا يعلمان؛ إذ يبعد من حالهما أن يعلما أن ذلك محرَّم ثم يقدما عليه.
[فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية 3/ 213]
قال العباد:
وأحاديث الإفطار بها هي الأرجح والأولى، والأخذ بها هو الأولى؛ لأن أحاديث الإفطار صريحة وواضحة في الإفطار، وأما الأحاديث الأخرى فهي محتملة.
ثم أيضاً هي باقية على الأصل وأحاديث الإفطار ناقلة عن الأصل كما قال ذلك ابن القيم رحمه الله، والناقل أولى من المبقي على الأصل.
و إذا كانت الحجامة بدون مص فإنه يفطر المحجوم دون الحاجم
[شرح سنن أبي داود للعباد 274/ 3 بترقيم الشاملة آليا]
بينما انتصر الألباني لمذهب ابن حزم في الرخصة في الحجامة مستدلا بحديث أنس:
إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (4) / (72) — ناصر الدين الألباني (ت (1420))
خامسا: عن أنس بن مالك قال:» أول ما كرهت الحجامة للصائم ; أن جعفر بن أبى طالب احتجم وهو صائم، فمر به النبى ? فقال: أفطر هذان، ثم رخص النبى ? بعد فى الحجامة للصائم وكان أنس يحتجم وهو صائم”.
أخرجه الدارقطنى ((239)) وعنه البيهقى ((4) / (268)) وقال الأول منهما، وأقره الآخر: «كلهم ثقات، ولا أعلم له علة».
وهو كما قالا، لكن أعله صاحب «التنقيح» بأنه شاذ الإسناد والمتن فراجع كلامه فى «نصب الراية» ((2) / (480)) وسكت عليه، وأما الحافظ فى «الدراية» (ص (179)) فإنه لم يورد كلام الدارقطنى فيه ولا كلام «التنقيح» عليه. والله أعلم.
ثم رأيت الحافظ قد أورد الحديث فى «الفتح» من رواية الدارقطنى ثم قال ((4) / (155)): «ورواته كلهم من رجال البخارى، إلاأن فى المتن ما ينكر، لأن فيه أن ذلك كان فى» الفتح «، وجعفر قتل قبل ذلك».
كذا قال: وليس فى المتن، حتى ولا فى سياق الحافظ أن ذلك كان فى «الفتح»، فالله أعلم.
(فائدة): حديث أنس هذا صريح فى نسخ الأحاديث المتقدمة «أفطر الحاجم والمحجوم». ومثله ما أخرجه الطبرانى فى «الأوسط» ((1) / (101) / (2)) من طريق أخرى عن أنس: «أن النبى ? احتجم بعدما قال: أفطر الحاجم والمحجوم». وقال: «لم يروه عن أبى قلابة إلا أبو سفيان وهو السعدى واسمه طريف، تفرد به أبو حمزة».
قلت: وطريف هذا ضعيف كما قال الحافظ فى «الدراية» و «التقريب».
وأخرجه الدارقطنى ((239)) من طريق أخرى عن أنس وقال: «هذا إسناد ضعيف، واختلف عن ياسين الزيات وهو ضعيف».
وخير منه حديث أبى سعيد الخدرى قال: «رخص رسول الله ? فى القبلة للصائم، والحجامة».
أخرجه الطبرانى ((1) / (102) / (1)) والدارقطنى من طريق المعتمر بن سليمان سمعت حميد الطويل يحدث عن أبى المتوكل عن أبى سعيد به. وقال الدارقطنى: «كلهم ثقات، وغير معتمر يرويه موقوفا».
وفى «الفتح» ((4) / (155)): «وقال ابن حزم: صح حديث أفطر الحاجم والمحجوم بلا ريب، لكن وجدنا من حديث أبى سعيد: أرخص النبى ? فى الحجامة للصائم. وإسناده صحيح، فوجب الأخذ به، لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة، فدل على نسخ الفطر بالحجامة سواء كان حاجما أو محجوما. انتهى
والحديث المذكور أخرجه النسائى (يعنى فى الكبرى) وابن خزيمة والدارقطنى، ورجاله ثقات، لكن اختلف فى رفعه ووقفه».
قلت: قد توبع معتمر عليه، فقال الطبرانى: حدثنا إبراهيم (هو ابن هاشم) حدثنا أمية حدثنا عبد الوهاب بن عطاء عن حميد عن أنس مثله وزاد: «ولا تعذبوا أولادكم بالغمز من العذرة». وقال: «لم يروه عن حميد إلا عبد الوهاب».
قلت: وهو ثقة من رجال مسلم، وسائر الرواة ثقات رجال الشيخين غير إبراهيم، وهو ابن هاشم بن الحسين أبو إسحاق البيع المعروف بـ (البغوى) قال الدارقطنى: ثقة، فالسند صحيح، ولا علة فيه سوى عنعنة حميد، لكنهم قد ذكروا أن حديثه عن أنس إنما تلقاه عن ثابت عنه، وثابت ثقة محتج به فى الصحيحين.
وعلى ذلك فلحميد فيه إسنادان:
أحدهما عن أبى المتوكل عن أبى سعيد.
والآخر عن أنس.
وله عن أبى المتوكل طريق أخرى، يرويه إسحاق بن يوسف الأزرق
عن سفيان، عن خالد الحذاء عن أبى المتوكل به دون ذكر القبلة.
أخرجه الدارقطنى وكذا الطبرانى والبيهقى ((4) / (264)) وقال الدارقطنى: «كلهم ثقات، ورواه الأشجعى أيضا وهو من الثقات».
قلت: ثم ساقه من طريق الأشجعى عن سفيان به وزاد: «والقبلة».
قلت: فالحديث بهذه الطرق صحيح لا شك فيه، وهو نص فى النسخ، فوجب الأخذ به كما سبق عن ابن حزم. انتهى